جوع وأحاديث
لا يغضب المواطنون الأعزاء أن نَشُقَّ عليهم في القول ونُعَنِّف بهم في الحديث، فقد يَجِب أن يُقال الحق وإن لم يَبْلُغ من نفوسهم مَوْضِع الرضا، وقد يَجِبُ أن يُقال الحق وإنْ بَلَغَ من نفوسهم مَوْضِع الغضب، وأثار في قلوبهم مَوْجِدَة وغَيْظًا، والمواطنون الأعزاء قد تعوَّدوا أن يُكال لهم المدح كيلًا، ويُهال عليهم الثناء هيلًا، حتى رضوا عن أنفسهم أَعْظَمَ الرضا، وسَخِطوا على غيرهم أشد السَّخَط، وناموا مِلءَ جفونهم والأحداث لا تنام، وعاشوا ساهِينَ لاهِين تتخطَّفهم النوائب، وتَعْبَث بهم الخُطُوب، فلا يُغيِّر ذلك مِنْ رَأْيِهم في أنفسهم وحياتهم شيئًا؛ لأنهم قد ألِفوا الرضا عن أنفسهم، والاطمئنان إلى حياتهم، فأصبح مِنْ أَعْسَر العُسر أن نُخْرِجَهم من هذا الرضا أو نُزْعِجَهم عن هذا الاطمئنان … ولا بد مع ذلك مِنْ أن يُبصَّروا بحقائق الأمر، ومِنْ أن يُخْرَجُوا مِنْ رضاهم ويُزْعَجوا عن اطمئنانهم، ويُعْلَمُوا أنهم يعيشون أبغض العيش، ويَحْيَوْن أَبْشَع الحياة، وأنَّ هذا المثل العربي القديم الذي اتَّخَذْتُه عنوانًا لهذا الحديث لم يُوضَع إلَّا لَهُم، ولم يُضْرَب إلا فيهم، ولم يُصَوِّر إلا ما دأبوا عليه وتورَّطوا فيه من كلامٍ كثير لا يُغني، وعَمَلٍ قليل لا يُفيد!
ولعل المواطنين الأعزاء قد فطنوا ليومين من أيام الأسبوع الماضي كان أحدهما عيد الجهاد، والآخر عيد الهجرة. وكان مِنْ قَبْلِهما يوم له في حياتهم خطره الخطير، وشأنه العظيم؛ وهو يوم افتتاح البرلمان.
ولعل المواطنين الأعزاء، قد لاحظوا أن هذه الأيام الثلاثة قد انْقَضَتْ كما تنقضي غيرها من أيامهم المتصلة التي يَتْبَع بعضها بعضًا، ويُشْبه بعضها بعضًا كما تُشْبه قطرة الماء، حتى كأن أيامهم على اختلافها وتعاقُبها يوم واحد.
ومضت هذه الأيام الثلاثة كما يمضي غيرها مِنْ أيامهم: كلام كثير، وعَمَل قليل، واضطراب في غير حركة، ونشاط في غير إنتاج، وجعجعة في غير طَحْن، ورضًا بعد ذلك عن النفس، واطمئنان بعد ذلك إلى هذه الحياة المُطَّرِدَة المملة، التي لا تنفع الناس ولا تنفع أصحابها، والتي لا تُغني عن الناس ولا عن أصحابها شيئًا!
•••
كانت رائعة بارعة خُطْبة العرش التي أَلْقَاها رئيس الوزراء في البرلمان، صَوَّرَتْ لنا الحياة المصرية كأحسن ما تكون حياة الأمم: حكومة جادة لا تنام ولا تُنِيم، وشَعْب عامل لا يُرِيح ولا يستريح! وقد رَضِيَت الحكومة عن نَفْسها، فأثْنَتْ على نفسها، ورَضِيَ البرلمان عن الحكومة فصفَّق للحكومة، وسَمِعَ الشعب للحكومة تقول وللبرلمان يُصفِّق، فَرَفَعَ الأكتاف وهزَّ الرءوس، وتَرَكَ الخلق للخالق، وأَقْبَلَ المُترفون على تَرَفِهم يَنْعَمُون بغير حساب، وأَقْبَل المحرومون على حِرْمانهم يألمون بغير حساب، وتَذَبْذَبَ بين أولئك وهؤلاء فريق من أوساط الناس يأكلون في غير شبع، ويشربون في غير ري، وكُلُّهم راضٍ بما كان، مطمئن لما هو كائن، مُسْتَعِدٌّ لما سيكون، واثق بأن مصر هي كنانة الله في أرضه، وهي جنة الدنيا، وزينة العالَم، وقائدة الشعوب العربية إلى المجد المؤثل الذي لا يُشْبِهُه مجد، والفخار الذي لا يُدانيه فخار!
