حوار في الأدب
لم يَرْفَع لي رأسه حين دَخَلْتُ عليه، ولم يَرْدُدْ عليَّ التحية حين أهديتها إليه، وإنما ظل مُطْرِقًا ممعِنًا في إطراقه، صامتًا مُغْرِقًا في صَمْته، تمضي عينه رفيقة في كتاب قد وَضَعَهُ أمامه على المائدة، وتَعْبَثُ يده عبثًا مُنْتَظِمًا بقلم قَدْ أَخَذَتْ تَضْرِب به صحفًا مُنْتَثِرة على المائدة على يمينه كأنما يداعِب به هذه الصحف.
وليس مِنْ شَكٍّ في أنه كان يقرأ ما يقرأه في عناية شديدة، وقد أخذ قَلَمَهُ ونَثَرَ هذه الصحف ليسجل ما يخطر له من الملاحظات، وكُنْتُ خليقًا أن أَضِيقَ بهذا الإعراض الذي لقيني به، وأُنْكِر هذا الانصراف الذي ألحَّ فيه، لولا أن الكلفة بينه وبيني مرفوعة، والألفة بينه وبيني متصلة، ولولا أني أعرف منه هذا النبو عما تعوَّد الناس فيما بينهم من صِلات قد يكون حَظُّها من التكلف والنفاق أَعْظَمَ مِنْ حَظِّها من السذاجة واليسر، ومن هذه الصراحة التي لا تَدَعُ بين النفوس حُجُبًا ولا أستارًا.
وقد كان من الممكن أن أَدْخُل عليه فلا أُلقي إليه تحية ولا أَنْتَظِر منه جوابًا، وإنما أَعْمِد إلى هذا المكان الذي ألِفْتُه من غرفةِ عَمَلِهِ فأستقر فيه هادئًا منتظرًا أن يَفْرُغ لي، أو أستقر فيه نشيطًا لبعض ما أَنْشَطُ له من العمل حين أَدْخُل هذه الغرفة المغرية بالقراءة والجد لكثرة ما اشْتَمَلَتْ عليه من الكتب المتنوعة في الفن والأدب والعلم. ولكني في ذلك الصباح دَخَلْتُ عليه كما أَدْخُل على غيره من الناس، وأَهْدَيْتُ إليه التحية كما أُهْدِيها إلى غيره من الناس، فلما آنَسْتُ منه هذا الإعراض ذَكَرْتُ أني أَزُورُه هو لا غيره من ذوي المودة والمعرفة، فعُدْتُ إلى ما أَلِفْتُ من الأمر عند لقائه، وأَقْبَلْتُ على ما أَرَدْتُ أن أُقْبِل عليه مِنْ عَمَلٍ، وتَرَكْتُه لكِتابه وقلمه يقرأ في أحدهما بعناية، ويَعْبَث بأحدهما الآخر في نظام واطراد.
ولم تَمْضِ لحظات قصار حتى نَسِيتُ مكاني منه ومكانه مني، وإذا أنا أثوب إلى نفسي فجأة كأنما آتٍ من بعيد يدعوني إلى نفسي وإلى ما حولي، هذا الصوت أو هذه الأصوات التي أسمعها مختلطة متمايزة في وقت واحد؛ فصوت إنسان يرتفع في الغرفة فيملؤها بهذه الألفاظ: أما الآن فقد فَرَغْتُ لك فافْرُغ لي، وصوت كتاب متوسط الضخامة يُلقى على المائدة في عنف، وصوت قَلَم نحيل ضئيل يُلقى على المائدة إلقاءً بين العنف والرفق، فيضطرب عليها اضطرابًا يسيرًا.
