المحاضرة الرابعة: انتشار الإسلام والحروب الإسلامية
جاء محمد بدين الإسلام، فوضع الأصول الأولى لهذه الحضارة التي كان لها شأن كبير في ارتقاء بني الإنسان، ونحن إذا أنعمنا النظر في الصورة التي كان عليها العالم وقتئذٍ — وقد رسمناها بغاية السرعة — رأينا أن هذا الاختباط كان يؤذن بظهور حادث جديد، وأن الناس كانوا يتوقعون حدوث هذا الأمر الجليل للتخلص مما هم فيه من الارتباك الديني والدنيوي، وقد قيل لنا إنه ظهر قبيل محمد نفر كثير تطالت أعناقهم إلى هذه المرتبة الكبيرة في الهيئة الاجتماعية، وكأنما أحس العرب بأن هذا الأمر مقبل عليهم، وأن الدور آتيهم، فكان الأب يسمي ابنه محمدًا استمطارًا لهذه الأمنية، حتى بلغ من سُموا بهذا الاسم في الجاهلية سبعة على ما قيل، وكثيرًا ما اجتهد رجالات العرب في ترشيح أنفسهم لهذه الدرجة، وأخصهم أمية بن أبي الصلت الثقفي، وقس بن ساعدة الإيادي، وغيرهما.
فلما جاء دين التوحيد بعد التثنية والتثليث وجد السبيل ممهدة، والعقبات مذللة، والنفوس مهيأة؛ فغُرست بذوره وتأصلت جذوره، فزكا ونمى وأينعت ثماره، وهذه الأسباب كلها كانت سببًا في نجاحه.
إن المتأمل في أحوال هذا الكون إذا أعمل الفكر في ماضيه وحاضره لا يجد انقلابًا واحدًا حدث في حالة الإنسان الواحد، أو الأسرة، أو المجموع، أو الأمة، أو العالم كله، بغير أن تصحبه وتتلوه ضحايا وبلايا تختلف قلةً وكثرةً بحسب ما تصادفه من الأحوال، والعمدة كل العمدة إنما هي على النتيجة، فإن كانت حسنة في مجموعها مفيدة في جملتها، كان الانقلاب مستحبًّا والعاقبة مفيدةً، ولا عبرة بما أدى إليها مما قد كان يكون اجتنابه أولى، لكن طبيعة العمران تأبى ذلك؛ لأن الكمال محال.
قام الإسلام أولًا بالدعوة والإرشاد والحض على مكارم الأخلاق، فلقي في أول أمره من آل الشرك من التِّرات ما حمله على أن يثأر لنفسه منهم بعدما اشتد أزره وقوي أمره؛ فأباد الوثنية من جزيرة العرب، فلم يبق لغير الإسلام فيها شأن، وخصوصًا بعد أن ارتد العرب على أثر وفاة النبي — عليه الصلاة والسلام — فإن أبا بكر بذل همته ووجَّه قوته لإخضاع العرب كلهم إلى كلمة التوحيد؛ ولذلك لا يسعنا بصفتنا من الناظرين في أحوال العمران إلا أن نقول إن الإسلام اضطُرَّ إلى استعمال القوة في جزيرة العرب بعد أن أفرغ وسعه في الهداية بطريق الإقناع حتى لا تتقطع أوصاله ويتهدم كيانه، وبذلك صفا له الأمر وتوحد فيها دون سواه، أما حروب المسلمين (لا حروب الإسلام) بعد ذلك فقد كانت كلها بقصد التوسع في الملك والتبسط في الاستعمار.
