هل كان هوميروس في إيثاكا؟
كان موضوع الإلياذة كله على المستوى البشري، ويتناسب مع طبيعة البشر.
كان الآلهة أنفسهم يسلكون مسلك البشر، وكذلك فعل الأبطال. وقبل
هوميروس، كان الآلهة وأولاد الآلهة والملوك أنصاف الآلهة، يكونون كتلةً
وحشيةً لا إنسانية من الكائنات العليا. وكان هدف الإلياذة إظهارهم
كمخلوقاتٍ بشريةٍ عادية. أما في الأوديسة، فيتخذ هذا الهدف اتجاهًا
مضادًّا تبدو فيه جزيرة إيثاكا Ithaca
المتواضعة نفسها من أمثلته. ويؤكد الشاعر تواضعها، ولو أنه يمكن أن
يقالَ هذا فقط عند مقارنتها بكيفالونيا Cephalonia أوليوكاس Leucas. ولا تشبه الأوديسة أولوسيس Ulysses إطلاقًا بأبطال الإلياذة، ولا الطريقة التي كان
عليها أولوسيس في الإلياذة. لقد وُصِف منذ الإلياذة بأنه «الرجل العظيم
القلب Megalator» والرجل المملوء فخرًا
وجرأة، ولكن أول شيء قيل عنه في الأوديسة، هو أنه كان يتوق كثيرًا إلى
أن يرى دخان وطنه، ويتمنَّى لو كان ميتًا. ومن خصائصه اليأس والقنوط،
حتى بلغ به الأمر أنه لم يصدق الربة عندما أخبرته بأنه في وطنه. لم
يصدقها إلا عندما أبصر إيثاكا على حقيقتها. رآها حقيقة واقعة، ورمزًا
زاخرًا بالمعاني. كان هذا هو الهدف الذي يرمي إليه هوميروس في الاتجاه
العالي المضاد.
عندما نظم هوميروس الأوديسة،
جاء إلى العالم نوعٌ من الأدب لم يكن موجودًا فيه من قبل. ويمكن السؤال
عما إذا كانت تلك الجزيرة الأسطورية الموصوفة هنا، هي في الحقيقة
إيثاكا نفسها التي زارها كلٌّ من جيل Gell ودودويل Dodwell.
كما زارها شليمان Schliemann في سنة
١٨٦٨ قبل زيارته لطروادة، فقام هناك بعدَّة حفائر مثلما فعل كثيرون
بعد. وأظهرت أعمال علماء الآثار البريطانيين، فيما يبن سنتَيْ ١٩٣١
و١٩٥٣ كثيرًا من آثار الحياة بتلك الجزيرة في عصور ما قبل التاريخ وفي
العصور التاريخية مما يمكن معه الآن الإجابة على ذلك السؤال. وُجِدت
آثار خاصة بإيثاكا في عهد الأوديسة أكثر عددًا ونوعية مما كان
يُتوقَّع، ولو أنها لم تكن ثمينةً كالتي وُجدت في «بولوس» Pylos، من أجل «بولوس» هوميروس. فأظهرت
الحفائر أسوار الأساسات وبقايا من العصور الموكينائية Mycenean حوالي سنة ١٣٠٠–١٢٠٠ق.م.، كثيرة تكفي لتحديد
«قصر أولوسيس» المتواضع بشمال الجزيرة. واكتُشف في خليج بوليس Polis ثلاثة عشر مرجلًا من البرونز، في كهفٍ
مكرَّسٍ للحوريات ولكن من الجلي أنه كان مكرسًا لأولوسيس أيضًا.
أكَّد ستانلي كاسون Stanley Casson
الذي مات وهو يُقاتل من أجل بلاد الإغريق، والعالم الذي كان يعرف جيدًا
الحياة في منطقة البحر الأبيض المتوسط كما لم تتغيَّر منذ آلاف السنين.
وقد أكد بجرأةٍ أن هوميروس لا بد أن زار إيثاكا بنفسه في وقتٍ ما، وبذا
أمكنه أن يقول: إن الفياكيين Phaeacians خلفوا نفس العدد بالضبط من هذه الهدايا نفسها
لدى أولوسيس. وقد وصف هوميروس في الجزء الثالث عشر، كهف الحوريات، بأن
له مدخلًا واحدًا للآلهة، وآخر للبشر، ليضم مظاهر كهفَيْن بتلك
الجزيرة، أدمجهما الشاعر في كهفٍ واحد. عرف أساطير الأماكن في كل موضع.
كان مكانه هو أسطورته، فأخذ الأسطورة القديمة، وجعلها بشريَّة وشاملة،
لتضمَّ ليس الآلهة وحدهم بل وأيضًا رجلًا يبدو أن الآلهة هجرته وتخلَّت
عنه، وحوَّل الرجل والجزيرة الصغيرة التي تاق إلى رؤيتها، حوَّلهما إلى
شيء بالغ التألق.