الصيف
فصل الكَلال والملال والكسل، والعجز عن كل نشاط وعَمَل.
كذلك قال صاحبي حين سألْتُه عن رأيه في الصيف، وصاحبي هذا رجل لا يَبْغُض شيئًا كما يَبْغُض الكسل، ولا يحب شيئًا كما يحب النشاط والإنتاج؛ فهو يَغْدُو على عَمَله، فيُنتج فيه ما شاء الله أن يُنْتِج، ويَرُوح إلى كتابه وأوراقه، فيقرأ ويَكْتُب، وينفع الناس بما يَقْرأ ويَكْتب.
وأحبُّ الفصول إليه فصل الشتاء؛ لأنه لا يجد في هذا الفصل ثقل الجسم ولا ضِيق النفس، ولا يُحِسُّ فيه سأمًا مِنْ عَمَل، أو مَلَلًا من قراءة، وهو لا يَكْره الخريف؛ لأنه يُتِيح له من العمل والإنتاج ما يُحِبُّ، والخريف عنده قِطْعة من الصيف المنتهي، وقطعة من الشتاء المبتدئ. فهو بريء مما يُبغِّض الصيفَ إلى الناس؛ تَنْكَسِر فيه حِدَّة القيظ، ويَسْتَشْعر الناس فيه شيئًا مِنْ روح؛ لأنهم يُحِسُّون كأنهم يَخْرُجون من النار ويَسْعَون إلى دار النعيم، في طريقٍ تودِّعهم فيه لفحات من الحر فاترة، وتَسْتَقْبِلهم فيها نفحات من البرد معجبة.
فإذا سَأَلْتُ صاحبي هذا عن الربيع هزَّ رَأْسَه ورَفَع كَتِفَه وأرسل ضحكة ضئيلة فاترة فيها كثير من السخر والاستهزاء؛ فليس في مصر عِنْدَه ربيع، وإنما فيها عِنْده مُغالطة بالربيع. سَمَاء لا تكاد تبتسم حتى يغشاها العبوس، ونسيم لا يكاد يَرِق حتى يغلُظ ويُفْسِده ما يثور من التراب أو من الغبار على أَقَلِّ تقدير، وزَهْر لا يكاد يَكْتَسي النضرة والبهجة حتى يشيع فيه الذواء والذبول. وهو يرى أن الربيع عندنا مَصْدر من مصادر الحزن والابتئاس؛ لأنه لا يكاد يُطْمَع حتى يوئس، ولا يكاد يَدْفع إلى النشاط حتى يَضْطَرَّ إلى الهمود والجمود، ويُوَرِّط في الخمود والركود. وصاحبي يؤثر الصراحة على الرياء، والإخلاص على النفاق، وهو يرى في الصيف والشتاء صراحةً وإخلاصًا، ويرى في الربيع والخريف بمصر رياءً ونفاقًا.
وهو يَحْتَمل رياء الخريف؛ لأنه رقيق، ويضيق برياء الربيع؛ لأنه صفيق، وهو يستحِبُّ إخلاص الشتاء؛ لأنه خفيف، ويَنْفُر من إخلاص الصيف؛ لأنه ثقيل. وهو كذلك يقضي في فصول السنة على هوى نفسه وجسمه، وعلى ما يُلَائِم طَبْعه ومزاجه، لا يُغَيِّر من أحكامه شيئًا على كثرة ما تتغير الأعوام وتختلف الفصول. ذلك لأنه لا يكاد يُحِسُّ تَغَيُّر الأعوام، لأنه ماضٍ في عَمَله ونشاطه ما وَسِعَه المُضِيُّ فيهما، لا يَصْرِفه عنهما صارف، ولا يردُّه عنهما رادٌّ من هذه الأشياء التي تَصْرِفنا نحن عن العمل وتَرُدُّنا عن النشاط، فهو منقطع؛ لا يَزُور ولا يكاد يُزار، وهو متخفِّفٌ من أعباء الحياة الاجتماعية، لا يَحْتَمل منها إلا أَيْسَرها وأَقَلَّها كُلْفَة. وهو يرضى أن يَصِفَه الناس بالنفور والفتور والغرور والكبرياء، ويُؤْثر لذة العمل والإنتاج على لذة اللقاء والحديث، وعلى كل هذا اللغو الذي يعيش فيه الناس.
