تتمة المحاضرة التاسعة: الحفظ والتدوين
قد علمنا أن الأمة العربية في زمن الجاهلية لم تكن من الكتابة في شيء، ونزيد الآن أنها لم تكن منذ برأها الله حتى منبثق فجر الإسلام تعرف من العلوم إلا ما تقضيه أدنى معيشة، كتربية بعض الدواب، وانتجاع منازل الغيث، والعلم بالأنساب، وبرمي السهام، والحداء، وغير ذلك من المبادئ التي لا يسع البدوي جهلها. فلما نزلوا ديار من اكتنفهم من الروم والفُرس والحبش، وهاجر إليهم ناس من اليهود والأنباط ممن سامتهم أمم العسف والجور سوء العذاب، وبدلت حالهم التي كانوا عليها غير الحال، ابتنوا الدور، وشادوا السدود، ولبسوا الخز والديباج، ونظروا في السموات والأرض وفي أنفسهم على قدر استطاعتهم، «إلا قليلًا منهم ممن كانوا عن هؤلاء الأمم مبعدين»، غير أن نصيبهم من هذه العلوم كان قليلًا، فلم يبلغوا فيها إذ ذاك مبلغًا يضطرهم إلى التدوين، فكانوا يكتفون فيها بالحفظ، ولم يفطنوا للتدوين لقلة حاجتهم إليه.
كان العرب مغرمين بالأنساب والشعر، فكانوا يقيمون للمفاخرة وإنشاد الأشعار الأسواق، ويقعدون لها كل مرصد، فترفع الأنساب وتنشد الأشعار، وما كانوا على شيء أحرص منهم على حفظها؛ لأن فيها مدحهم وهجاءهم، وفخرهم وحروبهم وأنسابهم، وغير ذلك مما لا يعنون إلا به، فكان الشعر وهو ديوانهم، كالصحف السائرة من الأمم الراقية اليوم، ولقد برزوا في هذين النوعين التبريز كله، حتى بذُّوا فيهما كل الأمم، وبلغوا منهما ما لا يُدرك، ومع كثرة الأشعار لم يدونوها لجهلهم الكتابة كما تقدم، فاكتفوا فيها بالحفظ؛ لأنهم مرنوا عليه منذ نشأتهم لاضطرارهم إليه، فصار عندهم شيئًا مألوفًا، وساعدهم عليه صفاء أذهانهم وقلة مشاغلهم الدنيوية؛ إذ كانوا يكتفون من الطعام بالتمرة، ومن الثياب بالقميص أو الإزار والرداء، ومن المسكن بالخباء، بله كثرة رياضتهم البدنية التي تقتضيها معيشتهم البدوية.
فما كان الشاعر يفرغ من تلاوة قصيدته على ملأ من قومه حتى يكون أكثرهم قد استظهرها، ومن ذلك نشأ اختلاف الروايات في القصيدة الواحدة، فإن الشاعر ينشد قصيدته على ملأ من السامعين فيحفظها منهم جماعة، فربما اختلطت كلمة أو جملة على أذن السامع فبدلها بأخرى، وربما عاب عليه آخر شيئًا في تلك القصيدة، فيغير منها ما اقتنع بوجوب تغييره، ثم يمر الراوي بآخرين فيُسمِعهم تلك القصيدة بالألفاظ المغيرة، فيحفظها كذلك منهم نفر فتختلف الرواية.
ولما تنفس فجر الإسلام وأيقظ العرب من رقادهم ففتحوا البلاد وجاسوا خلال ديار أقيمت على دعائم المدنية، شالت نعامة جهلهم، فامتلأت رءوسهم علمًا، وصاروا من أعلى الأمم كعبًا فيه، غير أنه لم يكن له مأوًى في صدور الإسلام إلا صدور الرجال، فكانت الأئمة ترتجله في المحافل، ولا يتصدى للتعليم غير الحافظ، ولم تكن عنايتهم وقتئذٍ إلا بمسائل العلم وأدلته الصحيحة، ولم يكن للَّفظ نصيب من البحث والتدقيق كما له اليوم، وما كانوا يعرفون الكتب، بل كانوا ينهون الطلبة عن النظر فيها والاعتماد عليها؛ لئلا تتناولها أيدي التصحيف والتحريف أو التزوير المقصود؛ فيقعوا في شر أعمال المفسدين، أو خوفًا من أن يقصُروا همَّتهم على اللفظ دون المعنى، أو يعتمدوا على الكتب؛ فيهملوا الرواية التي هي عندهم قوام العلوم، لا سيما الأدبية والنقلية منها.