وفي أثناء هذا كله كان المواطنون يموتون مئات، ويَمْرَضون مئات، يتخطَّفُهُم هذا الموت الطارئ، ويَصْرَعُهم هذا الموت الطارئ، ومِنْ حَوْلهم ألوف وألوف يَتَخَطَّفُهم الموت العادي الذي لا يحمله الوباء، ويصرعهم المرض العادي الذي لا يَحْمِله الوباء أيضًا. وفي أثناء هذا كذلك كانت ملايين من المواطنين تَنْعَم بالجهل الذي يحجب عنها حقائق الحياة، فلا ترى ما هي فيه، ولا تُوَازِن بين حياتها وحياة غَيْرها من أبناء الأوطان الأخرى … وكانت هذه الملايين في أثناء ذلك أيضًا تَنْعَم بفقرها الذي يَشْغَلُها بالتماس القوت، وإطعام العِيال وكسوتهم دون أن تجد ما تَسْعَى إليه، ولكنه يَشْغَلها على كل حال بذلك عن التفكير في حياتها، والموازنة بينها وبين حياة غيرها من أبناء الأوطان الأخرى!
كان هذا كله يَحْدُث في الصحف من يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر نوفمبر، بينما كان رئيس الوزراء يُنبئ البرلمان بما فَعَلَت الحكومة وبما ستفعل، مُوَفَّقَة في الماضي والمستقبل لإنقاذ الشعب من الموت والمرض، ومن الفقر والجهل، ولتمكين مصر الخالدة المجيدة مِنْ أن تَرْفَع رأسها العظيم الكريم بين الأمم الراقية، التي لم تَبْلُغ ولن تَبْلغ ما بَلَغَت مصر من المجد والفخار!
•••
«جوع وأحاديث»، كما يقول المثل العربي القديم في يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر نوفمبر! و«جوع وأحاديث» في يوم الخميس الثالث عشر من شهر نوفمبر، حين استراح الموظفون من العمل احتفالًا بعيد الجهاد الوطني! وأي احتفال بالجهاد يعدل الراحة لا من الجهاد، فقد انْقَضَتْ أيام الجهاد، ولكن من العمل اليومي اليسير الذي يُتيح لهم أجورهم آخر الشهر؟! وأي احتفال بالجهاد يُشْبه الحصول على الأجر مِنْ غَيْر عَمَل، وإن كان هناك قوم آخرون تَفْرِض عليهم الراحة احتفالًا بالجهاد ثم يُحرَمون أجورهم في ذلك اليوم؛ لأنهم أُكرِهوا على الراحة احتفالًا بالجهاد!
في ذلك اليوم خَطَبَ الخُطباء، وتَكَلَّمَ الزعماء، وذُكِرَت الثورة، وأُثنِيَ على الشهداء! وفي أثناء هذا كله كان الجيش البريطاني مُرَابِطًا في أماكنه المقسومة له، لا يحتفل بعيد الجهاد؛ لأن الجهاد لم يرزأه قتيلًا!
و«جوع وأحاديث» يوم الجمعة الأول من شهر المحرم سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف للهجرة … في ذلك اليوم كُتِبَت المقالات المُدْمَجة، والفصول المُنمَّقة، وأقيمت الحفلات الرائعة، وذَكَرَ المسلمون هذا الحدث الإنساني الخَطِر الذي تغيَّر له التاريخ؛ وهو الهجرة، وذَكَرُوا ما في الهجرة من موعظة وعبرة، بكى بعضهم وتباكى بعضهم الآخر، واصطنع سائرهم الوقار، فلم يتكلَّفوا تباكِيًا ولا بكاءً! ثم لم يَنْقَضِ يوم الجمعة إلا كما تعوَّدَت الأيام أن تنقضي: خمود وجمود، وكسل وركود، ونوم عميق، وإمعان فيما تعوَّد الناس أن يُمعِنوا فيه من هذه الحياة الفارغة التي لا تُغني عن الناس ولا عن أصحابها شيئًا!
•••
«جوع وأحاديث» في هذه الأيام الثلاثة، وجوع وأحاديث فيما سبقها وفيما سيتلوها من الأيام!
صُحُف لا تُحصى ولا يُحصَى ما فيها من الكلام تُصابِح الناس وتُماسيهم، وثرثرة لا تُحصى في الراديو تُصابح الناس وتُماسيهم، وهُراء كثير لا يُحصى، يَشْغَل الناس عن أنفسهم وعن حياتهم وعن آمالهم وعن آلامهم، لا يَصْرِفهم عنه النوم، بل هم إذا ناموا وألمَّت بهم الأحلام لم يَخْرُجوا من هذا الهراء!
جوع … وأحاديث! فنحن أفصح الناس كلامًا، وأَرْفَع الناس صوتًا، وأَبْرع الناس في الحركات والتمثيل … ونحن مع ذلك مضرِب المثل في البؤس، والجهل، والمرض، والتهافُت في الموت، كما تَتَهَافَتُ الفَرَاش في النار! والله يُعزِّي الناس عن آلامهم، ويُسَلِّيهم عن مصائبهم بالعمل الذي يزيل الآلام، ويَكْشِف المصائب، كما يُسَلِّيهم بالقول الذي لا يمحو ألمًا، ولا يكشف ضرًّا، ولا يجلي خَطْبًا، وإنما يجعل أصحابه ضُحْكَةَ الضاحكين، وهُزْء الهازئين!
فلْنَبْتَهل إلى اللَّه في أن يُبْرِئنا مِنْ عِلَّة الكلام الكثير، فلعلنا إنْ بَرِئْنا من هذه العلة أن نَجِدَ العزاء عن آلامنا وكوارثنا في العمل الذي يزيل الآلام، ويمحو الكوارث، ويُجْلِي الغمرات!