الأنشودة السادسة عشرة
«… ولم يلحظه باتروكلوس وهو يمر خلال الشغب؛ لأنه كان ملتفًّا بضباب كثيف. فوقف أبولو خلفه، وضرب ظهره وكتفَيه العريضتَين براحة يده، وإذا بعينَيه تدوران. وأطاح أبولو بالخوذة عن رأسه …»
كيف حارب باتروكلوس — مرتديًا حلة أخيل الحربية — فأقصى الطرواديين عن السفن، ولكنه قُتل — في النهاية — على يد هكتور؟
بين «أخيل» و«باتروكلوس»
عندئذٍ أجبت أيها الفارس «باتروكلوس» — وأنت تُرسل زفرة حرى — فقلت: «أي أخيل، يا ابن بيليوس، يا من تبز جميع الآخيين عتوًّا، لا تغضب، فإن نكبة بالغة قد حلت بالآخيين حقًّا، وإن جميع من كانوا فيما مضى أشجع الشجعان، يرقدون الآن وسط السفن مصابين بالرماح أو مجروحين بطعناتها؛ فقد أصيب ديوميديس العتيد، ابن توديوس، وجُرح أوديسيوس — المشهور برمحه — بطعنةٍ من رمح، وكذلك أجاممنون، كما أصيب «يوروبولوس» بسهمٍ في فخذه. وإن الأطباء الماهرين في شتى الأعشاب الطبية لَمُنهمكون حول هؤلاء، يحاولون معالجة جراحهم، بيد أنه لا يمكن لأي رجل أن يعجم عودك، يا أخيل، فلا تدع مثل هذا الغضب يستبد بك ضدي أبدًا، ذلك الذي تحتفظ به، أنت يا مَن أوتي جسارة على إيذاء الغير! بمَ يمكن للأجيال القادمة أن تفيد منك، إذا كنت لا تمنع الدمار المشين عن الأرجوسيين؟ يا عديم الرحمة، إن أباك — كما يبدو لي — لم يكن الفارس بيليوس، لا ولا كانت «ثيتيس» أمك، ولكن البحر الرمادي هو الذي حملك، والصخور الناتئة، إذ إن قلبك لا يلين. أما إذا كنت تتحاشى نبوءة ما في نفسك، أو أخبرتك أمك الجليلة بشيءٍ ما من لدن زوس، فيمكنك على الأقل أن ترسلني بسرعة، ودع بقية جيش «المورميدون» يتبعوني، لعلي أستطيع أن أبرهن على أنني ضوء الخلاص للدانيين. وامنحني الحق في أن أشد إلى كتفي حلتك الحربية، أملًا في أن يحسبني الطرواديون إياك، وبذلك يكفون عن الحرب، فيمكن لأبناء الآخيين الجسورين أن يتنفسوا الصعداء، وهم متعبون؛ لأن أمد التنفس في الحرب ضئيل، وإذ ذاك نستطيع نحن غير المتعبين أن نطرد — بسهولة — الرجال المتعبين، فنردهم بالقتال إلى المدينة، بعيدًا عن السفن والأكواخ.»
هكتور يشعل النار في السفن!
والآن، خبرنني يا ربات الشعر، يا من لكن مساكن فوق أوليمبوس: كيف اندلعت النار لأول مرة في سفن الآخيين؟
إنه هكتور الذي اقترب من «أياس» وضرب رمحه الدرداري بسيفه الكبير بالقرب من طرفه — عند قاعدة السن — فحطمه شر تحطيم، وبذا كان أياس يلوح عبثًا برمح عديم السن، إذ سقطت رأس الرمح البرونزية بعيدًا عنه، تجلجل على الأرض. وعندئذٍ ارتجف أياس إذ هالته أعمال الآلهة؛ فقد أدرك — في قرارة قلبه — كيف أن زوس الذي يرعد في عليائه، قد أفسد عليه خططه الحربية كلية، ليمنح الظفر للطرواديين. فتقهقر بعيدًا عن مرمى الرماح. وإذ ذاك قذف الطرواديون على السفينة السريعة نارًا ضارية، فاندلعت فيها نيران لا سبيل إلى إخمادها.
وهكذا طوقت النيران مؤخر السفينة، ولكن «أخيل» ضرب كلتا فخذيه وتحدث إلى باتروكلوس قائلًا: «انهض يا باتروكلوس، يا سليل زوس، وسيد الفرسان. فوا عجبًا إني لأرى هجمة النار المدمرة بجانب السفن. ليتهم لا يستولون على السفن، ولا يكون هناك فرار بعد ذلك! البس حلتك الحربية بمنتهى السرعة، ريثما أجمع أنا الجيش.»
المورميدون يستعدون!
أما «أخيل»، فقد راح يسير خلال الأكواخ، ويحمل جميع المورميدون على ارتداء حللهم الحربية، ثم تدفقوا إلى الأمام كالذئاب النهمة، وفي قلوبها قوة تفوق الوصف، ذئاب قتلت في التلال غزالًا عظيم القرون، ومزقته فتخضبت أفواهها جميعًا بالدم. ثم أقبلت بجمعها تلعق بألسنتها الرفيعة سطح الماء الأسود في نبع قاتم، متجشئة الدم في نفس الوقت، وقلوبها رابضة في صدورها، وبطونها منتفخة، هكذا هرع القادة وحكام المورميدون فورًا، فألقوا حول الخادم الشجاع لابن أياكوس السريع القدمين. وفي وسطهم جميعًا وقف «أخيل» الباسل، يحمس كلًّا من الجياد والرجال الذين يحملون التروس.
