المحاضرة التاسعة: تتمة الكلام على الخط: النقط والإعجام
كانت الكتابة في بداية الإسلام ساذجة بسيطة، فلم يكن القوم يعنون بالنقط والإعجام تمييزًا للحروف المتشابهة خطًّا؛ لأن أهل الصدر الأول أخذوا القرآن والحديث من أفواه الرجال بالتلقين، ثم لما كثر أهل الإسلام وتوغلوا في الحضارة، واشتدت الحاجة إلى الكتابة، اضطروا إلى النقط والإعجام، غير أن الظاهر — على ما قيل — أنهما موضوعان مع الحروف؛ إذ يبعد أن الحروف مع تشابه صورها كانت عريَّة عن النقط إلى حين نُقط المصحف، وقد رُوي أن الصحابة جردوا المصحف من كل شيء حتى النقط، ولقد لبث الناس يقرءون في مصحف عثمان — رضي الله تعالى عنه — أربعين سنة ونيِّفًا إلى أيام عبد الملك بن مروان حتى كثُر التصحيف وانتشر في العراق؛ ففزع الحَجاج إلى كُتَّابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات، فوضعوا النقط أزواجًا وأفرادًا بعضها فوق الحرف وبعضها تحته، فغبر الناس زمانًا لا يكتبون إلا بالنقط، ولكنهم مع ذلك كانوا يصحفون في كتبهم، فتلافى العلماء هذا التصحيف بوضع الإعجام (الحركات).
كان النقط في الأول بوضع نقطة فوق الحرف دليلًا على الفتح، وإلى جانبه دليلًا على الضم، وتحته دليلًا على الكسر، وبوضع نقطتين دليلًا على التنوين مع الحركة، وذلك في خلافة معاوية، ثم صار الناس يصحفون في الحروف المتشابهة، فرجعوا إلى تمييز بعضها من بعض بالنقط، واختاروا للفتحة ألفًا صغيرةً (ا)، ثم جعلوها مستقيمة (-)، ومثلها للكسرة من تحت، والضمة شبه واو صغيرة، وكذلك في الفتحتين والكسرتين والضمتين، وذلك في أيام الحجاج، ثم جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العروض فأَتمَّ بقية علامات الإعجام؛ أي الشكل أو الحركات، والظاهر من أصل كلمة إعجام أن هذه الحركات وُضعت لهداية العجم إلى قراءة كلام العرب، وكان إذ ذاك النقط والإعجام واجبين في المصحف، أما في غيره فعند خوف اللبس؛ لأنهما ما وضعا إلا لإزالته، أما مع آمن اللبس فتركه أولى على ما ذهب إليه المتقدمون، وإن كنت أخالفهم في ذلك. لهذا السبب يرون النقط لذوي الفهم والإدراك معيبًا مذمومًا في ذلك الزمان، ولكن الأحوال في زماننا تقضي بخلاف ذلك، ولكل زمن لوازم وحاجٌ.
ولقد كان الكاتبون في الصدر الأول يغلطون في اليسير دون الكثير، ويصحفون في الدقيق دون الجليل لكثرة العلماء وعناية المتعلمين، فلما اضمحل الأمر، صار ما يصحفون فيه أكثر مما يصححون، وما يسقطون أكثر مما يضبطون. وإذا تدبر الإنسان وجد أن التصحيف من أكبر الآفات في اللغة العربية، فيكفي أن رجلًا له مكانة يقرأ الكلمة على وجه آخر ليصبح هذا الوجه رواية ثانية أو قولًا ثانيًا، وهكذا وبهذه المثابة صارت الاختلافات اللغوية كثيرة في الكلمة الواحدة، فصارت كلمات ضُمَّ بعضها إلى بعض فأفعمت متن اللغة والأشعار والأحاديث ونحو ذلك، فكانوا في بعض الأحيان يتكلفون الكتابة بوضع النقط والإعجام، فكان ذلك يصعب عليهم؛ ولذلك كانوا إذا أغفلوا استقصاء هذه الشروط في الكلمة، تطرق إليها التصحيف بسهولة، فكان ذلك مدعاة للأخذ عن أفواه الرجال والحفظ في أعماق الصدور.
هذا وقد كان الخلفاء والملوك والسلاطين وأكابر أرباب الدولة لا ينقطون كتاباتهم، باعتبار أن تواقيعهم ظاهرة الدلالة مفهومة المراد فلا تحتاج إلى ذلك، وكان القوم إذا كتب أحدهم لفاضلٍ منهم وأنقط وأعجم اعتَبر المكتوبُ إليه ذلك خطأً من مقامه، ورأى أن صاحبه يستجهله؛ فأهمل لذلك النقط والإعجام، وكان ذلك الإهمال مدعاة للتصحيف والتحريف، وقد حدثت أمور طريفة من أنواع التصحيف نذكر منها هنا بعض الشيء تفكهة، فمن ذلك ما حُكي عن بعض مشايخ المحدثين من المغفلين أنه قال: «عن رسول الله ﷺ، عن جبريل، عن الله، عن رجل.» فجعل لله شيخًا، ولو قال «عز وجل» لكان صادقًا. ومن ذلك ما قيل: «إن النبي ﷺ أعطى الحجَّام آجرة.» ولو قال «أجرة» لكان صادقًا. ومن ذلك الذي قال: «مسح وجهه من القُبح ولم يعرف يقرأ زمن الفتح.» ومن ذلك أن رجلًا قرأ: «الم ذلك الكتاب لا زيت فيه»، وكان الرجل زياتًا. ومنه أن تلميذًا قرأ على معلم: «أن السموات والأرض كانتا رتقا»، فقال المعلم: «ويحك! زيفًا.» ولا أذكر شيئًا من آفات التصحيف، فقد استوفاها الإمام أبو أحمد الحسن العسكري في كتابه التصحيف والتحريف المطبوع في القاهرة حديثًا، وإنما أقول إن ذلك وحالة الخط العربي توجب العناية؛ ولذلك أصبحنا والأفضل عندنا هو وضع النقط في مواضعها، وضبط الحروف التي يلتبس بعضها ببعض.
هذا ومما يجب أن يُذكر بالإجلال والتكريم، ويعد من أجلِّ حسنات عصر عبد الملك بن مروان الأمير الأموي، نقلُ الدواوين من اللغات الأعجمية إلى اللغة العربية، وكذلك تبديل المسكوكات الأعجمية بأخرى عربية؛ فإن ذلك النقل وهذا التبديل كانا من أمتن الأركان وأجلِّ الدعائم في تحسين الخطوط العربية وإعلاء شأنها.
فأما الدواوين فإنها كانت في الشام بالرومية، وفي العراق بالفارسية، وفي مصر بالقبطية، حتى زمن الأمويين، اللهم إلا الديوان الذي أنشأه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في المدينة، فإنه كان بالعربية، فلما برع المسلمون أيام بني أمية في معرفة الخطوط، رَأَوا أن الوقت جاء لتحويل هذه الدواوين من تلك اللغات الأعجمية إلى اللغة العربية، فنقلوا ديوان الشام من الرومية إلى العربية في سنة ٨١ﻫ، وذكروا في ذلك حكايات يبعُد تصديقها، ولكن الذي يقرب من الظن أنهم أرادوا أن يعرفوا حسابهم بأنفسهم، وأما الحكايات التي رَوَوها من أن كاتبًا من الروم احتاج إلى الكتابة فلم يجد ماءً، فبال في الدواة، فبلغ ذلك عبد الملك فأدَّبه، فغيرُ معقول.
ولما أمر سليمان بن سعد بنقل الديوان، سأل أن يعان بخراج الأردن سنة، وهو ١٨٠٠٠٠ دينار، فلم تنتهِ السنة حتى أكمل الرجل نقل الديوان إلى اللغة العربية، وكان سرجون كاتب الملوك الأمويين، فلما رأى ذلك النقل ورآه مُحرَّرًا مضبوطًا، اغتم وخرج من عند عبد الملك كئيبًا حزينًا، فلقيه قوم من كُتَّاب الروم، فقال لهم: «اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة، فقد قطعها الله عليكم.»
وكذلك ديوان خراج السواد وسائر العراق لم يزل بالفارسية، حتى تولى الحجاج فاستكتب فارسيًّا، ولكي يمهد السبيل لنقله إلى العربية؛ استعمل معه رجلًا اسمه أبو صالح حتى عرف أسرار الصناعة، ومات الفارسي مقتولًا غيلة، فولَّى الحجاج أبا صالح مكانه، وتقدم إليه أن ينقل الديوان إلى العربية، فدس له أبناء الفرس على أن يظهر العجز عن هذا النقل فأبى، فقدموا له مقدارًا من الذهب جسيمًا فأبى، وأعطاه الحجاج أجلًا، فلم ينتهِ حتى أتم عمله؛ ولذلك كان عبد الحميد بن يحيى يقول: «لله در صالح! ما أعظم مِنَّته على الكتاب!»
أما الديوان في مصر فإنه جُعِل باللغتين؛ أي بضم العربية إلى القبطية، فبقيتا معًا زمانًا طويلًا تضمحل فيه القديمة شيئًا فشيئًا، وتقوى فيه الحديثة قليلًا قليلًا، حتى زالت القبطية من جميع دواوين مصر، وصارت الكتابة فيها كلها بالعربية.
فمن هذا نعلم أن ابتداء الاستدراج في النقل كان في أيام عبد الملك بن مروان، أما إتمام ذلك فكان في أيام الوليد بن عبد الملك، أتمَّه عبد الله أخو الوليد سنة ٨٧ﻫ.
وأما المسكوكات فإنها كانت رومية وفارسية، ولم يزل العرب يتعاملون بالدنانير الرومية والدراهم الفارسية وببعض دراهم حميرية قليلة حتى جاء الإسلام، فهمَّ عمر بن الخطاب بأن يجعل الدراهم من جلود الإبل، فأظهر له الصحابة ما يترتب على ذلك من المضار، وقيل له: «إذًا لا تُغَيِّر» فأمسك وبقيت الحال على ذلك حتى انتهت أيام الخلفاء الراشدين، وجاء ملك بني أمية، فنازعهم إياه عبد الله بن الزبير، وبايعه الناس بمكة، فأوعز في سنة ٧٠ﻫ إلى مصعب بن الزبير أن يضرب دراهم إسلامية قليلة على طريقة الأكاسرة، وقيل إنه ضرب دنانير كذلك، ونقش عليها من جهة «بركة»، ومن الجهة الأخرى «الله».
وفي أيام عبد الملك بن مروان ضرب رجل على غير سكة المسلمين، فأراد أن يقطع يده، ثم ترك ذلك وعاقبه، وفي أيام عمر بن عبد العزيز الأموي ضبطت الحكومة رجلًا يضرب على غير سكة السلطان، فعاقبه عمر، وسجنه، وأخذ حديده فطرقه في النار، وكانوا يعاقبون من يقطعها أو يدس الدراهم المفرغة والزيوف.