المحاضرة الخامسة: قاعدة مُلك الأمويين
أيها السادة، كان سلفنا الصالح — رضي الله عنهم — على بُعد الأمكنة، ووعورة الطرق، وعدم ممهداتها ومذلِّلات عقباتها من المراكب البخارية والكهربائية البرية والبحرية التي هي من أكبر عوامل انتشار المدنية الآن. كان سلفنا الصالح على تلك الحال يطوون الأباطح والجبال والكثبان والآكام لطلب مسألة واحدة من العلم، يطلبها النابغة في علمه من عالِم آخر نبغ فيما يسأل فيه، وبذلك أقيمت صروح العلم في القرون الأولى، وخفقت أعلامه، وصَعُب تصدُّر العلماء للتعليم إلا من راضَ نفسه، وملأ رأسه، وأعدَّ لمنزلته السامية ما استطاع لها من قوة.
وإذ إن الجامعة المصرية إنما أُنشِئَت لإحياء ذكرى معاهد العلم والقائمين بها في تلك الأعصر الخالية التي هي من مفاخر الشرق كافة والإسلام خاصة، أردت — وأنا واحد من أساتذتها — أن أحيي أكبر سُنَّة من سنن سلفنا الصالح، وهي الرحلة في طلب العلم لاقتناص فوائده وجمع شوارده بالبحث والمشاهدة ومشافهة أهل الذكر، فاغتنمت فرصة عطلة عيد الأضحى المبارك؛ لأضم فيها إلى علمي الكتابيِّ الضئيل علمًا حسيًّا أشاهده بعيني وأسمعه بأذني، وما كان في حسباني أن يمتد بي الزمن إلى هذا اليوم فأضيِّع على نفسي وعليكم الأسبوع الفائت برمته، لولا أن عاقني الشغف بالعلم وحب التفهم إلى ذلك، وشجعني عليه ثقتي بأنني — إن شاء الله — سأتدارك ما فات وأعوِّضه.
ولعلِّي، أيها السادة، أبلغ ما قصدته من رحلتي هذه القصيرة، وهو أن يضم المسافر منا إلى رياضته علمًا جديدًا، فإن الرياضة تحدث بانتقال الإنسان من عمل إلى عمل، فإنني إنما أردت بسفري بادئ الأمر أن أفرَّ من كثرة الأعمال التي أثقلت كاهلي، فكادت تنوء به لولا رحمة من الله، وبقية من الصبر والجَلَد، وأبت نفسي اللوامة إلا أن تكون الرحلة إلى أول قاعدة لمُلك الأمويين لدرس معالمها وتفهُّم تاريخها من آثارها، فساقتني إليها رغم أنفي، ولكني — والحمد لله — غنمت غُنْمين: غُنْم الرياضة، وغُنْم التوسع في علمي القليل.
ولعلي كذلك أكون بسفري هذا حاضًّا لكم على الرحلة في طلب العلم وأسوة لمن يجيء جامعتنا المصرية من سائر البلاد المصرية لحضور محاضرة أو أكثر، ولمن يأتيها في مقبل أيامها من سائر أقطار المعمور.
أراني بذكرى دمشق قد أحدثَتْ في أنفُسٍ لكم رغبةً في السؤال عن اختصاصي دمشق بتلك الرحلة التي جاءت على عَجَل، ولكنني أثق بأن تلك الأنفس لو رجعت إلى المحاضرات الفائتة وأطالت النظر فيها لعرفت السر في هذا الأمر الذي تريد أن تسأل عنه، ذلك أننا ألممنا إلمامًا ما في تلك المحاضرات بأحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام، وأحوال الأمة العربية بعد ظهور الإسلام، وبأحوال أضخم الممالك عند ظهوره، وانتشار الإسلام والحروب الإسلامية وبغير ذلك من الأمور العامة، ثم تخطينا عصر النبوة؛ لأنه عصر ديني محض، شُغل بإعلاء كلمة الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كما قلنا قبلًا، وكذلك تركنا عصر الخلفاء الراشدين الذي احتذى في بعضه عصر النبوة حذو القذة بالقذة، وشُغل بعض آخر بالفتن الأهلية والحروب الداخلية، وأقبلنا إثر ذلك إلى عصر الأمويين، الذي هو مبدأ الحضارة الإسلامية، وفيه بالغ الملوك والسوقة في الترف والنعيم حتى نسوا أوامر الدين الحنيف ونواهيه.
