المحاضرة السابعة: ثلاثة أجوبة
أيها السادة، إنما العصمة لله ولكتاب الله، فليس لإنسان مهما ضرب في العلوم بسهام نافذة، وكان أوفر الناس عقلًا وأدقهم بحثًا وتنقيبًا وأعلاهم كعبًا، أن تدفعه الأماني إلى طلب تلك العصمة، فالخطأ لا بد منه لكل إنسان، ولم يسلم منه إمام من أئمة سلفنا الصالح على علو منازلهم وجليل أقدارهم، وحسبنا أسوة من هؤلاء الأجلاء الإمام الفقيه مالك بن أنس، عالم المدينة الذي كانت العلماء تنكمش في حضرته في أركان ثيابهم، فإنه جمع في موطَّئه ستمائة ألف حديث، ثم تخير منها ستمائة فقط، وقد ذكر الإمام الشافعي عالم مكة — رضي الله تعالى عنهما — هذا الموطأ فقال: «هو أكثر الكتب صوابًا.» «فأثبت» له الخطأ مع ذلك التحري والتمحيص من صاحبه.
والذي يفضُل به بعض الناس بعضًا إنما هو قلة الخطأ، والرجوع إلى الصواب متى وضحت محجته وأُضيئت منارته، والإنسان لا يعلم أنه مخطئ حين يخطئ، وإلا لما أخطأ؛ فإن إنسانًا أوتي ذرة من العقل لا يرضى لنفسه النقص، فلا بد من أن ينبِّه بعض الناس بعضًا إلى الخطأ.
هذا والعلوم النقلية التي تصدرنا للكلام في فرع منها، وهو الحضارة الإسلامية، لا مجال للعقل فيها اللهم إلا في الاستنباط، ونحن نجمع أشتات محاضرات هذه الحضارة من كل ما كُتب فيها باللغتين العربية والفرنسية إلا قليلًا مما يجوز أننا لم نظفر به، ولا نروي من هذه الكتب إلا كلام الثقات.
ولقد نبَّهني مُنبِّه في صباح هذا اليوم إلى رسالة منشورة في «الجريدة» الغراء لصديق لي من الفضلاء، ينكر فيها أمرين مما جاء في المحاضرات الفائتة وفي خطبة افتتاح الجامعة؛ الأمر الأول: حقيقة ألف القنطار من الذهب التي دفعها ملك الروم إلى ملك الفرس ليرحل عن بلاده، والأمر الثاني: ثلاثة الملايين من المجلدات التي كانت في خزانة الكتب بطرابلس الشام.
وكذلك سألني سائل منكم بيان حقيقة الحروب الإسلامية، وأنها مدينة استعمارية، فلم أر بُدًّا من الجواب على هذه الأسئلة الثلاثة لإيضاح ما خفي منها.
فما دفعه الروم للفرس وأنكره بعضهم هو بالنسبة لهذه المقادير يكاد ألا يكون شيئًا مذكورًا، ونحن نرى كثيرًا من الأنباء الصحيحة ما لا يكاد يصدقه العقل لولا الوثوق من ثبوته، فمن ذلك أن الإنكليز في حرب البوير بالأمس خسروا زهاء مائتي مليون جنيه إنكليزي، أو ٨٨٨٨٨ قنطارًا على التقدير العربي تقريبًا، أو ٤٤٤٤ قنطارًا على التقدير الرومي تقريبًا، ومن ذلك شركة الخميرة الملوكية (أي خميرة عمل الخبز) وهي شركة أمريكية تنفق في كل سنة على طبع الإعلانات فقط مبلغًا وقدره ٣٥٧٠٠٠٠ من الفرنكات؛ أي ١٤٢٨٠٠ من الجنيهات، وهي تزن ٦٣ قنطارًا عربيًّا تقريبًا، أو (٣٫٥) ثلاثة قناطير ونصفًا رومية، وهي شركة صغيرة مؤلفة من آحاد الأمة.