قُلْتُ لصاحبي: قد فَرَغْتَ لي حين أَرَدْتَ، أو حين أُتِيحَ لك الفراغ، فأما أنا فلا أريد أن أَفْرُغَ لك، أو قُل: لم يُتَحْ لي بعد أن أفرُغ لك. فلم يرُدَّ عليَّ جوابًا، ولكنه مشى رفيقًا إلى صاحبي ونظر في الكتاب الذي كان يقرأ لي فيه، ثم انْتَزَعَهُ من يد صاحبي انتزاعًا، وقال: هذا كتاب قرأْتُهُ منذ أعوام، وما ينبغي أن تقرأه وحْدَكَ، فسنقرأه معًا، وسيكثُر الحوار بيننا حول ما جاء فيه من الخواطر والآراء، وسنبدأ هذه القراءة — إن شِئْتَ — بعد ساعة إِذَا رَدَدْتُ عليك تحيتك بأحسن منها، وإذا شربْنا من القهوة قدحًا أو قدحين، وأحرقْنا سيجارة أو سيجارتين، وأدرْنا الحديث بيننا قليلًا أثناء ذلك حول صاحبكم هذا الذي أقمتم له الدنيا وأقعدتموها منذ عام، والذي تقيمون له الدنيا وتُقعدونها منذ أول هذا القرن.
قُلْتُ حول أبي العلاء … إليك عني؛ فقد شَبِعْتُ من حديث أبي العلاء حتى أدركَتْنِي التخمة أو كادت تدركني، فدعني أَسْتَرِح منه، ودعني أُرِح منه الناس حينًا، فقد صَدَقْتَ؛ لقد أقمنا الدنيا وأقعدناها بحديث أبي العلاء، ولقد أقمنا أنفسنا وأقعدناها بحديث أبي العلاء؛ حتى أخذَنا الدُّوَار، وآن لرءوسنا أن تستقر، ولأعصابنا أن تهدأ، ولألسنتنا وعقولنا أن تأخذ في حديثٍ آخر. فإذا أَخَذْنا وأَخَذَ الناس قسطًا من راحة، وحظًّا من دعة؛ عُدْنَا إلى حديث أبي العلاء، قُمْنَا به وقَعَدْنَا وأَقَمْنَا الناس به وأقعدناهم، فإن قصة أبي العلاء لم تَنْتَهِ بعْدُ.
قال صاحبي وهو يَضْحَكُ: لا تَخْدَع نَفْسَك ولا تَخْدَعْني، فما سَئِمْتَ حديث أبي العلاء ولا ضِقْتَ بهذا الدوار الذي اضْطَرَّكَ إليه هذا الحديث، وما أعرف أنك تحب شيئًا كما تحب هذا الدوار الذي يُفْنِيك في صاحبك ويَشْغَلُك عن غيره من الناس والأحداث والخطوب. على أني لن أحاورك فيما شَغَلْتُم به أنفسكم وشَغَلْتُم به الناس من آراء أبي العلاء في الفلسفة والسياسة والأخلاق والدين وشئون الاجتماع، فكل هذه الأشياء قد ضِقْنَا بها حقًّا، وآنَ لنا أن نستريح منها وقتًا، إنما أريد أن أحاورك في شعر أبي العلاء؛ فقلَّما تَحَدَّثْتُم في هذا الموضوع، وقلَّما حاولتم أن تتعمَّقوه، وقد جَعَلَ بعضكم يَزْعُم للناس أنه شِعْر، وجَعَلَ بعضكم الآخر يَزْعُم للناس ألَّا حَظَّ له من شِعْر، أو أن حَظَّه من الشعر ضئيل.
