المحاضرة الثالثة: شرح النتيجة الثانية
إن فوز الفرس كان مقدمة لأمر أكبر خطرًا وأعظم شأنًا، وأعني به ثورة البلاد الجنوبية
على
الديانة النصرانية، وهي ثورة أضاعت على الروم تسعة أعشار أملاكهم الجغرافية في آسيا
وأفريقيا وجزءٍ من أوروبا كما قلنا.
فقد كان النزاع الديني بلغ منتهاه بين القسطنطينية ورومية من جهة، وبين صفرونيوس بطريرك
أورشليم من جهة أخرى، وصفرونيوس هذا هو الذي سلم بيت المقدس إلى عمر بن الخطاب فيما بعد،
وفي ذلك الوقت كان قد ظهر النبي الأميُّ ودعا العرب إلى توحيد الله، وجاءهم بالإسلام
والقرآن، فدانوا له واتبعوا مِلَّته، ثم ذهب إلى الرفيق الأعلى بعد أن أكمل الله للمسلمين
دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينًا، ذلك هو الدين الذي يدين به ثلث أهل
الأرض.
ولسنا في مقام شرح الإسلام وأصوله الحكمية وقواعده الفلسفية؛ فإن ذلك مما لا يدخل
ضمن
دائرة البحث في هذا الدرس، وإنما نقول إن الوسائل قد تمهدت لقيامه للأسباب التي أشرنا
إلى
بعضها، وهي دينية، ولأسباب تدعونا الحاجة إلى الإلمام بها بطريق الإيجاز.
دولة الروم
إن هذه الدولة قد اضطربت أمورها قبيل ظهور الإسلام، وظهرت فيها أمراض اجتماعية بسبب
الاختلاف الذي بلغ منتهاه بين ذوي السلطة فيها، سواء كان من جهة الدين، أو من جهة
السياسية والعمران، وقد شاعت عند ظهور الإسلام نبوَّة غريبة تداولتها الألسن في كل
مكان، وهي أن دولة الروم ستسقط على يد الأمم المختونة؛ فاضطهد هرقل اليهود اضطهادًا
شديدًا وأبادهم جميعًا، حتى لم يبقَ في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى،
وقد نجا جماعة منهم بالهرب إلى بلاد العرب؛ لأنهم كانوا ساعدوا الفرس على النكاية
بالنصارى.
ولقد أشرنا في تضاعيف هذا البيان إلى ما وصلت إليه الشامات والعراق وآسيا الصغرى
في
عهد الدولة الرومية عند ظهور الإسلام من الفوضى بسبب الاختلافات الدينية والاضطرابات
السياسية، وأما شمال أفريقيا فقد نازلها القوط Goths
بعد أن جازوا بحر الزقاق، المعروف الآن ببوغاز جبل طارق، في سنة ٦٢٠ للميلاد؛ أي قبل
الهجرة النبوية بثلاث سنين، وتملك القومس (الكونت) يليان Julien بلاد سبتا، وهو الذي مهد للمسلمين فتح الأندلس، وبعد ذلك بقليل
استقل بملك سبيطلة من أعمال تونس الآن — واسمها الإفرنكي القديم
Suffetula، والآن
Sbitla — البطريق غريغوريوس، وهو أخو هرقل صاحب
أفريقية الذي تولى ابنه هرقل إمبراطورية الروم، وكاتبه صاحب الشريعة الإسلامية، فلم
يبقَ للإمبراطورية الرومية في أفريقية سوى قرطاجة ومدائن قليلة، وكانت كلها مضمحلة
الأركان، بحيث إذا هاجمها عدو من الخارج بشيء من الشدة والعزيمة سقطت في يده، وذهبت
معها بقايا الدولة الرومية أدراج الرياح، وذلك هو الذي وقع عندما ظهر الإسلام في ذلك
الوقت.