ولقد كان العلماء وقتئذٍ يفاخر بعضهم بعضًا بالحفظ، وقلمَّا يكون لأحدهم كتاب واحد يعتمد عليه فيما يزاول، وكان بعضهم يهلك كتبه خوفًا من الاتكال عليها.
يؤيد ذلك أن أول ما اشتغل به علماء العرب من العلوم هو تفهُّم القرآن وحفظ الحديث وكلام العرب، وقد أجمع العلماء أمرهم على أن هذه الأشياء الثلاثة لا بد فيها من السماع والسند الصحيح، فمن لم يسمعها بإسناد، لا يعد عالمًا فيها؛ ولذلك لا يعترف أئمة الحديث واللغة الذين حصَّلوا علمهم بالرواية، كالإمام الحافظ المرحوم الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، نزيل القاهرة في آخر أيامه، لا يعترف مثل هؤلاء لمصري بعلم الحديث واللغة؛ لانقطاع السماع عنا في هذه البلاد.
وإذ كان السماع هو العمدة في صدر الإسلام، كانت الكتب بالضرورة غير معتد بها، ولا معول عليها في شيء؛ إذ المسألة مسألة حفظ محض.
إن الصحابة والتابعين لقرب عهدهم بصاحب الشريعة الإسلامية، ولقلة الاختلاف والواقعات، ولتمكُّنهم من مراجعة الثقات؛ كانوا لكل ذلك مستغنين عن تدوين علم الشرائع والأحكام، حتى إن بعضهم كَرِه كتابة العلم، فقد رُوي عن ابن عباس أنه نهى عن الكتابة، وقال: «إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة.» وجاء رجل إلى عبد الله بن عباس — رضي الله عنه — فقال: «إني كتبت كتابًا أريد أن أعرضه عليك.» فلما عرضه عليه، أخذه منه ومحاه بالماء، فقيل له: «لماذا فعلت ذلك؟» قال: «لأنهم إذا كتبوا، اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ، فيعرض للكتاب عارض فيفوت علمهم.»
ولذلك نبغ الحُفَّاظ في هذه الأمة، وأكثرهم في الحديث والشعر واللغة، حتى كان الرجل منهم يتصدر في مجلس العلم فيُملي من محفوظه ما شاء الله، لا يرجع إلى كتاب، وتبقى أماليه مرجعًا للباحثين والطلاب، وهذه كتب الأمالي أكثر من أن تُحصر، وأشهر من أن تُذكر بالشرق وبالأندلس، وقد وصف العلماء الأمالي فقالوا: «هو جمع إملاء، وهو أن يقعد عالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيتكلم العالم بما فتح الله عليه من العلم، ويكتبه التلامذة؛ فيصير كتابًا، ويسمونه الإملاء والأمالي.»
وقد روى صاحب كشف الظنون أسماء بعض كتب في الأمالي، نروي هنا بعضها، فمنها: «الأمالي الخمسمائة» للإمام أبي سعيد عبد الكريم بن محمد السمعاني المروزي الشافعي المتوفى سنة ٥٥٢ﻫ، و«أمالي ابن الحاجب» المتوفى سنة ٦٧٢، فيه تفسير بعض الآيات، وفوائد شتى من النحو على مواضع من المفصل، ومواضع من الكافية في غاية من التحقيق، و«أمالي ابن حجر» العسقلاني المتوفى سنة ٨٥٢، و«أمالي ابن دريد» المتوفى سنة ٣٢١، وهي في العربية، و«أمالي ابن الشجري» المتوفى سنة ٥٧٢، وهي ثمانية مجلدات في خمسة فنون من الأدب، قال ابن خلكان: «أملاه في أربعة وثمانين مجلسًا.» و«أمالي ابن عساكر» في الحديث، وهو صاحب التاريخ الكبير، المتوفى سنة ٥٧١، و«أمالي أبي بكر» الأنباري، و«أمالي أبي العلاء» المعري المتوفى سنة ٤٤٩، وهو مائة كراسة، ولم يتمه، و«أمالي الإمام» أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الحنفي، المتوفى سنة ١٨٣، وهي في الفقه، يقال إنها أكثر من ثلثمائة مجلد، و«أمالي جار الله» الزمخشري، و«أمالي الزجَّاج في النحو»، وهو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد النحوي، المتوفى سنة ٣١٢، وهي ثلاثة: الكبرى، والوسطى، والصغرى، و«أمالي القالي في اللغة» وهو الشيخ أبو علي إسماعيل بن القاسم اللغوي المتوفى سنة ٣٥٦.