وما إن قال هذا حتى أثار قوة جميع الرجال وشجاعتهم، فازدادت الصفوف تقاربًا عندما سمعوا مليكهم.
هكذا تكلَّم متوسلًا، وسمعه زوس، المستشار، فمنحه جزءًا مما طلب وأبى عليه الجزء الآخر؛ وافق على أن يدفع باتروكلوس الحرب والقتال بعيدًا عن السفن، أما عودته سالمًا من المعركة فقد أباها.
وبعد أن سكب «أخيل» السكيبة وصلى للأب زوس، ذهب ثانية إلى خيمته، وأعاد الكأس ثانية إلى الصندوق، وأقبل فورًا يقف أمام الكوخ؛ لأن قلبه كان لا يزال تواقًا إلى مشاهدة الصراع الفتاك بين الطرواديين والآخيين.
أما أولئك الذين اصطفوا مع باتروكلوس العظيم النفس، فظلوا يسيرون حتى انقضوا على الطرواديين بأرواح عالية. وفي الحال تدفقوا كأنهم زنابير الطريق التي يتوق الصبيان إلى إثارة غضبها، وتعذيبها في عشاشها بجانب الطريق، فيا لهم من حمقى، وكم من شر عام يسبِّبونه للكثيرين! ذلك أن الزنابير — إذا تصادف أن مر عليها راحل ما، فأثارها عن غير قصد — تنطلق كلها طائرة بكل ما في قلبها من جرأةٍ وتقاتل كل منها دفاعًا عن صغارها، هكذا تدفق «المورميدون» من السفن بجرأة وشجاعة، فارتفعت صيحة لا تخمد، ولكن باتروكلوس نادى على رفاقه بصرخةٍ عالية، قائلًا: «أيها المورميدون، زملاء أخيل بن بيليوس، كونوا رجالًا يا أصدقائي وتذكروا جرأتكم الثائرة، نستطيع أن نكسب المجد لابن بيليوس — خير الأرجوسيين — الذي يقوم بجانب السفن، ومعه أعوانه الخبيرون بالنزال، وكي يدرك أجاممنون الواسع الملك — ابن أتريوس — عمى قلبه، إذ إنه لم يحترم قط خير الآخيين.»
وما إن قال هذا حتى أثار قوة الرجال جميعًا وحميتهم فانقضوا على الطرواديين في حشد واحد، فرددت السفن حولهم صيحة الآخيين بدرجة عجيبة. على أن الطرواديين لم يكادوا يبصرون ابن مينويتيوس الجسور نفسه، وخادمه، يتألقان في حلتيهما الحربيتين، حتى اضطرب قلب كل رجل، وارتجفت كتائبهم إذ حسبت أن ابن بيليوس السريع القدمين قد نزل عن غضبه — وهو بجانب السفن — وعاد إلى الوئام. وراح كل رجل يتلفت حوله ينشد سبيلًا يمكنه من أن يهرب من الهلاك المحقق.
مغامرات باتروكلوس!
وإذ ذاك كان باتروكلوس هو أول من رمى برمحه البراق في الوسط مباشرة، حيث كان الرجال متكتلين بشدة بالقرب من مؤخرة سفينة بروتسيلاوس العظيم الهمة، فأصاب بورايخميس، الذي كان يقود البايونيين — سادة العربات — خارج أمودون، قادمًا بهم من أكسيوس الواسع الجريان. ولقد أصابه فوق كتفه اليمنى، فسقط إلى الوراء في التراب وهو يئن، ومن حوله دبت الفوضى بين رفاقه البايونيين، فقد بث باتروكلوس الفزع فيهم، بقتله قائدهم المبرز في القتال. وطردهم من داخل السفن، وأطفأ النار المشتعلة. وبقيت السفينة هناك نصف محترقة، وقد جلا عنها الطرواديون في فوضى، محدثين طنينًا عجيبًا. وتدفق الدانيون وسط السفن الجوفاء، فتصاعد صخب لا يكف. وكما يحدث عندما يسوق زوس — الذي يجمع البروق من الذؤابة العالية لجبل شامخ — سحابة كثيفة، بعيدًا، فتتجلَّى للعيان — في الحال — جميع قمم الجبال والربى العالية والوهاد، ومن السماء ينطلق الهواء اللانهائي، هكذا أيضًا تمتع الدانيون، عندما أبعدوا النار النهمة عن السفن، وحظوا براحة وجيزة. ومع ذلك، فلم يكن هناك أي توقُّفٍ عن القتال؛ إذ لم يكن الطرواديون قد أجلوا نهائيًّا، عن السفن السوداء، على أيدي الآخيين أحباء زوس. بل إنهم ظلوا يحاولون مقاومتهم، ويتقهقرون عن السفن بالقوة.
