طَيْف
ألقى كل واحد منهما إلى صاحبه نظرة دهشة واجمة، فيها كثير من هذه الغفلة الحائرة التي تنشأ من المفاجأة، والتي تُلِمُّ بالآمِن المطمئن حين يفجأه من الأمر ما لم يكن ينتظر، بل ما لم يكن يخْطِر له ببال. وكانت النظرة التي ألقاها كل منهما إلى صاحبه خاطفةً أوَّل الأمر، ولكنها عادت فطالت واستقرت شيئًا ما، ولزمَتْ مع ذلك صمتًا، إِنْ صوَّر شيئًا فإنما يُصوِّر انعقاد اللسان حين تسيطر الحيرة على العقل فلا يُفكِّر، وعلى القلب فلا يَشْعُر، وعلى اللسان فلا يقول.
وقد لبث كل منهما بإزاء صاحبه ذاهلًا غافلًا لا يعرف ماذا يصنع ولا يدري كيف يقول، ولو قد عَرَضَ لهما هذا اللقاء المفاجئ لأصابتهما الحيرة وقتًا طويلًا أو قصيرًا، ولانتهَيا آخِرَ الأمر إلى مَخْرَج من هذه الحيرة بكلمة تَنْفَرِج عنها الشفاه، أو ضَحِكَة تنفغر لها الأفواه. ولكنهما في موقفهما هذا لم يكونا يستطيعان أن يَخْرُجا من حَيْرَتهما الصامتة إلى الضحك أو إلى الكلام؛ فقد كان بينهما هذا القبر القائم يَضْطَرُّهُما إلى شيء من الوقار لا يملكان معه ضحكًا إن أرادا الضحك، ولا كلامًا إن أرادا الكلام. وهُمَا مِنْ أَجْل ذلك قد لَبِثَا صامتَين واجمَين يلتمسان مَخْرجًا من هذا الصمت، ومُنْصَرَفًا عن هذا الوجوم، فلا يجدان إلى شيء من ذلك سبيلًا، وقد أَخَذَ كل واحدٍ منهما يُحدِّث نَفْسَه بالانصراف عن هذا القبر، يرى في هذا الانصراف فرَجًا من هذا الحرج، ومَخْرَجًا من هذا الضيق، ولكن كل واحد منهما كان يسأل نفسه: أيبدأ هو بالانصراف؟ أم ينتظر حتى يُضْطَرَّ صاحبه إلى أن يَنْصَرِفَ؟
وإنهما لفي هذه الحيرة المتصلة وإذا خطوٌ يُسمَع وَقْعُه من بَعيد، فيرفعان رأسيهما، ويَنْظُرَان من حيث يَسْمَعان، فإذا شخص يُقبِل بطيئًا رزينًا متكلِّفًا الوقار، ولا يكاد يدنو منهما حتى يَعْرِفاه كما يَعْرِف كل واحد منهما نفسه؛ فهو صديقهما الثالث الذي تعوَّد أن يلقاهما حين يُقبل المساء من كل يوم، وأن يَسْمُر معهما حيث تعوَّدوا أن يَسْمُروا في نادٍ من أندية القاهرة أوَّلَ الليل، وأن يَنْصَرِف معهما إلى حيث تعوَّدوا أن ينصرفوا حين يوشك الليل أن ينتصف، فيَلْقَوْن في بعض الأندية الخاصة مَنْ يَلْقَوْن من رفاق اللهو وخِلَّان العبث والمجون، حتى إذا كاد الليل يَبْلُغ ثُلُثَيْه أَوَى ثلاثَتُهُم إلى تلك الدار التي تعوَّدوا أن يَأْوُوا إليها في آخِر الليل، وقد خلُصَتْ نفوسهم للَّهو، وصَفَتْ ضمائرهم للعبث، وحسُن استعدادهم للمجون، أو قُلْ إن شِئْتَ: لاستيفاء حَظِّهِم من المجون.
هنالك يكون شُرْب الكئوس الأخيرة، وهنالك تَنْطَلِق الألسنة بما تشاء في غير تَكَلُّف ولا تحرُّج، وهنالك تُرْسَل النفوس على سَجِيَّتها في غير احتياط ولا تحفُّظ، وهنالك يَخْلَع الإنسان عن نفسه هذه الخِصال المصطَنَعة التي فَرَضَتْها الحضارةُ على المتحضرين، ويصير إلى حال من الإنسانية المتْرَفة الفاجرة التي تنحطُّ بصاحبها أو تَرْتَقِي بصاحبها؛ لا أدري، إلى حيوانية مُتْرَفة لا أَدَبَ فيها ولا وقار.