ولما كانت عناية القوم منصرفةً إلى الحديث، كثر الحُفَّاظ في هذا الفن، وأتوا بالغرائب وبالبدائع، فقد كان معظمهم لا يرجع إلى كتاب ولا يقتني كتابًا كما قلنا ذلك قبلًا، وإنما يتفجر علمهم من المحفوظ في صدورهم، ولم يكن الرجل يستحق لقب الحافظ إلا إذا بلغ محفوظه من ثلاثة آلاف فما فوق، ونشير من باب الدلالة إلى بعض أفراد من الحُفَّاظ مثل: ابن غياث الكرخي الذي حفظ ثلاثة آلاف حديث، وابن درهم الذي حفظ أربعة آلاف حديث، وابن عُيَينة الذي حفظ سبعة آلاف حديث، وأما الذين اشتهروا بحفظ عشرة آلاف فهم كثيرون مثل: شعبة، وحماد الربعي، والمروزي، وغيرهم، وهنالك من ضاعف هذا العدد مثل: أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي، وابن عياش، والإسفرايني، وأما سفيان الثوري فكان يحفظ ثلاثين ألف حديث، وأبو خالد بن يزيد بن هارون كان يقول: «أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بالإسناد ولا فخر، وأحفظ للشاميين عشرين ألفًا لا أُسأل عنها.» وأما الختلي البغدادي، والعبدي البصري؛ فكانا يحفظان خمسين ألفًا، وابن أبي عاصم نهب الزنج كتبه في فتنة بالبصرة، فأعاد من حفظه خمسين ألفًا، وأما البخاري فكان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، ونهاية ما وصل إليه البشر ما بلغه ابن حنبل، قالوا: «إنه حفظ ألف ألف حديث.»
كذلك كان شأنهم في الأدب واللغة، فقد أملى ابن الأنباري من غريب الحديث من محفوظه ما ملأ خمسة وأربعين ألف ورقة، وكان يحفظ ثلثمائة ألف بيت شاهدًا للقرآن، وابن أبي هاشم البغدادي أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة، خلاف الكتب الكثيرة التي صنفها من غير أن يرجع إلى كتاب.
وقد اشتهر الحُفَّاظ في الأندلس وفي المغرب، وأتوا بالعجائب والغرائب، فمنهم: ابن حزم الظاهري المشهور، وأبو العباس أحمد المقري، صاحب كتاب نفح الطيب، ومنهم عبد الواحد المراكشي، أملى بمصر التي كان فيها سنة ٦١٩ كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب، وهو من نفائس الكتب التي أرى أنها تستحق أن تكتب بماء الذهب، ويتوفر المتأدبون على قراءتها وتكريرها مرارًا عديدة، وقد أشار فيه إلى أستاذه أبي جعفر أحمد بن محمد بن يحيى الحميري، الذي كان يقرأ عليه بقرطبة كتاب الحماسة ولزمه سنين، فقال: «ما رأيت أروى لشعر قديم ولا حديث، ولا أذكر بحكاية تتعلق بأدب أو مثل سائر أو بيت نادر أو سجعة مستحسنة منه رضي الله عنه وجازاه عنا خيرًا، أدرك جلة من مشايخ الأندلس، فأخذ عنهم علم الحديث والقرآن والآداب، وأعانه على ذلك طول عمره، وصدق محبته، وإفراط شغفه بالعلم، قال لي ولده عصام: «وقد رأيت عنده نسخة من شعر أبي الطيب قُرئت عليَّ أو أكثرها فألفيتها شديدة الصحة.» فقلت له: «لقد كتبتها من أصل صحيح، وتحرزت في نقلها.» فقال لي: «ما يمكن أن يكون في الدنيا أصل أصح من الأصل الذي كتبت منه.» فقلت له: «أين وجدته؟» قال: «هو موجود الآن بين أيدينا وعندنا.» وكنا في المسجد في زاوية، فقلت له: «أين هو؟» فقال: «عن يمينك.» فعلمت أنه يريد الشيخ، فقلت: «ما على يميني إلا الأستاذ.» فقال لي: «هو أصلي، وبإملائه كتبت، كان يملي عليَّ من حفظه.» فجعلت أتعجب، فسمع الأستاذ حديثنا؛ فالتفت إلينا وقال: «فيم أنتما؟» فأخبره ولده الخبر، فلما رأى تعجبي قال: «بعيدًا أن تفلحوا، يعجب أحدكم من حفظ ديوان المتنبي، والله لقد أدركت أقوامًا لا يعُدُّون مَن حفظ كتاب سيبويه حافظًا، ولا يرونه مجتهدًا.» وتوفي أبو جعفر هذا سنة ٦١٠ﻫ.»