وهذه شركة الزيوت الأمريكية حُكِم عليها منذ يومين بغرامة قدرها مليون ريال وربع مليون كما جاءت به التلغرافات؛ أي ٢٥٠٠٠٠ جنيه تقريبًا، أو ١١١ قنطارًا عربيًّا تقريبًا، أو ٥٫٥ قناطير ونصف قنطار رومي تقريبًا.
ومما يجدر ذكره ما كان عقب الحرب بين فرنسا وألمانيا، فإن قصر التويلري المشهور في باريس تهدم، فجاءهم أمريكي وعرض على الدولة الفرنسية ترميم هذا القصر، ولم يطلب في نظير ذلك سوى تخصيص غرفة له فيه، وحضوره كل الاحتفالات التي تقام في البلد، وقدَّم لذلك بيان النفقة اللازمة لإعادة البناء، وقدرها سبعة ملايين من الفرنكات؛ أي ٢٨٠٠٠٠ جنيه، أو ١٢٤ قنطارًا عربيًّا تقريبًا، أو ٦ قناطير رومية تقريبًا.
ذكرنا هذه المقادير التي جرت المعاملة بها في هذه الأزمان المتأخرة ليُمرَّن القارئ على قراءة وسماع ألف قنطار من الذهب التي أُنكرت علينا، مع أننا أهملنا شيئًا كثيرًا من الغرائب الواقعة تحت أنظارنا.
قلت قبلًا إن خزائن (كتبخانة) الخلفاء الفاطميين الكثيرة العدد لمَّا نُهبت نُقل قسمٌ من كتبها خارج القطر المصري، فمن ذلك أن ثمانية أحمال من الكتب نُقلت إلى سورية، ومن المظنون أن كثيرًا من هذه الكتب حُفظ في مدينة طرابلس الشام، وفي هذه المدينة تألفت تحت عناية القضاة من آل عمار جمعيةٌ علميةٌ مشهورةٌ باسم دار العلم، وأنشأت خزانة كتب (كتبخانة) مؤلَّفة من ثلاثة ملايين من المجلدات، منها ٥٠ ألف مصحف، و٢٠ ألف تفسير، وكان لآل عمار في هذه الخزانة مائة ناسخ، تجري عليهم الأرزاق سنويًّا، بله أن هذه الأسرة كانت ترسل إلى جميع الأقطار رجالًا ماهرين، وتكلفهم ابتياع أو انتساخ جميع الكتب التي يمكن أن يجدوها.
وروى مؤرخ من مؤرخي العرب أنه حينما وقعت هذه المدينة في أيدي الصليبيين في سنة ٥٠٣ﻫ، دخل قسيس هذه الخزانة فصادف أن أول غرفة دخلها كانت تحتوي على المصاحف، فوضع يده على ٢٠ نسخة منه بالتوالي، وإذ وجدها جميعها مصاحف، أعلن أن هذه الدار لا تحتوي إلا على كتب مخالفة للحق، وبناءً على هذا الحكم أحرقها الفرنج فصارت رمادًا، ولم ينجُ من الحريق إلا عدد قليل من الأجزاء، تفرقت شذر مذر في كثير من البلاد، وقد رُويت هذه الحادثة كما ذكرها المؤرخون الشرقيون، ولكن إذا لم نقُلْ إن حادثة الحريق مخترعة، فمن الجائز أن نفرض على الأقل أنها محرَّفة أو مبالَغٌ فيها بسبب العصبية القومية؛ وذلك لأن المسلمين قد اتهموهم أحيانًا بإحراق خزانة الإسكندرية، ولا شك أن ضمائرهم ترتاح لإيقاع تهمة بربرية من هذا النوع على عاتق النصارى كذلك. ا.ﻫ.
