المحاضرة الثانية: أحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام
أيها السادة، لا بد لمن يُعنَى بمحاضرات على الحضارة الإسلامية من أن يشدو بذكر الإسلام، وإذ قد نيطت بي تلك المحاضرات، اضطُرِرت إلى أن أشدو بذكره، ولو كُلِّفْت بمحاضرات على الحضارة الوثنية، لكنت مضطرًا إلى أن أشدو بذكرها كذلك، وأنا إن ذكرت الإسلام فإنما أذكره من حيث هو نظام عمراني لا ديني؛ ولذلك في المحاضرة الفائتة اجتزت عصر النبوة، وبدأت بعصر الخلفاء الراشدين؛ لأن عصر النبوة كان دينيًّا محضًا. وإذ كانت محاضرة اليوم في معرفة أحوال بلاد العرب قبيل ظهور الإسلام، وجب أن نعرف تلك البلاد، ثم نعرف أحوالها.
فأما بلاد عمان والبحرين في الشرق فكانت مفصولة عن سائر بلاد الجزيرة بأمرين: أحدهما طبيعي، والآخر سياسي، فأما الطبيعي فتلك المفاوز والبراري الواسعة والصحاري الجدبة القفرة التي حالت بينها وبين سائر البلاد، وأما السياسي فإذعانها لسيادة الأكاسرة.
وأما بلاد اليمن وحضرموت في الجنوب فكانت ميدانًا للحروب الداخلية والفتن الأهلية؛ فهوت من قمة مجدها الباذخ، وفنيت منها سلالة التبابعة الذين بنوا مأربًا وقصور غمدان وظفار، وأقاموا سد مأرب الذي يشبه خزان أسوان في مصرنا الآن. وكان هدم ذلك السد في أوائل القرن الأول للميلاد سببًا لخراب هذه البلاد، التي سماها اليونان والفرنج على أثرهم البلاد العربية السعيدة، واسمها دليل على ذلك؛ فإن اليَمن واليُمن واليَمين من مادة واحدة، فهي من أخصب بلاد العرب، ولخصبها وحسن موقعها كانت الدول القديمة تحاول امتلاكها، وتتحين الفرص لذلك، وكان في بلاد اليمن أمم من أضخم الأمم، بلغت أعلى منازل العظمة والأبهة وضخامة المُلك، فكان فيها مملكة الحميريين، ومنهم الملوك التبابعة — واحدهم تُبَّع — وكان التُّبع بمنزلة إمبراطور ألمانيا الآن، وشاهنشاه الفرس؛ أي ملك الملوك لسيادته على عدة ملوك مستقلة استقلالًا داخليًّا، يسمون الأذواء أو الأقيال. وكانت عدن من المدن المستقلة، فكانت كمدينة همبرج في ألمانيا الآن، وهي التي تسمى المدينة الحرة لمجلسها النيابي (السناتو) الذي يدير شأنها، وكلا البلدين — عدن وهمبرج — فرصة كبيرة لمملكتها.
ولم يزل اختلاف أهل اليمن الديني والسياسي الذي لا يدخل بلدًا حتى يجعل أعزة أهله أذلة ينخر عظامهم إلى أن اضمحلُّوا وبادوا، ولكن السبب الأقوى في إبادتهم وزوال مُلكهم هدم سد مأرب — كما تقدَّم — فتفرَّق أهله أيدي سبا، فنزلوا الحيرة وغسان ويثرب وغيرها، هؤلاء هم عرب الجنوب والشرق، وتلك حالهم.
أما عرب الشمال فإن لهم مملكتين صغيرتين: مملكة الحيرة في العراق العربي، وملوكها يُسمَّون المناذرة أو النعامنة، وكانوا يذعنون لسيادة الفرس؛ ومملكة غسان في الشام، وملوكها يُسمَّون الغساسنة نسبة إلى عين ماء نزلوا بها، وكانوا يذعنون لسيادة الروم. وأُنشئت هاتان المملكتان في القرن الأول للمسيح، وكان ملوكهما في خصام دائم، لا تضع الحرب أوزارها بينهم إلا إذا نَشِب القتال بين تَيْنك الدولتين الضخمتين: الفرس والروم، فتنضم مملكة الحيرة إلى الفرس، ومملكة غسان إلى الروم، لا لنصر إحدى الدولتين على الأخرى، ولكن لانتقام بعضهم من بعض، وهم في مثل هذه الحروب لا فضل لهم في النصر؛ لأنهم ذيول وأذناب لغيرهم، هذا أمر الشرق والجنوب والشمال.