فذلك الإقبال اضطرنا إلى زيارة أول قاعدة لذلك المُلك العضوض لنرى منشأ الحضارة الإسلامية ومصدرها، وكانت تلك القاعدة هي دمشق الشام، التي هي بيت القصيد من هذه المحاضرة.
دمشق هي قصبة الشام، قال ياقوت: «هي جنة الأرض بلا خلاف؛ لحسن عمارة ونضارة بقعتها، وكثرة فاكهتها، ونزاهة رفعتها، وكثرة مياهها.»
وقال أبو بكر الخوارزمي: «ومن خصائص دمشق التي لم أرَ في بلد آخر مثلها كثرةُ الأنهار بها، وجريان الماء في قنواتها، فقلَّ أن تمُرَّ بحائط — يعني بستانًا — إلا والماء يخرج منه في أنبوب إلى حوض يشرب منه ويستقي الوارد والصادر، وما رأيت بها مسجدًا ولا مدرسة ولا خانقاه إلا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان ويسيح في منصته، والمساكن بها غزيرة لكثرة أهلها والساكنين وضيق بقعتها. ولا تزال دمشق إلى الآن على هذه الحال.»
وفي دمشق من قبور الصحابة والتابعين وأهل الخير والصلاح ودورهم المشهورة بهم ما ليس في غيرها من البلدان، وهي معروفة للآن، وبعضها يُزار في ميدان الحصى قبلي دمشق. قيل إن أكثر مقابر الصحابة والتابعين حُرثت وزُرعت في أول دولة بني العباس؛ فدرست قبورهم، فلما رأى ذلك أهل دمشق عزَّ عليهم أن تخلوَ بلادهم من تلك المقابر، فادَّعوا وجود مقابر غيرهم من الصحابة والتابعين، وليس لهم فيها أثر، وإنما أكثرهم دُفِن في المدينة المنورة.
فتح المسلمون دمشق في رجب سنة ١٤ﻫ بعد حصارٍ وطعان، وكان قد نزل على كل باب من أبوابها أمير من أمراء المسلمين، فصدَّهم خالد بن الوليد من الباب الشرقي حتى افتتحها عَنْوة، فأسرع أهل البلد إلى أبي عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وكان كلٌّ منهم على ربع من الجيش، فسألوهم الأمان، فأمَّنوهم وفتحوا لهم الباب، فدخل هؤلاء من ثلاثة أبواب بالأمان، وانتهوا إلى نصف كنيسة يوحنا، ودخل خالد بالسيف، فانتهى إلى نصف الكنيسة الآخر، فصنع المسلمون نصف الكنيسة الذي دخلوه عَنوة مسجدًا، وبقي النصف الذي صالحوا عليه كنيسة، ثم وسَّع ذلك المسجد بعدئذٍ عبد الملك بن مروان، أحد ملوك بني أمية، وكان مشهورًا بعمارة المساجد بصيرًا بها، فأدخل فيه الكنيسة، وعُرف من ذلك الحين بمسجد بني أمية.