هذه هي عبارة المسيو كاترمير برمتها، وهو من البحَّاثين الدقيقين، ولا يمكن أن يدخل تحت وصف المعترض، الذي ربما لا يقتنع كثيرًا بما يرويه العرب المحققون؛ لأن فيهم قومًا أَلِفوا المبالغة؛ فرماهم جميعًا بجريرة أفراد منهم. وأنت ترى أن كاترمير لم يخالجه أدنى شكٍّ في تقدير العدد، وإنما انتقد الخبر المتعلق بإحراق الكتب، ولما كان هذا الخبر محلًّا للشك فقد أهملته بالمرة، وإن كان الأستاذ جرجي يني صاحب تاريخ سورية قد أشار إليه وتأسَّف عليه.
وهذه الأرقام ذكرها رجل من ثقات الإنكليز وأكبر بحَّاثيهم في أمور المشرق، وهو العلامة جبون، في تاريخ الدولة الرومانية (جزء ثانٍ صفحة ٥٠٥)، وقال إن الإفرنج أحرقوها. أما ابن خلكان فقال بأنهم انتهبوها في سنة ٥٠٢ هجرية، ومثله ابن الأثير، وكلاهما قرر بأن عددها مما لا يُعد ولا يحصى.
ولبيان الأمر الثالث نقول: إن الحرب الشرعية هي التي تقام لإعلاء كلمة الله، وليس المراد من إعلاء كلمة الله الدعوة إلى الإسلام بالسيف؛ فإن هذا مما لا يكون أبدًا كما سنبينه في هذه المحاضرة، وإنما المراد منها ما عُرف في تاريخ صاحب الشريعة الإسلامية وبعض خلفائه رضي الله عنهم، وذلك أن الدين بُني على الدعوة إليه بالحسنى، ولكن زعماء المشركين وسائر الممالك وقتئذٍ كَبُر عليهم أن يَدينوا لدين جاء به يتيم عربي، ويُسوِّي بين الملوك والسوقة، ويُسيغ للخليفة الثاني أن يأمر مثل جبلة بن الأيهم أن يرفع رأسه لجلفٍ من أجلاف العرب ليثأر لنفسه فيلطمه كما لطمه. كَبُر عليهم الإذعان فقاوموا القائمين بنشره، وشنُّوا عليهم الغارات، يريدون صدَّهم عن سبيل الله وإطفاء نوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره؛ فجاز للمسلمين وقتئذٍ، بل وجب عليهم، أن يذودوا عن حياضهم ويذبُّوا عن أعراضهم، وإلا لكانوا أخِسَّاء جبناء، فأعد المسلمون لأعدائهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل، وصدوا هجماتهم، وانتقموا لأنفسهم ممن آذاهم، وكذلك الله يفعل بالمتعدين، فكانت تلك الحروب لدفع من يقف في سبيل المسلمين فيمنعهم من نشر دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لذلك سُميت حروبًا شرعية، وحُقَّ لها أن تُسمى كذلك.
ولا يُفهم من قول المسلمين للمحاربين: «الإسلام أو الجزية أو الحرب» أن حربهم إياهم كان لحملهم على الإسلام؛ فإن الذي اضطر المسلمين إلى الحرب إنما هم المحاربون أنفسهم، فلما كانت تشتد الأزمة بالمحاربين كانوا يحقنون دماءهم من المسلمين الذين نصرهم الله بقوة حقهم، وبعدم اعتدائهم إلا على من اعتدى عليهم، وكان حقن الدماء بأحد أمرين: إما الإسلام ليصيروا إخوانهم، وإما الجزية التي لا بد منها لأية أمة مغلوبة في كل عصر من العصور، وإلا لو كانت هذه العبارة: «الإسلام، أو الجزية، أو الحرب» لحَمْل الناس على الإسلام لَمَا خيروهم بين الجزية والإسلام، ولم يرضوا منهم دون الإسلام شيئًا.