لذلك يجوز لنا أن نقول إن انتشار الإسلام في غير جزيرة العرب يرجع معظمه بل كله إلى الهداية والإرشاد والإقناع، وإلى انتشار العرب في البلدان يحملون آداب الإسلام التي وجدت في نفوسهم أهلًا ومكانًا سهلًا لما فطرتهم عليه البداوة من علوِّ النفس والشجاعة والمروءة، فعاملوا الأمم المغلوبة بالعدل والإحسان — بله أن الأسباب العمرانية والدينية كانت قد تهيَّأت كلها لسيادة أمم الجنوب لمجيء دورها في الظهور — ألا ترى أن المسلمين قد أقروا أهل الشام على أقاويلهم، ولم يحاولوا نقل الفُرس عن دينهم؟ بل إن سعد بن أبي وقاص بعد أن فتح بلاد فارس أقام صلاة الجماعة في إيوان كسرى على ما فيه من التماثيل والأنصاب والأوثان، مع أن الرسول — عليه السلام — كان قد أزالها من الكعبة ومن جميع أرض العرب حتى لا تفتنهم بالرجوع إلى خرافات آبائهم. وهذه مصر وفتحها معلوم للخاص والعام، فإن المسلمين حاربوا الروم بقصد الامتلاك والحلول محلهم للثأر منهم، وأما القبط فأبقوهم على ديانتهم وأملاكهم، وهذه الأندلس، وصقلية، والقسطنطينية، واليونان، والمجر، فأهلها بقوا على دينهم ونظامهم السياسي، وإنما تغيرت الحكومة والدولة.
فالمبدأ الذي قام به الإسلام مع من يناصبه العداوة ويقطع عليه الطريق هو الجزية، أو الإسلام، أو الحرب، ولقد دخل أكثر الأمم في حوزة الدولة الجديدة ورضيت بالجزية، حتى إن أكثر أفرادها حينما رأوا قواعد الإسلام وأصوله مالوا إليه، سواء كان ذلك من باب الاستحسان أو لأجل التخلص من دفع الجزية، فقد كان المسلمون يكتفون بالجزية إذا دانت لسلطانهم الأمم بعد الحرب ولم تشأ أن تدخل في دينهم، والدليل على ذلك أن بعض الولاة قد تناسوا أوامر الدين فاستمروا على أخذ الجزية من بعض الذميين مع أنهم دخلوا في دين الإسلام؛ وذلك لأنهم خافوا من اضطراب الإيراد واختلال الموازنة في ميزانية الدولة، فلما بلغ ذلك عمر بن عبد العزيز الأموي استنكره، وأمر برفع الجزية عمن يدخل في الإسلام، سواء كان ذلك لاقتناعه به أو لأجل التخلص من هذه الجزية.
وقد اقتدى به المولى أبو السعود حينما استفتاه السلطان العثماني في إلزام أهل المجر بالإسلام أو إبادتهم، فأنكر عليه ذلك، وقال بوجوب إبقائهم على دينهم ما داموا يؤدُّون الجزية لخزينة الدولة؛ لأن ما طمحت إليه نفس السلطان مخالف لأحكام الشرع ولروح الإسلام، فأقرهم على دينهم ولغاتهم الوطنية الأهلية، ولم يفعل آل عثمان مثل ما فعلت دولة إسبانيا مع عرب الأندلس، أو مثل ما تفعل بعض الدول الكبيرة في إبادة اللغات الوطنية من البلاد التي أدخلتها تحت حكمها تسهيلًا لسبيل ابتلاعها في جسم الأمة الغالبة.
والخلاصة أن العامل الأكبر في انتشار الإسلام إنما هو الإقناع والإرشاد ومكارم الأخلاق، بل هذه آيات القرآن أكبر شاهد على ذلك، أليس يقول: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؟ أليس هو الذي يقول: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ؟ أليس هو الذي يقول: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، ويقول: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ؟
أما الحرب فهي من طبيعة الإنسان، أو هي من المصائب الضرورية كما يقول علماء العمران، وأي دولة قامت قديمًا أو حديثًا وتوسعت في العمران وتبسَّطت في المُلك بغير الحرب؟ على أن الإسلام لم يضطر إلى الحروب في زمن مُبلِّغه وأبي بكر وعمر إلا ليثأر لنفسه من واتريه، وليدفع عن نفسه أذاهم، أما الحروب التي كانت من بعد ذلك فإنما أشعل جذوتها المسلمون لا الإسلام، على أن الأمم التي خيَّم عليها الظلم ونخر جسمها الفساد كانت هي التي تتطلب تداخل الجيوش الإسلامية، وتستنصرها على حكامها الظالمين، كما حصل في إسبانيا، وكذلك الملوك كانوا ينتصرون بخلفاء الإسلام حينما تقوم عليهم رعاياهم، كما حصل لإمبراطور الصين في أيام العباسيين، فإنه استنجد بأحد الخلفاء، فأرسل إليه جيشًا بقي أفراده في بلاده وأوجدوا الإسلام، وهم إلى الآن من رجال الفضل والرياسة والجند الذي عليه المعول، خصوصًا في إقليم يون نان، وفضلًا عن هذا وذاك؛ فإن تجار المسلمين لهم اليد البيضاء في نشره في قارة أفريقيا إلى الآن بحُسن سيرهم، وبأخلاقهم الجميلة، وبمعاملتهم الصادقة.
