تصوير هوميروس لنفسه
كلما كان القصَّاص ماهرًا عظم الخطر الذي يتعرض له؛ إذ يفهمه الناس
بصورة أكثر حرفية مما قصد أن يتصورها قراؤه، وقد قرأت سيدة بريئة
مذكرات النصاب الأعظم كرول Krull فظنت
أن أمامها تاريخ حياة توماس
مان Thomas Mann يتكلم عن نفسه، يأتي هوميروس بمُنشدين في الأوديسة،
واختارت العصور القديمة العلمية لكليهما. فهذا ديمودوكوس، الذي صور
الشاعر نفسه فيه. ووضعت القيثارة في يد فيميوس Phemius، المغني في قصر أولوسيس، كما وضعت في يد
ديمودوكوس؛ لأنه لن يغني للعشاق بطريقة غير هذه. إنه مغنٍّ يرتدي حلته
الرسمية، ولكن ديمودوكوس يعطي القيثارة بواسطة المنادي في قصر
ألكينوس Alcinous لسبب آخر. كذلك
أحضره المنادي إلى هناك. ويخبرنا الجزء الثامن من الأوديسة، أن
«الموزية أحبت ديمودوكوس لدرجة الجنون حتى إنها ضربته، فمنحته موهبة
الغناء، ولكنها في الوقت ذاته أفقدته بصره»، كان الفياكيون قريبين
جدًّا من الآلهة، حتى إن حب الموزية لذلك المغني، قلما يمكن فهمه، إلا
على أنه شبيه بحب أفروديت Aphrodite
لأنخيسيس. فعندما أحبَّت تلك الربة ذلك الراعي، فربما كلف هذا الحب
فَقْد بصره.
كذلك أنجبت الموزيات أولادًا، ولكنه كان من الخطر على الرجل أن يرى
إلهًا أو ربةً وجهًا لوجه، كما يخبرنا هوميروس نفسه. لم يقدم قرابته
إلى الموزية بهذه الصورة. ومع ذلك، فقد صُور دائمًا كمغنٍّ أعمى، ولكن
عندما جيء بصورته في القرن الخامس، أثارت مسألة لعلماء الآثار. جعل رأس
هوميروس، الذي هو أجمل رأس، جعله بعينيه المغمضتين، وليس بعينَيْ رجلٍ
أعمى. واقترح أنه من الممكن أن تلك كانت صورة العرَّاف تايريسياس Teiresias. وتقول إحدى القصص: إن الربة
أثينا Athene ضربته بالعمى لأنه
أبصرها وهي عارية الجسم. ولو أنها أعطته موهبة التنبؤ في الوقت نفسه.
والحقيقة أن عمى ديمودوكوس معشوق الموزية، كان من الممكن تصويره بهذه
الطريقة، ثم ينقل إلى هوميروس، ذلك النحات، الذي صنع الرأس، أعطى الفن
الكلاسيكي ذلك الشاعر الإغريقي الأعظم، ملامح الرؤية الداخلية لحكيم
يشتهر باتصاله بالآلهة. ويعبر عنه بواسطة ذلك، بنفس التقدير السامي
الخاص به كما سمعنا من أريسطو ولونجينوس.
عندما يتكلَّم هوميروس في الأوديسة عن أغاني البطولة، ويقدِّم
المغنين، فليس هذا تصويرًا للنفس، ولكن ليؤكد الفرق بينه وبين المغنين
من شاكلة ديمودوكوس وفيبيوس. فهما يختلفان عنه في طريقة الإلقاء التي
كانت إنشادًا بمصاحبة قيثارة ضخمة وليست بنوع من الإلهام ولكن بالدرجة
والأهمية اللتَين كان هوميروس يشعر بهما بتفوقه على غيره. أما في
الإلياذة، فلا يظهر أي aoidos ولا أي
مغنٍّ محترف، رغم أنه كان من السهل على الشاعر تعيين مغنٍّ للمحاربين
مثلما كان أورفيوس يصحب أجاممنون. وقد اتجه أخيل نفسه إلى الأغاني
عندما ترك المعركة في مدة غضبه؛ ولذا كان أعظم بطل في الإلياذة هو الذي
يتغنى «بمحامد الرجال»، وهذا بالاختصار هو خطة الأغاني البطولية. فيصغي
باتروكلوس إلى أخيل دون أن يجرؤ على مقاطعته. وبهذه الطريقة يستمر أخيل
يفعل ما بدأه في ساحة القتال. لم يكن كل المقاتلين في طروادة قادرين
على أن يُحاكموه فيما يفعله، يغني أخيل، فيلائم هوميروس وجهة نظره في
الإلياذة. فعل هذا مع تيليماخوس ومع أولوسيس في الأوديسة. فيدل هذا
التركيب المكون من المغني والبطل، على سمو تقدير هوميروس للإلياذة
كقصيدة. كان هذا من أجله، وليس لمجرد أن يقدم للعالم صورة جديدة من
الحرب الطروادية، ولكن كان هذا وسيلة جعلت الأغنية تحل محل العمل وتخلد
ذكراه. ويقال نفس الشيء في قصة قيثارة جراسير Grassire وهي أنشودة بطولية عرفت عن طريق ليو فروبينيوس Leo Frobinius، قيثارة المغني
الأفريقي الذي كان محاربًا هو نفسه، وأنشد لأول مرة عندما دُمرت مدينة
واجادو Wagadu القوية وغذيت القيثارة
بما يكفي من الدم والمعاناة. وقبل ذلك كانت صامتةً لا يُسمع لها
صوت.
بالاختصار، يمكننا أن نقول: إن هوميروس استعمل الحرب الطروادية، في
الإلياذة، ليبين معاناة الآلهة والبشر، وخصوصًا معاناة نصف إله مثل
أخيل، واستعمل رحلة العودة إلى الوطن، في الأوديسة، ليوضح متاعب رجل
بالغ الحزم مثل أولوسيس. كان يطمح إلى أن يضفي عليها رنينًا قلما كان
لها من قبل. وإذ كان يعيش في عصور متأخرة، فلم يكن بوسعه أن يطالب
بالطرافة. خذ تلك المرافعة التي دافع بها تيليماخوس عن فيميوس، في
الجزء الأول من الأوديسة، كان فيميوس ينشد متغنيًا بأحداث رحلة العودة
إلى الوطن، تلك الرحلة الشاقَّة المليئة بالعذاب والآلام، رحلة
الأغارقة وبنيلوبي التي وجدوها مؤلمةً ومؤثرة، فقاطعوه طالبين منه أن
يكفَّ عن الاسترسال في ذكر تلك الآلام، وأن يُنشد أغنيةً أخرى تختلف
عما يردده. فتدخل تيليماخوس، وأمر فيميوس بأن يستمر في الغناء الذي كان
ينشده؛ لأن الناس يرغبون دائمًا في أن يسمعوا أحدث الأغاني، لدينا هنا
ما لاقاه مغنٍّ عجوز، سجله ببساطةٍ ذلك الشاعر، كما هو، دون تنميقٍ أو
تزويق لذكر فضائله. إنه دفاع عن فيميوس، وليس عن هوميروس. نجده يميِّز
نفسه بوضوحٍ عن المنشدين المحترفين السابقين، الذين يأتي بهم على مسرح
القصيدة. كما أن فيميوس يزود هوميروس بفرصة إخبارنا بشيءٍ يختصُّ به هو
نفسه، دون أي شك.