وهكذا قتل كل قائد من قادة الدانيين غريمًا، وكما تهجم الذئاب الفاتكة على الحملان أو الجداء، منتقية إياها من بين القطعان إذ تتناثر وسط الجبال في غفلة من الراعي، فتبصر بها الذئاب، وفي الحال تخطف صغارها الضعيفة القلوب، هكذا أيضًا هجم الدانيون على الطرواديين، فإذا بهؤلاء يوطدون العزم على الفرار المزري، وينسون شجاعتهم الثائرة.
وكان أياس العظيم دائم التلهف على قذف رمحه صوب خوذة هكتور البرونزية، ولكن هذا غطى كتفيه العريضتين بدرع من جلد الثور، وراح — بدهائه في الحرب — يراقب دوران السهام السريعة، وقذف الرماح. فعرف أن تيار النصر كان ينحرف حقًّا، ولكنه رغم ذلك صمد، وحاول جهده أن ينقذ زملاءه المخلصين.
وكما يحدث عندما تتجه سحابة من أوليمبوس مغادرة الهواء المقدس، نحو السماء، حين ينشر زوس العاصفة، هكذا أيضًا انبعث صراخ الطرواديين وشغبهم وهم ينأَوْن عن السفن، ولم يخطوا بنظام وهم يعبرون الخندق من جديد. أما هكتور فقد حملته جياده السريعة الأقدام بعيدًا بعدته الحربية، وترك جيوش طروادة، التي حجزها الخندق العميق، على غير رغبتها. وفي الخندق قام كثيرٌ من الجياد التي كانت تجر العربات، بتحطيم مقدمات أذرع العربات، لتنطلق متحررة منها، ولكن باتروكلوس تعقبها، وهو ينادي بشدةٍ على الدانيين، وقد أضمر الشر للطرواديين، بينما ملأ هؤلاء جميع الطرقات صياحًا، إذ تحطمت صفوفهم، وارتفع مثار النقع عاليًا حتى بلغ السحب. وجاهدت الخيول القوية الحوافر عائدةً إلى المدينة من السفن والأكواخ، ولكن باتروكلوس أخذ يقود عربته إلى أكثر البقاع ازدحامًا بالهاربين، وهو يصيح. وطفق الرجال يتساقطون بسرعةٍ من عرباتهم تحت عجلاته، وقد انقلبت عرباتهم، ولكن الجياد السريعة — الجياد الخالدة التي أعطتها الآلهة لبيليوس هدية مجيدة — قفزت قدمًا عبر الخندق، وراح قلب باتروكلوس يحثُّه ضد هكتور؛ لأنه كان تواقًا إلى إصابته، ولكن جياد هكتور السريعة ظلت تحمله بعيدًا. وكما يحدث أن يشتد الضغط على الأرض السوداء كلها تحت وطأة العاصفة — في أحد أيام الحصاد — عندما يُسقط زوس الأمطار بمنتهى العنف، كلما اشتد غيظه من البشر الذين يُصدرون بالقوة أحكامًا عوجاء في مكان الحشد، ويطردون العدالة خارجًا، غير مكترثين لانتقام الآلهة، فتفيض جميع أنهارهم، وتشق السيول طريقها عميقًا خلال تلال كثيرة، وتتدفق من الجبال بسرعةٍ إلى البحر القائم بهدير عنيف، فتخرب الحقول التي فلحها البشر، مثل هذا العنف كان صهيل أفراس الطرواديين وهي تسرع إلى الأمام!
وما إن هجم عليه «أرولاوس» — بعد ذلك — حتى ضربه بصخرةٍ على رأسه، بكل ما أوتي من قوة، فانشق رأسه نصفين داخل الخوذة الثقيلة، وسرعان ما وقع على الأرض، وقد هبط عليه الموت، قاتل الروح. ثم جندل «أروماس»، وأمفوتيروس، وأيبالتيس، وتليبوليموس — وهما ابنا داماستور، وأخيوس، وبوريس، وأيفيوس، وأيبوس، وبولوميلوس بن أرجياس، كل هؤلاء أسقطهم واحدًا بعد آخر على الأرض الفسيحة.
مصرع ساربيدون!
غير أن ساربيدون لم يكد يرى رفاقه — الذين يرتدون العباءة بغير زنار — يتهاوون بين يدي باتروكلوس بن مينويتيوس، حتى صاح عاليًا، يعير اللوكيين، أشباه الآلهة، قائلًا: «يا للعار، أيها اللوكيون، إلى أين أنتم هاربون؟ أسرعوا الآن إلى القتال، ودعوني أنازل هذا الرجل، كي أستطيع معرفة من يكون هذا البطل الذي له الغلبة هنا، والذي أنزل بالطرواديين كثيرًا من الأسى، حيث أرخى ركب كثير من الرجال الأخيار!»