أما الغرب والوسط — وهما الحجاز ونجد — فلم يَشُبْهما نقص، وقد أتم الله عليهما نعمته فلم يسلبهما نعمة الحرية والاستقلال، فكانوا كافة أعزاء أُباة للضَّيم، يأبى كلهم إلا أن يكون رئيسًا، فهم رؤساء جميعًا؛ لذلك لما نشط علماء الصدر الأول لتدوين اللغة العربية لم يأخذوها إلا من كلام قبائل معدودة من نجد والحجاز وما اكتنفهما لسلامة ألسنتهم مما انتاب ألسنة آل سائر البلاد العربية، وتلك القبائل المعدودة هي قيس، وأسد، وتميم في نجد، وهذيل بغزوان — جبل فوقه مدينة الطائف — وبعض كنانة بدومة الجندل بين الشام والمدينة، قرب جبلي طيِّئ، وبعض بني طيِّئ بجبلي أجأ وسلمى في شمال نجد.
ومكة وهي قصبة الحجاز لم ينبه لها ذكر قبل الإسلام إلا بالكعبة؛ لذلك حاولت ثقيف في الطائف أن تلفت وجوه الناس عنها، فأنشأت لها بيتًا وأقامت فيه صنمًا اسمه ذو الخلصة، وجعلت فيه مزايا بيت الله الحرام؛ فكان مشبع الجائع، ومروى الظمآن، ومأمن الخائف، ومقضى ذوي الحاجات، ومجار المستجير، ومأوى أبناء السبيل، وكانت العرب تسميه الكعبة اليمانية، وكان يزاحم الكعبة الحجازية. كذلك صنع عبد المسيح بن داوس بن عدي، أحد أمراء اليمن السالفين، فأنشأ في نجران في أول انتشار النصرانية في تلك الجهات قبة سمَّاها كعبة نجران، وجعل لها تلك المزايا نفسها، وكان يؤمها كثير من العرب، فكانت تلك الأمكنة وغيرها ممن حذا حذوها تنازع مكة قديمًا الرياسة وتنافسها في العظمة.
ومنافسة الطائف لمكة حملت ثقيفًا على إرشاد أبرهة الحبشي على الطريق لما أراد هدم الكعبة ليخلو لهم الجو، بل إن الروم كادوا يملكون الكعبة في عصر النبي ﷺ بإغراء وقيادة عثمان بن حويث النصراني.
فلم يكن في بلاد العرب مملكة أو شبه مملكة لها من العز ما يكفي لإعلاء كلمتها ورَفْع رايتها على سائر بلاد العرب؛ لأن القوم جميعًا كانوا في نزاع دائم وشقاق مستمر عاقهم عن تفوق بعضهم على بعض، ولم تبلغ مكة قبل الإسلام يومًا ما في بلاد العرب مبلغ أتينا في دولة اليونان، ولا رومية في دولة الرومان، ولا بوزنطية — أي القسطنطينية — في دولة القياصرة من بني الروم، بل كانت ممالك الحيرة وغسان وقبائل نجد وتهامة ذات شأن حقير وأثر ضئيل في تلك الملاحم التي نشأت بين رومية ثم القسطنطينية وبين الفرس، في تلك الملاحم التي كان أبطالها سابور (سابور ذو الأكتاف) ويوليان المرتد، وبليسا، وكسرى أنوشروان، وكسرى أبرويز، وهرقل.
فأما الروم فقد كانوا منقسمين على أنفسهم بسبب اختلافهم في الأقاويل الدينية وفي العقائد المذهبية، فكانت بين رجالاتهم وبيوتاتهم خطوب وأهوال أنستهم تدابير الملك وسياسة البلاد؛ حتى فسدت الأحوال، واختلت الأعمال، واضطربت شئون الولايات، وعمَّت الفوضى جميع أطراف الإمبراطورية.