وابتدأ عبد الملك في عمارته سنة ٨٧، وقيل ٨٨ﻫ، وكان أراد في ذلك الوقت نفسه الزيادة في مسجد المدينة، فكتب إلى عامله عليها وقتئذٍ، وكان ذلكم الرجل الورع الزاهد عمر بن عبد العزيز، كلماتٍ يأمره فيها بإدخال حُجَر أزواج النبي ﷺ إلى المسجد، وأن يشتري ما في مؤخره ونواحيه؛ حتى يكون مائتي ذراع، ويقول له: قدِّم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، فإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فَأْمُر أهل التبصُّر فليقوِّموه قيمة عدل، ثم اهدم عليهم وادفع إليهم الثمن؛ فإن لك في ذلك سالف صدق: عمر، وعثمان. فأقرَأ القومَ الكتاب، فأجابوا إلى الثمن، وأعطاهم إياه، وأمر بهدم بيوت أزواج رسول الله ﷺ فهدمها، ولم يلبث إلا يسيرًا حتى قدم الفعلة، قدمهم الوليد، وبعث الوليد إلى صاحب الروم يخبره أنه أمر بهدم مسجد رسول الله، وأنه يُعِينه فيه، فبعث إليه بمال وآلات وعمال، فبعث بهم إلى عمر، وتجرَّد عمر بن عبد العزيز لذلك، واستعمل صالح بن كيسان على ذلك، ولما أمر بهدم بيوت أزواج رسول الله قال: «ما رأيت يومًا أكثر باكيًا من ذلك اليوم.» وكان فيما دخل المسجد من حُجَر أزواج النبي ﷺ حجرة السيدة عائشة، التي دُفن فيها ﷺ، فدخل قبره الشريف من ذلك الحين المسجد، على حين أنه لما تُوفي ﷺ اختلف الصحابة في دفنه، فقال بعضهم: «ندفنه حيث كان يصلي.» فقال بعض آخر: «معاذ الله أن نجعله وثنًا يُعبد وهو الذي حطَّم الأوثان، وأزال الشرك، وأباد الأصنام من جميع جزيرة العرب.» فخاف الصحابة من دفنه في المسجد أن يكون مدعاةً للرجوع إلى عبادة القبور أو مَنْ في القبور، كما كان شأن الأمم الغابرة في تنظيم الصالحين ثم مدافنهم من بعدهم، حتى تأدت الحال بالأعقاب إلى تناسي الأصل الأول، فعبدوا الأصنام والأوثان، وأشركوا بين الواحد القهار، فاتفقوا آخر الأمر على دفنه حيث مات.
وبينما كان الوَرِع عمر بن عبد العزيز يوسِّع الحرم النبوي في المدينة المنورة، ويعمل بالقاعدة التي نسميها اليوم في قوانيننا ونظاماتنا بنزع الملكية للمنافع العمومية، كان الخليفة الأموي يبني مسجد دمشق المعروف بالجامع الأموي، وعند الشروع في بنائه جمع نصارى دمشق وقال لهم: إنا نريد أن نزيد في مسجدنا كنيستكم (يعني النصف الذي بقي لهم منها عند الصلح) ونعطيكم كنيسة حيث شئتم، وإن شئتم أضعفنا لكم الثمن. وذلك عملًا بقاعدة نزع الملكية للمنافع العمومية التي كان عمر وعثمان أول من جرى عليها في الإسلام، فأبوا فهدم وزاد في المسجد ما أراد، وأسرف في إنفاق الأموال على عمارته، يقال إن الوليد أنفق على عمارة المسجد خراج المملكة سبع سنين، قيل وحُملت إليه الحسابات بما أنفق على ١٨ بعيرًا فأحرقها ولم ينظر فيها، وقال: «شيء أخرجناه لله، فلمَ نتبعه؟» وقد اقتدى به في ذلك الأمير طيبرس حينما بنى مدرسته التي بالجامع الأزهر في مصر، فضجَّ الناس إكبارًا لما أنفق الوليد، وقالوا: أخذ أموال المسلمين فأنفقها فيما لا يغني عنهم من الله شيئًا.
وقيل إن عمارته لبثت تسع سنين، وكان يعمل فيه عشرة آلاف عامل، فبلغ ما أكلوه من الخضر والبقول ستة آلاف دينار.
ولقد جعل ذرع المسجد في الطول من الشرق إلى الغرب ثلثمائة ذراع، وعرضه مائتي ذراع، أما سعة صحنه فهي مائة ذراع، وأُنشئ في ذلك الصحن ثلاث قباب: إحداها — وهي أكبرها — في غربيِّه، وتُسمَّى قبة عائشة أم المؤمنين، حُملت على ثمانية أعمدة من الرخام، مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة، مسقوفة بالرصاص، والقبة الثانية في شرقيِّه، وهي على هيئة الأخرى، غير أنها أصغر منها، وتسمى قبة زين العابدين، والقبة الثالثة في وسطه، وهي صغيرة، من رخام عجيب، محكمة الالتصاق، قائمة على أربعة عُمُد من الرخام الناصع، وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاس يمج الماء إلى علو، فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب لُجَيْن، وهم يسمونه قفص الماء، ويستحسن الناس وضع أفواههم فيه للشرب.