قُلْتُ: وتريد أنت أن تأتي بالقول الفصل في هذه القضية، وأن تمحو الخصومة فيها محوًا، وتُلْغِيها إلغاءً، وترُدَّ الناس إلى شيء من الوِفاق لا يختلفون بعده أبدًا … قال: لا تَعْبَثْ بي، ولا تُسْرِف في إساءة الظن برأيِي؛ فإني لم أصِلْ من الجهل بأمور الشعر إلى هذه المنزلة، ومتى رأيتَ الناس يصلون إلى الاتفاق في أمر شاعر من الشعراء فيقضوا له جميعًا بالتفوُّق أو بالتوسُّط أو بتواضع المنزلة؟ قلْتُ: فسنظل مختلفين في شِعْر أبي العلاء كما نحن مختلفون في شِعْر غيره من الشعراء. قال: فإن الخلاف في شأن أبي العلاء يأخذ شكلًا خاصًّا لم يأخذه الخلاف في شعر المتنبي وأبي تمام أو مسلم؛ لأن هؤلاء وأمثالهم قد فرغوا للشعر، وقَصَرُوا عليه حياتهم، ووَقَفوا عليه جهودهم، وسَلَكُوا إليه الطُّرُق التي تعوَّد الشعراء أن يسلكوها إلى الإجادة في الفن.
فأما أبو العلاء فأَمْرُه لا يخلو من غرابة؛ فهو من أكثر الشعراء شِعرًا، ولعله إن وَصَلَتْ إلينا آثاره كلها أن يكون أكثرهم شعرًا، ثم هو لم يسلك في الشعر طريقة واحدة، ولم يَقْصِد به إلى غاية واحدة من غايات الفن، وإنما قَصَدَ إلى غايات مختلفة متنوعة، كما سَلَكَ طرقًا متمايزة متباينة؛ فهو شاعر كغيره من الشعراء يُصوِّر عواطف نَفْسه وأهواءها، ويُصور عواطف الناس وأهواءهم، ويصور مظاهر الطبيعة مِنْ حَوْلِه كما استطاع أن يصورها، يشارك في المدح والرثاء، كما يشارك في الفخر والوصف، وكما يشارك في الهجاء إلى حد قريب. ولكنه يذهب مذاهب أخرى؛ فيقول في الفلسفة، وفي الفلسفة التي لم يتعوَّد الشعراء أن يَطْرُقوها ولا أن يُخْضِعُوها للنَظْمِ، ويقول في السياسة على غير النحو الذي أَلِفَهُ الشعراء السياسيون، ويقول في النقد الاجتماعي والديني، ويَذْهَب مَذْهَب الألغاز، كما يَذْهَب مذهب الرمز.
ثم هو يَسْلُك في هذه الأغراض كلها طُرُقًا؛ منها المستقيم البيِّن، ومنها الملتوي الغامض، يَسْلُك طريق الشعراء الذين عاصَرُوه أو سَبَقُوه، فيسهُل في ألفاظه حينًا، ويشقُّ فيها على نفسه وعلى الناس حينًا آخر، ويَلْزَم عمود الشعر مرة كما لَزِمَه القدماء، فيجري على طَبْعه وعلى طَبْع اللغة، وينحرف عنه مرة أخرى، فيمضي على طريقة أبي تمام وأصحابه، صانعًا حينًا ومُتصنِّعًا حينًا، ويمضي على طريقة المتنبِّي؛ فيأخذ في هذا التكلف الذي يلجأ إليه الشعراء حين توشك شجرة الشعر أن تَجِفَّ، وحين توشك زهرات الشعر أن يُدركها الذبول، ثم ينْحَرِف عن هذا كله مرة واحدة، ويسلُكُ في اللزوميَّات وغير اللزوميات طُرُقًا لم يَسْلُكْها أحد قَبْله، فيتجافى بألفاظه ومعانيه عن المألوف، ويتجافى بالقافية خاصةً عن المألوف، فيُكَلِّف نفسه ويُكَلِّف الناس من أَمْرِه شططًا، ويُخضِع المعاني للقوافي، ويَجْعَل نفسه وخواطره وعواطفه عبيدًا لهذه القوافي.
