الأنشودة الرابعة والعشرون
«… وأرقدوا هكتور على فراش موشًّى، وإلى جانبه وقفت خير النائحات اللائي ينشدن المراثي … وكانت زوجته وأمه هما البادئتان بالعويل …»
كيف افتديت جثة هكتور، وكيف شيعت جنازته؟
الآلهة تتشاور بشأن هكتور!
انفض الجمع — بعد ذلك — فتفرق القوم، ليذهب كل رجل إلى سفينته. وفكر الباقون في تناول طعام العشاء والنوم اللذيذ، وأن يحصلوا على كفايتهم منهما، ولكن أخيل انخرط في البكاء، متذكرًا صديقه الحميم، فلم يتمكَّن النوم — الذي يسيطر على الجميع — من التغلُّب عليه، بل بقي يتقلَّب على هذا الجانب وذاك، متحسرًا على رجولة باتروكلوس وقوته وجرأته، وكل كرب احتمله معه، بما في ذلك حروب الرجال، والأمواج المفجعة، وكان كلما فكر في ذلك ذرف الدموع الغزيرة، راقدًا تارة على جنبه، وطورًا على ظهره، وحينًا على وجهه، وكثيرًا ما كان ينتصب واقفًا على قدمَيه، ويهيم — شارد الفكر — على طول ساحل البحر. ولم يكن يغفل الفجر، حين كان يشرق فوق ماء البحر وشواطئه، كل يوم. فكان يشد جواديه السريعَين — تحت النير — إلى العربة، ويربط هكتور وراء هذه، ثم يمضي يجره. حتى إذا دار به ثلاث دورات، حول أكمة ابن مينويتيوس الميت، لجأ إلى كوخه يستريح، تاركًا هكتور منكفئًا على وجهه في الثرى. غير أن أبولو أبعد كل تشويهٍ عن لحمه — مشفقًا على البطل حتى في موته — وغطاه كله بالترس الذهبي، حتى لا يمزق أخيل جسده وهو يجره.
فلما كان اليوم الثاني عشر — بعد ذلك — تكلم أبولو وسط الخالدين، قائلًا: «ما أقساكم أيها الآلهة، مدبرو الخراب. ألم يحرق هكتور لكم أفخاذ الثيران والماعز بغير تردد؟ ألا يعطف عليه قلب أحدكم فينقذه — رغم كونه جثة هامدة — من أجل زوجته لتراه، وكذا أمه وولده وأبوه بريام وشعبه الذين سيدفنونه في النار ويؤدون له الطقوس الجنائزية؟ أم أنكم تؤثرون أخيل القاسي — أيها الآلهة — فتبادرون إلى مساعدته؟ مع أن عقله ليس سليمًا بحالٍ ما، ولا هو ينثني عما في صدره، وإنما هو يعقد قلبه على القسوة، كالأسد الذي يغترُّ بقوته البالغة وروحه الملكية، فيهجم على قطعان البشر ليفوز لنفسه بوليمة، هكذا أيضًا، فقد أخيل كل رحمة، فلا حياء لمن يؤذي الناس ويجني النفع من ورائهم. وكم من رجلٍ فقد مَن هو أعز من هذا الذي فقده أخيل — أخًا أنجبته أمه، أو ولدًا — ومع ذلك فإنه لا يلبث أن يكف عن أن يبكيه؛ إذ إن ربات القدر منحت الإنسان روحًا صابرة، ولكن هذا الرجل دأب — منذ أن سلب هكتورَ العظيمَ روحَه — على ربطه وراء عربته، وجره حول أكمة صديقه العزيز. والحق أنه لن يجنيَ من وراء ذلك شرفًا ولا نفعًا. فليحذر أن ننقم عليه، رغم أنه رجلٌ عظيم، لأنه في ثورته يصب جام غيظه القذر على طينٍ لا يحس!»
فاستشاطت «هيرا» — البيضاء الساعدين — غيظًا، وخاطبته بقولها: «قد يكون الأمر كما تقول، يا سيد القوى الفضية، إذا كنتم — أيها الآلهة — تعتزمون أن تمنحوا مجدًا لكلٍّ من أخيل وهكتور على السواء. على أن هكتور بشر رضع ثدي امرأة، أما أخيل فابن ربة، غذيتها أنا نفسي وربيتها وزوَّجتها للمحارب بيليوس، الذي كان عزيزًا جدًّا على الخالدين. قد حضرتم كلكم حفل زواجهما، وجلست أنت شخصيًّا بينهما إلى مائدة الوليمة، والقيثارة في يدك، يا صديق الأشرار، الدائم الغدر!» وإذ ذاك، أجابها زوس — جامع السحب — قائلًا: «لا يكن غضبكِ على الآلهة كاملًا يا هيرا، فلن يكون مجد هذين متماثلًا. لقد كان هكتور — هو الآخر — أعز البشر الموجودين في طروادة، لدى الآلهة. وهكذا كان هو عندي على الأقل، فإنه لم يؤخر عني الهدايا المقبولة، بأية حال من الأحوال. ولم يحدث قط أن افتقر مذبحي إلى وليمة لائقة، من تقدمات الشراب، ورائحة القرابين المحترقة، والعبادة التي هي من حقنا. أما سرقة هكتور الجسور، فيجب أن نتخلَّى عنها؛ إذ لا يليق أن يتم ذلك دون علم أخيل، لأن أمه دائمًا ما تقف إلى جانبه كالليل والنهار. وإني لأود أن يذهب أحد الآلهة فيستدعي ثيتيس، كي أقول لها كلمة حكيمة، عسى أن يتقبل أخيل الهدايا من بريام ويعيد هكتور إليه.»
قالت الربة الفاتنة هذا، وأخذت خمارًا أسود اللون، لم يكن هناك أشد منه سوادًا، وانطلقت في طريقها، تتقدمها أيريس السريعة، بقدمين كالريح. وأخذت أمواج البحر تنشقُّ حولهما، حتى إذا خرجتا إلى الشاطئ، ودخلتا إلى السماء، وجدتا ابن كرونوس — الذي يدوي صوته بعيدًا — جالسًا وحوله حشد جميع الآلهة المباركين الخالدين. فجلست إلى جانب الأب زوس، وأفسحت لها أثينا مكانها، وقدمت إليها هيرا كأسًا ذهبية بديعة، وحيتها بعبارات الترحيب. فشربت ثيتيس، وأعادت الكأس ثانية. ثم تكلم — أولًا — أبو الآلهة والبشر أولًا، فقال: «أيتها الربة ثيتيس، لقد جئت إلى أوليمبوس رغم كل همومك، ورغم أن قلبك مثقلٌ بأحزانٍ لا عزاء لها، فإنني أعلم ذلك من تلقاء نفسي. على أنني سأخبركِ بالسبب الذي استدعيتكِ من أجله إلى هنا. لقد نشب صراع بين الآلهة الخالدين، لتسعة أيام، من جراء جثة هكتور، وأفعال أخيل سلاب المدن. إنهم يريدون الإيعاز إلى أرجايفونتيس الحاد البصر، بأن يسرق الجثة، ولكن اسمعي أي مجد أهب أخيل؛ لأنني أود — في الوقت ذاته — أن أصون كرامتك وودك، انطلقي بأقصى سرعتك إلى الجيش، وأعلني أمري لابنك. أنبئيه بأن الآلهة غاضبة عليه؛ لأنه في ثورة غضبه يستبقي هكتور عند السفن المدببة ولا يرده إلى قومه، عله يخافني ويعيد هكتور. وسأرسل في الحال أيريس إلى بريام العظيم القلب، لتأمره بالذهاب إلى سفن الآخيين، ليفدي ابنه العزيز، ويحمل إلى أخيل هدايا تدخل السرور إلى نفسه!»