حتى إذا انهزم الليل وولَّى مُدْبرًا، وانتَصَر الصبح وأقْبَلَ ظافرًا؛ انسلُّوا من هذه الدار لا تكاد أقدامهم تَحْمِلُهُم، ولا تكاد أجسامهم تَسَعُ نفوسهم، ولا تكاد ألسنتهم تَنْطِق، ولا تكاد عقولهم تُفكِّر، ولا تكاد قلوبهم تَشْعُر؛ لأنهم قد أسرفوا على أنفسهم في الاستمتاع بإنسانيتهم المهذَّبة التي نَعِمَتْ حتى أَفْسَدَها النعيم، وأَثْرَتْ حتى أطغاها الثراء، وارتقت حتى انحَدَر بها الارتقاء إلى الدَّرْك الأسفل من الانحطاط، ولا يكادون يبلغون باب الدار متثاقِلِين متهالِكين يَسْنُدهم الخدم مُكْبِرين لهم، ساخرين منهم، حتى يتلقى كلَّ واحد منهم سائق سيارته فيقره على شيء من الجهد في السيارة، يُظْهِر الإكبار له ويُضْمِر الاستهزاء به، ثم يمضي بهذا المتاع الغالي الرخيص حتى ينتهي به إلى داره، وحتى يَرُدَّ منه إلى أهل الدار شيئًا عظيمًا جدًّا في أعيُن الناس، حقيرًا جدَّا في عَيْن نفسه وفي عَيْن أهله، وهو هذه البقية التي تَرَكَها الصِّبَى واللهو والخلاعة والمجون.
فإذا تَقَدَّمَ النهار، وارتفع الضحى، وزالت الشمس أو كادت تزول؛ أفاقت هذه البقية البالية من نَوْمِها الثقيل الغليظ، وتلقَّاها عُمَّال الترف، أولئك الذين يُجدِّدون البالي، ويُحسِّنون القبيح، ويُقيمون المُتهدِّم، ويردُّون الشباب إلى مَنْ فارَقَهُم الشباب … وما هي إلا ساعات حتى تَسْتَأنف هذه البقايا البالية حياة جديدة فيها نشاط وقوة، وفيها جمال ونضرة، وفيها شوق مُجَدَّد إلى اللهو، وفيها نزوع مستأنَف إلى المجون. ولا يكاد النهار يَبْلُغ آخِرَه حتى يَخْرُج من هذه الدُّور أشخاص فيها كثير من المرح، وكثير من الفنون، وكثير جدًّا من الجهل والغرور، وإذا هؤلاء الأشخاص يَلْتَقُون في ناديهم الذي تعوَّدوا أن يلتقوا فيه، فتكون الدعابة الفاترة، وتكون الفُكاهة الباردة، ويكون المزاح السخيف، ويكون الإقبال الفاتر على العبث الفاتر. وكلما تَقَدَّمَ الليل ازداد النشاط، واشتدَّ المرَح، وعظُم الخطر من العربدة، وأَخَذَ كل جِسْم من هذه الأجسام يصير ثوبًا قد دَخَلَتْ فيه نفس جنية، طغى عليها الهوى، وجَمَحَتْ بها الشهوة، واندفع بها حُبُّ الإثم إلى غير حَدٍّ، وإذا هم يَستأنفون ليلًا كَلَيْلِهِم الماضي، ويستقبلون حياةً ناعمةً بائسة كحياتهم الماضية، ويَعُودُون إلى دُورِهم مع الصبح بقايا مُحطَّمة لا تريد شيئًا، ولا تَقْدِر على شيء، ولا تَصْلُح لشيء حتى يَشْتَمِل عليها النوم فيَرُدُّ إليها شيئًا من قوة، ثم يتناولها عُمَّال الترف الذين يُرقِّعون البالي ويُجدِّدون القديم، فيَعْملون ويَعْملون، ويحتالون ويتكلفون، حتى يردوا هذه البقايا البالية أشخاصًا قادرة مريدة، ولكنها لا تقدر إلا على الفساد، ولا تريد إلا الإثم والمجون.