وقد انتشرت عادة الحفظ في جميع طبقات الأمة الإسلامية، فقد ذكر ابن خلكان أن الملك المعظم عيسى سلطان الشام ابن الملك العادل الأيوبي الفقيه الحنفي، الأديب المتوفى سنة ٦٠٤، أمر الفقهاء أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة دون صاحبيه، فجرَّدوه له في عشرة مجلدات، وسموه التذكرة، وكان لا يفارقه سفرًا ولا حضرًا، ويديم مطالعته، وذكر أنه كتب على كل جلد منه «حفظه عيسى» فقيل له يومًا: «أنت مشغول بتدبير الملك، فكيف يتيسر لك حفظ هذا المقدار؟» فقال: «كيف الاعتبار بالألفاظ؟ وإنما الاعتبار بالمعاني، باسم الله سلوني عن جميع مسائلها.» وهذا يدل على اطلاع زائد وحفظ تام، هذه العبارة رواها صاحب كشف الظنون، ولم أجدها في النسخة المطبوعة من وفيات الأعيان ببولاق، وكان لهذا الملك الهمام عناية بالأدب وأهله، وقد شرط لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة، ورأى ابن خلكان بعضهم بدمشق، وقال: «لم أسمع بمثل هذه المنقبة لغيره.»
ومن مشهوري الحُفَّاظ بالأندلس أبو حيان، ومحفوظاته ومروياته ومؤلفاته من أعجب الأعاجيب، وكان يفتخر بالبخل، ولا يقتني كتابًا واحدًا، بل يعيب على مشتري الكتب، ويقول: «الله يرزقك عقلًا تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف، وإذا أردت من أحد أن يعيرني درهمًا ما أجد ذلك.»
وأما الشعراء والرواة الذين حفظوا أشعار العرب ودواوين المتقدمين فهم كثيرون أيضًا، ومنهم: أبو نواس، لم يقل الشعر حتى حفظ ثلاثين ديوانًا — فيما أذكر — للشواعر من نساء العرب، ولا نذكر الأصمعي وأمثاله، فهم أشهر من نار على علم، وإنما نقول هذه المزية اشترك فيها أهل الأندلس أيضًا، وحسبنا التنويه بذكر ابن عبد ربه، كان أيسر محفوظاته كتاب الأغاني، لا يخطئ منه واوًا ولا ألفًا، وناهيك بكتاب الأغاني، وهذه المسألة العجيبة مشروحة في كتاب عبد الواحد المراكشي، وتستحق أن يرجع إليها أهل الأدب والطالبون للوقوف على أحوال الأكابر في عصر الإسلام الزاهر.