هكذا قال، ولم تتردد الربة، ثيتيس اللجينية القدمين، في إطاعة أمره، فانطلقت هابطة من ذؤابات أوليمبوس، وبلغت كوخ ابنها. فوجدته هناك يبكي ويئن، ومن حوله أصدقاؤه الأعزاء، يعدون في عجلة طعام الصباح وفي الكوخ كبش، ضخم أشعث، قد ذُبح لهم. فجلست أمه الجليلة بقربه، وربتت كتفه بيدها، ونادته باسمه قائلة: «أي بني، إلى متى تمزق قلبك بالبكاء والحزن، دون أن تفكر في الطعام أو الفراش؟ كان خليقًا بك أن تضطجع في حضن امرأة؛ لأنني أخبرك أنك لن تبقى طويلًا على قيد الحياة، وإنما يقف الموت قريبًا منك، وكذا القدر العتيد، والآن أصغِ إلي، فإنني موفدة إليك من لدن زوس. إنه يخبرك بأن الآلهة غاضبون عليه، وأنه نفسه — فوق جميع الخالدين — مليء بالسخط؛ لأنك في ثورة غضبك، تحتفظ بهكتور عند السفن المدببة، ولا ترده ثانية، هيا، سلمه وخذ فدية في مقابله!» فرد عليها أخيل — السريع القدمين — بقوله: «ليكن كذلك، إن كان الأوليمبي نفسه يأمر به، ويصمم قلبه على تحقيقه. فمن يحضر الفدية، يحمل الميت!»
هكذا تكلمت الأم وابنها وسط حشد السفن بكلمات كثيرة مجنحة. وأرسل ابن كرونوس أيريس — في الحال — إلى طروادة المقدسة، قائلًا لها: «هيا يا أيريس، اتركي موطن أوليمبوس، واحملي النبأ إلى داخل طروادة، إلى بريام العظيم الشجاعة، أن يذهب إلى سفن الآخيين ويفدي ابنه العزيز، حاملًا إلى أخيل الهدايا التي تدخل السرور إلى قلبه. وليذهب وحده، دون أن يرافقه أي رجل آخر من الطرواديين. ويجوز أن يكون برفقته شيخ مسن، ليقود البغال والعربة السريعة الجري، ويعود ثانية إلى المدينة بجثة الميت الذي قتله أخيل. لا تجعليه يفكر في الموت أو في أي خوف، فسنعطيه مرشدًا كهلًا — هو أرجايفونتيس — ليصحبه إلى مقربة من أخيل. فإذا ما دخل الكوخ، فلن يقتله أخيل، ولن يكلف أحدًا آخر بقتله، لأنه ليس مجردًا من الحكمة، وليس قصير النظر أو شريرًا. بل إنه سيعامل الرجل المتضرع بكل ضروب الرأفة.»
هكذا قال، وأسرعت أيريس العاصفة القدمين تحمل رسالته.
بريام يستعد لافتداء الجثة!
وإذ بلغت منزل بريام، وجدت فيه صراخًا وعويلًا. وكان أولاده يجلسون حوله — داخل القاعة — يبللون ثيابهم بالدموع، والملك المسن وسطهم ملتفًّا بعباءته، وقد جللت رأسه وعنقه أوساخ كثيرة مما جمعه في يديه وهو يتمرغ في الثرى. وكانت بناته وزوجات أبنائه يبكين في جميع أنحاء البيت، من أجل المحاربين العديدين الشجعان الذين قتلهم الأرجوسيون. فاقتربت رسولة زوس من بريام، وتحدثت إليه بصوت رقيق، ولكن الرعشة تملكت من أطرافه، فقالت: «تشجع، يا بريام، يا ابن داردانوس، ولا تخَفْ قط. إنني لم آتِ إلى هنا لأصيبك بأذًى، ولكني موفدة إليك من لدن زوس. الذي يوليك عناية وشفقة بالغتَين رغم بعده عنك. إن الأوليمبي يأمرك بأن تفتدي هكتور العظيم، فتحمل إلى أخيل الهدايا التي تُدخل السرور إلى قلبه، ولتذهبن وحدك ولا يصحبنك أي رجلٍ آخر من الطرواديين، اللهم إلا تابع مسن، ليقود البغال والعربة الخفيفة الجري، ثم يعود إلى المدينة بالميت، الذي قتله أخيل. ولا تفكر في الموت ولا تهابَنَّ شيئًا، فسيصحبك مرشد — هو أرجايفونتيس — الذي سيقودك، حتى يصل بك قريبًا من أخيل. وعندما تبلغ داخل الكوخ، فلن يقتلك أخيل نفسه، ولن يكلف أحدًا آخر بقتلك، فما هو بعديم الحكمة، ولا قصير النظر، ولا شرير، بل إنه بكل شهامة يُبقي على من يلوذ به!»
وما إن أتمت أيريس السريعة القدمين كلامها، حتى انصرفت. فأمر الملك أولاده بإعداد العربة والبغال السريعة الجري، وأن يثبتوا عليها الصندوق المصنوع من خشب الصفصاف. ثم هبط إلى خزانة كنوزه ذات السقف المقبب، والمعطرة بخشب الصندل، وكان بها ما لا يُحصى من النفائس. واستدعى إليه زوجته هيكابي، وقال لها: «يا سيدتي، لقد بعث إليَّ زوس برسول أوليمبي، يأمرني بالذهاب إلى سفن الآخيين لأفتدي ابني العزيز، وأحمل إلى أخيل الهدايا التي تسر قلبه. هلمي، وخبريني بما ترينه في هذا. أما أنا، فإن رغبة قلبي تلح في الذهاب إلى هناك، إلى السفن، وإلى داخل معسكر الآخيين الفسيح.» هكذا قال، ولكن زوجته أطلقت صيحةً حادة، وأجابته قائلة: «وا حسرتاه! أين ذهبت حكمتك التي اشتهرت بها منذ القدم، بين الأغراب وبين من هم تحت حكمك؟ كيف تود الذهاب بمفردك إلى سفن الآخيين لتقابل الرجل الذي قتل أبناءك العديدين الشجعان؟ إن قلبك لمن حديد حقًّا، فلو أنك وقعت في منطقة نفوذه، وأبصرتك عيناه — وهو المفترس العديم الوفاء — لما رحمك، ولما احترمك بحال ما. كلا، لنبكِ الآن بعيدًا عمن نبكيه، ماكثين هنا في قصرنا. فهذا ما نسجته ربة القدر العتيدة بخيطها عند مولده، عندما أنجبته أنا نفسي! لقد كُتب عليه أن يشبع نهم الكلاب السريعة الأقدام بعيدًا عن والديه، في موطن رجل طاغية، أتمنى أن أنشب أسناني في أعماق قلبه وأنهشه، عندما آخذ بثأر ابني، فإن ابني لم يمُت جبانًا قط، وإنما قُتل وهو يواجهه مدافعًا عن رجال ونساء طروادة العريضات الصدور، دون أن يفكِّر في الاختفاء أو الفرار.»