وما إن تكلم، حتى وثب في حلته الحربية من عربته إلى الأرض. فلما أبصر به باتروكلوس — في الجهة المقابلة — انقض من عربته. وكما تتقاتل النسور ذات البراثن المعقوفة والمناقير المقوسة، وهي تصرخ عاليًا فوق صخرة شاهقة، هكذا أيضًا بالصرخات هجم كلٌّ منهما على الآخر. وأشفق ابن كرونوس، ذو المشورة الملتوية، عندما شاهدهما. فتحدَّث إلى «هيرا» — شقيقته وزوجته — قائلًا: «ويحي، الويل لي؛ لأنه مكتوب أن ساربيدون — أعز الناس عليَّ — سيلقى حتفه على يدَي باتروكلوس بن مينويتيوس! وإن قلبي لمنقسم في صدري إلى قسمين، إذ يتنازعني رأيان: هل أخطفه وهو لا يزال حيًّا وأبعده عن الحرب المبكية في أرض لوكيا الغنية، أم أتركه الآن يُقتل على يدَي ابن مينويتيوس؟»
فأجابته «هيرا» الجليلة، بقولها: «يا أفظع ابن لكرنوس، ما هذا الذي تفوهت به! ما هو إلا رجل من البشر، ذو أجل محدد، أفي نيتك أن تخلصه ثانية من الموت المؤلم؟ افعل ما يحلو لك، ولكنا جميعًا نحن الآلهة الآخرين — لا نقر ذلك. وسأقول لك شيئًا آخر، فضعه نصب عينَيك: إذا أرسلت ساربيدون حيًّا إلى داره، فتذكر أنه ربما كان ثمة إله آخر يرغب كذلك في أن يقصي ابنه العزيز عن الصراع العنيف. فإن كثيرًا من أبناء الخالدين يحاربون حول مدينة بريام العظيمة، ولسوف تثير الغضب الرهيب لدى كثيرٍ من الآلهة. أما إذا كان هذا عزيزًا عليك، وقلبك يئس من أجله، فدعه يقتل فعلًا — في الصراع الطاحن — على يدَي باتروكلوس بن مينويتيوس، حتى إذا غادرته روحه وحياته، فأرسل الموت والنوم اللذيذ ليحملاه إلى أرض لوكيا الفسيحة، وهناك سوف يتولَّى أشقاؤه وأقاربه دفنه في أكمة، ويقيمون له نصبًا، فهذا حتى للموتى!»
هكذا تكلمت، فلم يتردد أبو البشر والآلهة في الإصغاء إليها. ومع ذلك فإنه أراق على الأرض وابلًا من الدماء، تكريمًا لابنه العزيز، الذي كان باتروكلوس على وشك أن يقتله في أرض طروادة العميقة التربة، بعيدًا عن وطنه.
فلما اقتربا، وهما يسعيان — كلٌّ نحو الآخر — إذا بباتروكلوس يضرب تراسوميلوس المجيد، الخادم الجَسور للأمير ساربيدون، فأصابه في أسفل أحشائه، وأرخى أطرافه. وعندما انقض عليه ساربيدون بدوره، أخطأه برمحه البراق، وأصاب الرمح الجواد بيراسوس في كتفه اليمنى، فحمحم الحصان عاليًا وهو يلفظ روحه، وهوى فوق الثرى وهو يئن. وطارت روحه من جسمه، ولكن الاثنين الآخرين تقهقرا هنا وهناك، وأز النير، وتخبطت من فوقهما الأعنة عندما وقعت فوق التراب جرارة الخيول. ومع كلٍّ فقد وجد أوتوميدون — المشهور برمحه — علاجًا لهذا، بأن استل سيفه الطويل من جانب فخذه المكينة، وقفز فورًا ليقطع جرارة الجياد، غير مضطرب. وعندئذٍ نهض الجوادان الآخران، وشدا إلى الأعنة من جديد، وعاد المحاربان يلتقيان في قتالٍ مهلكٍ للأرواح.
ومن جديد أخطأ ساربيدون تسديد رمحه البراق نحو كتف باتروكلوس اليسرى، فمرق طرف الرمح ولم يصبه، ولكن باتروكلوس انقضَّ عليه — بدوره — بالبرونز، ولم يطر الرمح من يده بغير طائل، بل أصاب عدوه في موضع التصاق عضلة الحجاب الحاجز حول القلب النابض. فسقط كما تسقط شجرة البلوط أو الصفصاف أو شجرة الصنوبر الباسقة، التي يقتطعها صناع السفن وسط الجبال بالفئوس المشحوذة، لتكون أخشابًا للسفن. هكذا أيضًا رقد ممددًا أمام جياده وعربته، يئن أنينًا عاليًا، ويتشبث بالتراب الدامي. وكما يتسلل أسد وسط قطيع فيقتل ثورًا عاتيًا شجاع القلب، بين الأبقار ذات المشية المتثاقلة، هكذا أيضًا راح قائد رجال الدروع اللوكيين يصارع الموت تحت باتروكلوس، ونادى زميله العزيز قائلًا: «يا جلاوكوس العزيز، أيها المقاتل بين رجال الحرب، عليك الآن حقًّا أن تبرهن على أنك رماح ومقاتل صنديد، ولتكن الحرب البغيضة الآن مشتهى قلبك، إذا كنت رجلًا قويًّا. سر أولًا هنا وهناك في كل مكان، وحض قادة اللوكيين على القتال من أجل ساربيدون، ثم قاتل أنت نفسك بالبرونز، دفاعًا عني. لأنني سأكون في المستقبل مبعث توبيخ وعار يجللان هامتك، طوال عمرك، إذا جردني الآخيون من عدتي الحربية، وأنا راقد الآن بين حشد السفن. هيا، اصمد بشجاعة، وأَثِر حماس الجيش كله!»