وفي الجانب الشرقي من هذا الصحن باب يفضي إلى مسجد بديع الوضع، يُسمَّى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ويقابله من الجهة الغربية موضع يقال إن عائشة — رضي الله تعالى عنها — سمعت الحديث هناك، وفي قبلة المسجد المقصورة العظمى التي يؤم فيها إمام الشافعية، وفي الركن الشرقي منها إزاء المحراب خزانة كبيرة كان فيها المصحف الكريم الذي وجَّهه أمير المؤمنين عثمان بن عفان — رضي الله تعالى عنه — إلى الشام، وتُفتح تلك الخزانة كل يوم جمعة بعد الصلاة، فيزدحم الناس على لثم ذلك المصحف، وهناك يحلِّف الناس غرماءهم ومن ادَّعوا عليه شيئًا، وعن يسار المقصورة محراب الصحابة، وفيه يؤم إمام المالكية، وعن يمين المقصورة محراب الحنفية، وفيه يؤم إمامهم، ويليه محراب الحنابلة، وفيه يؤم إمامهم.
وفي قبليِّ المسجد أمام المحراب قبة من رصاص، وهي المعروفة بقبة النسر، وكأنهم شبَّهوا المسجد بنسر وهي رأسه، وليس في دمشق شيء أعلى ولا أبهى منظرًا منها، وهي محمولة على ستة أعمدة، قد صُوِّر فيها أشكال محاريب وسواها.
وقد رُصِّعت محاريب المسجد بالجواهر الثمينة، وعُلِّق عليه قناديل الذهب والفضة، وشُقَّ فيه أربعة أبواب: باب في قبليه، ويعرف بباب الزيادة، وبأعلاه قطعة من الرمح الذي كانت فيه راية خالد بن الوليد، ولهذا الباب دهليز كبير متسع، فيه حوانيت السقاطين وغيرهم، ومنه يُذهب إلى دار الخيل، وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين، وهي سوق عظيمة ممتدة مع جدار المسجد القبلي، وهي من أحسن أسواق دمشق، وبموضع هذه السوق كانت دار معاوية بن أبي سفيان ودور قومه، كانت تسمى الخضراء، فهدمها بنو العباس وصار مكانُها سوقًا.
وباب في شرقيه، وهو أعظم أبواب المسجد، ويسمى باب جيرون، وله دهليز عظيم يخرج منه إلى بلاط عظيم طويل، أمامه خمسة أبواب لها ستة أعمدة طوال، وفي جهة اليسار منه مشهد عظيم كان فيه رأس الحسين، وبإزائه مسجد صغير يُنسَب إلى عمر بن عبد العزيز، وبه ماء جارٍ، وقد انتظمت أمام البلاط دَرَج ينحدر فيها إلى الدهليز، وهو كالخندق العظيم يتصل بباب عظيم الارتفاع، تحته أعمدة كالجذوع طوال، وبجانبَيْ هذا الدهليز أعمدة قد قامت عليها شوارع مستديرة فيها دكاكين البزازين وغيرهم، وعليها شوارع مستطيلة فيها حوانيت الجوهريين والكتبيين وصُناع أواني الزجاج العجيبة، وفي الرحبة المتصلة بالباب الأول دكاكين لكبار الشهود، منها دكانان للشافعية، وسائرها لأصحاب المذاهب، يكون في الدكان منها الخمسة والستة من العدول، والعاقد للأنكحة من قِبَل القاضي، وسائر الشهود متفرقون في المدينة، وبمقربة من هذه الدكاكين سوق الوراقين، الذين يبيعون الورق والأقلام والمداد. وفي وسط الدهليز المذكور حوض من الرخام كبير مستدير، عليه قبة لا سقف لها، تقلُّها أعمدة رخام، وفي وسط الحوض أنبوب نحاس يزعج الماء بقوة فيرتفع في الهواء أزيدَ من قامة الإنسان، يسمونه الفوارة، منظره عجيب. وعن يمين الخارج من باب جيرون، وهو باب الساعات، غرفة لها هيئة طاق كبير فيه طبقان صغار، مفتحة لها أبواب على عدد ساعات النهار، والأبواب مصبوغ باطنها بالخُضرة وظاهرها بالصُّفرة، فإذا ذهبت ساعة من النهار انقلب الباطن الأخضر ظاهرًا والظاهر الأصفر باطنًا.
وباب في غربيه يعرف بباب البريد، وعن يمين الخارج منه مدرسة للشافعية، وله دهليز فيه حوانيت للشماعين، وسماط لبيع الفواكه، وبأعلاه باب يُصعَد إليه في دَرَج له أعمدة سامية في الهواء، وتحت الدرج سقايتان عن اليمين والشمال مستديرتان.