ولعلَّه لو خُلِّي بينه وبين نفسه لنَسِي التاريخ ولم يَذْكُر من عدد السنين والحساب شيئًا. هو كذلك لا يُحِسُّ تَغَيُّر الأعوام، ولكنه يُحِسُّ اختلاف الفصول حسًّا قويًّا، وهو مِنْ أجْل هذا لا يكاد يُحدِّثك إن لَقِيتَه إلا عن الحر والبرد، واعتدال الجو واكفهراره واغبراره، وعن أَثَر هذا كله في حُسْن استعداده للقراءة والكتابة والعمل. وصاحبي لا يحب الرحلة، ولا يميل إلى الأسفار، وأبغض شيء إليه أن يُضْطَر إلى الانتقال من مدينة إلى مدينة داخل مصر، فأما العالم الخارجي فهو يَعْرفه سماعًا لا عيانًا، ولعله يَعْرِف منه بالسماع أكثر مما نعرف نحن بالعيان. يأتيه ذلك من كثرة القراءة ومن حُسْن التعمُّق لما يقرأ، وجَوْدَة الاستقصاء لما يعنيه بين الأشياء الكثيرة التي يقرأها. وقد هممتُ غيْرَ مرة أن أُحبِّب إليه الرحلة والانتقال من جوٍّ إلى جو، فلم أَبْلُغ منه شيئًا، وقد زيَّنتُ له أَمْر الصيف في ربوع لبنان وفي أقطار فرنسا وإيطاليا؛ فأَظْهر الحب لهذا الصيف اللبناني والأوروبي، وودَّ لو يَصْطَاف هنا أو هناك، ولكنه أَبْغَضَ القطار والسفينة والطائرة وعناء السفر ومُنَغِّصات الانتقال، فآثَرَ العافية واختار البقاء حيث هو، لا يتحوَّل ولا يَرِيم.
هذا رأي صاحبي في الصيف والشتاء، والربيع والخريف، وهو رأيٌ ذاتِيٌّ كما ترى فيما يقول الكُتَّاب المعاصرون، لا يصدر فيه إلا عن هوى نفسه، وراحة جسمه، وما يلائم مزاجه من الظروف. وأكْبَر الظن أن آراءنا جميعًا في فصول السنة ذاتية؛ نصدر فيها عن أهواء أنفسنا، وما يُلائم طبائعنا وأمزجتنا، ونترك حقائقها للعلماء يُبْدِئون فيها ويُعِيدون، ويُعَلِّمُون ويتعلمون، لا يَعْنِينا من عِلْمِهم، أو لا يكاد يعنينا مِنْ عِلْمِهم إلا أَهْوَنه شأنًا وأيسره خطرًا؛ فالفصول بالقياس إلينا، هي: الأوقات التي نَجِد فيها الراحة والروح فنرضى، أو نجد فيها العناء والجهد فنسخط، أو نتردد فيها بين ذلك، فنسعد حينًا، ونشقى حينًا.
وأعترف بأن الصيف هو أَبْغَض فصول السنة إليَّ إذا أقمت في مصر، وهو آثَرُها عندي، وأكْرَمُها عليَّ إذا عَبَرْت البحر أو الصحراء، فرقيتُ الجبل في أوروبا أو في لبنان، ذلك أني لا أطيق القيظ إلا في جهد جهيد، وعناء شديد، ومشقَّة شاقة. تضيق به نفسي، ويُغلَق له قلبي، ويُعْقَد له لساني، ويُضْطَرُّ له عقلي إلى جمود مُنْكَر لا أَمَل معه في تفكير أو شيء يشبه التفكير، ويسوء له خلقي، أو قُلْ: يزداد له خلقي سوءًا؛ فأُصبح ثقيل العِشرة، بغيض الصحبة، رديء المخالَطة، لا أطمئن إلى أحد، ولا يطمئن إليَّ أحد. وإذا اضْطُرِرْت إلى البقاء في مصر أثناء الصيف؛ فزعْتُ إلى القراءة أَعْتَصِم بها من سوء الخُلُق، وأحتمي بها من لقاء الناس، ولكنها قراءة تمرُّ بالذهن دون أن تَتْرك فيه أثرًا، كأنها تَمُرُّ بشيء أملس صَلْد لا يستبقي مما يَمُرُّ به شيئًا.