فردَّ عليها العجوز بريام الشبيه بالإله قائلًا: «لا تحاولي إبقائي هنا طالما أنا تواق إلى الذهاب، ولا تحاولي التأثير عليَّ. فلو أن من يأمرني بهذا من البشر القاطنين على وجه الأرض — سواء أكان من العرافين الذين يتنبَّئون عن طريق الذبيحة أو من الكهنة — لجاز لنا أن نرى الأمر باطلًا، ولرغبنا عنه، ولكنني سمعت الربة بأذنَي رأسي، ونظرت إلى وجهها، سأنطلق فورًا، ولن يضيع كلامها سدًى، ولو كان مقدرًا لي أن أموت بجوار سفن الآخيين المدرعين بالبرونز، فليكن هذا! فليقتلني أخيل في الحال، بعد أن أمسك ولدي بساعدي، وأشبع رغبتي في البكاء!» وإذ قال هذا، رفع أغطية الصناديق الضخمة، وأخرج منها اثني عشر ثوبًا جميلًا، واثنتي عشرة عباءة ذات ثنية واحدة، وعددًا لا يُحصى من الأغطية، وأكبر عدد ممكن من العباءات البيضاء ومثلها من المعاطف. ووزن عشرة تالنتات من الذهب، وركيزتين لامعتين، وأربع قدور، وكأسًا في غاية الإبداع، قدمها إليه رجال تراقيا عندما كان مبعوثًا إلى هناك، فكانت تحفة بالغة القيمة، ومع ذلك فلم يتركها الشيخ في قصره؛ لأنه كان شديد الرغبة في افتداء ابنه العزيز. ثم طرد جميع الطرواديين من الرواق، وعيرهم بعبارات السباب قائلًا: «اخرجوا من هنا، أيها التعساء، يا من جلبتم العار عليَّ! أما لديكم أحزان في بيوتكم، حتى تجيئوا لي هنا فتغيظوني؟ ألا يكفي أن زوس بن كرونوس جلب عليَّ هذا الحزن، ففقدت ابني خير الرجال؟ أنتم أنفسكم ستعانون بسبب موته، فلسوف يسهل على الآخيين أن يقتلوكم. أما أنا فليتني أذهب إلى بيت هاديس قبل أن ترى عيناي المدينة منهوبةً ومخربة!»
قال هذا، وأعمل صولجانه في الرجال، فانصرفوا من أمامه مسرعين. ثم نادى أبناءه هيلينوس، وباريس، وأجاثون العظيم، وبامون، وأنتيفونوس، وبوليتيس الرائع في صيحة الحرب، ودايفوبوس، وهيبوثوس، وديوس المجيد. نادى هؤلاء التسعة بصوتٍ مرتفع، وأصدر إليهم أمره قائلًا: «أسرعوا أيها الأولاد الأخساء، يا من جلبتم عليَّ الخزي والعار، ليتكم قُتلتم جميعًا بدلًا من هكتور، بالقرب من السفن السريعة! ويحي، لقد اكتمل نحسي، إذ أنجبت — في طروادة الفسيحة — أبناء شجعانًا، ولكن أحدًا من هؤلاء لم يبقَ لي! لا ميستور الشبيه بالإله، ولا ترويلوس المحارب سائق العربات، ولا هكتور الذي كان إلهًا وسط البشر، ولم يكن يبدو ابن إنسان فانٍ، وإنما إله، كل هؤلاء قتلهم أريس، ولم يترك لي سوى أبناء يتصفون بكل شائنة. فمنهم كاذب اللسان، وأعرج القدم، ومن لا مثيل له في ضرب الأرض عند الرقص، وسارق الحملان والجداء من قطعانكم. أعدُّوا لي عربة بسرعة، وضعوا بداخلها كل هذه الأشياء، حتى ننطلق في طريقنا!»
هكذا تكلم، فجزعوا لصياح أبيهم، وأحضروا — لفورهم — العربة السريعة الجري التي تجرها البغال. وكانت جميلة وحديثة الصنع. وثبتوا فيها الصندوق الصفصافي، وأنزلوا عن مشجبها نير البغال، نيرًا من خشب البقس به مقبض أُحْكِم تثبيته بحلقات للتوجيه والقيادة. ثم ثبتوا رباط النير — البالغ طوله تسع أذرع — في النير، وثبتوا النير فوق المحور المصقول الطرف، والمقوس إلى أعلى، وأدخلوا الحلقة في الوتد، وربطوها جيدًا بالمقبض بثلاث ثنيات — يمينًا ويسارًا — ثم ثبتوها في القضيب الرأسي، وأنزلوا الخطاف من تحتها. ولما انتهَوْا من ذلك، حملوا الكنوز من المخزن وكوموها داخل العربة المصقولة، فدية تفوق الحصر في مقابل رأس هكتور ثم ربطوا — إلى النير — البغال القوية الأظلاف، التي أعطاها الموسيون لبريام يومًا، كهدية قيمة. ثم أسرجوا للملك الشيخ جيادًا كان يحتفظ بها لنفسه، ورباها في حظيرته اللامعة.
هكذا كان كلاهما يعدان عربتهما في القصر الشاهق — التابع وبريام — وكلاهما يحسن الظن في قلبه. وعندئذٍ أقبلت هيكابي مهمومة القلب، تحمل في يمناها خمرًا عسلية داخل كأس من العسجد، ليستطيعا تقديم سكيبةٍ قبل رحيلهما. ثم وقفت أمام الجياد وقالت لبريام: «خذ هذه، وقدم الآن سكيبة للأب زوس، وصلِّ له كي تعود ثانية إلى بيتك من عند العدو، ما دام قلبك يبعث بك نائيًا إلى السفن، رغم عدم رغبتي في رحيلك. ثم صلِّ لابن كرونوس — سيد السحب القاتمة — رب أيدا، المطل على أرض طروادة، واطلب منه طائر البشرى، ذلك الرسول السريع الذي يعتبره أعزَّ الطيور وأشدها قوة. فليظهر فوق يمناك، حتى إذا شاهدت العلامة بنفسك، اطمأننت إليها، ومضيت في طريقك إلى سفن الدانيين ذوي الجياد السريعة، أما إذا لم يمنحك هذا زوس الذي يحمل صوته نائيًا، فلن أشجعك إطلاقًا على الذهاب إلى سفن الأرجوسيين، مهما يكن شوقك إلى الرحيل.»
