أهو هوميروس أخيرًا؟
إذًا، فهل يصح لنا أن نقول أخيرًا، إنه هوميروس؟ هل نعتبر من المؤكد
تاريخيًّا أن لدينا في الأوديسة عملًا من يد ذلك الشاعر الفذِّ، الذي
لا يمكن أن يُذكر معه بنفس الدرجة غير دانتي Dante وشكسبير Shakespeare؟ وهل لنا أن نقيس عمله بقصيدتَيْه كلتيهما؛
الإلياذة والأوديسة؟ يظهر أن الجواب قد يبدو عديم الأهمية، ولكنه في
الحقيقة مهمٌّ جدًّا، وأفاد منذ أن حدث الشك لأول مرة، ونشأ ما يُسمَّى
ﺑ «السؤال الهوميري»، ودار في كل مكان، وهناك عالم ناقد إنجليزيٌّ غير
معروف الاسم، قام بالبحث في موضوع هوميروس فقال إن أبحاثه لم تكن ذات
نتائج كبيرة أكثر من «جنونيَّات عظيمة»، ولكن عمله أيضًا عمل أقل عظمة،
هو العلمية غير المشوبة بالجنون. إنه عمل مُضنٍ وشاق ذلك الذي كُرِّس
لدراسة خصائص الشعر الهوميري. وبغض النظر عن كونه فريدًا في نوعه، فإنه
قد خلق جوًّا أُهمِلت فيه مؤلفات هوميروس، وبخست بطريقةٍ ما، ولم
تقدَّر التقدير السامي اللائق بها.
ما كان هوميروس ليقدر ذلك الجدل الكثير لو كان عمله الوحيد هو وَضْع
خطة ملحمةٍ عظيمةٍ ثم تنفيذ تلك الخطة. وإن العلماء الكلاسيكيين الذين
يقرِّرون أن رجلًا واحدًا كتب الإلياذة أو الأوديسة أو كلتَيْهما،
يقصرون، عمومًا، براهينهم على وَحدة الخطة والتنفيذ، تلك الوحدة التي
شك فيها كثيرٌ منهم. ولا ريب في أن التنفيذ كان عملًا عظيمًا حقًّا.
ولو كان هذا عمل مُنشدٍ واحد، فلا بد أنه كان مُنشدًا موهوبًا، ولكن لا
يمكن قَصْر عمل هوميروس على الخطَّة وعلى تنفيذها. لقد حدث إلهامٌ في
داخل ذلك الشاعر تغيَّر به عالم الآلهة والبشر: كيف تغير هذا العالم
تغيرًا جذريًّا من قبل الإلياذة إلى ما بعدها؟ لا يمكننا أن نحس بذلك
التغير إلا إحساسًا غامضًا. كانت هي الربة الموزية Muse، التي جاءته بذلك «الإلهام الداخلي» الذي يظهر
نفسه في العمل المتواصل الفعَّال طوال كلتا الملحمتين.
يظهر النجاح الذي حقَّقه هوميروس أولًا في مؤلَّفاته، ثم عن طريق
مؤلَّفاته، يظهر مجهوده. فإذا حاولنا أن نرى مجهود هوميروس، كمجهودٍ
عادي لكثيرٍ من الشعراء، كان علينا أيضًا أن نؤمن بحدوث إلهام داخلي
عام لكل واحدٍ منهم، وأن نؤمن بوجود ربَّةٍ واحدةٍ لجميعهم، هي نفس
الموزية الملهمة لهم جميعًا، بدلًا من عدة ربات وعدة موزيات تناسب كل
منهن كل شاعر من هؤلاء. فإذا وُوجهنا بأعمال شاعر، كان علينا أن
نتبصَّر في الإلهام المسمَّى «موزية»، بصفةٍ جدية، كعنصرٍ من عناصر
الحياة البشريَّة. ولن نستطيع أن نذهب إلى أكثر من هذا، ولكن الإلهام
الداخلي، مهما يكن مصدره عميقًا، لا يمكن تجزئته، لا يمكننا أن نفكِّر
فيه مقسمًا وموزعًا على عدة شعراء. ففكرة وجود موزية عامة لجميعهم
تتضارب مع طريقة نظرتنا إلى الإنسان تبعًا للفردية الأصيلة للشعراء. لم
يكن لدى الأغارقة، في الحقيقة، مثل هذه الصعوبة. فإنهم فكروا في
الموزية كربَّةٍ عامَّةٍ لجميع الشعراء. وإذا كانت لجميعهم، فلماذا لا
تكون لعدة شعراء متفرقين، في وقتٍ واحد؟ بوسع تلك الربة أن تُظهر نفسها
في عدَّة صور، وعدَّة فنون، وعدَّة كفاءات روحية. ومع ذلك، فلم يعتبر
الأغارقة إطلاقًا، الإلياذة والأوديسة من تأليف عدَّة شعراء.