ومن غرائب الحُفَّاظ ما يُروى من أن الإمام الجليل أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي كان إذا نظر في كتاب وضع يده فوق السطور التي تلي السطر الذي يقرؤه؛ خوفًا من أن تمر عليها عينه فتعلق بذهنه، فإنه ما كان ينظر شيئًا إلا حفظه، وهو القائل:
ومما يدل على عناية العلماء بالحفظ واعتمادهم عليه قولُ الإمام أبي محمد علي بن حزم الظاهري المتقدم ذكره:
وليس هذا الأمر بغريب أو بعيدًا إذا اعتبرنا أن أهل الشرق على العموم لهم سليقة غريبة في الحفظ، وكانوا يزيدونها قوة بالممارسة والرياضة، وقد اشتهر هذا الأمر عن كثير من نوابغ الإفرنج المتقدمين والمتأخرين، فلا محل للشك فيما رواه الثقات من علماء المسلمين، وإنما يتطرق إلينا الوهم بأن هذه المرويات هي من باب المبالغات الشرقية، نظرًا لانحطاط الهمم والقعود عن الكسب والتحصيل، فصرنا نقيس المتقدمين على أنفسنا.
هؤلاء بعض أئمة الحُفَّاظ من علماء القرون الأولى، ومما ذكرناه عنهم يعلم القارئ أن كل اعتمادهم في تلك العصور إنما كان على الحفظ، لا على الكتب، وأن حوافظهم كانت لا تزال قوية كما كانت في عصر الجاهلية؛ وذلك لقرب ما بين الزمنين، ولبقيةٍ بقيت فيهم من تلك الآثار والأخلاق التي قوَّت فيهم مَلكة الحفظ.
ومما يؤيد هذه الروايات ما اشتهر به بعض علماء أوروبا في القرنين الماضيين من كثرة الحفظ المدهش، وهم كثيرون، نكتفي منهم بذكر أمير قيل إنه أكبَّ على قراءة الإنسكلوبيديا، وابتدأ يحفظها من لدن الجزء الأول حتى بلغ الجزء العشرين، وبقيت هذه الأجزاء في ذاكرته حتى مضى على قراءته إياها خمسون عامًا، وقراء الإنسكلوبيديا يعرفون اختلاف موضوعات كل جزء منها ومقدار صعوبتها على الحُفَّاظ، مما يدل على مقدار ذلك الرجل النادر المثال.
وكثير من علماء الإسلام في القرون الأولى كانوا جوالين في البلاد لطلب العلم الشفهي بعضهم من بعض، وكانت هذه سنتهم في تلك العصور، يستوي فيهم الطالب والمطلوب منه، غير أن طلب العلم على تلك الصورة الشفهية إذ ذاك كان صعبًا لوعورة الطرق وعدم المراكب البخارية، وغيرها من مسهلات الطرق، فكان غير ميسور لكل طالب إلا لمن استطاع أن يضرب له أكباد الإبل، ويكابد المشقات الشديدة في الرحلة إلى الأصقاع البعيدة والأمكنة الشاسعة.
فقد كان طلاب العلم وقتئذٍ يقتحمون عقبات صعبة، ويعانون في سبيله ما لا يكاد يوصف، ولا بأس من إيراد حكاية هنا تدل على ذلك، وهي أن طالبين رحلا من أقطار بعيدة إلى بغداد — فيما أذكر — لطلب علم الطب عن نصراني، فاتفق يوم قدومهما بغداد أن كان ذلك العالم في الكنيسة، فتوجها إليه للقائه، فوجداه بقميص واحد مكشوف الرأس، يدور حول جدار الكنيسة من داخلها وفي يده نار ببخور، فلبثا حتى فرغ، فإذا به قد توسم فيهما دلائل الاستغراب والاستنكار، فبعد أن سألهما عن أحوالهما وما قصداه منه قال لهما: «لا أستطيع أن أعلمكما حتى تحجَّا وتعودا إليَّ.» فلم يريا بدًّا من امتثال أمره، فذهبا إلى الحج، وبعد أن عادا من مكة قال لهما: «ماذا صنعتما في الحج؟» قالا: «كيت وكيت.» قال: «وما كانت حالكما في الصفا والمروة؟» قالا: «كنا نهرول فيما بينهما.» فقال لهما: «إذن لا تعجبا من الحال التي كنت عليها في الكنيسة وقت قدومكما، فإن الأمور الدينية يجب أن تؤخذ بالتسليم والقبول من غير اعتراض ولا انتقاد.» وبعدئذٍ علمهما ما قصداه فيه.