فأجابها بريام — الشبيه بالإله — قائلًا: «زوجتي، لن أهمل نصيحتك هذه. فمن الخير التضرع إلى زوس، عله يرحم!»
هكذا قال الرجل العجوز، وأمر مدبرة البيت — القائمة بالخدمة — أن تصب على يدَيه ماءً نظيفًا. فاقتربت الأمة تحمل في يديها حوضًا وأبريقًا. وبعد أن غسل يديه، تناول الكأس من زوجته، وصلى واقفًا وسط الساحة، وسكب الخمر متطلعًا إلى السماء، قائلًا بصوتٍ مرتفع: «أبتاه زوس، يا مَن تحكم من أيدا، أيها الأمجد، أيها الأعظم، اكتب لي أن أجد ترحيبًا وإشفاقًا في كوخ أخيل، وأرسل طائر البشرى — أسرع رسول وأعز الطيور لديك، وأشدها قوة — ليظهر فوق يمناي، حتى إذا ما رأيت العلامة بعيني رأسي، وثقت بأمرك، وانطلقت في طريقي إلى سفن الدانيين ذوي الجياد السريعة.» وإذ صلى هكذا، سمعه زوس المستشار، فأرسل في الحال نسرًا — هو أعظم العلامات تأكيدًا بين الطيور المجنحة، النسر الأشعث الصياد، الذي يسميه البشر النسر الأسود — وبقدر امتداد باب الخزانة العالية السقف، خزانة الرجل الغني ذات الأبواب المحكمة الإغلاق بالمزاليج، كذلك كان جناحا الطائر يمتدان إلى هذا الجانب وذاك، فظهر — إلى اليمين — فوق المدينة. فلما رأوه طفحت قلوبهم غبطة وسرورًا.
رحيل بريام!
وفي الحال أسرع الشيخ يعتلي عربته، وقادها بعيدًا عن الأبواب والرواق الفسيح. ومن الأمام جرَّت البغال العربة ذات العجلات الأربع، يسوقها أيدايوس الحكيم القلب، ومن الخلف أقبلت الجياد، يسوقها الرجل الهرم بسرعةٍ خلال المدينة، وقد تبعه جميع أقربائه يبكون عاليًا، وكأنهم يبكون شخصًا يسعى إلى حتفه. فلما ابتعد بريام وتابعه عن المدينة وبلغا السهل، قفل أبناء بريام وأزواج بناته راجعين إلى طروادة. ولم يكن زوس قد فطن إلى بريام وزميله وهما يتقدمان فوق السهل. بيد أنه لم يكد يبصره، حتى أشفق عليه، وخاطب ابنه العزيز هيرميس قائلًا: «أي هيرميس، بما أنك تفوق غيرك رغبة في مرافقة البشر، وتعير من تحب أذنًا صاغية، فاصحب بريام إلى سفن الآخيين الجوفاء، ولا تجعل أحدًا يراه من الدانيين أو يفطن إليه، حتى يصل إلى ابن بيليوس!»
هكذا قال، فلم يتردد الرسول «أرجايفونتيس» في الإصغاء إليه، وانتعل لفوره نعليه الذهبيين الجميلين الخالدين، اللذين كانا يحملانه فوق مياه البحر، وعلى أديم الأرض الفسيحة، بسرعة الريح. وتناول الصولجان الذي ينيم به عيون من يشاء، ويوقظ به عيون آخرين. وطار «أرجايفونتيس» القوي — والصولجان في يده — فبلغ أرض طروادة بسرعة، وكذلك الهيليسبونت. وانطلق في صورة أمير شاب، يتدلَّى شاربه الرقيق فوق شفته، ويتجلى في محياه سحر الشباب. فلما شاهده الآخران خلف ربوة طروادة العظيمة، أوقفا البغال والجياد عند النهر لتستقي؛ إذ كان الظلام يُخيِّم على الأرض. عندئذٍ أطل التابع، ففطن إلى وجود هيرميس قريبًا جدًّا، فقال لبريام: «تنبَّه يا ابن داردانوس، فها هو ذا أمر يتطلب منك التفكير السديد. إني أرى رجلًا مقبلًا، وأعتقد أننا سرعان ما سنمزق إربًا. هلمَّ لنهرب بالعربة، أو على الأقل نمسك ركبتيه ونتوسل إليه أن يرحمنا!»
وإذ قال هذا، اضطرب عقل الرجل العجوز، وتفاقم أساه، وتصلب الشعر فوق أطرافه الغضة، ووقف حائرًا مبهوتًا، ولكن المعين أقبل من تلقاء نفسه، وأمسك بيد الشيخ الهرم، وسأله بقوله: «أبتاه، إلى أين تسرع بجيادك وبغالك هكذا في دجى الليل الخالد، بينما ينام غيرك من البشر؟ ألا ترهب الآخيين الذين يلقون الرعب في النفوس، أولئك الأعداء العديمي الرحمة القريبين جدًّا منك؟ لو أن أحدهم رآك تحمل مثل هذه النفائس في بهيم الليل الداجي، فماذا تراك فاعلًا؟ وأنت لست فتيًّا، وزميلك رجل وهن عظمه، فلن يستطيع الدفاع عنك، أو حمايتك من رجلٍ يبادرك بالعدوان. أما أنا، فلن أمسَّك بسوء، بل سأذود عنك ضر الآخرين؛ إذ أراك شبيهًا بأبي العزيز.»
فرد عليه بريام الشيخ — الشبيه بالإله — قائلًا: «إن الأمور لتجري كما قلت يا ولداه. ولا بد أن يكون هناك إله ما يشرف عليَّ، إذ أرسل لي مرشدًا مثلك يصحبني، ذا بركة، جميل المحيا، لطيف الحديث، وفضلًا عن كونك حكيم القلب، فلا بد أنك تنحدر من أبوَين مباركَين.»
فعاد الرسول «أرجايفونتيس» يتحدث إليه قائلًا: «صواب جميع ما قلت، ولكن أخبرني — وصارحني القول — أتحمل هذه الكنوز العديدة والنفائس الفريدة إلى شعب غريب، لتحفظها وديعة هناك، أم آن لكما الأوان أن تهجرا طروادة المقدسة في هلع، بعد أن هلك بطل بالغ العظمة، هو أشرف الجميع، ابنك الذي لم ينثنِ عن محاربة الآخيين؟» فأجابه بريام الشيخ — الشبيه بالإله — قائلًا: «من أنت أيها الشاب النبيل، ومن أي أبوين تنحدر؟ فإني أراك تتحدث هكذا بمنتهى الكياسة عن مصير ابني التعيس.» وإذ ذاك، قال له الرسول أرجايفونتيس: «إنك لا تختبرني — أيها السيد الشيخ — بسؤالك إياي عن هكتور العظيم، فكثيرًا ما رأته عيناي في القتال، حيث يفوز الرجال بالمجد. وكان يسوق الأرجوسيين إلى السفن، حيث يقتلهم بالبرونز الحاد، فكنا نقف هناك ونعجب من أخيل إذ لا يأمرنا بالقتال، قد امتلأ سخطًا على ابن أتريوس. إنني تابعه، وقد حملتنا إلى هنا نفس السفينة المتينة الصنع. إنني أحد المورميدون، ابن بولوكتور الغني بالمادة، والمسن مثلك، وله ستة أبناء أنا سابعهم. فلما تقاسمنا بالأزلام، وقع عليَّ الاختيار أن أدلج إلى هنا. فها أنا ذا أجيء الآن إلى السهل من السفن؛ لأن الآخيين سيدبرون — في الفجر — معركة حول المدينة، وقد سئموا الجلوس هناك خاملين. ولا يستطيع ملوك الآخيين أن يكبحوا جماح تلهفهم إلى الحرب!»
