الكروموسوم ١٣: ما قبل التاريخ
كانت العصور القديمة هي شباب العالم.
يمكننا معرفة بعض الأمور عن هذا الشعب، فالشعب الهندوأوروبي، وهو الاسم الذي يعرف به، انتشر منذ ما لا يقل عن ٨٠٠٠ عام من موطنه الأم، الذي يعتقد البعض أنه كان في أوكرانيا المعاصرة، لكنه كان على الأرجح في الجزء الجبلي من تركيا المعاصرة (إذ تشتمل اللغة على كلمات تشير للجبال والجداول سريعة الجريان). وأيًّا كان الرأي الصحيح فمن المؤكد أن هذا الشعب كان من المزارعين؛ إذ تحتوي لغتهم أيضًا على كلمات للمحاصيل والبقر والخراف والكلاب. وبما أن هذا يجعلهم يرجعون إلى وقت سابق على اختراع الزراعة في منطقة الهلال الخصيب في سوريا وبلاد الرافدين، يمكننا بسهولة تصور أن النجاح الباهر الذي حققوه في فرض لغتهم على مستوى قارتين كان يرجع إلى تقنياتهم الزراعية، لكن هل فرضوا جيناتهم على النحو نفسه؟ سأجيب عن هذا السؤال لكن على نحو غير مباشر.
اليوم في موطن الشعب الهندوأوروبي بالأناضول يتحدث الناس اللغة التركية، وهي لغة لا تنتمي للغات الهندوأوروبية جلبها البدو والمحاربون راكبو الخيل من سهول وسط آسيا وصحاريها. كان الشعب الألطي يملك تقنية متفوقة هو الآخر، إنها الخيول، وتؤكد لغته هذا الأمر بوضوح؛ إذ إنها مليئة بكلمات عامة عن الخيول. وتؤكد عائلة ثالثة من اللغات، هي اللغات الأورالية، التي يتحدث بها الناس في شمال روسيا وفنلندا وإستونيا والمجر — على نحو يدعو للعجب — على حدوث توسع آخر ناجح لشعب من الشعوب، قبل الشعب الهندوأوروبي وبعده، وذلك باستخدام تقنية غير معروفة، وهي تربية الحيوانات الداجنة على الأرجح. واليوم يعد مربو الرنة الساموديين في شمال روسيا هم على الأرجح أفضل نموذج للمتحدثين باللغات الأورالية. لكن إذا تعمقنا أكثر من هذا فسنجد دون شك روابط أسرية بين هذه العائلات اللغوية الثلاث: الهندوأوروبية والألطية والأورالية، فهي جميعًا تنحدر من لغة واحدة كان يُتحدث بها في أوراسيا منذ نحو ١٥ ألف عام على لسان الصيادين الجامعين للطعام الذين — وذلك استدلالًا بالكلمات الشائعة في اللغات المنحدرة من لغتهم — لم يدجنوا أي حيوانات، ربما فيما عدا الذئاب (الكلاب). هناك عدم اتفاق بشأن الحدود الفاصلة التي تحتوي اللغات المنحدرة من لغة هذا الشعب «النوصطراطي». فبينما يفضل عالما اللغويات الروسيان فلاديسلاف إيليك-سفيتيش وأهارون دولجوبولسكي إدراج عائلة اللغات الأفروآسيوية الموجودة في شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا، يستبعدها جوزيف جرينبرج من جامعة ستانفورد ويدرج لغتي الكامتشاتكان والتشوكتشي الموجودتين في شمال شرق آسيا. وقد ألف إيليك-سفيتيش قصيدة صغيرة بأصوات اللغة النوصطراطية، وذلك بعدما استنتج الكيفية التي ستكون عليها أصوات جذور الكلمات.
قد لا نعرف على وجه التحديد السر الذي امتلكه الشعب النوصطراطي. ربما اخترعوا الصيد باستخدام الكلاب، أو كانوا أول من يربط الأسلحة بالحبال، وربما كان شيئًا آخر غير ملموس مثل عملية اتخاذ القرار الديمقراطية. لكنهم لم يمحوا تمامًا السابقين عليهم. هناك أدلة قوية على أن اللغة الباسكية، ولغات عديدة تُستخدم في جبال القوقاز واللغة الأتروسكانية المنقرضة الآن كلها لا تنتمي إلى عائلة اللغات النوصطراطية الممتدة، بل هي على صلة بلغة النافاجو وبعض اللغات الصينية في عائلة أخرى كبيرة تعرف باسم «نا-دين». سنستعرض بعض الأفكار النظرية القائمة على التخمين هنا، لكن لغة الباسك التي كانت موجودة في جبال البيرنييه (تمثل الجبال موانع لصد موجات الهجرة البشرية وتتجنبها موجات الهجرة الأساسية)، كانت فيما مضى تُستخدم في منطقة كبيرة، كما يتضح من أسماء الأماكن، وتتوافق هذه المنطقة بدقة مع الكهوف ذات الرسوم الجدارية التي عاش فيها الصيادون الأوائل. فهل الباسك والنافاجو حفريات لغوية لإنسان العصر الحديث الذي طرد إنسان نياندرتال وانتشر عبر أوراسيا؟ هل متحدثو هاتين اللغتين هم أحفاد بشر العصر الحجري الأوسط ومحاطون من كل مكان بجيران من أحفاد أبناء العصر الحجري الحديث المتحدثين باللغات الهندوأوروبية؟ على الأرجح لا، لكنها فكرة شائقة.