وما إن تم كلامه هذا، حتى خيَّم الموت عليه، على عينَيْه ومنخرَيْه. وبعد أن داس باتروكلوس على صدره بقدمه، جذب الرمح من جسده، فخرجت معه عضلة الحجاب الحاجز، وأخرج طرف الرمح وروح ساربيدون في آنٍ واحد. وهناك أوقف المورميدون الجياد ذات الصهيل، التي كانت تتوق إلى الفرار وقد تركت عربات أصحابها.
فلما سمع جلاوكوس صوت ساربيدون، اكتأب واعتراه همٌّ بالغ، وخفق قلبه لأنه لم يفلح في مساعدته. فأمسك ذراعه بيده وضغط عليها، لأن الجرح كان يؤلمه، ذلك الجرح الذي أنزله به تيوكر — وهو يدفع الهلاك عن رفاقه — بسهمه وهو يهجم على الحائط المرتفع. ثم توسل إلى أبولو — الذي يضرب من بعيد — قائلًا: «استمع إليَّ، أيها الملك الذي قد يكون في أرض لوكيا الخصيبة — أو ربما في طروادة — ولكن له في كل مكان قوة على الإصغاء إلى المكروب، وإنني لمكروب الآن؛ إذ إنني مصاب بهذا الجرح الخطير، فالألم يضني ساعدي من هذا الجانب وذاك، ولا سبيل إلى إيقاف النزف، لقد تثاقلت ساعدي من جراء الجرح، ولست أملك أن أقبض على رمحي بشدة، ولا أن أسعى إلى مقاتلة الأعداء. وفضلًا عن ذلك، فقد هلك رجل من أنبل الرجال، هو ساربيدون بن زوس، الذي لم ينقذ ولده. لذلك أدعوك — أيها الملك — أن تشفيني من هذا الجرح الخطير، فتسكن آلامي، وتهبني القوة، حتى أستطيع دعوة زملائي اللوكيين، وأحضهم على القتال، بل وأقاتل — أنا نفسي — حول جثته.»
هكذا تكلم متوسلًا، فسمعه أبولو. وفي الحال أوقف آلامه، كما أوقف نزف الدم القاتم من جرحه الخطير، وبث القوة في قلبه. فأدرك جلاوكوس ذلك في قرارة نفسه، وسره أن الرب العظيم قد استجاب دعاءه بسرعة. فسار هنا وهناك في كل مكان، وحث قادة اللوكيين على أن يقاتلوا من أجل ساربيدون ثم شرع يمشي بخطى واسعة — بين الطرواديين — إلى بولوداماس بن بانتوس، وإلى أجينور العظيم. كما سار خلف أينياس، وراء هكتور ذي الخوذة البرونزية. حتى إذا لحق به، خاطبه بكلمات مجنحة قائلًا: «أي هكتور، لقد نسيت الآن تمامًا الحلفاء، الذين يضحون بحياتهم بعيدًا عن أصدقائهم ووطنهم من أجلك، فإذا أنت لا تعبأ بمد يد العون لهم. إن ساربيدون — قائد رجال الدروع اللوكيين — يرقد ميتًا، ذلك الذي كان يذود عن لوكيا بأحكامه وقوته. لقد صرعه أريس النحاسي برمح باتروكلوس. هيا، أيها الأصدقاء، قفوا إلى جانبه، واملئوا قلوبكم سخطًا، حتى لا يجرده المورميدون من حلته الحربية، ويمثلوا بجثته، انتقامًا لجميع الدانيين الذين ماتوا، أولئك الذين قتلناهم برماحنا بجوار السفن السريعة.»
هكذا تكلم، فاستولى على جميع الطرواديين غم ساحق، لا سبيل إلى احتماله. إذ كان ساربيدون دائمًا دعامة مدينتهم، بالرغم من أنه كان غريبًا قدم إليهم من بعيد، وتبعه أقوام كثيرون، كان مبرزًا في القتال بينهم، فاتجهوا مباشرة صوب الدانيين وكلهم حماس. وقادهم هكتور — غاضبًا من أجل ساربيدون — ولكن باتروكلوس الأشعث القلب، ابن مينويتيوس كان قد حض الآخيين. فتحدث أولًا إلى الأيانتيس — كليهما — وكانا متلهفين إلى القتال، فقال: «أيها الأيانتيس، ليكن صد العدو بغيتكما، بمثل تلك الشجاعة التي كانت لكما قديمًا بين المحاربين، إن لم يكن بأكثر منها. فإن أول رجل وثب إلى ما وراء سور الآخيين، يرقد الآن صريعًا، وهو ساربيدون. هلموا نحاول أخذه، ونلحق العار بجثته، فننزع عن كتفيه حلته الحربية، ونقتل بالبرونز العديم الرحمة رفاقه الكثيرين الذين يسعون للدفاع عن جسده.»