وهنا قال الشيخ بريام، الشبيه بالإله: «إذا كنت تابع أخيل بن بيليوس حقًّا، فتعالَ وخبرني بالحق. هل ما زال ولدي حتى الآن بجانب السفن، أم أنه مزقه إربًا، ورمى به إلى الكلاب؟» فأجابه الرسول أرجايفونتيس، قائلًا: «كلَّا يا سيدي الشيخ، لم تنهشه الكلاب أو الطيور بعد، فهو ما زال موجودًا هناك بجانب سفن الآخيين — وسط الأكواخ — كما كان أولًا. وهذا هو اليوم الثاني عشر لوجوده هناك، ولكن لحمه — مع ذلك — لم يفسد قط، ولم تأكله الديدان، كما تأكل من يتردون في ميدان القتال. حقًّا أن أخيل يجره بلا رحمة حول رابية صديقه الحميم. كلما بزغ الفجر المقدس، ولكن جسمه لم يشوَّه رغم ذلك. وإنك لتعجب إذا ذهبت ورأيت كيف يرقد ناضرًا مبللًا بالندى، ونظيفًا من الدم، لم يتسخ جسمه في أي موضع، وجميع جراحه — التي أصيب بها — ملتئمة، رغم كثرة من غيبوا البرونز في جسده، فلا بد أن الآلهة المباركين يهتمون بابنك، رغم كونه جثة هامدة، إذ كان عزيزًا على قلوبهم!»
وإذ علم الشيخ بهذا، اغتبط وقال: «أي بني، ما أجمل أن تقدم للخالدين ما يستحقون من قرابين وهدايا! فما حدث قط أن نسي ابني في ساحاتنا — طوال حياته — الآلهة المقيمين في أوليمبوس؛ ولذلك حفظوا له هذا الصنيع بالرغم من موته! هلم، يا بني، خذ مني هذه الكأس البديعة، واحرسني حتى تصل بي — بسرعة الآلهة — إلى كوخ ابن بيليوس.» فخاطبه الرسول أرجايفونتيس قائلًا: «إنك تمتحنني أيها السيد الشيخ، لأنني أصغر منك سنًّا، ولكنك لن تغلبني. كأني بك تحرضني على أن آخذ منك هدايا لا يعلم أخيل عنها شيئًا! إنني أخاف وأستحي في قلبي أن أغشه، حتى لا يصيبني شر فيما بعد. ومع كل، فسأصحبك كمرشد حتى تبلغ أرجوس المجيدة، وأخدمك بإخلاص، سواء في سفينة سريعة أو سيرًا على الأقدام، ولن يستخف أحد بقيادتي ويهجم عليك.»
قال المساعد هذا، ثم وثب يعتلي العربة خلف الجياد، وأمسك السوط والأعنة، ونفث في الجياد والبغال قوة عظيمة. فلما وصلت إلى الأسوار والخندق الذي يحرس السفن، كان المراقبون منهمكين في إعداد عشائهم، فسكب الرسول أرجايفونتيس النوم فوق كل هؤلاء، وفتح الأبواب في الحال، ودفع المزاليج إلى الخلف، وأدخل بريام والهدايا الرائعة الموجودة بالعربة. وسارا حتى بلغا كوخ ابن بيليوس، ذلك الكوخ الشاهق الذي بناه المورميدون لمليكهم، وقطعوا له أخشابًا من شجر الصفصاف، وجمعوا الأعشاب من المروج فصنعوا له منها سقفًا، وجعلوا لمليكهم حوله ساحة كبرى ذات أعمدة عظيمة، يغلق بابها بمزلاج واحد من خشب الصفصاف. وكان الباب يتطلب عادة ثلاثة من الآخيين، حتى يدفعوه إلى الوراء، وثلاثة آخرين لجذب المزلاج الضخم. أما أخيل فكان يدفعه إلى الداخل وحده. كذلك فتح هيرميس المعين الباب للشيخ، وأدخل الهدايا المجيدة لابن بيليوس السريع القدمين، وهبط إلى الأرض، وقال: «سيدي العجوز، إنني — أنا الذي جئت إليك — إله خالد، إنني هيرميس، وقد أوفدني إليك الأب لأرشدك في طريقك. والآن. سأعود أدراجي، حتى لا يراني أخيل. فمن دواعي النقمة أن يبدي إله خالد إكرامًا للبشر الفانين. ادخل وأمسك ركبتَي ابن بيليوس وتوسل إليه بأبيه وأمه الجميلة الشعور وولده، كي تحرك في نفسه عاطفة الشفقة.»
بين بريام وأخيل!
وإذ قال هيرميس هذا، رحل إلى أوليمبوس الشامخ. وقفز بريام من عربته إلى الأرض، فترك أيدايوس ممسكًا بالجياد والبغال، وانطلق فورًا صوب المنزل الذي اعتاد أخيل — حبيب زوس — أن يجلس فيه. ووجده جالسًا هناك، ولم يكن معه سوى المحاربَين أوتوميدون والكيموس — نسل أريس — منهمكين في خدمته. وكان قد انتهى منذ فترة وجيزة من الطعام والشراب، ولكن المائدة كانت لا تزال قائمة إلى جانبه. فدخل بريام دون أن يراه هؤلاء. وما إن اقترب من أخيل، حتى أمسك ركبتَيه بيدَيه، وقبَّل يدَيه البشعتَين — قاتلتَي البشر — اللتَين قتلتا أبناءه العديدين. وكما يحدث عندما يحل عمى القلب على من يقتل إنسانًا في وطنه، ثم يهرب إلى أرض الغرباء، ويلجأ إلى بيت أحد الأثرياء، فيتملك العجب من يبصرونه، هكذا تملك العجب أخيل عند رؤيته بريام — الشبيه بالإله — كما تملك الآخرين أيضًا، فراح كلٌّ منهم ينظر إلى الآخر! ولكن بريام استمر في توسله قائلًا: «تذكر أباك يا أخيل الشبيه بالآلهة، أباك الذي في عمري، على عتبة الشيخوخة المفجعة. إنه مثلي تمامًا، يقصر من حوله من الناس في معاملته، وليس هناك من يدفع عنه الخراب والهلاك، ولكنه مع ذلك يسر عندما يبلغه أنك لا تزال حيًّا، ويأمل — يومًا بعد يوم — أن يرى ابنه العزيز عائدًا من أرض طروادة. أما أنا، فإنني غير مبارك قط؛ إذ إنني أنجبت أبناء كانوا خير من في أرض طروادة الفسيحة، ولكن أحدًا منهم لم يبقَ لي، كان لي خمسون ابنًا عندما قدم أبناء الآخيين: تسعة عشر ولدوا لي من رحم واحد، والآخرون أنجبتهم نساء القصر الأخريات. فأرخى أريس سيقان كثير من هؤلاء. والذي بقيَ لي ليحرس وحده المدينة والبشر بنفسه، قتلته أنت أخيرًا وهو يدافع عن وطنه، وأعني هكتور! لهذا جئت إلى سفن الآخيين لأسترده منك، وقد حملت لك معي فدية تفوق الحصر. اتقِ الآلهة يا أخيل وارحمني، وتذكر أباك. إنني منكوبٌ أكثر مما هو بمراحل، كما أني تحملت ما لم يتحمله إنسان آخر على وجه الأرض. فإنني أمد يدي إلى قاتل أبنائي!»