والخلاصة أن كل من يستقري أخبار الفتوح الإسلامية من بعد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر يجدها كلها راجعة إلى التوسع في الملك والاستعمار، هذا التوسع الذي تطمح إليه الأمم الجديدة عند ظهورها في ميدان العالم، ذلك ناموس عمراني خضع له العرب مثلما خضعت له الأمم القديمة والأمم الحديثة، فإن العرب عندما برزوا من شبه جزيرتهم والتأمت جموعهم بفضل الإسلام، إنما قصدوا توسيع مُلكهم؛ لأنهم اكتفوا بالجزية وأقروا الأمم على أديانها، وإنما حاربوا الشرك وعبادة الأوثان كما حاربوهما في بلادهم الأصلية، وأما الأمم التي دانت لسيادة العرب فقد أثبتوا لها ديانتها ونظاماتها، واكتفوا منها بالخضوع السياسي، وهذا هو سر نجاحهم الغريب.
بهذه الأسباب المدنية الدنيوية انتشرت حضارة الإسلام في نصف قرن تقريبًا، من سواحل البحر الأطلنطي إلى بلاد الصين، ومن جبال قفقاسيا وما وراءها إلى خط الاستواء وما وراءه.
بهذه الأسباب دخلت في حوزة الإسلام أمم كثيرة من السلالة السامية: «العرب، والسريان، والكلدان»، ومن السلالة الحامية: «المصريون، والنوبيون، والبربر، والسودان»، ومن السلالة الآرية: «الفرس، واليونان، والأسبان، والأهاند؛ أي الهنود»، ومن السلالة المسماة بالتورانية، وهم الترك والتتر.
بهذه الأسباب دخل في الإسلام كثير من أمم الصين وملايو، وانتشر في جزء كبير من جزيرة مدقسي كر، وجزائر الفيليبين، ووصل إلى روسيا وبولونيا، فضلًا عن انتشاره في هذه الأيام بإنجلترة وأمريكا بين أهلها الأصليين، لا بواسطة النازحين إليها من المسلمين.
مع هذا الانتشار الغريب العجيب، بقيت أركان الإسلام الخمسة ثابتة لم تتغير وإن كانت الفِرق قد تعددت والأهواء تنوعت، ولكن هذه الفرق كانت تظهر ثم تضمحل، أو يقول بها نفر قليل، ولكن الإسلامية بقيت في مشارق الأرض ومغاربها تقول برأي الصدر الأول على وجه العموم، نعم إن الملة حدث فيها انقسام كبير، امتازت به الأقطار الشرقية، وأعني بها التي شرقي بلاد العرب، وهي فارس والهند، فظهرت فيها الشيعة خصوصًا في أرض فارس، ففُصلت الوحدة الدينية العامة إلى حد محدود؛ وذلك لأن رد الفعل من السنن التي جبل الله عليها هذا الكون، ولولا هذا الاختلاف لقلنا إن الجوهر الديني لا يزال واحدًا منذ ظهور الإسلام إلى الآن.
أما الوحدة الأدبية فعلى عكس ذلك؛ بمعنى أنها كادت تبلغ الكمال في أيام الأمويين وفي صدر الدولة العباسية؛ إذ كان لسان العلم والأدب هو اللغة العربية، وكانت اللغات الأخرى مهملة، وأصبحت عقيمة تجاه تيار العربية الغالب؛ فدوَّن المسلمون العلوم والآداب كلها بلسان العرب.