أما مصر فقد كانت بأجمعها مشحونة بالنصارى، وهم على قسمين متباينين في أجناسهم
وعقائدهم: أحدهما أهل الدولة، وكلهم روم من جند صاحب القسطنطينية، وهم ملكيون أو
ملكائيون، يزيدون على ٣٠٠٠٠٠ نفس، والقسم الآخر عامة أهل مصر بأسرها، ويقال لهم القبط،
وأنسابهم مختلطة لا يكاد يتميز منهم القبطي من الحبشي من الغربي من الإسرائيلي الأصل
من
غيره، وكلهم يعاقبة، فمنهم كُتَّاب المملكة، ومنهم التجار والباعة، ومنهم الأساقفة
والقسوس ونحوهم، ومنهم أهل الفلاحة والزرع، ومنهم أهل الخدمة والمهنة، وبينهم وبين
الملكية — أهل الدولة — من العداوة ما يمنع مناكحتهم ويوجب قتل بعضهم بعضًا،
١ وكانت الأمة المصرية حيال سادتها الروم في منتهى الذل والعبودية، قد
أثقلتها الضرائب والمظالم، وحاقت بها أسباب الخسف والهوان، وأبناؤها يسومهم الروم سوء
العذاب، ويمتصون ينابيع ثروتهم، ويغتصبون ثمرة أتعابهم، وولاة الروم لا همَّ لهم إلا
تطلُّب المال وجمعه من هنا وهناك، دون أن يعبئوا بشيء من مصالح البلاد الاقتصادية
والزراعية أو من أمور الرعية، وكثرت الفتن الدينية بدسائس الروم؛ حتى افتتنت العائلات
(الأُسر) وحقد الأب على ولده، والزوجة على زوجها، والأخ على أخيه، والابنة على أمها،
مع
اختلاف المذاهب وتشعُّب المشارب التي كان القائمون بها يقوم بسببها بعضهم على بعض،
فيريقون الدماء هدرًا في الشوارع والأزقة، فوصل الخلل والاضطراب إلى نهاية ما تتصوره
العقول،
٢ حتى صارت مصر تترقب الخلاص من نير الروم بأية وسيلة كانت؛ ولذلك استقبلت
العرب بفرح شديد، كما كانت استقبلت الرومان الذين أنقذوها من البطالسة، وكما كانت
استقبلت البطالسة الذين خلصوها من ظلم الفرس.
وقد روى ابن العبري أن الشمس انكسف نصف جرمها في السنة السابعة عشرة لهرقل، وثبت
كسوفها من تشرين الأول إلى حزيران، ولم يكن يظهر من نورها إلا شيء يسير، فكأني بهذا
الكسوف الغريب الذي وقع في سنة ٦٢٧ واستمر نحو خمسة شهور، كان نذيرًا بكسوفين آخرين
معنويين، وهما كسوف دولة الروم وكسوف دولة الفرس الذين كانوا يعبدون الشمس.
دولة الفرس
إن اضطراب الدين إذا شاركه اختلال السياسة آذَنَ بضياع السلطان وانقراض الدولة، فلقد
رأينا الأمم عندما تأخذ في الانحطاط وتبدو على كيانها علامات الانحلال، يتشبث أبناؤها
بالاختلاف في الدين، وتتفرق أهواؤهم في المذاهب؛ فيكون ذلك مدعاة للتنافر بين قادتها
والتقاطع بين أهل الرأي فيها، فيهدمون أنفسهم وتصبح الأمة بلا رءوس ولا سراة، وهو مرض
اجتماعي يصيب الأمم عندما تبلغ الهرم أو يدانيها العدم؛ فيتفرق الشمل وتذهب الريح ويضيع
المُلك.
هكذا كان الشأن ولا يزال، وفي التاريخ أكبر عبرة لذوي الألباب، هذه دولة الفرس أيضًا
كانت تدين بالمجوسية التي أطبق الناس على تعريفها بأنها «الدين الأكبر والملة العظمى»،
كان
لها من الشأن ما كان، حتى إذا تسللت إليها الاختلافات الدينية تحلَّل جثمانها، وحل
مكانها الإسلام، فلقد قام فيها قبيل ولادة النبي العربي رجل اسمه مزدك (مزدق أو مز دك)
فقال بالأصلين؛ أي النور والظلمة، وأدخل عليهما طريقة التثليث التي قال بها الروم، فذهب
إلى أن الأصول والأركان ثلاثة: «الماء والنار والأرض»، وأنها اختلطت فحدث عنها إلهان
اثنان، وهما مدبر الخير ومدبر الشر، ثم نهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، ولما
كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، أحل النساء والأموال وجعل الناس شركة
فيها، كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ،
٣ وأعقبه ويصان ثم «مرقيون»، فمزجا بالمجوسية شيئًا من تثليث النصرانية؛
فاضطرب الدين الكبير في الشرق، كما اضطرب الدين الكبير الآخر في الشمال وفي الغرب، وكان
ذلك مُمهِّدًا لظهور دين جديد لصلاح العالم، وأعني به دين التوحيد.