هكذا قال، فأثار في أخيل الرغبة في البكاء من أجل أبيه، وأمسك بيد الشيخ فأبعده عنه برفق. ثم أخذا يتذكران في موتاهما، وبكيا، بكى هذا بكاءً حارًّا — من أجل هكتور قاتل البشر — وهو يحبو عند قدمَي أخيل، بينما بكى أخيل أباه مرة، بكى باتروكلوس مرةً أخرى. وارتفع نحيبهما في جميع أرجاء المنزل. وبعد أن بكى أخيل كفايته، وسرى الحنين عن قلبه وأطرافه، انتصب واقفًا من مقعده، وأقام الرجل المسن من يده، مشفقًا على رأسه الأشيب ولحيته البيضاء، وتحدث إليه بكلمات مجنحة قائلًا: «آه، أيها الرجل التعيس، الحق أنك تحملت نكبات كثيرة. كيف واتتك الشجاعة لتحضر بمفردك إلى سفن الآخيين، وتلتقي بي، أنا الذي قتلت أبناءك العديدين؟ حقًّا، إن قلبك لمن حديد! هيا، استرح واجلس على مقعد، ولنهدئ من أحزان قلبَيْنا، رغم ما بنا من آلام، فلا فائدة من البكاء الحاد. فهكذا نسج الآلهة الخيط للبشر المنكودين، الذين يتحتم عليهم أن يقاسوا الآلام، بينما لا يعرف الآلهة الحزن! ذلك أن على أرض زوس قارورتَين مملوءتَين بالهدايا التي يمنحها، إحداهما للسيئات والأخرى للحسنات. فمن أعطاه زوس — الذي يقذف الصاعقة — حظًّا مختلطًا، لقي الشر حينًا، والخير حينًا آخر. أما الذي لا يمنحه إلا من قارورة السيئات، فإنه يغدو محتقرًا من البشر، ويتولاه الجنون الفظيع فوق سطح الأرض المقدسة، فيهيم على وجهه غير مبجَّلٍ من الآلهة أو البشر! هكذا منحت الآلهة بيليوس الهدايا المجيدة منذ ميلاده؛ إذ كان يفوق جميع الناس ملكًا وثروة، وكان ملكًا على المورميدون. وبالرغم من كونه بشرًا، فقد زوجته الآلهة ربة، ومع ذلك فإن الآلهة جلبت عليه الشر؛ إذ لم تدع أحدًا من نسله الأمراء ينشأ في قصره. وإنما أنجب ابنًا واحدًا، كُتب له الموت في غير أوان؛ إذ إنني لا أرعاه في شيخوخته، بل أقيم بعيدًا عن وطني — في أرض طروادة — جالبًا الكدر عليك وعلى أولادك وقد سمعنا عنك، أيها السيد الشيخ. إنك مبارك منذ القدم. وكنت سيدًا — بسبب ثروتك وأبنائك — على جميع البلاد الممتدة إلى البحر، وتضم لسبوس — حيث عرش ماكار — وفروجيا، في المرتفعات، والهيليسبونت الفسيح، ولكن آلهة السماء جلبت عليك هذا البلاء، وجعلت المعارك وسفك دماء البشر حول مدينتك بغير انقطاع. تحمَّل يا سيدي، ولا تستسلم للبكاء، فلن يجديَك الحزن على ولدك شيئًا، ولن يعيده إلى الحياة، وإلا مسَّك — قبل ذلك — شرٌّ آخر!»
فأجابه العجوز، بريام الشبيه بالإله، بقوله: «لا تجلسني على كرسي يا سليل زوس، طالما أن هكتور ملقًى وسط الأكواخ. كلا، رده إليَّ بسرعة، كي تراه عيناي. وتفضل بقبول الفدية الكبيرة — التي أحضرتها — عسى أن تسر بها، وتعود إلى وطنك، ما دمت قد أبقيت عليَّ من البداية.» فقطب أخيل حاجبَيه غاضبًا وقال: «لا تستفزني بعد ذلك، أيها السيد الشيخ، فإني عازم — من تلقاء نفسي — على أن أرد إليك هكتور، إذ جاءني رسول من عند زوس والأم التي أنجبتني، ابنة عجوز البحر. أما أنت يا بريام، فإنني أحس في قلبي — ولا يخف عليَّ قط — أن إلهًا ما قد رافقك إلى سفن الآخيين السريعة. فما من إنسان يجرؤ على المجيء وسط الجيش، ما لم يكن فتيًّا وقويًّا، وإلا لما نجا من الرقابة، ولما سهل عليه أن يجذب إلى الخلف مزلاج أبوابنا؛ ومن ثم فلا تثر شجون قلبي بعد ذلك — أيها الشيخ — خشية ألَّا أفلتك أنت أيضًا داخل أكواخي، رغم قدومك إليَّ متضرعًا، وبذلك أقترف إثمًا في حق زوس.»
هكذا تكلم، فاستولى الخوف على الشيخ، ورضخ لقوله. وقفز ابن بيليوس كالأسد بعيدًا عن المنزل، ولم يكن وحده، بل ذهب معه تابعان، هما المحاربان أوثوميدون والكيموس، اللذان كان أخيل يبجلهما أكثر من جميع أصدقائه، بعد موت باتروكلوس. فخلى هؤلاء الجياد والبغال من تحت النير، وقادا تابع الملك الشيخ إلى الداخل، وأجلساه على مقعد، وحملاه الفدية التي لا حصر لها من العربة ذات العجلات العظيمة، مقابل رأس هكتور، تاركين فيها رداءَيْن وعباءة بديعة النسج، كي يلف فيها أخيل الميت لينقل إلى وطنه. ثم استدعى أخيل الإماء وأمرهن بغسل جسد الميت وتعطيره. فحملنه إلى مكان منعزل كي لا يراه بريام، خشية ألَّا يستطيع السيطرة على حقده إبان حزن قلبه — عندما يرى ابنه — فيهيج غضب أخيل ويقتله، وبذلك يأثم في حق زوس. فلما فرغت الإماء من غسل الجثة ودهنها بالزيت، ألبستها معطفًا جميلًا وعباءة. ثم رفعها أخيل ووضعها فوق المنصة، وساعده أصدقاؤه في وضعها على العربة المصقولة. ثم أطلق أخيل أنينًا، ونطق باسم صديقه العزيز قائلًا: «لا تغضب مني يا باتروكلوس، فقد سمعتك في بيت هاديس تلومني على تسليمي هكتور العظيم إلى أبيه العزيز، إن الفدية التي أعطانيها جديرةٌ بك، وسأجعل لك منها ما يليق بك!»