فأنت ترى أنَّ أَمْر الشعر عند أبي العلاء ليس كأمر الشعر عند غيره من الشعراء، بل هو أشد التواءً وأكثر تعقيدًا؛ ولهذا اختَلَفَ في حَظِّه من الشعر وفي تقدير ما تَرَكَ من الكلام المنظوم القدماءُ والمحدثون جميعًا، وظَهَر هذا الخلاف في عصره وفي آثار تلاميذه الذين سمعوا منه على كل حال. قُلْتُ: وماذا تريد أن أصنع؟ اختلف الناس في شِعْر أبي العلاء قديمًا وحديثًا، وسيظلون مختلفين في شِعْره؛ فدعهم يختلفوا، فلو شاء ربك لاتَّفقوا، ولكنه لم يشأ، وهم مختلفون في شعر أبي العلاء كما هم مختلفون في الشعر كله، وكما هم مختلفون في كل شيء.
قال: فإني كُنْتُ مشغولًا حين دخلت عليه بقصيدة من قصائده تلك التي قالها في بغداد، قرأتُها مرة ومرة، وجَعَلْتُ أنظر في أبياتها بيتًا بيتًا، ثم أنظر فيها كلها جملة، ثم أنظر فيما قيل حول أبياتها من الشرح والتفسير، ثم أسأل نفسي؛ أكان أبو العلاء شاعرًا أم لم يكن؟ أأقرأ شعرًا جيدًا أم أقرأ شعرًا متوسطًا أم أقرأ شعرًا رديئًا؟ والغريب أني لم أكن أظفر بجواب مُقْنِع عن سؤال واحد من هذه الأسئلة، أو قُل: إني كُنْتُ أظفر بأجوبة مختلفة لكل هذه الأسئلة، فقَدْ كُنْت أرى أن أبا العلاء شاعر؛ لأني كُنْتُ أهتز لبعض أبياته، وكنت أرى أنه ليس شاعرًا؛ لأني كنت أَزْوَرُّ عن بعض أبياته، وكُنْتُ أرى أني أقرأ شِعرًا جيدًا وشعرًا متوسطًا وشعرًا رديئًا، ولولا أنَّ هذا كله قد دَفَعَنِي إلى كثير من الحيرة والاضطراب لمضيتُ في قراءتي، ولخلَّيتُ بينك وبين كتابك هذا الذي كُنْتَ مُقبلًا عليه.
قُلْتُ: فأَوَّلُ ما ينبغي أن نُسَجِّله: هو أن هذه القصيدة لم تَمْلك عليك أَمْرَكَ، ولم تَسْتَأثر بقلبك، ولم تُخْرِجْكَ عن طورك، وإنما أتاحت لك السؤال والجواب والتفكير والتقدير، فهي إذَنْ ليست قصيدة رائعة، ولو قد كانت كذلك لما اضْطُرِرْتَ إلى حيرة ولا إلى اضطراب، ولكن أرجو ألَّا تكون من هؤلاء الذين يَقْضُون على الشاعر ببيت من أبياته أو قصيدة من قصائده. قال: لستُ من هؤلاء، ولستُ أرى أن هذه الحيرة التي دُفِعْتُ إليها تَمْنَع أن تكون هذه القصيدة رائعة؛ فقد أكون أنا مصدر هذه الحيرة، وقد يكون تردُّدِي في أَمْرِها ناشئًا عن قصور مني، لا عن قصور من الشاعر أو تقصير. وأنت تعلم أنَّ مِنْ خير ما تنتهي إليه الآثار الفنية في نفوس الذين يشهدونها أن تثير فيها الحيرة والتردد والاضطراب. ولستُ أُخفي عليك أني لا أحب الإعجاب اليسير، ولا أغالي بهذه الروعة التي تأخذني من جميع أقطاري، وتمنعني من التفكير والتقدير والحُكْم.