قام النبي العربي بالتوحيد في السياسة، وفي الدين، وفي اللغة، فبذل همته في توحيد بلاد العرب من الوجهة السياسية، وتوصل إلى شيء كثير من تحقيق هذا المطلب قبل أن ينتقل إلى الدار الأخرى، فجعل العرب أمةً واحدةً بعد أن كانوا أشتاتًا بعضهم لبعض عدو، وهي المزية الكبرى التي لم تبلغها هذه البلاد منذ الخليقة، مزية لا يسع المنصف إلا أن يقف أمامها في موقف الإعجاب والإكبار؛ إذ ترتب عليها ظهور العرب ذلك الظهور، وقيامهم بتلك الحركة العجيبة الخصبة التي أعقبتها حضارة الإسلام.
إن كانت هذه المزية مما لا يُذكر له مثال سابق في التاريخ، فهنالك مزية أكبر وأفخم، وأعني بها مجيء محمد — عليه الصلاة والسلام — بالقرآن، نترك الكلام على هذا الكتاب المقدس من الوجهة الدينية، وننظر إليها من الحيثية البشرية، فلقد أجمع أهل الرأي من أفاضل الإفرنج — وإن كنا في غنًى عن هذه الشهادة — بأن القرآن هو الأساس الأول الذي أقيمت عليه معالم الحضارة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، هذا هو القرآن الذي أصبح بعد انتشار الإسلام إمامًا للأمم الكثيرة المتنوعة التي سردنا أسماءها، بحيث دعتهم الحاجة إلى حفظه وتفهُّمه أن يضعوا قواعد النحو وأن يدوِّنوا علم اللغة؛ ولذلك اجتهد السلف من هذه الأمة في جمع أشعار العرب القديمة والمعاصرين له لمعرفة مفرداته وغريبه.
لأجل حفظ القرآن وكتابته طلب النبي ﷺ إلى من لا يستطيع أن يفدي نفسه بالمال من أسارى بدر أن يفتدي نفسه بتعليم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة.
لأجل فهم قواعد الدين من القرآن وضع المسلمون علم العقائد، ثم علم الكلام.
لأجل استخراج الأحكام من القرآن وضعوا علم الفقه.
لأجل معرفة الحوادث المنصوص عليها في القرآن عُنُوا بعلم التاريخ.
لأجل معرفة المواقع المذكورة في القرآن اهتموا بعلم الجغرافية.
ثم تسلسلت العلوم والمعارف بينهم حتى دخلت الفلسفة في عصر العباسيين، فترجموا كتبها ثم اشتغلوا بها وبرعوا فيها. نعم إن الإسلام وحَّد اللغة أيضًا ثم نشرها وجعلها بمثابة لغة عمومية يعرفها كل مسلم، والمسلمون هم ثلث أهل الأرض، وهي مزية لم تبلغها لغة من اللغات، ولم يُتوصَّل إلى هذه المزية النادرة في بابها بغير القرآن.
يعلم القُرَّاء الكرام أن هذه المحاضرات الثلاث لعزتلو المفضال أحمد زكي بك، أستاذ الحضارة الإسلامية خطب طلبة الجامعة إياها قبل عطلة عيد الأضحى المبارك، التي بدأها بسفره إلى دمشق الشام، قاعدة ملك الأمويين؛ لدَرْس آثارها وتفهُّم ما فيها، ولترويض النفس من عناء الأعمال (وما أكثرها لديه)، ولم يحضر حتى يوم طبع القسم العربي من هذا الجزء، وقبل سفره ترك لمجلة الجامعة تلك المحاضرات في أوراق مبعثرة، كتب بعضها بخط يده، قد تصعب قراءته في بعض المواضع، وكتب بعضًا آخر بخطٍّ ناسخٍ له حَرَّف كَلِمًا عن مواضعه، فتحرينا الصواب فيها جهدنا، ولم نتمكن من عرضها عليه قبل الطبع لتغيُّبه، فنرجو إن شاء الله أن تكون كما يريد الأستاذ الجليل.