وإذ قال أخيل العظيم ذلك، عاد ثانية إلى داخل الكوخ، وجلس على المقعد الفاخر الصنع، الذي كان قد نهض عنه، وتحدث إلى بريام قائلًا: «ها قد رددت إليك ابنك، أيها السيد الشيخ، حسب رغبتك. إنه فوق محفة، وعند الفجر ستراه بنفسك، وتحمله من هنا. أما الآن فلننصرف إلى العشاء. فإن نيوبي الجميلة الشعر لم تنصرف عن الطعام، رغم موت اثني عشر طفلًا في قصرها؛ ست بنات وستة بنين أشداء. أما البنون، فإن أبولو كان قد قتلهم بسهامٍ من قوسه الفضية، إذ كان غاضبًا من نيوبي، وأما البنات، فقد قتلتهن القواسة أرتيميس؛ لأن نيوبي كانت تحدِّث ليتو الجميلة الخدين بقولها إن الربة لم تنجب سوى اثنين، بينما هي أم منجبة، وهكذا فتك الربان بأبناء نيوبي جميعًا، فظلوا راقدين في دمائهم تسعة أيام، ولم يكن هناك من يدفنهم، لأن ابن كرونوس أحال القوم أحجارًا. حتى إذا كان اليوم العاشر، تولت الآلهة دفنهم، وفكرت نيوبي في الطعام؛ لأنها كانت متعبة من كثرة البكاء والدموع التي ذرفتها بغزارة. ورغم أنها الآن في مكان ما وسط الصخور، فوق الجبال المنعزلة، في سيبولوس — التي يقول الناس إن فيها مخادع الربات، الحوريات اللائي يرقصن بسرعة حول أخيلوس — ورغم أنها حجر، إلا أنها لا تزال تفكر في المحن التي جاءتها من لدن الآلهة. فلننصرف نحن أيضًا إلى الطعام، أيها الشيخ النبيل، وفيما بعد تنتحب على ولدك العزيز عندما تحمله إلى طروادة. فلسوف تبكيه بدموع سخينة!»
وما إن قال أخيل السريع ذلك، حتى هب واقفًا، وذبح خروفًا أبيض الجزة، وقام أصدقاؤه بسلخه وإعداده جيدًا كما يجب، وقطعوه شرائح بمهارة، وسفدوا الشرائح، وشووها بعناية، ثم أخرجوها كلها من السفود. وجاء أوتوميدون بالخبز، فوضعه على المائدة في أسقاط بديعة، بينما تولى أخيل أمر اللحم؛ ومن ثم مدوا أيديهم إلى الطعام الفاخر المعد أمامهم. وبعد أن أشبعوا رغبتهم في الطعام والشراب، أعجب بريام بن داردانوس بأخيل؛ فما كان أجمله، وما كان أعظمه! كان المرء يخال أنه يرى إلهًا في شخصه! كذلك أعجب أخيل ببريام بن داردانوس؛ إذ كان مهيب الطلعة وهو يتطلع إليه ويصغي إلى حديثه. وبعد أن فرغا من النظر — كلٌّ منهما إلى الآخر — كان بريام الهرم، الشبيه بالإله، أول من تكلَّم، قائلًا: «أرني فراشي بسرعة، يا سليل زوس، حتى يمكننا — وقد داعب النوم أجفاننا — أن نستريح ونحظى بمتعة النعاس، فإن عينَيَّ لم تذوقا النوم منذ أن فقد ابني حياته على يدَيك، بل كنت دائم البكاء والتفكير العميق في أحزاني العديدة، وأنا أحبو وسط الأقدار في الأماكن القريبة من القصر. أما الآن فقد ذقت طعم اللحم، وشربت الخمر، بعد أن كنت على الطوى!»
وأمر أخيل أصدقاءه وإماءه بإعداد الأسرَّة تحت الدهليز، وفرشها بالملاءات الأرجوانية الجميلة، وتزويدها بالأغطية، وإعداد العباءات الصوفية فوقها ليلبسوها في نومهم. وفي الحال خرجت الإماء من القاعة يحملن المشاعل في أيديهن، وبسطن فراشين بهمة سريعة. وإذ ذاك، قال أخيل — السريع القدمين — لبريام، في تهكم: «ارقد في الخارج، أيها الشيخ العزيز — لئلا يأتي إلى هنا أحد مستشاري الآخيين — الذين اعتادوا المجيء إلى جانبي لتبادل المشورة — فلو أن أحدهم لمحك في دجى الليل، فقد يبلغ الأمر إلى أجاممنون — راعي الجيش — فيعرقل تسليم الجثة. والآن خبرني، اصدقني القول: كم يومًا تعتزم إقامة الواجبات الجنائزية نحو هكتور العظيم، حتى أكبح جماح الجيش طيلة هذه المدة؟» فأجاب بريام العجوز — الشبيه بالإله — قائلًا: «إذا كنت تريدني حقًّا على أن أقيم فروض الدفن لهكتور العظيم، إذن فاعمل حسب رغبتي يا أخيل، حتى أستطيع أداءها. إنك تعرف أننا محبوسون داخل المدينة، بعيدًا عن الجبل الذي نقتطع منه الأخشاب. وإن الطرواديين لفي ذعر بالغ، سنبكيه في بيوتنا تسعة أيام، وسندفنه في اليوم العاشر، ونولم الولائم للقوم، ونقيم فوق فقيدنا رابية، في اليوم الحادي عشر، ثم سنقاتل في الثاني عشر، إذا اقتضى الأمر.»
فرد عليه أخيل العظيم، السريع القدمين، بقوله: «فليكن ما تريد، يا بريام الشيخ، وسأرجئ القتال إلى الأجل الذي تطلبه!» قال هذا، وأمسك يمنى الرجل العجوز من رسغها، حتى لا يتطرق الخوف إلى قلبه. ثم استلقيا ليناما في الساحة الخارجية للقصر — بريام وتابعه — بقلبين زاخرين بالطمأنينة بينما رقد أخيل بداخل الكوخ المتين البناء ونامت إلى جواره بريسايس الجميلة الخدين.
ونام جميع الآلهة والبشر — سادة العربات — طوال الليل، وقد غلبهم النعاس الرقيق، ما عدا هيرميس المعين، فإن الكرى لم يقترب منه، بل راح يفكر في كيفية العودة بالملك بريام بعيدًا عن السفن، دون أن يراه حراس الأبواب الأقوياء. فوقف عند رأسه وتحدث إليه قائلًا: «سيدي الشيخ، إنك لا تفكر الآن في أي شر، وأنت تنام هكذا وسط العدو؛ لأن أخيل أبقى عليك، وصحيح أنك افتديت ابنك بثمن باهظ، ولكن حياتك أنت قد تكبد أولادك — الذين خلفتهم وراءك — ثلاثة أضعاف هذه الفدية، إذا علم بأمرك أجاممنون بن أتريوس، أو جيش الآخيين!»