لم يقف الاضطراب في فارس عند حد الدين، بل اضمحلَّ أمرها بالحروب الكثيرة التي اشتبكت
فيها قبيل ظهور الإسلام، فإنها ما كانت تفرغ من مغير حتى يهاجمها آخر هو أشد وأقوى، وما
زالت تتوالى عليها صدمات خاقان الترك الأعظم، ثم قيصر الروم، ثم ملك الخزر، وذلك كله
في
أيام هرمز أبي كسرى أبرويز، إلى أن اجترأ الأعادي على فارس وسقطت هيبتها من النفوس، حتى
إن خلقًا من العرب خرجوا عليها، ونزلوا في شاطئ الفرات، وشنوا الغارة الشعواء على أهل
السواد، وقد أشرت إلى شيء مما كان بين فارس والروم، فأما خاقان ملك الترك الأعظم فقد
سبق معنا القول إنه كان يهاجم الروم بقومه من شمال القسطنطينية، وقد أراد أن يهاجمهم
أيضًا من جهة الجنوب حينما رأى اختلال دولة الفرس، فأرسل إلى هرمز وإلى عظماء مملكته
وأساورة بلاده يُؤذِنهم بإقباله ويقول: «رُمُّوا لي قناطر أنهار وأودية أجتاز عليها إلى
بلادكم، واعقدوا القناطر على كل نهرٍ لا قنطرةَ له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية
التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم؛ فإني مُجمِع على المسير إليها من بلادكم.»
فأنكر هرمز ما ورد عليه من ذلك؛ فأرسل رجلًا من أنجاده لمحاربته وصده عن بلاده، وهو
بهرام (جوبين أو شوبين)، وقد عاد قائده مظفرًا منصورًا بعد أن قتل خاقان وأسر ابنه،
وحمل إليه من الأموال والجواهر والأواني وسائر الأمتعة مما غنمه وقر مائتي وخمسين ألف
بعير، ثم دبت عقارب السوء بينه وبين هذا القائد العظيم فتنكَّر لهرمز وجوه الدولة
وأعيان الجيش فخلعوه — كما قلنا — وولَّوا بهرام، هذا في خطب يطول.
ولكن كسرى أبرويز بن هرمز أسقطه بمساعدة ملك الروم، وجلس على عرش أبيه، وقد أرسل
إليه
القيصر ثوبين فيهما علامة الصليب فلبسهما، فقال الفرس: «قد تنصَّر الملك.» وحقدوا عليه
بهذا السبب، وفوق ذلك لم يحسن سياسة الجند؛ فخالفوا عليه وانضم أكابر قواده إلى ملك
الروم، ثم فسدت عليه نية ملوك العرب فزاد ذلك في اضطراب الأمر بفارس، وزاد شغب الأمة
على كسرى أبرويز، فقتلوه لتجبُّره واحتقاره العظماء وعتوِّه، وذاك أنه كان قد جمع من
المال ما لم يجمعه أحد من الملوك، وبلغت خيله قسطنطينية وأفريقية، وكان له اثنا عشر ألف
امرأة وجارية، وألف فيل إلا فيلًا واحدًا، وخمسون ألف دابة، ومن الجواهر والآلات
والأواني ما يليق بذلك، فعتا واستهان بالناس والأحرار؛ فلذلك اكتسب عداوة أهل مملكته
لأمور وقعت منه:
- أولًا: أنه أمر بقتل كل مقيد في سجونه، وكان عددهم ٣٦٠٠٠ رجل، ولكن الموكَّل
بهذا الأمر الفظيع توقف في تنفيذه.
- ثانيًا: أنه احتقر الأمة واستخف بعظمائها.
- ثالثًا: أنه سلَّط عليها علجًا يقال له فرَّخان، ضغط على الأمة وشدد في
استخراج بقايا الخراج بعنف وعذاب، وكان ضمن من ذلك مالًا
عظيمًا.
