المحاضرة السادسة: تتمة المحاضرة الماضية
هذا وقد زرت أيضًا مدينة صيدا الشهيرة في فلسطين.
دعاني إلى زيارتها داعيان: الداعي الأول توقُّع ما قد يكون فيها من آثار الحضارة الإسلامية، والداعي الآخر، وهو أجلُّها عندي، هو البحث عن كتاب جليل القدر عالي الشأن، يعد من مفاخر الأمة الإسلامية، ويدل على مقدار رُقيِّها وحضارتها وضربها في العلم بسهام نافذة، وذلكم الكتاب الذي سارت بذكره الركبان، وملأ بريد ذكره الآفاق هو: «نهاية الأرب في فنون الأدب»، في ٣٠ جزءًا، لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدايم البكري التميمي القرشي النويري المصري، المولود بالنويرة من أعمال مديرية بني سويف، المتوفى في ٢١ رمضان سنة ٧٣٣ﻫ، وقيل سنة ٧٣٢ﻫ.
هذا كتاب يصدق عليه دون سواه أن يقال عنه إنه جمع فأوعى، وإنه لم يترك شاردة من فنون الأدب إلا تصيدها، ولم يغادر واردة من موارد العلوم إلا قيَّدها، ولا فائدة من فوائد التاريخ إلا دوَّنها، فهو حسنة الحسنات التي يليق الافتخار بها ويجب التناصر على إبرازها، خصوصًا وأن مؤلفه من أبناء مصر الذين نبغوا في أيام المماليك على عهد السلطان محمد قلاوون، وكان من أركان دولته وأساطين حكومته، وكان معاصرًا لابن فضل الله العمري، وللسلطان أبي الفدا صاحب التاريخ والجغرافيا، وغيرهما من فحول الإسلام الذين تفتخر بهم مصر والشام؛ فلذلك تيسرت للنويري المطالب، وتوفرت لديه الموارد؛ فتمكن من جمع هذا الكتاب في ثلاثين جزءًا، يفي كل واحد منها بالمرام، بحيث لا تبقى بعده حاجة في نفس المُطالع أو الطالب.
وقد توليت البحث عنه في مكاتب أوروبا المتفرقة أثناء رحلاتي العلمية، وواصلت السعي منذ سنة ١٨٩٠ إلى سنة ١٩٠٤ لمعرفة مكامنه في القسطنطينية، ورومية، وويانة، وبرلين، وليدن، وباريس، ومدريد، وأكسفورد، ونقلت بعض المعلومات اللازمة عنه للتنبيه عليه والتعريف به، وتيسرت لي الإحاطة بكل ما يتعلق بهذا الكتاب، واجتمعتْ لديَّ الوسائل التي تُوصِّل الناطقين بالضاد ونصراء المعارف من غيرهم للحصول على هذا الكنز العديم النظير. ومن تمام حسن الحظ أنني عثرت أخيرًا في مكتبة الغيور حضرة ألماس أغا صبري باش أغاي السراي الخديوية على الجزء الأول والثاني من نسخة جليلة صحيحة مضبوطة، مكتوبة في سنة ١١٧٦ﻫ، برسم فخر العلماء وتاج الأدباء المرحوم محمد راغب باشا، الصدر الأعظم صاحب السفينة المشهورة، وغيرها من جلائل المصنفات، فأعلمت حضرة الباش أغا بمساعيَّ في اقتصاص أثر هذا الكتاب، وما يترتب على نشره من المفاخر والفوائد؛ فبادر وقدمها إليَّ لاستخدامها بما فيه المصلحة العامة؛ لكي يتيسر التعجيل بطبع الكتاب، والشروع في تعميم هذه المنفعة الجليلة.
ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن هذا الكتاب كان موضع عناية خصوصية من أمراء الدولة العلية العثمانية وصدورها العظام، فإن الصدر الأعظم محمد باشا الكوبريلي نقله لنفسه بطريقة بلغت الغاية في السرعة، فقد ثبت لي من البحث والمراجعة أنه أخذ نسخة كاملة وفرَّق أجزاءها على جماعة من النسَّاخين، وأغلبهم من الشاويشية؛ فاجتمعت لديه نسخة كاملة في أقرب وقت، ولكنها، لاختلاف النسَّاخين وجهلهم بالعلم وباللغة العربية، جاءت سقيمة محرَّفة مشوَّهة في كثير من المواضع، وهي محفوظة بكتبخانته في القسطنطينية. ومثله في العناية القاضي صاحب النسخة التي بقي جزء واحد منها بالكتبخانة الخديوية، أما في عصر المؤلف فقد كانت العناية بهذا الكتاب بالغة حدَّها، فإن أمراء مصر استنسخوه كثيرًا وجعلوه وقفًا في أكثر مساجد ومدارس القاهرة، كما يظهر من الأجزاء المتفرقة في الآستانة وغيرها من عواصم أوروبا.
