النقد الإغريقي لهوميروس
جاء النقد العظيم لهوميروس من لدن الفلاسفة، لم يتناول ذلك النقد صفة
الإلياذة ولا الأوديسة ولم يرَ أي فرقٍ في التأليف أو في الصفة بينهما.
وإلى هذا الحد يُبدي دعمًا إيجابيًّا ومباشرًا لوحدة التأليف. وكان
حكمه، بالاختصار، في صالح الحقيقة ولخير الدولة. وحتى ذهب شعر هوميروس
يجب أن ينكر. والمشاكل التي يُثيرها أفلاطون Plato ضد هوميروس في رسالته التي عنوانها «الجمهورية Republic» حيث يصف أساس الدولة
السقراطية Socratic. تلك المشاكل
مأخوذة من كلتا الملحمتين البطوليتَين. والنتائج التي يصل إليها، رغم
كونها تنتقد هوميروس، فإنها صفة حميدة، وتقريظ للموهبة الشعرية لشاعرٍ
من درجة هوميروس. فنقرأ، في الباب الثالث من الجمهورية، أنه إذا جاء
مثل ذلك الشاعر إلى المدينة المؤسسة حديثًا، «فلا شك في أنه لا بد لنا
من أن نُعيده كمخلوقٍ مقدَّسٍ مثيرٍ للإعجاب ومبهج، ولكن يجب أن نخبره
بأنه ليس لدينا رجال على شاكلته في مدينتنا، وإنما لمما يخالف القانون
أن نسمح بدخول شاعر، يجب أن نعطر رأسه بالزيوت الغالية ونتوجه بإكليل
من الصوف، ثم نقوده إلى مدينة أخرى …» ومن وجهات النظر عندما نعتبر
مسلك ذلك الفيلسوف نحو منافسة الشاعر، الذي يريد أن يلغي أعماله، نجد
لدينا وصف أفلاطون لهوميروس أكثر قيمة من الصور العادية المقفرة ﻟ
«الشاعر المنشد المتجول». وهذا الأخير، تبعًا لكتاب قصص شهير صدر في
حوالي القرن الأول الميلادي، جمعت فيه عدة قصص عن هوميروس، بعضها غير
مقرظ له.
يتكلم أريسطو عن محامد هوميروس في رسالته «الأشعار Poetics»، ويفحصها بعناية وبدقة، فنجدها
من أعمال فحل من فحول الشعراء الأفذاذ «إنه شاعر عظيم في عدة نواحٍ،
وخصوصًا أنه كان الشاعر الوحيد الذي يعرف متى يجب عليه أن يتكلَّم
بشخصه وبشعره. وهذا الشاعر، نفسه، يجب أن يتكلَّم أقل ما يمكن لأن
الكاتب المسرحي ليس هناك ليقاطع أشخاصه، يتقدَّم معظم الشعراء إلى
الأمام باستمرار، ومن النادر أن يسمحوا بالكلام لأشخاصٍ آخرين. وإن حدث
وسمحوا لهم، فإن ذلك لفترةٍ قصيرةٍ فحسب، يقدم هوميروس رجلًا أو امرأة،
أو شخصًا آخر، وكل ما يقولونه مناسب جدًّا لهم، وليس غير ملائم
للمتكلم». وحكم أريسطو الفاصل على هوميروس، الذي يجب كذلك أن يكون
حقيقيًّا ومناسبًا لكلٍّ من دانتي وشكسبير، ينطبق على كلٍّ من الإلياذة
والأوديسة. ومن النادر جدًّا أن يُقال إنه معادلٌ لغيره من الشعراء
والمنشدين الآخرين، فإن هوميروس أريسطو هو شاعر الإلياذة والأوديسة
الذي يراه متصلًا حقًّا بخصائصهما البالغة العمق. فيقول إن أية واحدة
منهما يمكن أن تمدنا بمأساة واحدة، أو على الأكثر بمأساتَين. بينما
بوُسْع القصائد الأخرى كالقبرصية Cypris أو الإلياذة الصغرى أن تمدنا بعدة مآسٍ. ومما
لا يمكن إنكاره أن ملاحظات أريسطو هذه من بين الملاحظات الأكثر
تعمُّقًا، التي قيلت عن هوميروس.
ليست هذه الملاحظات آخر ما قيل عن هوميروس في العصور القديمة، ولا يختلف مسلك العلماء السكندريين في أساسه عن تلك عندما فحصوا نصوص هوميروس سطرًا سطرًا، لتخليصها من الزوائد الدخيلة فيؤيدونها دائمًا بقولهم إنها صادرة عن مؤلف عظيم، رغم أنه كان هناك بعضٌ منهم راغبون في «فصل» الإلياذة عن الأوديسة.