هكذا تكلم. وكان كلاهما تواقًا من تلقاء نفسه إلى دفع العدو. وبعد أن عزز الطرواديون واللوكيون والمورميدون والآخيون كتائبهم على الجانبين، اشتبكوا في عراك دفاعًا عن جثة الرجل الذي خر صريعًا، فارتفع صليل أسلحة الرجال بدرجة مخيفة. ونشر «زوس» الليل الزاخر بالويلات فوق الصراع الطاحن، حتى يدور حول جسد ابنه الحبيب، عناء الحرب الجالب للكوارث.
فأجاب ميريونيس — الشهير برمحه — قائلًا: «هيا يا أينياس، من العسير عليك — رغم شجاعتك — أن تطفئ قوة كل رجل يأتي ضدك مدافعًا. وإنني لأعتقد، أنك من البشر. فلو حدث أنني رميت وأصبتك سريعًا برمحي الحاد، لسلمت المجد لي — رغم قوتك واعتمادك على يديك — كما تسلم روحك لهاديس ذي الجياد العظيمة.»
هكذا قال، فعيره ابن مينويتيوس الجريء قائلًا: «يا ميريونيس، لِم تتحدث بهذه الطريقة، وأنت رجل الجرأة؟ أيها الصديق الحميم، لن يتراجع الطرواديون عن الجسد لمجرد كلمات السباب، بل لا بد من أن تضم الأرض الكثيرين قبل أن يتم ذلك؛ لأن نتيجة الحرب في أيدينا، أما الكلام فمكانه المجلس؛ لذا لا يليق بنا الاسترسال في الكلام، بل يجب علينا أن نركن إلى القتال.»
وما إن قال هذا، حتى تقدم، فتبعه الآخرون، وكان شبيهًا بإله، وكما يتصاعد صخب الحطابين في ممرات جبل، فتسمع أصواتهم على بعد، ارتفع صخب المحاربين في الأرض الفسيحة الطرقات، وصليل البرونز ودوي الجلد والتروس المتينة الصنع، وهم يطعنون بعضهم البعض بالسيوف والرماح الحادة الطرفين. ولم يستطع أحد قط أن يتبين ساربيدون العظيم — رغم علمهم بمكانه — إذ كان محوطًا تمامًا بالرماح والدم والغبار، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه. وكانوا دائمي الاحتشاد حول جثته. وكما يحدث عندما يطن الذباب في فصل الربيع حول الدلاء المملوءة باللبن — في إحدى المزارع — وقد بلل الحليب حواف الأوعية، هكذا أيضًا تجمع هؤلاء حول الجثة. أما زوس فلم يحول عينيه البراقتين — بأية حال — عن القتال المرير، بل ظل يراقبهم باستمرار، متحيرًا في قلبه، كثير التفكير في مقتل باتروكلوس: أيقتله هكتور المجيد بالسيف، في الصراع الطاحن الذي كان هناك حول ساربيدون — الشبيه بالإله — ويجرد كتفيه من حلته الحربية؟ أم يدعه يكبد عددًا أكبر من الرجال مزيدًا من الكفاح الحربي الشامل؟
وبينما هو في تدبيره، هداه فكره إلى الرأي الأصوب، وهو أن يدفع ذلك الخادم الجريء لأخيل بن بيليوس، إلى مدينة الطرواديين، مطاردًا هكتور — ذا الخوذة البرونزية — مزهقًا أرواح الكثيرين. فبدأ بأن أيقظ الجبن في هكتور، فوثب هذا إلى عربته واستدار ليفر، مناديًا بقية الطرواديين كي يحذوا حذوه في الفرار؛ إذ أدرك تحول ميول زوس المقدسة. كذلك لم يصمد اللوكيون الشجعان، بل دبت الفوضى بين سائرهم، عندما شاهدوا مليكهم مصابًا في قلبه، وراقدًا بين جموع القتلى، إذ مات كثيرون فوقه، عندما شد ابن كرونوس حبال الصراع الطاحن. وسلب المورميدون ساربيدون عدته البرونزية المتألقة من فوق كتفيه. فأعطاها ابن مينويتيوس الجسور لرفاقه ليحملوها إلى السفن الجوفاء. وإذ ذاك تحدث زوس، جامع السحب، إلى أبولو قائلًا: «انهض الآن، يا فويبوس العزيز، اذهب فامسح عن ساربيدون الدم القاتم، بمجرد أن تبتعد به عن منطقة الرماح. ثم احمله بعيدًا، واغسله في مجاري النهر المائية، وادهنه بالأمبروسيا، ودثره بلباس خالد، وأعطه لحملين سريعين، ليأخذوه إلى الشقيقين التوءمين — النوم والموت — ليضعاه بسرعةٍ في بلاد لوكيا الفسيحة الخصيبة، حيث يقوم أشقاؤه وأقاربه بدفنه فوق رابية، ويقيمون له نصبًا، لأن هذا هو حق الموتى!»
هكذا تكلم، فلم يعصِ أبولو أمر أبيه، بل هبط من تلال أيدا إلى وطيس المعركة المفزع. وفي الحال رفع ساربيدون العظيم بعيدًا عن منطقة الرماح. ولما انتهى من حمله بعيدًا، غسله في مجاري النهر المائية، ودهنه بالأمبروسيا، ولفه بعباءة خالدة، وسلمه لحملين ذوي سرعة بالغة، ليحملوه إلى الشقيقين التوءمين — النوم والموت — اللذين وضعاه بسرعةٍ في أرض لوكيا الفسيحة الخصيبة.