- الفن الأول: في السماء والآثار العلوية، والأرض والعالم السفلي.
- الفن الثاني: في الإنسان وما يتعلق به.
- الفن الثالث: في الحيوان الصامت.
- الفن الرابع: في النباتات «ويدخله علم الطب».
- الفن الخامس: في التاريخ.
قسَّم المؤلف كل فن إلى خمسة أقسام، وتحت كل قسم أبواب تنطوي على جملة فصول ومباحث ومطالب.
من موجبات الغرابة، بل من دواعي العبرة والأسف، أن الأجانب كما انفردوا دوننا بحيازة هذا الكنز الثمين، قد امتازوا علينا أيضًا بالاستفادة منه واستثمار مزاياه، أما نحن معاشر المصريين أصحاب الشأن الأول في هذا الميراث الجليل فقد بقينا إلى الآن على جهل تام بمواضع هذا الكتاب وبموضوعاته، مع أن أسلافنا عرفوا مكانته ومزيته، فاستقوا من بحره الطامي، وشادوا به لأنفسهم ذكرًا عاليًا في الخافقين، مثل صاحب بهجة الزمن في تاريخ اليمن، ومثل القلقشندي صاحب كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ومثل ابن شاكر فخر الدين محمد الكتبي، صاحب فوات الوفيات، فإنه ألَّف تاريخًا كبيرًا سماه عيون التواريخ، في كتبخانة باريس جزآن منه، وهما: الثالث، وفي آخره ٩ ورقات تحتوي على أول غزوات المسلمين وحروبهم في الأندلس، والثامن، وفي آخره ١٣٣ ورقة تحتوي على تاريخ بلاد المغرب منذ فتحها المسلمون إلى أن ملكها السلطان الموحدي المستنصر بالله أبو يعقوب يوسف بن الناصر محمد، وكل ذلك منقول عن النويري، وفي كتبخانة باريس أيضًا تحت نمرة ١٥٧٧ جزء يحتوي على المختار من تاريخ النويري، ولم يذكر صاحب الاختيار اسمه، وهذا الجزء يحتوي على تاريخ الموحدين بالأندلس وأفريقيا وفتح مراكش، وعلى شيء كثير غير ذلك من التاريخ والأدب، وفي مكتبة أكسفورد — إحدى مدينتي العلم ببلاد الإنكليز — كتابان عربيان محفوظان تحت نمرة ٤٠٤ و٤٠٥، وليس لهما عنوان، ولم يذكر المؤلف اسمه، وفيهما شرح أسماء لغوية وجُمل وأقوال، وذكر بعض المواضع التي حصلت بها أكبر الحوادث في التاريخ، وغير ذلك، وقد اعتمد المؤلف في ذلك كله على النويري، وكذلك صاحب شفاء الغليل، ولكن العالِم المحقق الشيخ نصر الهوريني لم يصحح اسمه، فتركه نهاية للأدب؛ لأنه — وهو علَّامة مصر — لم يطَّلع على الكتاب.
- أولًا: العلَّامة السويدي أوتر Otter المتوفى سنة ١٧٤٨، كتب مؤلَّفًا وافيًا على ما ذكره النويري عن فتح المسلمين لبلاد أفريقيا الشمالية.
- ثانيًا: العلَّامة الهولندي ألبرت شولتنز Albert Schultens المتوفى سنة ١٧٥٠، فقد استخرج منه ما يختص بتاريخ اليمن وساكنيه قديمًا، وكتب في ذلك تاريخًا مفيدًا، وله كتاب آخر في آثار العرب القديمة، نقل فيه فصولًا أخرى عن النويري، وعنوان التاريخ: Historia imperii vetustissimi Joctanidarum in Arabia Felice، وعنوان كتابه في الآثار: Monumenta vetustiora Arabum.
- ثالثًا: العلَّامة الألماني ريسك Reiske المتوفى سنة ١٧٧٤، فإنه ترجم إلى اللغة اللاتينية كل ما أورده السلطان أبو الفدا عن وصف بلاد الشام في جغرافيته المسماة بتقويم البلدان، ثم عقَّب هذه الترجمة برسالة لاتينية للتعريف بكتاب كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون، وضمَّنها بيان كل ما في موسوعات النويري من المطالب والأبواب، وجعلها كفهرست تحليلي تفصيلي لتسهيل الوقوف على ما حوته من أنواع العلوم والآداب، وجعل عنوان هذه الرسالة: Prodidagmala ad Hadji-khalfæ tabulas.