والباب الجوفي، ويعرف بباب النطفانيين، وله دهليز عظيم، وعن يمين الخارج منه خانقاه تعرف بالشميعانية، في وسطها صهريج ماء، ولها مطاهر يجري فيها الماء، ويقال إنها كانت دار عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.
وعلى كل باب من أبواب المسجد الأربعة دار وضوء يكون فيها نحو مائة بيت تجري فيها المياه الكثيرة.
وكان في المسجد ٦٠٠ سلسلة من ذهب، قيل إنها كانت تختطف الأبصار؛ فدخنوها ليكسروا من ضوئها، كما يدخن الأوروبيون الآن الفضة.
وقال موسى بن حماد البربري: رأيت في مسجد دمشق سورة أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ إلى آخرها محفورة بالذهب في الزجاج، ورأيت جوهرة حمراء ملصقة في القاف التي في قوله تعالى: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، فسألت عن ذلك، فقيل لي إنه كانت للوليد بنت، وكانت هذه الجوهرة لها، فماتت فأمرت أمها أن تدفن هذه الجوهرة معها في قبرها، فأمر الوليد بها فصُيِّرت في قاف المقابر من أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، ثم حلف لأمها أنه قد أودعها المقابر فسكتت.
وكان في المسجد أئمة ومدرسون، وقرَّاء يقرءون بالأصوات الحسنة، وجماعة من المعلمين يلقنون الصبيان القرآن، ومعلمون للخط.
وقد وصف بعض أهالي دمشق ذلك المسجد فقال: «جامع المحاسن، كامل الغرائب، معدود من إحدى العجائب، قد زُوِّر بعض فرشه بالرخام، وأُلِّف على أحسن تركيب ونظام، وفوق ذلك فصٌّ أقداره متفقة وصنعته مؤتلفة، بساطه يكاد يقطر ذهبًا ويشتعل لهبًا، وهو مُنزَّه عن صور الحيوان إلى صنوف النبات وفنون الأغصان، لكنها لا تُجنَى إلا بالأبصار، ولا يدخل عليها الفساد كما يدخل على الأشجار والثمار، بل باقية على طول الزمان، مدركة بالعيان في كل أوان، لا يمسها عطش مع فقدان القطر، ولا يعتريها ذبول مع تصاريف الدهر.»
فقد كان مسجد دمشق من أعجب ما صُنع في الدنيا، حتى قال بعض السلف: «ما ينبغي لأحد أن يكون أشد شوقًا إلى الجنة من أهل دمشق؛ لما يرونه من حسن مسجدهم.»
وهذا مما يدل على سرعة إيغال العرب في الحضارة حتى بذُّوا فيها أهل عصرهم سرعةً لم يُعهد لها نظير في تواريخ الأمم المتحضرة.
ولم يزل ذلك المسجد على تلك الصورة التي تملأ العين حُسنًا وبهاءً إلى أن أُشعلت فيه النيران سنة ٤٦١ﻫ؛ فأذهبت بعض بهجته.
ومما يُروى أن عمر بن عبد العزيز لما وَلِيَ ملك بني أمية قال: «إني أرى في أموال مسجد دمشق كثرة أُنفقت في غير حقها، فلو استدركت ما أنا مستدرك منها فيُردُّ إلى بيت المال، لكنت أنزع هذا الرخام والفسيفساء، وأنزع هذه السلاسل وأُصيِّر بدلها حبالًا.» فاشتد ذلك على أهل دمشق، فأبلغوه إعظام الروم لهذا المسجد، فترك ما هَمَّ به.
هذا ما كان عليه مسجد دمشق، وتلك حاله، غير أن الذي يؤسفنا ويؤلمنا أن هذه الصفات البديعة لا يوجد منها الآن شيء مذكور، اللهم إلا ما كان من آثارها التي تدلُّ عليها.