هذا المرض الطبيعي الذي أصاب دولة الروم عند أول بداية الإسلام في عهد محمد عليه الصلاة والسلام؛ تجدَّدت أعراضه بعينها فيما بينهم أيضًا حينما أشرف محمد الثاني على فتح القسطنطينية، فكان انقسام الروم على أنفسهم واختلافهم في شئون بسيطة سببًا في ظهور الإسلام وانتزاع تسعة أعشار أملاكهم منهم، كما كان سببًا لاستيلائه على دار مملكتهم ومحو أثرهم.
ومما تجب الإشارة إليه في هذا المقام أنه قد حدثت أمور سياسية دعت قياصرة الروم للمساعدة على مزج المسيحية بالوثنية، فتيسر لهم بهذه الوسيلة تعميم هذه العقيدة الجديدة على جميع الأهالي الوثنيين الخاضعين لصولجانهم؛ فنتج عن ذلك اختلاف كبير في المشيئة والطبيعة والناسوت واللاهوت، أوجب زيادة الارتباك بين رجال الكهنوت.
هذا فضلًا عن اشتداد النزاع والخصام بين أساقفة القسطنطينية والإسكندرية ورومية؛ إذ كان كلٌّ منهم يريد لنفسه الزعامة على الملة النصرانية، فالأول يؤيد دعواه بأن مدينته هي كرسي المُلك، فلا بد أن تكون مقرًّا للدين؛ لأن الملك هو الحارس للدين. وأما أسقف الإسكندرية فكان يقول إن السيادة الدينية لا تصح لغيره؛ نظرًا لموقع مدينته التجاري ومركزها العلمي، وإن الدين إنما يستند على المال ولا قوام له بغير العرفان. بقي صاحب رومية وقد طبق الآفاق بقوله إن رومية هي المدينة الخالدة ذات المآثر الباقية، وقد كانت لها السيادة الدائمة من حيث الديانة والسياسة، فصاحب الكرسي فيها هو الأحق بالرياسة.
فكان هذا التخاصم مثيرًا لثورة دينية اضطربت لها الدنيا بأسرها، ولا تزال آثارها باقية بين المسيحيين إلى الآن.
- (١)
تداخل الفرس وهدمهم لكيان النصرانية في آسيا.
- (٢)
تمهيد السبيل للإصلاح النهائي الذي قام به العرب وأعقبه تولُّد الحضارة الإسلامية.
شرح النتيجة الأولى
وكان بطريرك القسطنطينية قد غضب على القيصر لهذا السبب ولأسباب أخرى؛ فكرَّس فوقاس وبارك له، وجعله إمبراطورًا، ولكن بعد أن تحقق من أرثوذكسيته، ثم قتل الروم موريقًا وأبناءه وزوجته وبناتها، ومال القوم على أشياعه وأوليائه، ففقئوا عيون بعضهم، وسلوا ألسنة بعض آخر، ووثبوا على جماعة منهم فقطعوا أيديهم وأرجلهم، وانهالوا على جماعة آخرين جلدًا فقتلًا.
وصلت أخبار هذه الحوادث إلى رومية وإلى فارس، فكان لها فيهما صدًى متخالف متعاكس، فأما رومية فقد ابتهج فيها البابا غريغوريوس، وطلب من الله أن يأخذ بنصر فوقاس، وأن يشد أزره على عدوه، فكانت مكافأته على ذلك أن اعترف له قيصر الروم باللقب الذي طالما منَّى به نفسه، وهو «الأسقف العام».
وأما فارس فلم يكد يبلغها خبر هذا الانقلاب، حتى امتعض له أبرويز، وأخذته الحفيظة لصداقته مع موريق الذي كانت له عليه اليد البيضاء في إعادة مُلك أجداده إليه، وقد التجأ إليه ابن موريق فآواه وأكرم مثواه ووعده برد الأمر إليه.