بين باتروكلوس وهكتور!
راح باتروكلوس ينادي على جياده، وأتوميدون يطارد الطرواديين واللوكيين، وقد استولت عليه غفلة عمياء، فما أحمقه! فلو وعى كلمة ابن بيليوس، لنجا حقًّا من مصير الموت الأسود الشرير، غير أن نية زوس أقوى دائمًا من نية البشر، فهو يدفع الرجل الشجاع، لكي يسلبه النصر بسهولة، ثم يعود من تلقاء نفسه فيثير البشر إلى القتال. وهكذا أثار روح باتروكلوس في صدره!
فمن تراه كان أول، ومن كان آخر من قتلتهم يا باتروكلوس، عندما استدعتك الآلهة إلى الموت؟ كان أولهم أدراستوس، وأوتونوس، وأيخيلوس، وبيريموس بن ميجاس، وأبيستور وميلانيبوس، وبعد ذلك ألاسوس، وموليوس، وبولاريتس، هؤلاء قتلهم، أما الآخرون فقد ركن كل منهم إلى الفرار!
وعندئذٍ كاد أبناء الآخيين يستولون على طروادة — العالية الأبواب — على يدَي باتروكلوس؛ لأنه كان ثائرًا برمحه، حوله وأمامه، لولا أن «أبولو» اتخذ وقفته فوق السور المتين البناء، وهو يفكر في هلاكه، ويحمل المعونة للطرواديين. ثلاث مرات وضع باتروكلوس قدمه فوق ركن من السور الشامخ، وثلاث مرات دفعه أبولو إلى الوراء، مبعدًا الدرع البراق بيدَيه الخالدتَين. بيد أنه لما هجم للمرة الرابعة وكأنه إله، صاح فيه أبولو صيحة مفزعة، وتحدث إليه بكلمات مجنحة قائلًا: «ارجع يا باتروكلوس، يا سليل زوس. إنني أخبرك أنه ليس مكتوبًا أن تسلب مدينة الطرواديين الأمجاد برمحك، ولا برمح أخيل، الذي يفضلك بمراحل!»
هكذا تكلم، فتقهقر باتروكلوس إلى الخلف مسافة كبيرة، متحاشيًا غضب أبولو، الذي يضرب من بعيد.
وكان هكتور يقف بجياده القوية الحوافر، عند الأبواب السكابية، إذ كان مشتت الفكر: أيذهب من جديد إلى الشغب ويقاتل، أم ينادي الجيش ويحشده وراء السور؟ وبينما هو في تفكيره هذا، اقترب منه «أبولو» في صورة شاب قوي هو أسيوس خال هكتور مستأنس الجياد — وشقيق هيكابي، وابن دوماس — الذي كان يسكن فروجيا بالقرب من مجاري سانجاريوس المائية. فتكلم أبولو بن زوس، في صورته هذه إلى هكتور قائلًا: «أي هكتور، لماذا تكف عن القتال؟ هذا لا يليق بك. ليتني كنت أقوى منك بقدر ضعفي عنك، إذن لآلمك في الحال أن تنسحب من الحرب، ولكن تعال، وقُدْ جيادك القوية الحوافر صوب باتروكلوس، فربما استطعت أن تقتله، فيهبك أبولو المجد!»
هكذا تكلم وعاد ثانية — كإله — وسط صراع الرجال. فأصدر هكتور المجيد أمره إلى كيبريونيس العاقل، بأن يسوق الجياد إلى المعركة. أما أبولو فذهب في طريقه، ودخل إلى وسط الحشد، وأرسل رعبًا شريرًا على الأرجوسيين، ومنح المجد للطرواديين ولهكتور. فغض هكتور النظر عن بقية الدانيين ولم يحاول قتلهم، وإنما ساق جياده القوية الحوافر ضد باتروكلوس. وإذ ذاك قفز باتروكلوس من عربته إلى الأرض، في الجانب الآخر، وقد حمل في يده اليسرى رمحًا، وأمسك بالأخرى حجرًا براقًا حاد السنان، وقد شد عليه قبضته. ثم ثبت نفسه في الأرض وقذف بالحجر، وبدون خوف من غريمه، لم يجعل رمحه يطير بغير طائل، وإنما أصاب جبهة سائق هكتور — كيبريونيس، الذي كان ابن سِفاح لبريام المجيد — بالحجر الحاد، وهو ممسك بأعنة الخيل. فحطم الحاجبين معًا، ولم يتحمل العظم، فسقطت مقلتاه إلى الأرض في الثرى، أمام قدميه. فهو من العربة المكينة الصنع كما لو كان غواصًا، وفارقت روحه عظامه، ولقد سخرت منه أيها الفارس باتروكلوس، إذ قلت «يا للعجب! انظروا هذا الرجل الخفيف الحركة حقًّا، ما أنشطه عندما يغوص! ولو كان في اليوم العميق، لأرضى نهم الكثيرين بحثًا عن الأصداف، فإني أراه يغطس في السهل بخفة من فوق عربته. حقًّا لا بد أن بين الطرواديين رجالًا يغطسون!»