وقد زُرت بعلبك لعلاقتها بحضارة الإسلام، وهي مدينة قديمة مشهورة في سوريا، في الجهة الشمالية من سهل البقاع، قرب الجبل الشرقي المعروف بمصاقب لبنان. وبعلبك كما وصفها المؤرخون كانت قبلًا من أجل لمدن؛ لوقوعها بين صور وتدمُر والهند، فكانت محطًّا لقوافل التجارة، وهي إحدى مدن فينيقية اللبنانية في عهد الرومان، على مسافة واحد وثلاثين ميلًا من دمشق إلى الشمال الغربي، واثنين وثلاثين ميلًا إلى طرابلس، ومائة ميل وتسعة أميال إلى تدمُر.
أما الآن فهي قصبة قضاء تتبع ولاية دمشق، وفيها كرسي أسقف للروم الكاثوليك، وآلاي لعساكر الرديف، وإدارة بريد وبرق، وموقف للسكة الحديدية بين رباق وحلب، وعدد سكانها يبلغ خمسة آلاف، النصف شيعة (متاولة)، والربع من أهل السُّنة، والربع الآخر مسيحيون، منهم ألف روم كاثوليك، ومائة موارنة، ولهم رئيس أساقفة، وخمسون روم أرثوذكس.
وفيها مسجدان لأهل السنة: أحدهما يُعرف بالحنبلي، جدَّد بناءه السلطان قلاوون سنة ٦٨٢ﻫ، والآخر جُدِّد بناؤه سنة ١٣٢١ﻫ، وفيه مئذنة بُنِيت في أيام الملك الصالح أبي الفداء إسماعيل سنة ٦٣٨، وهو بقرب الهيكل المستدير؛ ومسجدٌ للشيعة بناه سابقًا الأمير يونس الحرفوش سنة ٩٦٢ﻫ، وجُدِّد بناؤه سنة ١٣٢٥ﻫ. وفيها مسجد كبير خرب، كان فيما سلف على ما يظهر كنيسة للقديس يوحنا، فحوَّلها المسلمون مسجدًا، وكان المسجد الأعظم في عمرانه، ولكنَّه لم يفقد الآن غير سقفه، وهو في داخله ذو ثلاثة صفوف من الأعمدة القصيرة، بعضها من حجر الجرانيت وبعضها من حجر أصم، وعلى أكثره تيجان قرنثية تحمل أقواسًا قنطرية يرتكز عليها السقف، وقد وُضعت العُمُد بلا ترتيب ولا نظام، فأكثرها وُضع على الأرض بلا قواعد، وبعضها يحمل تيجانًا لا تناسب حجمه، ويُرجَّح أن العرب نقلوها من أعمدة البهويين في القلعة بعد أن قطعوا شيئًا من طولها. ويفصل المسجد عن الدار التي بجانبه صفٌّ من الركائز المربعة ذات الأقواس، وهناك على ركيزة في الوسط جرن للماء عليه نقوش عربية، وكان تحته حوض لقبول الماء، ويُظَن أن الجرن أُخِذ من الكنيسة القديمة حيث كان للمعمودية، وبجانب هذا المسجد دار فسيحة مربعة، يحيط بها رواق من القناطر من الشرق والشمال والغرب لم يبقَ منه سوى قنطرتين في الجهة الشمالية، ووراء الرواق من الشرق غرف كانت للتدريس، وعلى أبوابها كتابات عربية، وفي وسط الدار بركة للماء، كان على جوانبها الأربعة أعمدة تُحمل فيه، ولم يبقَ من ذلك إلا الأثر.
وأكثر أهل بعلبك زراع، وفيها بساتين حسنة تحيط بها، ونبعها المسمى «برأس العين» من أجمل المتنزهات في سوريا، فهو روضة أنيقة، مياهها كاللُّجَين، وليس فيها من عيب إلا أنها زائلة. وفي رأس العين مسجد ينتهي بناؤه إلى زمن الظاهر بيبرس البندقداري في سنة ٦٧٦ﻫ، وهو فخم جليل، ولكنه متخرب مثل مسجده بالقاهرة في البقعة المعروفة باسمه.
وكان هناك آثار مدرسة قديمة، لم تُبقِ منها يدُ الجهل غير حجر عليه كتابة عربية نُقِل إليها من المسجد.