قلْتُ: وما عسى أن تكون هذه القصيدة التي أضاعت علينا كل هذا الوقت، فقد شَرِبْنَا القهوة وأحرقنا سجائر لا سيجارتين، وأجَّلْتَ قراءتنا لهذا الكتاب البائس إلى أَجَل غير مسمًّى. قال: هي قصيدته التي قالها في بغداد يُصوِّر فيها حنينه إلى المعرة، والتي أَوَّلُهَا:
قُلْتُ: كفى الله عَنْكَ، لقد شَكَكْتَ في غير موضعٍ للشك، وأدركَتْكَ الحيرة في غير مصدر للحيرة، فهذه القصيدة من خير ما قال أبو العلاء؛ لأنها تُصَوِّر أَكْرَم ما يُحب الرجل، أو قُل: أَكْرَم ما يحب الشاعر أن يُصَوِّر من ذات نَفْسِه. قال: هذا شيء أُحدِّثُ نفسي به ولا أكاد أُحَقِّقُه؛ لكثرة ما في هذه القصيدة من إغراب والْتِوَاء يأتيانها من هذا الحديث الطويل عن الإبل، ومِنْ هذا الحديث الطويل عن الطريق وأهوالها، ومن هذه الألوان المتكَلَّفة من الاستعارة والمجاز والطِباق. قُلْتُ: فإنك لا تَعِيب على القصيدة إلا أنها شِعْر. قال: وما ذاك؟ قُلْتُ: تعيب على القصيدة ما فيها من حديث طويل عن الإبل وعن الطريق وأهوالها، وما فيها من ألوان الفن البياني؛ كأنك تريد من أبي العلاء أن يتحدث إليك حديثًا مباشرًا يسيرًا قريب المنال بما أراد أن يقول، ولو أنه استمع لك وأجابك إلى ما تريد لما زاد على أن يقول إنه ما دام على فراق المعرة مُشَوَّقٌ إلى أن يعود إليها، لا يَعْدِل بها ولا بأرض الشام مدينة أخرى وإن كانت بغداد، ولا أرضًا أخرى وإن كانت العراق.
إنه لم يُرِد أن يقول أكثر من هذا، أستغفر الله! بل أراد أن يُقِرَّ الطمأنينة في نفس إخوانه من أهل الشام، على أنه لم يزل عزيزًا كريمًا لم يذل نفسه بالسؤال، ولم يبتذل وجهه بتملُّق الأغنياء وإن كان حظه من المال ضئيلًا، أفتراه وقد حدَّثك هذا الحديث على هذا النحو اليسير أرضَى حاجتك إلى الجمال الفني، وأثار من قلبك هذه العواطف المختلفة؛ عواطف الحنان والحنين والشوق والشكوى والارتفاع عن الصغائر والدنِيَّات؟ قال: كلَّا، ولكنه يَجْعَلُ بيني وبين هذا الجمال وهذه العواطف والخواطر حُجُبًا كِثافًا من ألفاظه وأساليبه، فلو قد قرَّبها إليَّ بعض التقريب … قُلْتُ: فإنك تَطْلُب إلى الشاعر ما لا ينبغي أن يُطلَب إلى الشعراء، فليس من الْحَقِّ على الشاعر أن يُقدِّم إليك فنَّه الرائع وأنت هادئ وادِع مطمئن ناعم البال؛ وإنما الْحَقُّ عليك أن تَجِدَّ كما جدَّ، وتتعب كما تعِب، وتشقى بالتماس الجمال كما شقيَ هو بعرض هذا الجمال. ذلك أحرى أن يجعل استمتاعك بالفن فيما تدركه عن استحقاق، وذلك أحرى أن يجعلك شريكَ الشاعر في هذا الجهد الخصب الخالد الذي يبذله الشعراء وقُرَّاؤهم وسامعوهم؛ ليصلوا إلى هذه الغاية العُليا، وهي تصفية النفس وتنقية الذوق وترقية الطبع وإصلاح الضمير.