ومنذ عصور الإمبراطورية الرومانية المبكرة، لدينا كتيب جيد عن مظاهر
الجمال الفني ينسب إلى لونجينوس Longinus أو إلى ديونيسيوس Dionysius وهي رسالةٌ عن الذروات التي حققت في الأدب
(Hypsos هي الكلمة الإغريقية التي
بمعنى «الذروات»، المستعملة في الأدب الحديث ولكنها قلما تفيه حقه)،
وتتضمَّن هذه الرسالة ملاحظة عن تاريخ حياة هوميروس، وهي على الأقل
موثوق بها كأي شيءٍ آخر ذكر في الكتيب الذي تكلمنا عنه، والذي قد يحتمل
أنه كان معاصرًا للونجينوس، وليس لونجينوس، مؤلفه هذا، ناقدًا
لهوميروس. إنه ذو عينٍ فاحصةٍ للسمات البائدة التي تضمنها مؤلفه هذا.
وقد مكنته رُوحيَّته من العثور على أمثال الذروات الأدبية البحتة، حتى
في «صانع قانون اليهود»، وفي سفر التكوين Genesis الذي قرأه في الترجمة الإغريقية، فماذا قال؟
قال: «ليكن النور، فكان النور، ولتكن هناك أرض، فكانت الأرض.» فيجد هذا
التعبير ذروة hypsos.
كذلك كان لونجينوس هو الذي أكد ما هو أساسي في أعمال هوميروس، وليس
مجرد ناحية من نواحي الجمال الفني فيها، وذلك في سرده لأحداث الحرب
الطروادية، فعل هوميروس كل ما أمكنه فعله ليحول الرجال إلى آلهة، ويحول
الآلهة إلى بشر. وسرعان ما نراه يصف، بعد ذلك، الملحمة الثانية هكذا:
«ولكن هوميروس يبين في الأوديسة (كما يجب أن يراعى، لعدَّة أسباب) أنه
عندما يكون عقل عظيم في طور تضاؤله، فإنه يجد متعةً في رواية القصص
إبان شيخوخته. وهناك عدَّة أسبابٍ تجعلنا نؤمن بأن الأوديسة هي العمل
الثاني لهوميروس. ومن أهم هذه الأسباب، أنه ذكر في الأوديسة إشارات إلى
المتاعب التي كوبدت في طروادة. تبدو هذه، في الأوديسة، كصدى للحرب
الطروادية. والحقيقة أنه يروي، مع الشكوى والأنين، ما يعتقد أن أبطاله
قد ذاقوه وعرفوه:
«مات أشجعنا
أياس Aias، سيد المعركة، يرقد هناك:
وأخيل Achilles نفسه، وباتروكلوس Patroclus
الذي كانت حكمته في المجلس كأنها من عند الآلهة.
وهناك أيضًا مات ابني الجميل.»
(الأوديسة ٣: ١٠٨–١١٠)
والحقيقة أن الأوديسة ليسَت سوى خاتمة للإلياذة.»
وبعد هذا التعليق على خطبة نستور Nestor في الأوديسة بالباب الثالث. يستطرد لونجينوس،
فيقول «ولنفس السبب، لا شك في أن الإلياذة مليئةٌ بالعمل والنضال طوال
القصيدة كلها. وهكذا كتبت فعلًا في دورات الإلهام، بينما معظم الأوديسة
مكوَّن من السرد. وهذا هو أسلوب الشيوخ من الرجال، وهكذا يمكن تشبيه
هوميروس في الأوديسة، بالشمس الغاربة التي فقدت حرارتها اللافحة
واحتفظت بحجمها، لم يعُد يحتفظ بالقوة الشهيرة لهاتَين القصيدتَين
اللتَين نظمهما عن طروادة. ولم يعُد يحتفظ بذلك الأسلوب السامي غير
المتأرجح. ولا يوجد نفس ارتباك العواطف المتنازعة ونفتقد التنوع السريع
والفصاحة وبلاغة المجازات المأخوذة من الحياة الواقعية، ولكنه كالمحيط
المتراجع على نفسه يترك شواطئه فلا يرى منه سوى التيارات المنحسرة لتلك
العبقرية العظيمة التي تتمدد على قصص خرافية لا يصدقها العقل.
عندما أقول هذا، فإني لا أنسى عواطف الأوديسة، ولا قصة الكوكلوبس Cyclops وبعض أشياء معينة أخرى، ولكني
أتكلَّم طبعًا عن شيخوخة هوميروس.