وكانت هذه المدينة من أعظم المدن السورية وأشدها منعة وحصانة، وحولها إلى الآن آثار أسوار كانت تحيط بها، وفيها آثار يسعى السائحون سنويًّا إليها لرؤيتها، ومن تلك الآثار قلعتها التي هي من أعجب مباني الدنيا وأبهج الآثار، ومن تلك الآثار التي كادت تدرُس معالمها هياكل جليلة، أشهرها هيكل الشمس الذي كان من أجلِّ أسباب عمران بعلبك وتقدُّمها لكثرة وفود الزائرين إليه، وكان له احتفال من أبهج الاحتفالات، قيل حُمل إلى ذلك الهيكل تمثال الشمس الذي سُمي به من مصر، وهو يشبه تمثال أوزيريس، قيل إن أنطونينوس بيوس هو الذي رمَّمه وزيَّنه سنة ١٦٠، ولما انتشرت الديانة المسيحية في الشرق هُجرت كل الهياكل الوثنية إلا هيكل الشمس، فإنه جُعل كنيسة مسيحية، وذلك في أيام قسطنطين بن هيلانة، الذي تنصر وأخذ خشبة الصليب من بيت المقدس. وبقيت بعلبك زاهية زاهرة إلى أن فتحها المسلمون سنة ٦٣٥، فدافع أهلها دفاعًا حسنًا، وبقيت أكثر من قرن مركزًا عظيمًا للتجارة، إلى أن استُبِيح دم أهلها فقُتلوا على عهد الأمويين، ونهبها تيمور سنة ١٤٠٠م، وتم خرابها بزلزلة هائلة سنة ١٧٩٩م.
أما قلعة بعلبك فهي هيكل الشمس الذي ذكرناه، حوَّله المسلمون قلعة حينما حدثت الحروب الصليبية، فإن السلطان صلاح الدين ذهب إلى بعلبك ووجد هذا الهيكل أمنع حصن فحوَّله إلى قلعة، ورفع فوقه أحجارًا من غير نظام للسرعة، جُعلت مناور لجند المسلمين يرمون منها الأعداء، وهي المعروفة الآن باللغة التركية بالمزالق.
وفي تلك القلعة أعمدة من الصوَّان أو الجرانيت أُخِذت من أسوان، فدلَّ هذا على قدرة في حمل الأثقال ونقلها من أقصى الصعيد على روامس على النيل، ومنه على بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) حتى طرابلس الشام، ومنها على عجلات تخترق جبل لبنان على الطريق الرومانية، التي وجد النقَّابون آثارها حيال بعلبك.
وعلى تلك الأعمدة أجلُّ ما يستطيع أن يصنعه صانع من النقوش البديعة الدقيقة التي تشبه «التنتلة»، وتلك النقوش تشهد بأنها لم تُصنع إلا بعد أن رُفعت هذه العُمُد إلى ذلك المكان الذي هي فيه؛ لأنها لم تكسر مع شدة ارتفاعه الهائل، ويؤكد تلك الشهادة أن ذلك النقش لم يتم، وكأني بالملك قسطنطين لما تنصر أوقف العمل في هذا النقش؛ لأن على تلك العمد كتابة تدل على انتشار النصرانية هناك.
ثم بنى المسلمون في ذلك الهيكل أو تلك القلعة مسجدًا يشبه مساجد مصر، وفيه بئر يسميها مؤرخون من العرب بئر الرحمة؛ لأنهم يزعمون أن ماءها كان يفيض إذا حاصر الصليبيون القلعة، فإذا ما انفضوا من حولها هبط الماء. ولقد علل هذا الانتقاد سوري عالم أديب فقال: «إن المسلمين أحاطوا تلك القلعة بخندق كانوا يملئُونه ماءً إذا حاصرهم الصليبيون، فيسير الماء إلى البئر من جوف الأرض فيملؤها، فإذا ما ذهبوا رفع المسلمون الماء من الخندق ليفرجوا عن أنفسهم، فيقل ماء البئر.» وهذا معقول وصحيح، وحُقَّ لهم أن يسموه بئر الرحمة، غير أنهم أخطئُوا في تعليل ذلك إذ قالوا بأنه من الخوارق، والحقيقة أن ذلك الفيض والغيض مظهر من مظاهر الناموس الطبيعي المعروف في علم الطبيعة.
وعلى ذكر الحروب الصليبية وتلك القلعة الإسلامية نقول إن الصليبيين كانوا يعملون أبراجًا من خشب متنقلة يسمونها «الدبانات، والكبوش»، وكانوا يُسيِّرونها لرمي الأعداء المستترين في أعالي القلاع.