ولكنهم في هذه المَرَّة لم يَلْتَقُوا في ناديهم ذاك الذي تعوَّدوا أن يَلْتَقُوا فيه حين يُقبِل الليل، وإنما الْتَقَوْا في مكانٍ لم يَكُن يُنْتَظَرُ أن يَلْتَقُوا فيه، ولا أن يَذْهَبَ إليه واحد منهم، فليس فيه لهو وليس هو مظنة للَّهو، وليس فيه سَمَر ولا هو مظنة للسمر، ومتى لهَا الناسُ بيْن القبور؟ ومتى سَمَرَ الناس حول قبرٍ لم تَمْضِ على إقامته إلا أسابيع قليلة؟ كيف ذَهَبَ هؤلاء النفر إلى هذا المكان الموحِش في قَلْب الصحراء؟ وكيف الْتَقَى هؤلاء النَّفَر حول هذا القبر الذي لم تَسْتَقِر فيه صاحِبَتُه إلا مُنْذ أمدٍ قريب؟ هذه هي المسألة التي ألقاها كل واحدٍ منهم على نفسه، فوجد الجواب عليها سهلًا يسيرًا، وهمَّ أن يُفكِّر فيها ويستقصي التفكير ويتعمَّقه، لولا أنه لم يُخلَق للتفكير ولا للاستقصاء ولا للتعمُّق؛ وإنما خُلِقَ للعبث الذي لا يُغني، واللهو الذي لا يُجدي، والمجون الذي يُفسِد المروءة ويَذْهَب بنضرة الأجسام والنفوس.
فلم يَكَدْ ثالِثُ القوم يرى صاحِبَيْه حتى أَخَذَهُ ما أَخَذَهُما من الدهش، وعَرَاه ما عَرَاهما من الذهول، وغَشِيَهُ ما غَشِيَهُما من الوجوم، ولكنه لم يَمْلِك نفسه طويلًا وإنما همَّ أن يَضْحَك؛ ثم استحى من القبر، فولَّى مُدبِرًا وتَبِعَهُ صاحباه، حتى إذا بَعُدُوا عن هؤلاء القوم الذين لا تَزَاوُر بينهم ولا وَصْل، إلا أن يكون نُشُور كما يقول أبو نُوَاس؛ تساءلوا: كيف كان سعيهم إلى هذا المكان؟ ووقوفهم عند هذا القبر؟ والتقاؤهم على غير ميعاد؟
وقد جَعَلَ بَعْضُهم يُكذِّبُ بعضًا في شيء من الحيرة المتبلِّدة، أو من التبلُّد الحائر، ولكنهم تَوَاصَفُوا ما رَأَوْا، ووازَنُوا بين ما سَمِعُوا، فلم يرَوْا بُدًّا من أن يُصدِّق بعضهم بعضًا، ولم يَرَوْا بُدًّا من أن يَعْتَرِفوا بهذا الأمر الغريب العجيب الذي كان خليقًا أن يملأ قلوبهم رَوْعًا ونفوسهم هَوْلًا، لولا أنهم تعوَّدوا أن يَجِدُوا في الكأس ما يَغْسِل قلوبهم من كل رَوْع، وينفي عن نفوسهم كل هَوْل. ولستُ أدري إِلَامَ صارت أمورهم جميعًا؛ ولكن أَعْلَم أن أَحَدَهُم — على أَقَلِّ تقدير — قد أَدْرَكَه ذهول يُشْبه الجنون، وغَفْلة تُشبه الخَبَل، وألمَّت به علة لَسْتُ أدري أيَثْبُت لها أم يَعْجِز، عسى أن يقاومها ويجِدَ إلى البرءِ منها سبيلًا.
وقد تسألني أنت عن سعيهم إلى هذا المكان الموحش في الصحراء، ووقوفهم عند هذا القبر الذي لم يُقَم إلا منذ أمد قريب، والتقائهم على غير ميعاد بين هذه القبور حين أَخَذَت الشمس تَنْحَدِر إلى مغربها، وتُجَرِّر على هذه القبور أشعة شاحبة، إن صوَّرت شيئًا فإنما تُصوِّر حزنًا كأنه كان صدًى يُردِّده الجو لهذا البلى الذي كان يعمل جاهدًا فيما احتوته هذه القبور.