وبعد، فما الذي أعياك من هذه القصيدة؟ وصْفُه الإبل؟ فإنه لم يَصِفْ إلا حنينها إلى ما ألِفَتْ من أرض الشام، وهو قد افتنَّ في تصوير هذا الحنين؛ فجعل الإبل تتطاول إلى هذا البرق المُقْبِل من الشام، وتتطاول حتى تكاد أن تَقْطَعَ أعناقها لتصطلي بنار هذا البرق. وجعل هذه الإبل ترجِّع حنينها إلى الشام تتلو كتابًا منزلًا فيه حب الوطن وإيثاره على كل وطن آخر، وجعل هذه الإبل حين ترجِّع حنينها تُنْشِد قصيدة لا يُدرى أحديثة هي أم قديمة؛ لأن الحنين إلى الوطن خالد، لا يدري أحد أحديث هو أم قديم، وجعل هذه الإبل حين تُرَجِّع حنينَها تُغَنِّي أصواتًا في الثقيل الأول من ضروب الغناء، فيها إبطاء وأناة وتَمَهُّل؛ لأن الحنين إلى الأوطان يَلْزَم النفس في جميع خطوات الحياة، وجعل هذه الإبل تريد أن تَطِير إلى أوطانها في الشام، لولا أن العقال يَمْنَعُها من أن تطير، وهو مع ذلك ليس واثقًا بأن العقال يَمْنَعُها من الطيران، ولولا رِفْقُه بها وحُبُّه لها لَأَمَرَ صاحبه بأن يُقيِّدها بالسيف.
وهل تظن أن الإبل أحسَّتْ شيئًا من ذلك أو حاولَتْهُ؟ كلا، وإنما هو أبو العلاء قد أَحَسَّ هذا كله وأكثر من هذا كله، وحاول هذا كله وأكثر من هذا كله، وأدى ما أحسَّ وما حاوَلَ في هذا النحو من الرمز كما أدَّاه الشعراء منذ العصر القديم، ثم لم يستطع أن يكتفي بالرمز؛ فجعل الرمز وسيلة إلى خلق البيئة وإنشاء الجو الشعري كما يُقال في هذه الأيام، حتى إذا بلغ من ذلك ما أراد صرَّح عن نفسه في غير لَبْس ولا التواء ولا تَرَدُّد ولا استحياء، فقال هذين البيتين اللذين ما أظنك تُجَادِل في روعتهما التي تأتيهما من صدق العاطفة، قال:
ولا يرعك قوله: «تشبهها في الجنح أم رثال»؛ فإنه أسلوب مألوف من أساليب القدماء حين كانوا يُشَبِّهُون السحاب بالنعام، ولكنك تحب التصريح والكلام القريب، فهو يتمنى ما كان ينكره على الإبل من العودة إلى أرض الشام تَحْمِله إليها غمامة أو تتهاداه الريح حتى تَبْلُغ به شاطئ الفرات غير بعيد من حلب والمعرة.
وإذا كنت تريد تصريحًا أَصْرَح ووضوحًا أوضح فاقرأ قوله:
ولا يشغلْك الشعر عن التاريخ؛ فأبو العلاء يقول هذه القصيدة بعد أن وصل إلى بغداد بليالٍ قليلة، وهو يقول بعد ذلك:
فهو إذَنْ قد وَصَلَ إلى بغداد في جمادى الثانية، وأكبر الظن أن هذه القصيدة هي أول ما صوَّر شوقه إلى المعرة بعد أن وَصَلَ دار السلام.
وأنت تريد الكلام الواضح اليسير الذي لا التواء فيه ولا غموض، ولا رمز فيه ولا تلميح، فاقرأ قَوْلَه:
وهَمَمْتُ أن أمضي في الحديث، ولكن صاحبي يمَسُّ كتفي مسًّا رفيقًا وهو يقول: على رِسْلِكَ، ألست ترى أنا نُنْصِفُ أنفسنا ونُنْصِف أبا العلاء إن استأنفنا قراءة «سقط الزند» من أوله؟ قُلْتُ: هذا شيء قد يكون وقد لا يكون، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أنك ستقرأ معي هذا الكتاب الفرنسي الذي صَرَفْتَنِي عنه آنفًا، أو ستُخَلِّي بيني وبينه حتى أقرأه؛ فقد شَغِفْتُ بهذه الصحف الأولى منه. قال وهو يضحك: ولن تمضي فيه حتى تزداد به شغفًا وكلفًا.