وإذا اضْطُرِرْتُ إلى البقاء في مصر أثناء الصيف، وحِيل بيني وبين القراءة — ولا بد مِنْ وَقْت يُحَال فيه بيني وبين القراءة، حين يَتْعَب الذين يَقْرءون لي، سواء تَعِبْت أنا أم لم أَتْعَب — هَمَمْتُ بالفزع إلى النوم، ولكن النوم لا يَنْفُر مني في فصل من فصول السنة كما يَنْفُر مني في فصل الصيف، وله في الصيف نفور بغيض أَشْبَه شيء بالمزاح الثقيل؛ فهو يدعوني مُغرِيًا، ويتملَّقني محببًا، حتى إذا أَظْهَرْتُ الاستجابة له وَلَّى مُدْبِرًا، وكاد يُسمِعني ضحكًا ساخرًا عريضًا، فإذا استيأستُ منه وأَعْرَضْتُ عنه أَقْبَل مُترضِّيًا، وجَعَلَ يدور حولي من جميع أقطاري، يريد أن يأخذني من هنا وهناك، والغريب أني أنخدِع له دائمًا، وأنه يعرف مني هذا الانخداع؛ فيُقبِل ويُدبر، ويدنو وينأى، ويبسُم ويَعْبِس، لا يُخلِّصني منه إلا أن يستريح الذين يقرءون لي. فإذا أَقْبَلْت على الكتاب فرَّ النوم فرارًا لا رَجْعَة منه، كأنما الكتاب وقاء من النوم أيُّ وقاء. ومن الناس قوم يقرءون ليناموا، ولكني لم أَعْرِف قط كيف يكون الكتاب داعيًا للنوم؟!
وإذا اضْطُرِرتُ إلى البقاء في مصر أثناء الصيف لم أَكْرَه شيئًا كما أكره الخروج إلى حيث يُسْتَنْشَق الهواء الطلق ويُتَبَرَّد من شدة القيظ؛ ذلك لأني واثق بأن الأماكن التي يَغْشَاها طُلَّاب الهواء الطلق مزدحمة دائمًا، ولست آمن أن ألْقَى فيها مَنْ أُحِبُّ ومَنْ لا أحب، فأخشى أن أَسُوءَ هذا أو ذاك بما يَلْزَمُني أثناء الصيف من سوء العشرة وثِقَل المخالَطة. فالصيف بغيضٌ إليَّ في مصر؛ لأنه يُبَغِّضُ إليَّ كل شيء، ويُبغِّضُني إلى نفسي، فإذا عَبَرْت البحر إلى أوروبا، أو نَفَذْتُ من الصحراء إلى لبنان.
فالصيف أحبُّ فصول العام إليَّ، وآثَرُها عندي، وأخفُّها على نفسي ظلًّا؛ لأن قمم الجبال تضفيني من القيظ، فتردُّني إلى نفسي وتردُّ نفسي إليَّ، وأنا مُقْبل على القراءة في نهمٍ لا أعرف له نظيرًا في الفصول الأخرى. وإذا القراءة خصبة أي خصب، لا أكاد أقرأ الجملة أو الفصل حتى تتفتَّح لي أبواب من التفكير والحس والشعور، وإذا أنا في حاجة إلى أن أَتَحَدَّث حتى أشقَّ على أصحابي، وإذا أنا في حاجة إلى أن أُملِي حتى أشقَّ على الذين يكتبون عني؛ والصيف يفتح لي خارج مصر فنونًا من التجارب: يدعوني إلى المشي حتى أَتْعَبَ وأُتعِب مَنْ معي، ويُغريني بالانتقال من مكانٍ إلى مكان، ومِنْ مُصْطافٍ إلى مُصْطاف، ويُحبِّب إليَّ شهود التمثيل والاستماعَ للغناء والموسيقى، ولَسْتُ أبغض في مصر شيئًا كما أَبْغَض الخروج من داري والاختلاف إلى الأندية والجلوس في القهوات. ولست أُحِبُّ خارج مصر شيئًا كما أحب الخروج من الفندق وشرب القهوة هنا أو هناك.