إن الذي يتأمل في مثير الحروب الإسلامية بادئ الأمر يعلم علمًا، ليس بالظن، أن المسلمين لم يحاربوا إلا من أراد صدهم عن سبيل الله فحاربهم وآذاهم، فمن ذلك أن أول الغزوات كانت مع قريش، فنتركها ونترك سائر غزواتهم كذلك لما هو معروف من أمر قريش وإيذائها النبي ﷺ وأصحابه، وإخراجهم من ديارهم، ونذكر من بعد ذلك غزوة بني قينقاع من يهود المدينة، فقد حاربهم المسلمون لنَقضِهم العهد بعد غزوة بدر الكبرى، وهتكِهم حرمة سيدة من نساء الأنصار، ثم غزوة بني غطفان، ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا بعد أن علموا أن بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمعوا برياسة دعثور المحاربي للإغارة على المدينة، ثم سرية عاصم بن ثابت الأنصاري، وكانوا مع رهط عضل، والقادة الذين خانوهم ودلوا عليهم هذيلًا قوم سفيان بن خالد الهذلي، الذي قتله عبد الله بن أنيس. ثم سرية المنذر بن عمرو، وهم سبعون رجلًا يُسمَّون الفراء، أخذهم عامر بن مالك ملاعب الأسنة لطمعه في هداية قومه وإيمانهم، فلم يرعَ قومه جواره وقتلوا الفراء، ثم غزوة بني النضير من يهود المدينة، وذلك لنقضهم العهد وإلقائهم صخرة على النبي ﷺ وصحبه لمَّا كان في ديارهم. ثم غزوة دومة الجندل، ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا لما علموا أن في ذلك المكان أعرابًا يقطعون الطريق على المارة، ويريدون الإغارة على المدينة، ثم غزوة بني المصطلق، وهؤلاء ممن ساعدوا المشركين في أُحد، ولم يكتفوا بذلك، بل أرادوا جمع الجموع للإغارة على المدينة، ثم غزوة الخندق، وكانت مع الأحزاب الذين حاصروا المدينة، ثم غزوة بني قريظة من يهود المدينة؛ لنقضهم العهد واجتماعهم مع الأحزاب، ثم غزوة بني لحيان؛ لقتلهم عاصم بن ثابت وإخوانه الذين حزن عليهم رسول الله ﷺ، ثم غزوة الغابة؛ لإغارة عيينة بن حصن في أربعين راكبًا على لقاح للنبي ﷺ كانت ترعى الغابة، ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القصة (موضع) لِمَا بلغ المسلمين من أن بذلك الموضع ناسًا يريدون الإغارة على نَعَم المسلمين التي تُرعى بالهيفاء (موضع)، ثم سرية زيد بن حارثة لمعاكسة بني سليم الذين كانوا من الأحزاب يوم الخندق، ثم سرية زيد كذلك للإغارة على بني ثعلبة الذين قتلوا أصحاب محمد بن مسلمة، ثم سرية زيد كذلك للإغارة على بني فزارة الذين تعرضوا له، ثم سرية عمر بن الخطاب لِمَا بلغ المسلمين من أن جمعًا من هوازن يُظهرون العداوة للمسلمين، ثم سرية بشير بن سعد لِمَا بلغهم من أن عيينة بن حصن واعد جماعة من غطفان مقيمين بقرب خيبر للإغارة على المدينة، ثم سرية غالب الليثي؛ ليقتص من بني مرة بفدك؛ لأنهم أصابوا سرية بشير بن سعد، ثم غزوة مؤتة، وكانت لتعرُّض شرحبيل بن عمرو الغساني للحارث بن عمير الأزدي — رسول للنبي ﷺ إلى أمير بصرى يحمل كتابًا — وقتلِهِ إياه، ولم يُقتل رسول للنبي ﷺ غيره، حتى وجد على ذلك وَجْدًا شديدًا، ثم سرية عمرو بن العاص لِمَا بلغهم من أن جماعة من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء وادي القرى للإغارة على المدينة، ثم سرية علي بن أبي طالب لِمَا بلغهم من أن بني سعد بن بكر يجمعون الجموع لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين، ثم غزوة خيبر؛ لأن أهلها كانوا أعظم محرِّض للأحزاب، ثم سرية عبد الله بن رواحة لِمَا بلغهم من أن ابن رزام رئيس اليهود يسعى في تحريض العرب على قتال المسلمين، ثم سرية عمرو بن أمية الضمري؛ لقتل أبي سفيان جزاء إرساله من يقتل النبي ﷺ غدرًا، ثم حرب العراق لِمَا ارتكبه كسرى عندما أُرسل إليه كتاب عُرض فيه عليه الإسلام، فإنه مزق الكتاب، وكتب إلى باذان — أمير له باليمن — يقول له: «بلغني أن رجلًا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي، فسر إليه فاستتبه، فإن تاب، وإلا فابعث إليَّ برأسه، يكتب إليَّ هذا الكتاب — أي الذي بدأ فيه بنفسه فقال: من محمدٍ … إلخ — وهو عبدي؟» فبعث باذان بكتاب كسرى إلى النبي ﷺ مع فارسيَّين، وبعث بهما يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، فقدما عليه وقالا له: «شاهنشاه بعث إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتي بك، وقد بعثنا إليك فإن أبيت هلكت وأهلكت قومك وخربت بلادك.» فليس بعد ذلك عذر للمسلمين في امتناعهم عن حرب الفرس، وخصوصًا وقد كان للعرب ثارات كثيرة في ذمة العجم. ثم غزوة تبوك لِمَا بلغ المسلمين من أن الروم جمعت الجموع تريد غزوهم في بلادهم، وقد أعقبها فتوح الشام، والقسم الأعظم من دولة الروم.
هذه بعض الغزوات الإسلامية بادئ الأمر، سردناها غير مرتبة، ومنها يرى القارئ ما قصدناه من ذكرها، وهو أن الحروب الإسلامية لم تقم لحمل الناس على الإسلام، وإنما أقيمت لأسباب أخرى تجلت فيها بأجلى بيان.
غير أن ناسًا ممن يحطون من قدر الإسلام ويقعون فيه يقولون إن الإسلام لم ينتشر هذا الانتشار في مثل هذا الزمن الوجيز إلا بالسيف، فهو دين توحُّش وهمجية، وحُجَّتهم في ذلك غزوات النبي ﷺ والحروب الإسلامية، ورأى ناس من المسلمين آيات في القرآن تحض المسلمين على قتال المشركين والكفار والمنافقين، وأمثال هذا كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، ولم يفكروا في سياق الكلام ومواضعه وأسباب نزوله؛ فظنوا أن القتال شُرع في الإسلام لحمل الناس على الاعتقاد به، فكان ذلك الظن أكبر جرم على ذلك الدين الحنيف، الذي تنزه عن مثل هذه الخشونة وتلك القسوة، وذلك أن الأمور الاعتقادية لا تقبلها الناس إلا بالبرهان، لا بالقوة والسلطان، فمن قَبِلها منهم مُكرَهًا مُرغَمًا لا يطمئن لها قلبه، وإذًا لا فائدة من قبوله إياها، فإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى. دع أن النبي ﷺ عُرف قبل البعثة وقد بلغ الأربعين من عمره بمكارم الأخلاق، ولين الجانب، ولطف الحديث، وطلاقة الوجه، وعدم النفور من أمثال هذه الصفات المحمودة الجليلة، التي لا يلائمها الشر وإيذاء الناس لحملهم على قبول عقيدة، ومن يبلغ الأربعين بخُلَّة من الخلال يستحيل أن يتخلق بضدها وإن تكلَّفه.
أما الغزوات النبوية والحروب الإسلامية فقد كان لها أسباب معقولة معروفة، يلمسها القارئ فيما سردناه من الغزوات والسرايا، فلم يُعهد فيها أن المسلمين ذهبوا إلى قوم ليس بينهم وبينهم عداوة وتِرَات وقالوا لهم: «إما الإسلام، وإما السيف.» وإنما كان يتعرض المسلمون لمن آذاهم بسبب الأمور الدنيوية المدنية، أو بسبب ظهورهم بدين جديد كانوا يدعون الناس إليه بالحسنى والموعظة الحسنة، وليس عليهم هدى الناس، وإنما الله يهدي من يشاء، فمن آمن بالله فله إيمانه، ومن كفر فعليه كفره، وليس لهم على أحد من سلطان، هذه حال المسلمين مع من يدعونهم إلى الإسلام، ولكن رؤساء بعض المدعوين ضنُّوا برياستهم على الزوال، وأَبَوْا إلا أن يصدوا المسلمين عن سبيل الله التي تسهِّل على مرءوسيهم وعبادهم الفرار من مظالمهم إلى فضاء العدل والإحسان.
غير أن هذه الحروب قد أفادت الأمة العربية الإسلامية فوائد جمة، من أجلِّها الغنائم التي أغنت المهاجرين عما فقدوه بالهجرة، والأنصار عما ذهب في إكرامهم إخوانهم المهاجرين، فشُغل بذلك العرب عن غزو بعضهم بعضًا وعن إثارة الفتن الداخلية، فلما فتروا عن الحرب هُنَيهة إثر وفاة الرسول ﷺ، امتنع كثير منهم عن دفع الزكاة؛ فاستباح أبو بكر — رضي الله تعالى عنه — قتالهم، فردَّهم إلى الإسلام عَنْوة، ورأى أن يتم بعد ذلك ما أراده النبي ﷺ من غزو الفرس والشام ليشغل العرب عن التفرق والخصومات والنزاع الداخلي والرجوع إلى التفرق دينًا ودنيا، فأنفذ جيش أسامة ليضرب الأعداء بالعرب، فإنَّ ذلك خيرٌ من أن يضرب بعض العرب ببعض إذا لم يشغلهم بحرب غيرهم، وكذلك رأى عمر — رضي الله تعالى عنه — من بعده، فدوَّخ بجيوشه وأبطالهم — خالد، والمثنى، وأبي عبيدة، وعمرو — الأعداءَ، وفتح البلاد لتكون موارد خير للأمة العربية، وليرفع عن تلك البلاد التي فتحها الإسلام ظلم الرومان والفرس، الذي بلغ إذ ذاك أشده، كما كانت حاله في فتح مصر وأمرها معروف، وأباح له ولأبي بكر حرب الروم وفتح بلدانهم ما أباح للنبي ﷺ من قبلهما، وهي التِّرات التي للمسلمين عند الروم، ومعلوم أن المسلمين لما فتحوا مصر وغيرها لم يحاربوا إلا أهل الدولة، وهم الروم، وذلك لأمرين؛ أولهما: إخراجهم من تلك البلاد، وذلك كان خيرًا للمحكومين، وقد كان أهل مصر والشام يساعدون العرب على الروم، وكذلك أهل العراق على الفرس، وثانيهما: انتفاع العرب بالبلدان التي فتحوها انتفاعهم في الحضارة والمعايش والعلوم وغيرها.
لأجل ذلك يمكننا أن نقول إن حروبهم كانت استعمارية، ويتضح ذلك بأجلى وضوح في حروب مَنْ بعد عمر من الخلفاء والأمراء، يظهر ذلك لمن ينظر نظرًا سطحيًّا إلى أسباب هذه الحروب، وما جرَّته من الفتوح التي أوجبت نشر الدين وتعميمه بالمخالطة ومظاهر الفضيلة والكمالات التي امتاز بها المسلمون في أيام السلف الصالح والصدر الأول، وقد دوَّن المسلمون في تلك الأيام الخوالي كل دقيقة وكبيرة مما يتعلق بهذا الموضوع، ولا نرى فيها أمرًا واحدًا يدعونا إلى القول بخلاف مذهبنا، وهو أن الحروب كانت حروب مسلمين، لا حروب إسلام، وأنها كانت حروب توسُّع في الملك واستعمار للبلدان.