مصرع باتروكلوس!
وما إن قال باتروكلوس هذا حتى اتجه صوب المحارب كيبريونيس بهجمة الليث الذي يصاب في صدره — وهو يعيث في مزرعة — فإذا بشجاعته تجلب الهلاك عليه، هكذا وثبت يا باتروكلوس متحمسًا على كيبريونيس، بينما وثب هكتور في الجهة المقابلة من عربته إلى الأرض. وهكذا اشتبك الاثنان في صراعٍ حول كيبريونيس وكأنهما أسدان فوق ذؤابة جبل، يتقاتلان على ظبي مقتول، وقد عض الجوع كلًّا منهما، بينما امتلأ فؤاده جرأة، هكذا أيضًا، ومن أجل كيبريونيس، كان سيدا صيحة الحرب — باتروكلوس بن مينويتيوس، وهكتور المجيد — يتلهفان إلى أن يمزق كلٌّ منهما جسد الآخر بالبرونز العديم الرحمة. وأمسك هكتور الجسد من رأسه، لا يخلي قبضته عنه، وفي مواجهته أمسك باتروكلوس بالقدم بشدة، واشتبك الآخرون حولهما — طرواديون ودانيون — في صراع طاحن. وكما تتنافس الريح الشرقية والريح الغربية على هز غابةٍ كثيفةٍ في ممرات جبل — غابة من الزان والدردار والأثل الأملس اللحاء — فتتلاطم فروع هذه الأشجار، وتهتز أغصانها الطويلة في صخبٍ عجيب، متكسرة ومتحطمة، هكذا أيضًا انقض الطرواديون والآخيون، موقعين الهلاك بعضهم ببعض، دون أن يفكر أي الطرفين في الفرار المدمر. فتركزت عدة رماح حادة حول كيبريونيس، وانطلقت السهام المجنحة الغزيرة من أوتار القسي، وارتطم كثيرٌ من الأحجار الضخمة بالدروع، بينما كان الرجال يتقاتلون من حوله، ولكنه كان مفترشًا دوامة الثرى، عتيدًا في قوته، وقد نسي فروسيته.
فلما رأى هكتور أن باتروكلوس العظيم الهمة كان يتقهقر مصابًا بالبرونز الحاد، اقترب منه خلال الصفوف، ورماه بطعنة من رمحه أسفل بطنه، وغرس البرونز عميقًا فسقط باتروكلوس بشدة، وحزن جيش الآخيين حزنًا بالغًا. وكما يتغلب الليث على خنزير بري لا يتعب، عندما يتقاتل الاثنان بقلبين جسورين فوق ذؤابة أحد الجبال، من أجل ينبوع صغير — كلٌّ يريد أن يشرب منه — فيلهث الخنزير البري بصعوبة، ولكن الليث يقهره بقوته، هكذا أيضًا، كانت حال الابن الجسور لمينويتيوس! فبعد أن قتل الكثيرين، سلبه هكتور بن بريام الحياة، ضاربًا إياه برمحه من كثب. ووقف فوقه يزهو بكلمات مجنحة، فقال: «أي باتروكلوس، لقد كنت تحسب — كما أعتقد — أنك ستتمكن من تخريب مدينتنا، وأنك ستسلب نساء طروادة حريتهن، وتحملهن في السفن إلى وطنك العزيز، فيا لك من غر! إن جياد هكتور السريعة تمشي أمامهن مسرعة إلى القتال، وبالرمح أنا مبرز بين الطرواديين المحبين للقتال، أنا الذي أدفع عنهن يوم القضاء أما أنت فسوف تنهشك النسور هنا. ويحك، أيها الشقي! حتى أخيل لم يجدك نفعًا — بكل جسارته — ذلك الذي أعتقد أنه — رغم تخلفه — قد أصدر إليك أمره مشددًا، عندما انصرفت من عنده، فقال لك: «إني آمرك يا باتروكلوس، يا سيد الفرسان، ألا تعود ثانية إلى السفن الجوفاء، إلا بعد أن تكون قد مزقت من حول صدر هكتور، قاتل البشر، عباءته مخضبة بالدماء!» هذا ما أعتقد أنه قاله لك، وحمس به تهورك الطائش.»
وما إن قال هذا، حتى خيم الموت عليه، وأسرعت روحه بمغادرة أطرافه، ذاهبة إلى هاديس، منتحبة مصيرها تاركة الرجولة والشباب. وكذلك في موته، خاطبه هكتور المجيد بقوله: «لم يا باتروكلوس، تتنبأ لي بالهلاك الأكيد؟ من يدري، لعله مصير أخيل ابن ثيتيس الجميلة الجدائل، فقد أكون الضارب أولًا برمحي، فيفقد حياته؟»
قال هذا وسحب الرمح البرونزي من الجرح، واضعًا قدمه فوق الميت ليدفعه إلى الوراء مخلصًا الرمح. وفي الحال طارد برمحه أوتوميدون، شبيه الإله، خادم ابن أياكوس السريع القدمين؛ لأنه كان تواقًا إلى ضربه، ولكن جياده السريعة حملته بعيدًا، تلك الجياد الخالدة التي أعطتها الآلهة لبيليوس كهدايا مجيدة.