•••
فالصيف عندي إذا خَرَجْتُ من مصر فَصْل الحياة الكاملة الحافلة المليئة، حياة العقل وحياة الحس وحياة الشعور، والصيف عندي إذا أَقَمْتُ في مصر فصل الحياة الراكدة الخامدة التي لا تُغني عني ولا عن الناس شيئًا. ولسْتُ أَعْرف عامًا خَرَجْت فيه من مصر أثناء الصيف وَعُدْتُ فيه إلى مصر فارغ اليدَيْن؛ وإنما أنا أخرج من مصر فلا أكاد أستقر هنا أو هناك حتى يَفْتَح الله عليَّ بكتاب أُمْلِيه، أو بكتاب أعدُّه في نفسي لأُمْلِيَه إذا رَجَعْتُ، ذلك إلَّا أنْ تَحُولَ الخطوب الثقال بيني وبين ما تعوَّدْتُ. والذين ينظرون فيما نَشَرْتُ من الكُتُب يَجِدُون أَكْثَرَها قَدْ أُرِّخَ من قمة جبل أو مدينة في السهل الأوروبي.
أكثر كتبي بُدِئَ أو أُتمَّ في جبال الألب، أو في لبنان، وأَقَلُّها بُدِئَ وأُتمَّ في القاهرة. ولو اسْتَطَعْتُ لتمنَّيتُ أن تكون الحياة كلها صيفًا، وأن أَقْضِيَها مُطَوِّفًا في أقطار الأرض، وأَنْ أُلِمَّ بمصر بين حين وحين لِأَلْقَى الأصدقاء والأخِلَّاء، وأَدْفَع إلى الناشر هذا الكتاب وذاك، وأكلِّف من الأصدقاء مَنْ يقوم على تصحيحه حتى تَتِمَّ إذاعته في الناس. ولكن هيهات أن تكون الحياة كلها صيفًا، وهيهات أن أُنْفِقَها كُلَّها متنقِّلًا بين الجبال والرُّبى والسهول، إنما الحياة شتاء وربيع، وعلينا أن نُنْفِقَهُما حيث يَجْتَمِع المجمع اللغوي والمجمع العلمي المصري، وحيث يَلْتَقِي الناس ليقول بعضهم لبعض ويسمع بعضهم من بعض، دون أن يَنْتَفِع أحد بما يُسْمَع أو يُقال، وحيث نُلقي المحاضرات أو نَسْتَمِع للمحاضرات، فلا نكاد نُفِيد ولا نكاد نستفيد. ثم صَيْف وخريف نفِرُّ فيهما من أنفسنا إلى أنفسنا، ومن أنفسنا الفارغة إلى أنفسنا العاملة، ومن حياتنا التي تقوم على اللغو والعبث إلى حياتنا التي تقوم على الجد والنشاط.
•••
قُلْتُ هذا كله لصاحبي، فابتسم في سخرية، وقال في فتور: أقِمْ ما طابت لك الإقامة، وارْحَلْ ما طاب لك الرحيل، فأنت رَجُل بَدَوِيٌّ تُكرَه على الحضارة إكراهًا، وأنا رجل حضري لا أحب النقلة ولا الارتحال. وكلٌّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له، فأحبِبْ صيفك، ودَعْنِي أبغض صيفي، فلن تُغيِّرني، ولن أُغيِّرَك.