يؤكِّد لنا الأغارقة أننا لا نتحرك في دائرةٍ مفرغة عندما نقول:
«هوميروس، نعم هوميروس حقيقة!» ولكننا، في الواقع، لا بد أن نكون نتحرك
في دائرة مفرغة إذا ما أخذنا المجهود المزدوج لهوميروس في ملحمتيه،
فنُضفي صفة البشرية على الآلهة، ونُضفي صفة الألوهية على البشر في
الأوديسة، ونعتمد فقط على هذا في تأليفه لكلتا القصيدتَيْن. لم يكن لدى
الأغارقة شكٌّ حول هوميروس، أكثر مما كان لدى الإيطاليين حول دانتي.
كان هوميروس مؤلف القصيدتين. وإذا كان الأغارقة مخطئين، فإنما كان
خطؤهم في كونهم نسبوا مؤلَّفات شعراء آخرين إلى هوميروس، في وقتٍ
طُمِست فيه كفاءات النقد. صار اسم هوميروس توصيةً عندما سادت مؤلفاته.
وإن كل الأدب الحديث، تقريبًا، المهتم بالمسألة الهوميرية، يغفل النقطة
الفاصلة، وهي أن اسم هوميروس يعني ذهبًا: ذهب الإلياذة والأوديسة. فإن
لهاتَيْن المنظومتَيْن صفة الحسم. هذا وإن علماء العصور اللاحقة الذين
لم يستطيعوا رؤية الذهب، كان يجب عليهم، على الأقل، أن يُصغوا إلى
الإغريق، إذ لديهم الدليل عليه.
يعرف العصر الذي نسب فيه كل شعراء البطولة، المعروف ﺑ «الدائرة
البطولية»، نسب إلى هوميروس، تلاه عصر قوة فنية أعظم جاء معه بمقدرة
انتقادية أكثر دقة. ومن المحتمل أنه كان في القرن السادس ق.م.، ومن
المؤكد أنه كان في القرن الخامس ق.م.، أن نُسِب بقية شعر هوميروس إلى
مؤلفين آخرين غير هوميروس — ولكن هذا لم يكن كل الإلياذة والأوديسة.
وعلى العموم، ما من شاعر، في كل التراث القديم، قد ذُكر اسمه كمؤلف
لهاتين القصيدتين، فيما عدا هوميروس؛ وهذا جدل قوي في حد ذاته، وصحيح،
خصوصًا في حالة الأوديسة الحديثة، إذا ما قورنت بالإلياذة، كما يقارن
يوريبيديس Euripides بأيسخولوس Aeschylus وسوفوكليس Sophocles. فإن شاعر الأوديسة يُبدي
وعيًا فائقًا في عمله. يأتي بمنشدين في المنظر: فيميوس Phemius في إيثاكا، وديمودوكوس Demodocus بين الفياكيين، وهو نفسه
المنشد الثالث — هوميروس، وقد رغب جميع الأقدمين في الاعتراف بهوميروس
نفسه، في ديمودوكوس. لم يطرأ على بال أي فردٍ أن يفكِّر في شاعرٍ
آخر.