ولستُ أَكْرَه أن أَقُصَّ عليك مَصْدَر هذا كُلِّه، ولكني أعتقد أنك ستُدْهَش لمَا أقصُّ عليك من قصص، وتستنكِر ما أسوقُ إليك من حديث، فأنت وما شِئْتَ من الشك، وأنت وما أحببْتَ من الثقة، وإنما الشيء الذي أطمئن إليه أنَا كُلَّ الاطمئنان، هو أني إنما أُحدِّثك بشيء قد وَقَعَ، وأُصوِّر لك في هذا الحديث أمرًا قد كان. وكل ما أتمنى هو ألا يَعْرِض لك مثل ما عَرَضَ لهؤلاء النفر الثلاثة، الذين أَفْسَدَ عليهم أَمْرَهُم ما أَغْرَقوا فيه من عَبَث ولَهْو، وما تَهَالَكوا عليه من إثمٍ ومُجُون.
كان هذا القبر الذي الْتَقَوْا عنده مُسْتَقَرًّا لغانية حسناء رائعة الحُسن، بارعة الجمال، فاتنة الظُرف، ساحرة الطرف، تعوَّدوا أن يَلْقَوْها في تلك الدار التي كانوا يَأْوُون إليها مِنْ آخِرِ الليل، ويستَنْفِذون فيها ما بَقِيَ لهم من قُدرة على المجون والعبث، وكانت تلقاهم لقاءً سواءً؛ تَعْدِل بينهم فيما تُهْدِي إليهم من ظُرفها وخِفَّتها ومن رشاقتها وأناقتها ولباقتها، ومن هذا التودُّد الذي يُغري ويُطْمِع، حتى يُخيَّل إلى المرء أنه مُشرِفٌ على الغاية، ومُنْتَهٍ إلى الأمد، وبالغ ما يريد، ثم هو لا ينتهي به مع ذلك إلا إلى اليأس المُهلِك، والقُنُوط الذي يملأ القلوب لوعةً وعذابًا، فكان كل واحد من خِلَّانِها يستطيع أن يتمثَّل قول جميل:
ولكنهم كانوا أَجْهَل جهلًا، وأَحْمَق حمقًا، وأفرغ أفئدة، وأَسْخَف عقولًا من أن يَتَمَثَّلُوا الشعر أو شيئًا يُشبه الشعر، إنما كانوا أصحاب لذة غليظة جافية، يَشْقَوْن ليَنْعَمُوا، ويَنْعَمُون ليَشْقَوْا، ويألمون ليَلَذُّوا، ويَلَذُّون ليألموا، دون أن يوازنوا بين شقاءٍ ونعيم، أو بين لذَّةٍ وألم، قد دُفعوا إلى الحياة وما فيها من نعيمٍ وبؤس، فهم مندفعون إلى الحياة لا يُفكرون في نعيم ولا بؤس، دَفَعَهُم إلى هذه الحياة المُنْكَرة ثراءٌ لم يجدوا في كَسْبِه عناءً، وتربيةٌ لم تَمْنَحْهم أحلامًا راجحة، ولا بصائر نافذة، ولا قلوبًا قادرة على أن ترتفع عن اللذات المادِّية الآثمة والشهوات المندفعة الجامحة.
فكانوا إِذَا يلقَوْنَ صاحبتهم تلك فيمن يَلْقَوْن من خليلات اللهو ورفيقات العبث والمجون يَجِدُون في هذا اللقاء حُبًّا وبُغضًا، ورضًى وسخطًا، وإنجاحًا وإخفاقًا، ولكنهم قد اتصَلَتْ نفوسهم جميعًا بهذه الفتاة اتصالًا شديدًا، وتعلَّقَتْ قلوبهم بها تعلُّقًا عنيفًا، واشتدَّت آمالهم فيها، وعظُم بأسهم منها، حتى أَخَذَ بعضهم يَنْفُس على بعض ما يَصْدر عنها من لَفْظ ولَحْظ وإشارة، وحتى كاد بعضهم يُصْبِح فيها لبعضٍ عدوًّا. وهم على ذلك كانوا يجتمعون ويفترقون، لا يزيدهم الاجتماع إلا تنافُسًا وتباعُدًا، ولا يزيدهم الافتراق إلا حِرْصًا على التداني وكلفًا باللقاء.
