دارت العجلة في دائرة كاملة
منذ ذلك الوقت، مضى حوالي ١٥٠ سنة في هذه المناقشات السطحية، فيما
عدا أنها تساعد المرء على فهم نصوص هوميروس بصورة أفضل. كان هذا نقطة
البداية الخاصة بهم التي حددت من قبل في العصور القديمة، وهي أن شعر
هوميروس نظم أولًا في صورة أناشيد للتلاوة الشفوية، اشتملت على بعض
التناقضات، ولكن هذا لم يكن ليذهب إلى الإجراءات المتطرفة التي تقرر أن
هوميروس لم يوجد إطلاقًا؛ فقد تأكد بصفة قوية، بالتقاليد الموروثة، أنه
كان موجودًا، وأنه كان شاعرًا عظيمًا. وفي مجال آخر من العلمية
الكلاسيكية، كان السبب الوحيد اعتبار فيدياس Pheidias، لمدَّةٍ طويلة، نحاتًا عظيمًا، هو التقاليد
الموروثة. ومن العسير القيام بأبحاثٍ علميةٍ عن فيدياس إذا لم تأخذ في
الاعتبار صفة فنه السامية، وحتى إذا لم تؤيدها الاكتشافات. وقد بُنيت
مناقشات الاكتشافات على حكم العصور القديمة. كان من الخطأ تجربة صفة
شعر هوميروس وتركها جانبًا، ولو للحظةٍ واحدة، وعدم اعتبارها جزءًا من
الحقيقة عن هوميروس منذ البداية الأولى، مثلما حدث في الحقيقة عن
فيدياس عندما تتضمن كمال فنه. وفي علم الآثار، منذ عهد جوهان ج ونكلمان Johann J. Wincklemann، درَّب
الطلبة أنفسهم على تقدير الفن، بَيْد أن الأمر كان مخالفًا في حالة
دراسة الأدب القديم، عندما نظر إلى هذه الهيئة نظرة بسيطة. كما أنه من
غير المنطقي أن يتبع العلماء الكلاسيكيون أذواقهم الخاصة في النقد
الهوميري، يوجد معنى أكثر في البحث عن النقد، يدل على الحقيقة دون حكم
على صفة المؤلفات، ولكن مثل هذه الحقيقة التي ما زالت جديرةً بالبحث،
غير موجودةٍ في حالات الفن والشعر، والفنانين والشعراء، وفوق كل شيء،
في حالة فحول الشعراء.
والحقيقة عن شعر هوميروس، هي أن شاعرًا بهذه الصفة يمكن أن يكون قد
نظم شعره في صورة أناشيد، وأنه، كشعرٍ شفوي، لا بد أن اشتمل على بعض
المتناقضات. عادت الأبحاث الهوميرية الآن، إلى هذا الفرض الابتدائي بعد
أن احتفظت بالجماعيَّة باستمرار، أو على الأقل بازدواج التأليف، وكذلك
الوحدة. لقد دارت العجلة دورةً كاملة. والجديد في هذا الأمر هو
الاهتمام الحديث بالظروف التي نشأت فيها هاتان القصيدتان اللتان لم
تغيبا عن الأنظار إطلاقًا، ولكنهما تدرسان الآن بعناية ودقَّة أكثر
ممَّا حدث في أي وقتٍ آخر. ومن المعترف به أن لمنشدي شعر البطولة
ذاكرةً قوية قلما يمكن إغفالها وتقديرها، ولكنها ما زالت غير طيبة حتى
يمكن حذف جميع أخطاء التفاصيل. وكان بعض العبارات الشعرية المتفق عليها
وغيرها من الصيغ المتكررة اللازمة لتكوين الأشعار، كان غير ملائمٍ عند
تطبيقه على مادة الموضوع الجديدة. وقد حقق العالم الأمريكي ميلمان باري Milman Parry هذا أولًا في نصوص
هوميروس، ثم في نصوص أناشيد البطولة السلافية الجنوبية South Slavonic، التي ما زالت تُتلى من الذاكرة حتى
الآن، والتي سجلها على الفور بالوسائل التكنولوجية الحديثة.
كانت القيود المفروضة على التعبير الهوميري بواسطة تكرار الصيغ
الثابتة، كانت بالطبع معروفةً من قبل كما كان وجود أناشيد البطولة في
دالماشيا Dalmatia
ونوفيباسار Novipasar. وهناك عالمٌ
كلاسيكيٌّ ألمانيٌّ لم يلقَ نجاحًا في بلده، وعمل في بلاد الأراضي
المنخفضة Netherlands، وهو من المؤمنين
بوحدة هوميروس، صمَّم كتابًا خاصًّا بعنوان: «أشعار هوميروس» تناوَل
فيه غرائب مؤلِّف الإلياذة والأوديسة، كما وضع كتابًا عنوانه: «الدراسة
المقارنة لشعر البطولة»، تناوَل فيه شعر البطولة لشعوب فنلندة Finns وإستونيا Esthonians والسلاف الجنوبيين والروس Russians والكيركاسيين Circassians والتارتاريين Tartars والمالايين Malayans. وكان هناك اثنان من المتحمسين لوحدة التأليف
في الولايات المتحدة الأمريكية، بنيا مركزهما على التناول العرفي
القديم لنصوص هوميروس وهما: جون أ.
سكوت John A. Scott وصامويل
إليوت باسيت Samuel Eliot Basset وقارن هذا الأخير انتقال هوميروس من الإلياذة
إلى الأوديسة، بانتقال أفلاطون من الجمهورية إلى القوانين Laws كمثل نموذجي.
ولكن باري كان أول «عامل حقل» يكدُّ في إدارة «المسألة الهوميرية»،
واعترف به كمبدع أسباب جديدة لا يمكن تحديه في الأساسيات. وقد نُشرت
نظرياته ونتائج أبحاثه بعد موته المبكر (في سنة ١٩٣٥م)، نشرت في كتاب
عنوانه «منشد القصص» يمتاز بأنه النوع الأول لمنشد أشعار البطولة، وهي
صورة يمكن استعمالها الآن لتصوير هوميروس، وهوميروس هو أعظم ناظمٍ لهذا
النوع من الشعر، ويضفي على مؤلفه أكمل تعبيرٍ للأفكار البطوليَّة التي
وجدت قبله، في صورة أشعار ونماذج بطوليَّة. جاءت نتائج أبحاث باري إلى
دنيا العلم كنسمةٍ جديدةٍ من الهواء المنعش اكتسحت كل ما قبلها. وعندما
يتكلَّم مؤلف علمي في سنة ١٩٦٢م عن «الأناشيد الهوميرية»، ويقصد
الإلياذة والأوديسة، فإنه لا يحاول إحياء نظرةٍ رومانتيكية، وإنما
ليذكر الحقائق بالضبط. وقد اعتقدت العصور القديمة، من قبل، أن هوميروس
قدم نفسه كمنشد. وماذا يعتقد في تصوير هوميروس لنفسه؟