- رابعًا: أن كسرى أجمع أمره على قتل فَلِّ الذين انصرفوا إليه من قبل هرقل؛
فتذمر الناس وائتمروا عليه، واجتمعوا على ابنه شيرويه Siroés الذي كان مسجونا مع بقية إخوته
في بابل، وخلوا عن المسجونين في السجون، واجتمعوا على الجنود العائدة
من قتال الروم، ثم أقبل شيرويه في جموعه على كسرى فانحاز إلى باغٍ له
بالقرب من قصره يُدعى باغ الهندوان، فحبسه ثم قتله بعد حديث
طويل.
وفي أيامه كانت الهجرة النبوية لمضي ٣٢ سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يومًا من ملكه،
وقد
هلك بعد أن ملك ٣٢ سنة. ولم يكتفِ شيرويه بقتل أبيه، بل قتل سبعة عشر أخًا له ذوي آداب
وشجاعة بمشورة وزرائه؛ فابتُليَ بالأسقام وجزع جزعًا شديدًا، وكان يبكي إلى أن رمى
بالتاج عن رأسه، وعاش مهمومًا حزينًا مدنفًا، ومات بعد أن ملك ثمانية أشهر، فملك بعده
ابنه أزدشير ولم يبلغ أكثر من سبع سنين؛ فاحتقره القائد المرابط على ثغور الروم، وانكفأ
بجنده إلى فارس وملك عليها ولم يكن من بيت الملك؛ فتخالف الناس عليه وقتلوه بعد أربعين
يومًا وملَّكوا بوران دخت،
٤ وهي بنت كسرى أبرويز، فأحسنت السيرة وبسطت العدل، وأمرت برمِّ القناطر
وإعادة العمارات، ووضعت بقايا الخراج وكتبت إلى الناس عامة تعلمهم ما هي عليه من
الإحسان، وأنها ترجو أن يريهم الله الرفاهة والاستقامة بمكانها، ومن العدل وحفظ الثغور
ما يعلمون به أنه ليس ببطش الرجال تدوخ البلاد، ولا بيأسهم تستباح العساكر، ولا
بمكايدهم يُنال الظفر، ولكن ذلك كله يكون بالله عز وجل، وحسن النية واستقامة التدبير.
ولكي تستجلب مودة الروم وتُذهِب حفيظتهم عن بلادها ردت خشبة الصليب على ملك الروم، ومضت
لربها بعد سنة وأربعة أشهر، فتولى الملك رجل من بني عم أبرويز، وهلك بعد شهر، فآل الملك
إلى أذرمي دخت أخت بوران دخت، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكانت ملكة بحقها وصدقها لو
ساعدها الدهر والعمر، ولكنها ملكت والدولة مُدبِرة بإقبال دولة الإسلام، فكثرت في
أيامها الأحداث، وتبسطت الأيدي، ومرضت السياسة، ولقد طمع فيها أحد القواد وأراد أن
يتزوجها فأرسلت إليه: «إن التزويج للملكة غير جائز، وقد علمت أن أريك فيما ذهبت إليه
قضاء حاجتك منى، فصر إليَّ في ليلة كذا وكذا.» وتقدمت إلى صاحب حرسها ليرصده، فلما أقبل
قتله. وكان للرجل ابن عظيم البأس، قوي النفس، وهو رستم شجاع الفرس، وفارس القادسية
المشهور، فأقبل وقتل الملكة بعد أن سمل عينيها. ثم توالت الفتن والاضطرابات على من ولي
أمر الفرس ممن تداول الملك بعدها من النسوان والصبيان، حتى جاء يزدجرد، وهو غلام مراهق،
فكان ملكه عند ملك آبائه وأجداده كالخيال، وكانت العظماء والوزراء يدبرون ملكه لحداثة
سنه، ولم يبقَ من دولة العجم إلا رمق، والأهواء مختلفة والجماعات متفرقة، والأمور
منحلة، والسياسة مختلة، والأحوال مضمحلة؛ فضعف أمر المملكة واجترأ عليها الأعادي من كل
وجه، وطرقوا البلاد وخربوها، وغزت العرب مملكته؛ فهرب يزدجرد أمامهم ومعه ألف طباخ،
وألف مطرب، وألف فهاد، وألف بازيار، وعنده أنه في خِفٍّ، وانتهى أمره بسقوط ملك فارس
في
الشرق على أيدي المسلمين الذين أورثهم الله ملك الروم في الشمال وفي الغرب.