- رابعًا: العلَّامة الدانيمركي راسموسن Rasmussen المتوفى سنة ١٨٠٥، ألَّف باللغة اللاتينية كتابًا في تاريخ الإسلام والخلفاء، ثم جعل له ذيلًا في تاريخ العرب قبل الإسلام، اعتمد في كلٍّ منهما على النويري وخصوصًا في الذيل، وعنوان الكتاب: Annalis isla mismi, sive tabulæ synochronisticæ-chronologicæ chalifarum، وعنوان الذيل: Additamenta ad historiam Arabum ante Islamum, ex Novereïr excerpta.
- خامسًا: الشمَّاس الطلياني جريجوريو روزاريو Gregorio Rosario، ترجم إلى الطلياني كل ما كتبه النويري على جزيرة صقلية، أيام كانت في حكم المسلمين، في كتابه الذي سماه Collezione di cose arabe-siciliane، وطبعه في بالرم عاصمة صقلية سنة ١٧٩٠.
- سادسًا: العلَّامة الألماني أيشهورن Eichhorn، المتوفى سنة ١٨٢٧، نقل إلى اللغة اللاتينية كل ما كتبه النويري فيما يتعلق بتاريخ العرب قبل الإسلام في كتابه المسمى Monumenta antiquissima historiæ Arabm.
- سابعًا: العلَّامة الفرنساوي كوسان الوالد Caussin le père، المتوفى سنة ١٨٣٥، فقد ترجم ما كتبه النويري على تاريخ جزيرة صقلية (وقد ضبطها ابن خلكان بفتح الصاد والقاف، ولكن الكسرتين أصوب وأقرب للاسم الإفرنكي).
- ثامنًا: العلَّامة الفرنساوي الكبير المشهور في المشارق والمغارب، وهو البارون سلفستر دوساسي Baron Silvestre de Sacy، المتوفى سنة ١٨٣٨، استخرج من نهاية الأدب كل ما يتعلق بالدروز، ونقله إلى الفرنساوية، ووضعه مترجمًا في كتابه الحافل الذي تكفل شرح أحوال هذه الطائفة وديانتها Exposé de la religion des Druzes.
- تاسعًا: العلَّامة الألماني هامر بورجستال Hammer-Purgstall، المتوفى سنة ١٨٥٦، نقل عنه صورة المناشير السلطانية والمراسيم الملوكية، التي أصدرتها الدولة المصرية ببيان الملابس التي يلزم أهل الكتاب أن يتزيَّوا بها.
- عاشرًا: العلَّامة الفرنساوي نويل دي فرجير Noël des Vergers، المتوفى سنة ١٨٦٧، كتب بالفرنساوية تاريخ جزيرة صقلية في أيام دولة الأغالبة؛ أي بني الأغلب، وسماه Histoire de la Sicile sous les Aghlabites، وأورد فيه باللغة العربية كل ما ذكره النويري على هذا الموضوع، وترجمه إلى الفرنساوية.
- حادي عشر: العلَّامة الفرنساوي الدار الإنكليزي الأصل البارون ده سلين Baron de Slan، مترجم تاريخ ابن خلكان إلى اللغة الإنكليزية، ومقدمة ابن خلدون إلى الفرنساوية، المتوفى سنة ١٨٧٨، نقل عن نهاية الأرب تاريخ أفريقيا الشمالية إلى اللغة الفرنساوية.
- ثاني عشر: العلَّامة الهولاندي المتبحر في معارف العرب والشرقيين رينهارت دوزي Reinhart Dozy، المتوفى سنة ١٨٨٣، استعان بهذا الكتاب كثيرًا في تأليف قاموسه المسمى تكملة المعجمات العربية Suplément aux dictionnaires arabes.
- ثالث عشر: العلَّامة الفرنساوي ده فرمري Defrémery، المتوفى سنة ١٨٨٣، نقل إلى الفرنساوية ما رواه المؤلف من الحكايات والنوادر التي وقعت للسلطان بيبرس.
- رابع عشر: العلَّامة ميشيل أماري Michel Amari الطلياني الصقلي المتوفى سنة ١٨٨٩، جمع كل ما كتبه مؤرخو العرب على جزيرة صقلية وطبعه في كتاب عربي، ثم ترجمه في مجلدين إلى اللغة الفرنساوية، وقد أكثر فيه من النقل عن النويري.