ومع هذه الصعوبات وتلك المشاق كان يزداد طلاب العلم كل يوم رغبة فيه وتهافتًا عليه، ولم يُثنِهم عنه قلة أرزاقهم، ومضايق الزمن، ووعورة الطرق، وصعوبة الطلب، ودل العلماء.
غير أن ما حدث إثر ذلك من اختلاف العلماء في الآراء، وانتشار مذاهبهم، وغلو أنصارهم، واتساع الأمصار الإسلامية، وامتداد سلطانهم، وتفرق الصحابة والتابعين، وغيرهم من حملة العلم في البلدان الشاسعة، والأصقاع المتنائية، وحدوث الفتن، وكثرة الفتاوى بلا علم ولا هدى اتِّباعًا لأهواء بعض الأمراء وطمع بعض العلماء، كل هذا اضطر العلماء إلى تدوين محفوظاتهم، وكذلك حملهم على التدوين اشتغالُهم بالنظر والاستدلال والاجتهاد والاستنباط، وتمهيد القواعد والأصول، وترتيب الأبواب والفصول، وتكثير المسائل بأدلتها، وإيراد الشُّبه بأجوبتها، وتعيين الأوضاع والاصطلاحات، وتبيين المذاهب والاختلافات، وغير ذلك مما ذكره العلماء. ومما دفع العلماء إلى التدوين: رغبة الأمراء في التعلم والتأدب، وعدم استطاعة بعضهم حضور مجالس العلم، ورغبتهم كذلك في تأديب أولادهم، وخوفهم من فقدان العلماء بسفر أو بموت أو بسبب آخر، وقد كان أكثرهم رحالة، وكذلك رغبة العلماء أنفسهم في تعليم أولادهم وأفلاذ أكبادهم وخشيتهم الموت قبل إتمام ذلك.
وأنتم تعلمون أن كتبًا كثيرة دُوِّنت في الإسلام برسم الأمراء، وبرسم أبنائهم، وبرسم أبناء العلماء، وأمثال ذلك كثير استفاضت به كتب التاريخ والأخبار، ومن هذه الكتب: كتاب «ألف با» الذي ألَّفه أبو الحجاج البلوي لابنه، وهو كتاب ممتع في الأدب، وكتاب «واسطة السلوك» للسلطان أبي حمو نعمراسن، المطبوع في تونس، المترجم إلى اللغة الإسبانية، وطبع في مدريد، وكتاب طبيب الحجاج الذي ألفه لابنه.
فابتدأ التدوين منذ القرن الأول للهجرة، ولكنه كان ضئيلًا لا يُذكر، وكَثُر وازداد في أواخر القرن الثاني أيام الترجمة والنقل واشتغال العلماء بفنون الأدب والحكمة، وسنتكلم على النقل والترجمة بالتفصيل.
ولقد اختلف العلماء في أول من صنَّف في الإسلام، ولكننا لو اعتبرنا وضع الإمام علي بن أبي طالب وأبي الأسود الدؤلي لقواعد علم النحو تدوينًا، كانا أول من دوَّن في الإسلام، وقد قيل إن أبا الأسود توفي سنة ٦٠ﻫ، وقال ياقوت: «كان نصر بن عاصم الليثي النحوي فقيهًا عالمًا بالعربية من قدماء التابعين، وكان يُسنِد إلى أبي الأسود الدؤلي، توفي سنة ٨٩ هجرية، وضع كتابًا في العربية.»
وأول من دوَّن في الطب والحكمة — على ما قيل — هو طبيب الحجاج بن يوسف الثقفي المتوفى سنة ٩٠ﻫ، وله كتاب كناس كبير ألفه لابنه، وكتاب أبدال الأدوية، وكيفية دقها وإيقاعها وإذابتها، وشيء من تفسير أسماء الأدوية، فعلى هذه الروايات يكون هذان العالمان من أوائل من دوَّنوا في الإسلام.
ومن أول من دوَّن في الحديث في الإسلام الإمام مالك بن أنس، عالم المدينة ومفتيها، صاحب كتاب الموطأ في الحديث.
وبعد ذلك اتسع النطاق، وفاض بحر العلم، حتى وصلت الحضارة الإسلامية بفضل أهله إلى الذروة القصوى والمكانة العليا.