وقد أَخَذَ كل واحدٍ منهم يَظُنُّ بصاحبه الظنون، يَزْعم أنها تؤثر فلانًا من دونه، ويشتد حِقْده على فلان ومَكْرُه به وكيدُه له، حتى كاد الأمر ينتهي بهم إلى أعظم الشر، ولكن الأيام أراحتهم من هذا العناء المُهلِك، فردَّت عنهم هذا الشر المستطير؛ لأنها اخْتَطَفَتْ من بينهم هذه الغادة الحسناء في حادثة من هذه الحوادث التي تَنْقُل الناس من الدار الأولى إلى الدار الآخرة في طرفة عين، فاجتمَعَتْ قلوبهم على الحزن والثكل، وحُزْن هؤلاء وأمثالهم لا يتصل ولا يطول؛ فما هي إلا أيام حتى يستأنفوا حياتهم كما أَلِفُوها عابثة ماجنة، وسخيفة فارغة.
ولكن أحدهم يفيق من نومه مُروَّعًا مُفزَّعًا شديد الذهول؛ فقد رأى طَيْف هذه الغادة الحسناء يُلِمُّ به في أثناء نومه الثقيل، فيذود عنه النوم ويردُّه إلى يقظة شديدة، وإذا هو يَنْظُر فيرى صاحِبَتَه كما تعوَّد أن يراها؛ فاتنة ساحرة، تدنو منه وتتلطَّف له وتتودَّد إليه، وتقول له في صَوْتِها العذب الذي يَسْحَر القلوب: ما كنْتُ أحْسَب أنك ستتركني حيث أنا وحيدة مستوحشة لا تُهْدِي إليَّ زيارة ولا تُحدث بي عهدًا … ما أَسْرَعَ ما نسِيتَنِي، وإني على ذلك لَمْ أنْسَك، ولا يمكن أن أنساك، أَلْمِم بداري قبل أن يُقبل الليل. ثم تَنْصَرِف عنه، وينظر فلا يرى شيئًا، ويتسمَّع فلا يسمع شيئًا، وينهض فيستأنف حياته كما تعوَّد أن يستأنفها كل يوم؛ لا يُلْقِي بالًا إلى ما رأى، ولا يُلْقِي بالًا إلى ما سمع، فإذا كان الغد جاء الطيف كما جاء أمس، وتحدَّث إليه بمثل ما تحدَّث به أمس.
وقد تكرَّرَت هذه الزيارة مرة ومرة حتى لم يشُك في أن من الْحَقِّ عليه أن يُلِمَّ بهذا القبر، وأن يُهْدِي إليه تحيته في طاقة من الزهور، وقد فَعَلَ، فلم يَكَدْ يبلغ القبر حتى رأى صاحبه، ولم يَكَدْ يقوم على القبر مع صاحبه حتى أَقْبَلَ صاحبهما الثالث، فلما انصرفوا عن القبر قصَّ أحدهم على صاحبه ما رأى وما سمع، فإذا كل واحدٍ منهم قد رأى مِثْل ما رأى، وسَمِعَ مثل ما سَمِعَ، وأبطأ مثل ما أبطأ، ثم أَقْبَل على القبر كما أقبل عليه يَحْمل إليه التحية وطاقة من الزهر.
أَتُرَاها أرادت أن تستبقي بينهم المنافَسة والخصام بعد موتها؟ وأن تضطرهم إلى أن يحفظوا لها من الود مثل ما كانوا يُظهِرون لها قبل أن تموت؟ أم تُرَاها أضغاث أحلام قد عَبِثَتْ بنفوس هؤلاء النفر الثلاثة؟ ولكن كيف يَتَّفِق أن يُلِمَّ الطيف بهم في يومٍ واحد، ويتراءى لهم في صورة واحدة؟ ويُلْقِي إليهم حديثًا واحدًا؟ ويَضْرِب لهم موعدًا واحدًا؟
قُلْت لصاحبي حين انتهى من حديثه إلى هذه الأسئلة: لا أدري، ولا أستطيع أن أَفْتَح عليك، فسَلْ مَنْ شِئْتَ من الجامعيين الذين يدرسون دقائق عِلْم النفس؛ فلعلك تَجِدُ عندهم غَناء.