وحسبنا ذلك الآن دليلًا على ما حواه ثلثا هذا الكتاب اللذان خصَّصهما المؤلف — رحمه الله — لفن التاريخ بكلياته وجزئياته، وأما الثلث الآخر — أي العشرة الأجزاء الأولى — فليس لدينا وقت الآن للتعريف بها والتنويه عنها، وبيان الأسلوب الذي اتبعه المؤلف في تحرير هذا الكتاب الجامع، ويكفي أن نعرف أن الفن الخامس، وهو التاريخ، قد استغرق كما قلنا ٢٠ جزءًا، أتى المؤلف فيها على التاريخ العام، وتواريخ الممالك والبلدان، وطبقات الأفاضل، وتراجم الأعيان، بما يشفي العليل ويروي الغليل، ولا جَرَم أن المقام لَيضيق عن سرد ما حوته من رءوس المسائل وأصول المطالب؛ فلذلك نكتفي بما سبقت الإشارة إليه في هذه السطور الوجيزة.
هذا هو الكتاب الجليل الذي حُرمت منه مصر، مع أن مؤلفه مصري، وقد استنسخ منه في حياته في مصر نحو ٣٠ نسخة كاملة سوى النسخة التي كتبها المؤلف بخطه وباعها بألفي درهم (نحوًا من ٨٠ جنيهًا) وأغلب أجزائها موجود اليوم بهولندة في مدينة ليدن، ولا نكاد نجد خزانة كتب في الآستانة على تعددها هناك، ولا خزانة في أوروبا إلا وفيها نسخة من هذا الكتاب الذي كُتبت منه النسخ البادية الذكر في مصر في حياة مؤلفه على عهد السلطان قلاوون، ذلك العهد الذي كانت فيه مصر غرة في جبين الأقطار؛ إذ انتشرت فيها العلوم والصنائع والفنون، وبلغت فيها منزلة سامية، وأكثر الآثار التي في دار الآثار العربية الآن كلها تُنسب إلى ذلك العهد، وهو القرن الثامن للهجرة، الذي ألَّف فيه الوزير الجليل الذي تقدم ذكره، ابن فضل الله العمري، صاحب كتاب «التعريف في المصطلح الشريف»، كتابَه النادر المثال، الذي ملأ صيته الآفاق، وهو «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار»، وهذا الكتاب من مفاخر مصر في ذلك العصر، ولقد استعان مؤلفه على تأليفه بأحوال ذلك الزمان، فإن بعض الدول كان يرسل سفراءه ورواده إلى بعض، وكان نصيب مصر منهم عظيمًا، وكان كلما ورد منهم وفد على مصر أخذ الوزير المذكور عنهم أخبارًا ومعارف، ثم يعرضها على الوفود الأخرى لتمحيصها والإيقان من صدقها، ثم يضعها بعد إنضاجها في مؤلَّفه هذا، وهو موجود إلى الآن بمكتبة آيا صوفيا بالآستانة كاملًا، لا ينقصه سوى الجزء الأول، وفي مصر منه خمسة أجزاء، خلاف بعض أجزاء في مكتبة باريس، وجزء في مكتبة تونس.
فكتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب» هو الذي دعاني إلى زيارة صيدا، وذلك أنني سمعت منذ زمان وأنا في القاهرة أن ذلك الكتاب موجود عند أسرة مالطية في صيدا، فبذلت قصارى جهدي وأنا في القاهرة لنَيْله فلم أوفق، ولما ذهبت إلى الشام ذكرت الكتاب وموضعه فهممت ببلوغه، وعرجت على صيدا رجاء أن أناله، غير أنني بمزيد الأسف أخفقت في مسعاي، ولم أجد منه إلا مقدار ما هو عندي منه. ولم تَفُتْني رؤية صيدا نفسها، فرأيت فيها آثارًا تدل على أنها كانت محصنة منيعة، فهدم السلطان صلاح الدين الأيوبي في الحروب الصليبية أسوارها وحصونها؛ خوفًا من امتلاك الصليبيين إياها وتحصُّنهم فيها، ولكن بقاياها تدل على منعتها، فإن شوارعها متعرجة، وكلها مبنية بالحجر الجلمود على هيئة القبو، وقد يدخل نصف القبو في المساكن لتكون الشوارع ضيقة فلا يتمكن العدو من امتلاكها، على فرض أنه دخلها وامتلك أسوارها.