فما إن سمع الشيخ هذا حتى ذعر، فأيقظ التابع، ووضع هيرميس لهما الجياد والبغال تحت النير، وساقها بنفسه بخفة عبر المعسكر دون أن يفطن إليهم أي رجل. حتى إذا بلغوا مخاضة النهر الصافي الجريان — كسانثوس الدوام، الذي أنجبه زوس الخالد — رحل هيرميس إلى أوليمبوس القريب، بينما انتشر الفجر الزعفراني الثوب، على سطح الأرض كله. فقادا الجياد باكيين إلى المدينة، وقد حملت البغال الميت. ولم ينتبه إليهما أي فرد — سواء أكان رجلًا أو امرأة جميلة الزنار — ولكن كاساندرا، نظيرة أفروديت الذهبية، صعدت فوق بيرجاموس، فرأت أباها العزيز واقفًا داخل العربة مع التابع — منادي المدينة — كما رأت ذلك الراقد فوق المحفة داخل العربة التي تجرها البغال. فأطلقت صرخة حادة، وراحت تصيح في جميع أرجاء المدينة قائلة: «هلموا يا رجال طروادة ونساءها، هيا إلى مشاهدة هكتور، الذي كان يسركم أن تروه عائدًا — من المعركة — حيًّا، فقد كان مصدر فرح عظيم للمدينة وسائر الشعب!»
ما إن قالت هذا، حتى لم يبقَ داخل المدينة رجل واحد ولا امرأة، فقد ألمَّ بالجميع حزن لا سبيل إلى احتماله، فهُرعوا إلى الأبواب يستقبلون بريام، وهو يحمل الميت إلى وطنه. فجاءت أولًا زوجة هكتور العزيزة وأمه الجليلة، وارتمتا على العربة السريعة الجري، وأمسكتا رأسه في وقت واحد، وهما تبكيان وتمزقان شعورهما. وانقض القوم حولهما ينتحبون. وظلوا اليوم بطوله يبكون هكتور حتى مغيب الشمس، ذارفين الدموع السواجم خارج الأبواب. وأخيرًا تكلَّم الشيخ من العربة، قائلًا: «أفسحوا طريقًا لمرور البغال، ثم ابكوا — بعد ذلك — ما شاء لكم أن تبكوا — بعد أن نقله إلى المنزل.» فلما قال هذا، انتحى القوم جانبًا وأفسحوا طريقًا للعربة، أما الآخرون، فبعد أن حملوه إلى المنزل المجيد، وأرقدوه فوق فراش موشًّى، وإلى جانبه وقف خير النائحات اللواتي ينشدن المراثي أثناء النحيب، ورحن ينشدن، فاستغرقت النساء حولهن في العويل. وفي وسط أولئك، بدأت «أندروماخي» — البيضاء الساعدين — النحيب، حاملة طوال الوقت رأس هكتور قاتل البشر بين ذراعيها، وهي تقول: «وا زوجاه، يا من تركت الحياة وأنت في ريعان شبابك، وتركتني في قصرك أرملة، وما زال ابنك طفلًا! ذلك الابن، الذي ولد لأبوين منكودين — أنا وأنت — وما أظنه سيبلغ سن الرجولة؛ إذ ستكون هذه المدينة قد خربت عن بكرة أبيها، قبل ذلك؛ لأنك مت يا من كنت تحرسها، وتصون زوجاتها النبيلات وأطفالها الصغار. هؤلاء — كما أعتقد — سرعان ما سيؤخذون في السفن الجوفاء، وأنا بينهم، وأنت يا ولدي، ستتبعني إلى مكانٍ تقوم فيه بأعمال لا تليق بك، كادحًا تحت رحمة سيد خلا من الشفقة، أو قد يلقي القبض عليك أحد الآخيين، ويقذف بك من أعلى السور — فيا لها من ميتة بشعة! — في نقمته على هكتور الذي ربما كان قد قتل أخاه أو أباه أو ابنه؛ إذ إن كثيرًا من الآخيين قد عضوا الأرض الفسيحة بأسنانهم على يد هكتور؛ لأن أباك لم يكن قط رحيمًا في الحرب البغيضة؛ ولذا يبكيه القوم في كل مكان بالمدينة! أي هكتور، لقد جلبت على والديك همًّا وحزنًا لا يوصفان، وتركت لي محنًا مفجعة أكثر مما أصاب جميع الأخريات. فما عدت تمد لي يديك من فراشك بعد موتك. ولا تحدثني بأية كلمة حكيمة أفكر فيها ليلًا ونهارًا، وأنا أسكب الدموع!»
ثم نهض الشيخ بريام يتحدث وسطهم، قائلًا: «هيا، يا رجال طروادة، أحضروا الحطب الآن، وانطلقوا إلى المدينة دون خوفٍ ولا وجل، فلن ينصب لكم الأرجوسيون كمينًا؛ إذ وعدني أخيل — عندما شيعني من السفن السوداء — أنه لن يقوم حيالنا بأي عمل عدائي، إلا عندما يحل فجر اليوم الثاني عشر!» فما إن قال هذا، حتى وضعوا النير فوق أعناق الثيران والبغال، وشدوها إلى العربات، واحتشدوا معًا بسرعةٍ أمام المدينة. واستمروا يجلبون كميات هائلة من الحطب لمدة تسعة أيام. حتى بزغ فجر اليوم العاشر، ينشر الضوء على البشر، فحملوا هكتور الجريء، وهم يذرفون الدموع، ووضعوه فوق كومة الحطب، وأشعلوا النار!
وما إن عاد الفجر المبكر — ذو الأنامل الوردية — ثانية، حتى احتشد القوم حول كومة حطب هكتور المجيد، ثم أخذوا يخمدون لهيب كومة الحطب بالخمر، بقدر ما كانت النيران قد بلغت قمتها. وبعد ذلك شرع إخوته وأصدقاؤه يجمعون العظام البيضاء، وهم ينتحبون، والدموع تجري غزيرةً على خدودهم. ثم وضعوا العظام في قارورة ذهبية، ولفوها بأثواب أرجوانية ناعمة، وأسرعوا بوضع القارورة في كهف عميق، غطوه بأحجار ضخمة، رصوها حجرًا بجانب آخر. وهكذا ارتفعوا بالرابية في سرعةٍ ووضعوا حولها المراقبين من كل جانب، خشية أن ينقض عليهم الآخيون المدرعون جيدًا، قبل الميعاد. ولما انتهوا من إقامة الرابية، اجتمعوا سويًّا، وأولموا وليمة مجيدة في قصر بريام، الملك المنحدر من زوس.
وهكذا أقاموا الطقوس الجنائزية لهكتور مستأنس الجياد.