تملك هرقل بن هرقل، وقتل فوقاس واستخلص عروسه ولبس رداء الأرجوان، وهو شعار الإمبراطور، على يد البطريرك سرجيوس (سرجس أو سركيس)، غير أن الثورة في القسطنطينية لم يرتَضِهَا شاهنشاه الفرس وكسرى أبرويز، فسرَّح المرزبان المعروف بشهربراز في جيش كثيف إلى الروم للطلب بثأر موريق صاحبه وصهره، وللإيقاع بالملك الجديد، فعبر الفرات وهاجم بلاد الإمبراطورية، وقوبلت جنوده بالترحيب من المنشقين بسبب الدين، واستحوذ على أنطاكية فقيسارية فدمشق ثم أورشليم، وأحرق كنيسة القيامة (أو القمامة) وكنيستي قسطنطين وهيلانة، ثم استولى على مصر، وهرب منه يوحنا الرحوم بطريرك الإسكندرية إلى قبرص ومات بها، وأنفذ جيشًا لمحاصرة قسطنطينية وهي سُرة الدولة ودار الملك، فخاف القيصر أن تُفتح واستعد للهرب، وجمع خزائنه وذخائره وفي جملتها خشبة الصليب المقدس وأرسلها في سفن له إلى أفريقية، فعصفت بها الرياح وسيرتها للإسكندرية، فظفر بها شهربراز، وقبض عليها كلها وبعثها إلى أبرويز، فحمد الله الذي سخر له الريح حتى جاءته بخشبة الصليب، وأفرد لها خزانة سماها كنز الريح، وهي بالفارسية كنج باذاورد، ثم استحوذ شهربراز على ساحل بحر الروم لغاية طرابلس الغرب، وامتلك آسيا الصغرى، ولبثت جنود الفرس معسكرة مدة عشرة أعوام على أبواب القسطنطينية، وفي أثناء ذلك ماتت زوجة القيصر؛ فتزوج مارتينا بنت أخته، خلافًا لما تقضي به أوامر الكنسية؛ فغضبت عليه الأمة كما غضبت عليه الكنسية، وأوقعته بين نارين: نار الثورة الداخلية، ونار العدو الفارسي الواقف له بالمرصاد، فضلًا عن هجمات خاقان المغول الوافدين من سواحل بحر قزوين. فلما ضاق الحال على هرقل، وبلغ منه اليأس منتهاه، وأعيته الحِيَل، راسل كسرى في الصلح فأجابه: «لا أرضى بمصالحة إمبراطور بوزنطية إلا إذا كفر بإلهه المصلوب فتمجَّس وعبدَ الشمس.»
فاستبسل الإمبراطور هرقل وجمع كل قواه (لا سيما أن أهل النصرانية غاظهم هذا الجواب من الملك المجوسي؛ فكان سببًا في التفافهم حول قيصرهم) حتى تيسر له إرضاء كسرى بعد زمان طويل بالرجوع عن الإمبراطورية في نظير فدية قدرها ألف قنطار من الذهب، وألف قنطار من الفضة، وألف ثوب من الخز، وألف فرس، وألف عذراء.
وكان النبي العربي قد ظهر في أثناء هذه الوقائع، ونزل عليه القرآن وأشار إليها بقوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، ثم تنبأ بقرب فوزهم فقال: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فكانت هذه النبوة المتقدمة على وقتها المحدد معجزة لأحمد. وذلك أن هرقل لم يخضع إلا أمام القوة، ولم تسكن نفسه للاستكانة حيال هذه المذلة، فتربَّص حتى جمع شمله الرَّث، وعاد إلى مهاجمة الفرس حينما ساعدته الفرص، فظهر عليهم في كل مكان، وقارنه السعد والظفر في جميع الوقائع، وخدمت جنودَهُ الأيامُ؛ فكانت انتصاراته أبهى وأجلَّ مما أحرزته رومية في أيام مجدها القديم، حتى شبَّهوه بالإسكندر وقسطنطين الأكبر، وهذا سر قوله تعالى: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، وقد راهن على ذلك أبو بكر الصديق وفاز بكسب الرهان.
فاسترد هرقل من العدو كل ما أخذه من بلاده وأملاكه، ولكنه لم يتمكن من إعادة الدين إلى سابق نصابه؛ لأن المجوسية أنزلت بالنصرانية أمام العالم كله مسبَّةً ليس بعدها مسبَّة؛ إذ أهانت القبر، وأحرقت الكنائس، وأخذت الخشبة؛ فتحارب الدينان الكبيران وتفانيا في تلك الأيام، ومهَّدَا السبيل لظهور الإسلام.
ومن ذلك قول نصيب: