الكروموسوم ١٠: التوتر
تلك هي الحماقة الكبرى التي تسود العالم؛ أن نلقي باللوم حين نُبتلى بمصاب — عادة ما يكون نتيجة لأفعالنا — على الشمس والقمر والنجوم، وكأننا سذج بالضرورة، حمقى بدافع من إلزام سماوي … إنها لمراوغة مثيرة للإعجاب من رجل داعر أن يلقي مسئولية رغباته الفاسقة على النجوم.
الجينوم كتاب مقدس مدون فيه التاريخ الماضي للأوبئة والطاعون. إن صراعات أسلافنا الطويلة مع الملاريا والزحار مسجلة في أنماط من التنوع الجيني البشري. إن فرص نجاتك من الموت بالملاريا مبرمجة مسبقًا في جيناتك، وفي جينات طفيل الملاريا. إنك ترسل فريق الجينات الخاص بك ليلعب المباراة، وهو ما يفعله طفيل الملاريا أيضًا. وإذا كان مهاجموه أفضل من مدافعيك فسيكون هو الفائز. حظ سيئ. غير مسموح لك بأي تبديلات.
غير أن الأمر لا يسير على هذا النحو، أليس كذلك؟ فالمقاومة الجينية للمرض هي خط الدفاع الأخير. وهناك طرق أبسط بكثير من أجل قهر المرض؛ مثل النوم تحت الناموسية وتجفيف المستنقعات وتناول الدواء ورش الدي دي تي حول القرية، إلى جانب الحصول على قسط كاف من النوم، وتناول الطعام الصحي، وتجنب التوتر، والحفاظ على الحالة الطيبة لجهازك المناعي، والاحتفاظ عامة بشخصية مشرقة. كل هذه الأمور مرتبطة باحتمالية إصابتك بالعدوى، وليس الجينوم هو أرض المعركة الوحيدة. في الفصول الأخيرة عمدت إلى الإفراط في تبسيط الأمور. لقد فككت الكائن من أجل عزل جيناته وتمييز مناحي تركيزها، لكن الجينات ليست جزرًا منعزلة؛ فكل واحد منها موجود بوصفه جزءًا من اتحاد هائل يسمى الجسم، وقد حان وقت النظر إلى الكائن بالكامل مرة ثانية. لقد حان وقت زيارة أحد الجينات الاجتماعية؛ وهو جين مهمته الوحيدة هي دمج بعض من الوظائف العديدة للجسم، ويوضح لنا بالدليل كذب ذلك الزعم بوجود فصل بين العقل والجسد الذي يصبغ صورتنا العقلية عن الإنسان. إن المخ والجسد والجينوم مشتركون جميعًا في رقصة واحدة. والجينوم واقع تحت سيطرة رفيقيه بمثل ما هما واقعان تحت سيطرته. وهذا جزء من السبب وراء اعتبار الحتمية الجينية خرافة ليس إلا؛ فعمل الجينات البشرية وتوقفها عن العمل يمكن أن يتأثر بفعل السلوك الخارجي الواعي أو غير الواعي.
الكولسترول؛ كلمة تحمل الخطر. إنه المسبب لأمراض القلب؛ تلك المادة الشريرة الآتية من اللحم الأحمر. إن تناولتها تموت. ليس هناك ما هو خاطئ أكثر من تلك المساواة بين الكولسترول والسم؛ فالكولسترول مكون أساسي للجسم، وهو يقع في قلب جهاز معقد من الكيمياء الحيوية والجينات يعمل على تنظيم عمل الجسم كوحدة متكاملة. إن الكولسترول مكون عضوي صغير يذوب في الدهون، لكنه لا يذوب في الماء. يُصَنَّع الجسم القدر الأعظم من الكولسترول من السكريات الموجودة في الطعام، ولا يمكنه العيش دونه. ومن الكولسترول تُصَنَّع خمسة هرمونات أساسية على الأقل، كل واحد منها له وظيفة مختلفة عن الآخر وهي: البروجستيرون والألدوستيرون والكورتيزول والتستستيرون والأويستراديول. وهي تُعرف مجتمعة باسم الستيرويدات. والعلاقة بين هذه الهرمونات والجينات علاقة حميمة، مثيرة، وغير مستقرة.
استخدمت الكائنات الحية الستيرويدات منذ زمن بعيد، على الأرجح قبل حدوث الانفصال بين النباتات والحيوانات والفطريات. والهرمون الذي يحفز الحشرة على التخلص من قشرها هو أحد الستيرويدات، أيضًا تلك المادة الكيميائية المبهمة المعروفة في الطب البشري باسم فيتامين د. يمكن تصنيع بعض الستيرويدات الصناعية أو الابتنائية بحيث تخدع الجسم وتجعله يكبح الالتهابات، ويمكن لبعضها أن يساعد في بناء عضلات الرياضيين. علاوة على ذلك يمكن لبعض الستيرويدات الأخرى المشتقة في الأساس من النباتات أن تحاكي الهرمونات البشرية بدرجة كافية بحيث تستخدم كموانع حمل تُعطى عن طريق الفم. أيضًا قد تكون بعضها، تلك الناتجة عن الصناعات الكيميائية، هي المسئولة عن تأنيث الأسماك الذكور في مجاري المياه الملوثة وانخفاض عدد الحيوانات المنوية لدى الرجال في العصر الحديث.
لكن التوتر يحدث بسبب العالم الخارجي؛ اختبار وشيك، أو حالة وفاة قريبة، أو شيء مخيف نقرأ عنه في الصحف، أو حتى ذلك الإنهاك المتواصل الناجم عن رعاية شخص مصاب بمرض ألزهايمر. تتسبب مثيرات التوتر الوقتية في زيادة مستويات هرموني الإبينيفرين والنورإبينيفرين، وهما اللذان يجعلان القلب يخفق بسرعة والقدمين باردتين، فهذان الهرمونان يعدّان الجسد لاستجابة «القتال أو الهرب» أثناء مواقف الخطر. أما مسببات التوتر التي تدوم فترات أطول فتُنَشّط طريقًا مختلفًا يؤدي إلى زيادة أبطأ لكن متواصلة لمستوى الكورتيزول. وأحد أكثر آثار الكورتيزول إثارة للدهشة أنه يكبح عمل الجهاز المناعي، فالحقيقة الجديرة بالملاحظة هي أن من يستعدون لاختبار مهم وتظهر عليهم علامات التوتر يكونون أكثر عرضة للإصابة بنزلات البرد وغيرها من الأمراض؛ لأن من أحد آثار الكورتيزول أنه يتسبب في تقليل نشاط وعدد وعمر الخلايا الليمفاوية؛ المعروفة بكرات الدم البيضاء.
والسؤال الذي أود طرحه عليك هنا هو: من المسئول عن كل هذا؟ من الذي أمر بكل عمليات تنشيط الجينات هذه على هذا النحو في المقام الأول، ومن الذي يقرر البدء في إفراز الكورتيزول؟ قد ترى أن الجينات هي المسئولة؛ لأن تقسيم الجسم إلى أنواع متباينة من الخلايا، كل نوع منها ينشط فيه جينات مختلفة، هو أساس العملية الجينية. بيد أن هذه فكرة مضللة؛ لأن الجينات ليست هي التي تسبب التوتر. إن أمورًا مثل وفاة محبوب أو قرب موعد أحد الاختبارات لا تخاطب الجينات مباشرة، بل هي معلومات يعالجها المخ.
إذن المخ هو المسئول. يرسل الوطاء الموجود في المخ إشارة تأمر الغدة النخامية بإفراز هرمون يأمر بدوره الغدة الكظرية بتصنيع الكورتيزول وإفرازه. ويتلقى الوطاء أوامره من الجزء الواعي من المخ الذي يستقبل المعلومات من العالم الخارجي.
غير أن هذه ليست الإجابة الوافية أيضًا؛ لأن المخ جزء من الجسد. وسبب استثارة الوطاء للغدة النخامية التي بدورها تستثير قشرة الغدة الكظرية ليس أن المخ قرر أو تعلم أن هذه طريقة جيدة للتصرف، فليس هو الذي أقام النظام على هذا النحو بحيث يجعلك التفكير في الاختبار الوشيك أقل مقاومة لنزلات البرد، بل الانتخاب الطبيعي هو الذي فعل هذا (لأسباب سأعود إليها قريبًا). وعلى أي حال، إنه رد فعل لاإرادي غير واعٍ، وهو ما يوحي بأن الاختبار، وليس المخ، هو المتحكم في الأمر. وإذا كان الاختبار هو المتحكم في الأمر، يمكن بالتبعية إلقاء اللوم على المجتمع، لكن ما المجتمع سوى مجموعة من الأفراد! الأمر الذي يعود بنا مجددًا إلى الأجساد. علاوة على ذلك، يتباين الناس من حيث درجة الإصابة بالتوتر؛ فقد يجد البعض منهم اقتراب أحد الاختبارات أمرًا مرعبًا، لكن آخرين يتقبلونه دون مشكلة. ما الفارق؟ في مكان ما على طول سلسلة الأحداث الخاصة بإنتاج الكورتيزول والتحكم فيه والاستجابة له بالتأكيد يملك الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالتوتر جينات مختلفة عن جينات الأشخاص الآخرين غير المبالين، لكن مَن أو ما الذي يتحكم في هذه الاختلافات الجينية؟
في الحقيقة لا يوجد مسئول. إن هذا من أصعب الأمور التي يستطيع البشر الاعتياد عليها، إلا أن العالم مليء بالأنظمة المعقدة المصممة بمهارة والمتواصلة فيما بينها، التي لا يوجد وسطها مركز تحكم، ويعد الاقتصاد مثالًا على هذا. إن ذلك الوهم المتمثل في الظن أن الاقتصاد يسير على نحو أفضل إذا أمسك شخص واحد بمقاليد الأمور، بحيث يحدد ما يجب تصنيعه وأين وبواسطة من، كان له أضرار بالغة على ثروات وصحة العديد من الشعوب في أنحاء العالم، ليس فقط في الاتحاد السوفييتي السابق، بل في العالم الغربي أيضًا. وبداية من الإمبراطورية الرومانية وصولًا إلى مبادرة التليفزيون عالي الوضوح التابعة للاتحاد الأوروبي، تسببت القرارات المركزية بشأن ما يجب الاستثمار فيه في أضرار أفدح بكثير من الفوضى اللامركزية للسوق. إن الأسواق الاقتصادية ليست نظمًا مركزية، بل هي أسواق ذات نقاط تحكم لامركزية موزعة.
يسري الأمر نفسه على الجسد؛ فأنت لست عقلًا يدير جسدًا عن طريق تنشيط بعض الهرمونات، ولست أيضًا بجسد يدير جينومًا عن طريق تنشيط بعض مستقبلات الهرمونات. وأنت أيضًا لست بجينوم يدير عقلًا عن طريق تنشيط الجينات التي تفرز الهرمونات. بل أنت هذه الأشياء الثلاثة مجتمعة في الوقت نفسه.
يمكن إرجاع الكثير من أقدم حالات الجدل في علم النفس إلى مواقف سوء فهم من هذا النوع؛ فالجدال مع أو ضد «الحتمية الجينية» يعني ضمنًا أن الجينوم خارج عن سيطرة الجسم، لكن كما رأينا فإن الجسم يُنَشِّط الجينات وقتما يريد، عادة كاستجابة لرد فعل عقلي أو حتى واعٍ لأحداث خارجية. إن بمقدورك رفع مستويات الكورتيزول لديك بالتفكير في الاحتمالات المثيرة للتوتر، حتى وإن كانت متخيلة بالكامل. وبالمثل فإن الجدل بين من يؤمنون بأن أصل معاناة معينة نفسي صرف وبين من يصرون على أن لها سببًا ملموسًا — تدبر متلازمة الإنهاك المزمن — يعني التغافل عن أهم نقطة في الأمر برمته، وهي أن المخ والجسم يعدان جزءًا من النظام نفسه. وإذا حفز المخ — مستجيبًا للتوتر النفسي — إفرازَ الكورتيزول، وثبط الكورتيزول استجابة الجهاز المناعي، يمكن إذن لأي عدوى فيروسية كامنة أن تنشط، أو أن يصاب المرء بنزلة برد. قد تكون الأعراض في حقيقتها بدنية، والأسباب نفسية. وإذا أمكن لمرض أن يؤثر في المخ ويغير الحالة المزاجية فهنا تكون الأسباب بدنية مع أن الأعراض نفسية.
عادة ما يُلقى باللوم على المسكين رينيه ديكارت؛ بسبب فكرة الفصل بين العقل والجسد التي هيمنت على الفكر الغربي وجعلتنا جميعًا نقاوم فكرة تأثير العقل في الجسد أو تأثير الجسد في العقل. لكنه لا يستحق اللوم على هذا الخطأ الذي نقع فيه كلنا. فعلى أي حال ليس الخطأ في الإيمان المطلق بفكرة الفصل هذه، أي فكرة وجود عقل منفصل معزول عن المادة الملموسة للجسد. فهناك فكرة مغلوطة كبيرة نقع جميعًا في شراكها بسهولة حتى إننا لا نلحظ ذلك؛ فنحن نفترض على نحو غريزي أن الكيمياء الحيوية للجسم هي المسبب، والسلوك هو النتيجة، وهو الافتراض الذي تبنيناه إلى درجة السخافة عند التفكير في تأثير الجينات في حياتنا، فإذا كانت الجينات مؤثرة على السلوك فستكون عندئذٍ هي المسبب، ومحكومًا عليها بالثبات وعدم التغير. بيد أن هذه فكرة خاطئة، لا يقع فيها دعاة الحتمية الوراثية وحسب، بل معارضوهم الصاخبون أيضًا؛ من يقولون إن السلوك «ليس كامنًا في الجينات»، ويستنكرون بشدة فكرة الحتمية والجبرية التي تنضوي عليها الوراثة السلوكية كما يدعون. إنهم يمنحون مساحة كبيرة لخصومهم عن طريق الإيمان بصحة هذا الفرض، إذ إنهم يعترفون ضمنيًّا بأنه لو كان للجينات تأثير على الإطلاق فستكون هي على قمة الهرم. وهم ينسون أن الجينات تحتاج لمن يشغلها ويوقفها، وأن الحوادث الخارجية — أو السلوك النابع من الإرادة الحرة — يمكنه تنشيط الجينات. وبدلًا من أن نكون نحن واقعين تحت رحمة جيناتنا المسيطرة، عادة تكون جيناتنا هي الواقعة تحت رحمتنا، فلو مارست رياضة القفز من المرتفعات أو عملت في وظيفة ضاغطة أو تخيلت على نحو متكرر خطرًا مريعًا فسترفع مستويات الكورتيزول لديك، وسيندفع الكورتيزول في أنحاء جسدك منشطًا الجينات. (والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن بمقدورك بث النشاط في «مراكز السعادة» في المخ بتعمد الابتسام، وذلك بالقدر نفسه الذي يحدث حين تبتسم بفعل أفكار سعيدة. إن الابتسامة تحسن من حالتك المزاجية بكل تأكيد. يمكن للسلوك التحكم التام في الحالة البدنية.)
من بين القرود الموجودة في حدائق الحيوانات، القرود التي تعاني شرايينها التصلب هي التي تكون في قاع الهرم الاجتماعي. فبسبب استئساد رفاقها الأعلى مرتبة عليها تكون هذه القرود عرضة للتوتر دائمًا، وتمتلئ دماؤها بالكورتيزول، وتقل نسبة السيروتونين في أمخاخها، ويكون جهازها المناعي واهنًا على الدوام، وتكسو الأنسجة الندبية جدران شرايينها التاجية. والسبب وراء كل هذا لا يزال غامضًا. ويؤمن العديد من العلماء الآن بأن أمراض الشرايين التاجية تحدث في جزء منها بسبب عوامل مُعدية، مثل بكتيريا الكلاميديا وفيروس القوباء. إن تأثير التوتر هو تقليل قدرة الجهاز المناعي على رصد هذه العدوى وهو ما يسمح لها بالانتشار. ربما — من هذا المنظور — تكون أمراض القلب لدى القرود مُعدية، وإن لعب التوتر دورًا فيها أيضًا.
فكر في هذه النتيجة لحظات؛ فهي تُقَوِّض تقريبًا كل ما قيل لك من قبل عن أمراض القلب. إنها تجعل دور الكولسترول هامشيًّا (صحيح أن نسبة الكولسترول المرتفعة تعد من العوامل الخطيرة، لكن فقط لدى من يملكون ميلًا جينيًّا مسبقًا لارتفاع معدل الكولسترول، وحتى هؤلاء الناس لن يستفيدوا كثيرًا من تقليل كميات الدهون التي يتناولونها). وإنها تستبعد أيضًا دور النظام الغذائي والتدخين والضغط المرتفع — وهي جميع المسببات البدنية التي يفضلها الأطباء — وتحيلها إلى مرتبة ثانوية. هذا بالإضافة إلى أنها تقلل بشدة من قدر تلك الفكرة القديمة المشكوك فيها بدرجة كبيرة، والقائلة إن التوتر وأمراض القلب يحدثان لأصحاب الوظائف المهمة أو الشخصيات التي تعيش نمط حياة سريعًا. بالطبع هناك لمحة من الصدق في هذه الحقيقة، لكنها مجرد لمحة بسيطة. بدلًا من هذا، يقلل العلم من آثار هذه الأمور ويُعلي من أهمية شيء غير بدني؛ شيء مرتبط ارتباطًا تامًّا بالعالم الخارجي؛ المكانة الوظيفية. إن قلبك واقع تحت رحمة مكانتك الوظيفية؛ ما الذي يحدث بحق السماء؟
تمدنا القرود بحل لهذا اللغز؛ فكلما قلت منزلة الواحد منهم في النظام الاجتماعي قل تحكمه في حياته. وبالمثل لدى الموظفين الحكوميين، ترتفع مستويات الكورتيزول استجابة لا لكم العمل الذي تؤديه، بل لدرجة تلقيك الأوامر من الآخرين. وفي الواقع، يمكنك لمس هذا الأثر بنفسك إذا أعطيت مجموعتين من الأشخاص المهمة نفسها، لكن أمرت إحداهما بأن تؤدي المهمة على نحو محدد وفق جدول مواعيد مفروض. ستعاني هذه المجموعة الواقعة تحت سطوة التحكم الخارجي زيادةً كبيرة في هرمونات التوتر وارتفاع ضغط الدم ونبضات القلب أكثر من المجموعة الأخرى.
بعد بداية دراسة الموظفين الحكوميين البريطانيين بعشرين عامًا، تكررت التجربة نفسها في أحد القطاعات الحكومية التي بدأ فيها تطبيق سياسة الخصخصة. في بداية الدراسة، لم يكن لدى الموظفين الحكوميين أدنى فكرة عما يعنيه فقد المرء لوظيفته. بل وصل الأمر — في استبيان بشأن الدراسة — إلى اعتراض أفراد الدراسة على سؤال موجه لهم عما إذا كانوا يخافون من فقد وظيفتهم. كان سؤالًا لا معنى له للموظفين الحكوميين، وقد فسروا ذلك بقولهم إن أسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن يُنقلوا إلى قطاع آخر، لكن بحلول عام ١٩٩٥ عرفوا تمامًا ما كان يعنيه فقد الوظيفة؛ إذ حدث هذا لواحد من كل ثلاثة موظفين. كان تأثير الخصخصة هو منح كل شخص إحساسًا بأن حياته تحت رحمة عوامل خارجية. ومما لا يثير الدهشة أن هذا أدى إلى الإصابة بالتوتر، ومع التوتر جاءت الصحة المعتلة، بدرجة لا يمكن تفسيرها في ضوء التغيرات في الغذاء أو التدخين أو شرب الكحوليات.
إن كون الأمراض القلبية أحد أعراض فقدان التحكم يفسر لنا ظهورها غير المنتظم، فهذه الحقيقة تفسر لنا لماذا يعاني الكثير من شاغلي المناصب الرفيعة الأزماتِ القلبية بعد تقاعدهم بوقت قصير و«التهوين على أنفسهم»، فقد تحولوا من مقاعد الإدارة إلى أداء الأعمال المتواضعة (غسيل الصحون وتمشية الكلب) في بيئة منزلية تديرها زوجاتهم. وهذا يفسر قدرة الأفراد على تأجيل الإصابة بالمرض، حتى الأزمات القلبية، إلى ما بعد حفل زفاف عائلي أو احتفال ضخم، حتى انتهاء فترة العمل المحموم الذي يكونون فيه مسيطرين على الأمور. (كما يميل التلاميذ إلى الإصابة بالمرض «بعد انقضاء» فترة ضغوط الاختبارات الحادة، وليس خلالها.) وهذا يفسر أيضًا لماذا تعد البطالة ومعونة البطالة من الأمور التي تجعل الناس يصابون بالمرض؛ إذ لم يحظ أي قرد ذكر بمسيطر عنيد متصلب الرأي يتحكم في حياته مثلما تتحكم إدارات الخدمات الاجتماعية في الأشخاص المعتمدين على هذه الإعانات. بل قد يفسر هذا الأمر لماذا تتسبب المباني الحديثة التي لا يمكن فتح نوافذها في إصابة الناس بالمرض عن المباني القديمة التي يملك الناس فيها مقدارًا أكبر من السيطرة على بيئتهم.
سأكرر ما قلته بغرض التوكيد: على نقيض فكرة أن سلوكنا واقع تحت رحمة تركيبنا البيولوجي، الحقيقة هي أن تركيبنا البيولوجي هو الواقع تحت رحمة سلوكنا.
ومع هذا لا بد من الاستعانة بداروين من أجل إلقاء بعض الضوء على هذا الموضوع. إن حقيقة مسئولية التستستيرون عن كبح الجهاز المناعي استخدمها أحد أبناء عمومة الانتخاب الطبيعي والمعروف باسم الانتقاء الجنسي واستغلها ببراعة. في كتاب داروين الثاني عن التطور، «سلالة الإنسان»، قدم الفكرة التي تقول إنه مثلما ينتقي مربو الحمام أفراد الحمام، تنتقي الإناث الذكور. فمن خلال الانتقاء الواعي المستمر للذكر الذي تتزاوج معه عبر العديد من الأجيال، تتمكن إناث الحيوانات من تغيير شكل أو لون أو حجم أو صوت ذكور فصيلتها. في حقيقة الأمر، وكما تحدثت في الفصل الخاص بالكروموسومين إكس وواي، فإن داروين اقترح أن هذا هو ما حدث فعلًا في حالة الطواويس. وقد احتجنا إلى قرن كامل تقريبًا — حتى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين — كي تثبت سلسلة من الدراسات النظرية والتطبيقية أن داروين كان محقًّا، وأن ذيول وريش وقرون وأصوات وأحجام ذكور الحيوانات تُحدد فيها عن طريق الاختيار السلبي أو الإيجابي من قبل الإناث، جيلًا تلو الآخر.
تُعرف هذه النظرية باسم عائق الأهلية المناعية، وهي تعتمد على فكرة استحالة تجنب آثار التستستيرون المثبطة للجهاز المناعي. فالذكر لا يمكنه التغلب على هذا العائق برفع مستويات التستستيرون لديه دون تثبيط جهازه المناعي. وإذا تمكن أحد الذكور من عمل هذا فمن المؤكد أنه سيعد نجاحًا باهرًا وسيترك خلفه العديد من الأبناء، لأنه سيملك ذيلًا طويلًا مع التمتع في الوقت نفسه بالمناعة الكاملة (بشكل حرفي). وعلى هذا تلمح النظرية إلى أن العلاقة بين الستيرويدات والجهاز المناعي ثابتة وحتمية وعلى قدر بالغ من الأهمية في علم الأحياء.
لكن هذا أكثر إثارة للحيرة؛ فلا أحد يملك تفسيرًا جيدًا لهذه العلاقة من الأساس، ناهيك عن حتميتها. لِمَ تُصمم الأجساد بحيث تثبط الهرمونات الستيرويدية من أجهزتها المناعية؟ إن هذا يعني أنه كلما شعرت بالتوتر بسبب أحد أحداث الحياة صرت أكثر عرضة للإصابة بالعدوى والسرطان وأمراض القلب. الأمر أشبه بتوجيه الضربات لك وأنت في أضعف حالاتك. وهو يعني أنه كلما زاد أحد الحيوانات من مستوى التستستيرون لديه كي يقاتل منافسيه في التزاوج أو يحسن مظهره، صار أكثر عرضة للعدوى والسرطان وأمراض القلب. لماذا؟
حاول علماء كثيرون حل هذا اللغز، لكن دون نجاح كبير. يناقش بول مارتن في كتابه عن علم المناعة النفسي العصبي بعنوان «العقل المسبب للمرض» تفسيرين محتملين ويرفض كليهما؛ أولهما هو فكرة أن هذا كله من قبيل الخطأ، وأن العلاقة بين الجهاز المناعي واستجابة التوتر ليست إلا أثرًا جانبيًّا عرضيًّا للصورة التي كان يجب تصميم بعض الأجهزة عليها. وكما يوضح مارتن فإن هذا تفسير غير مُرض بدرجة كبيرة لنظام مليء بالعلاقات الكيميائية والعصبية المعقدة. إن أجزاءً قليلة للغاية من الجسم جاءت عرضيًّا أو كآثار جانبية أو غير ذات وظيفة، وهي أجزاء غير معقدة. إن الانتخاب الطبيعي من شأنه أن يمحو أي علاقات تكبح الجهاز المناعي لو لم تكن لها وظيفة معينة.
أما التفسير الثاني: الذي يقضي بأن الحياة الحديثة تنتج العديد من الضغوط الممتدة غير الطبيعية، وأنه في البيئات القديمة كانت مسببات التوتر أقصر عمرًا بكثير، فهو محبط بالقدر نفسه؛ فقرود البابون والطواويس تعيش في الطبيعة ومع ذلك فهي أيضًا — وكل طير وحيوان ثديي على سطح الكوكب تقريبًا — تعاني كبح الستيرويدات لأجهزتها المناعية.
يعترف مارتن بالحيرة؛ فهو عاجز عن تفسير حقيقة أن التوتر يكبح الجهاز المناعي، وأنا كذلك. ربما — كما اقترح مايكل ديفيز — يكون هذا الكبح مصممًا لتوفير الطاقة في أوقات شبه المجاعة، التي كانت مصدرًا شائعًا للتوتر قبل العصر الحديث. أو ربما لا تكون الاستجابة للكورتيزول سوى أثر جانبي للاستجابة للتستستيرون (فهما مادتان كيميائيتان متشابهتان)، وأن الاستجابة للتستستيرون موضوعة عن عمد داخل الذكور من قبل جينات الإناث بغرض بيان الذكور الأفضل، والأكثر مقاومة للمرض، من غيرهم الأقل مقاومة. وبعبارة أخرى، قد تكون هذه العلاقة نتيجة لنوع من العداوة الجنسية كتلك التي ناقشناها في الفصل الخاص بالكروموسومين إكس وواي. لا أعتقد أن هذا التفسير مقنع، لذا أدعوك إلى التفكير في تفسير أفضل من هذا.