في ثمانينيات القرن العشرين، شهد لويجي لوكا كافالي-سفورزا، عالم الوراثة الإيطالي الشهير، هذه الاكتشافات الجديدة في علم اللغة وقرر أن يسأل السؤال البديهي: هل تتوافق الحدود اللغوية مع الحدود الجينية؟ من المحتم أن تتسم الحدود الجينية بدرجة أكبر من عدم الوضوح، وذلك بسبب تزاوج الأفراد (فأغلب الناس يتحدثون لغة واحدة، لكنهم يحملون جينات أربعة من الجدود). والاختلافات بين جينات الفرنسيين والألمان أقل وضوحًا من الاختلافات بين اللغتين الفرنسية والألمانية.
إن الجينات — بعبارة أخرى — تدعم الأدلة الآتية من علم اللغويات التي تؤكد على أن موجات التوسع والهجرة لشعوب تملك مهارات تقنية حديثة لعبت دورًا عظيمًا في تطور الإنسان. إن خرائط الجينات أقل تحديدًا من الخرائط اللغوية، لكن هذا يمكنها من أن تكون أكثر شمولًا. وعلى نطاق أصغر أيضًا يمكنها إبراز الخصائص التي تتوافق مع المناطق اللغوية. على سبيل المثال: في بلد كافالي-سفورزا، إيطاليا، توجد مناطق جينية تتفق مع متحدثي اللغة الإتروسكانية واللغة الليجورية من أهل منطقة جنوا (الذين تحدثوا لغة قديمة غير هندوأوروبية) واليونانيين الموجودين في جنوب إيطاليا. الرسالة واضحة؛ اللغات والبشر يسيرون — إلى حدٍّ ما — جنبًا إلى جنب.
يتحدث المؤرخون بحبور عن إنسان العصر الحجري الحديث أو الرعاة أو الهنجاريين أو غيرهم وهم «يجتاحون أوروبا»، لكن ما الذي يعنونه تحديدًا؟ هل يعنون حدوث عمليات توسع أم هجرة؟ هل حل هؤلاء الوافدون الجدد محل أصحاب الأرض؟ هل قتلوهم أم اكتفوا بالتفوق عليهم في التناسل؟ هل تزوجوا النساء وقتلوا الرجال؟ أم هل انتشرت تقنياتهم ولغتهم وثقافتهم شفهيًّا وتبناها السكان الأصليون؟ كل النماذج ممكنة. في حالة الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر، حل البيض محل السكان الأصليين بالكامل تقريبًا، على المستويين الجيني واللغوي. وفي حالة المكسيك في القرن السابع عشر، حدث شيء أقرب إلى الامتزاج. وفي الهند في القرن التاسع عشر، انتشرت اللغة الإنجليزية، تمامًا كما حدث من قبل مع مجموعة اللغات الهندوأوروبية مثل الأردية/الهندية، لكن في هذه الحالة لم يكن هناك سوى امتزاج جيني طفيف للغاية.
تمكننا المعرفة الجينية من فهم أي من هذه النماذج ينطبق بالشكل الأمثل على فترة ما قبل التاريخ. إن أفضل تصور مقبول يفسر هذا التدرج الجيني الذي يزداد بثبات وبطء ناحية الشمال الغربي هو انتشار زراعة العصر الحجري الحديث بطريق الامتزاج. أي إنه لا بد من أن جينات مزارعي العصر الحجري الحديث القادمين من الجنوب الشرقي امتزجت بجينات «أصحاب الأرض»، وأن التأثيرات الجينية للغزاة تقل بالتدريج مع انتشارهم. هذا يشير إلى حدوث تزاوج متبادل. يرى كافالي-سفورزا أن ذكور المزارعين تزوجوا من النساء المحليات للصيادين وجامعي الطعام، لكن ليس العكس؛ لأن هذا هو ما يحدث بالضبط بين الأقزام وجيرانهم المزارعين في وسط أفريقيا في وقتنا الحالي. فالمزارعون — بما يملكون من قدرة على الزواج بأكثر من زوجة أكثر من الأقزام — يميلون إلى النظر باستعلاء إلى جيرانهم الصيادين جامعي الطعام، ولا يسمحون لنسائهم بالزواج من أحدهم. وعلى العكس مسموح لرجال المزارعين بالزواج من نساء الصيادين.
وعلى هذا يتجاوز علم الجغرافيا الجيني مجرد الاهتمام الأكاديمي؛ فمرض تاي زاكس ينجم عن طفرة جينية تشيع على وجه العموم لدى يهود الأشكيناز، لأسباب عرفناها من الكروموسوم ٩. فحاملو مرض تاي زاكس محصنون بقدر ما من مرض السل، وهو ما يعكس الجغرافيا الجينية ليهود الأشكيناز. فنظرًا لتكدسهم في أحياء الأقليات معظم الوقت على مدار القرون الماضية، كان يهود الأشكيناز معرضين كثيرًا للإصابة بمرض السل المعروف باسم «الموت الأبيض»، ولا عجب في أنهم اكتسبوا بعض الجينات التي توفر لهم الحماية منه، حتى لو كان الثمن معاناة قلة منهم من مرض قاتل آخر.
مع عدم وجود تفسير بسيط للطفرات التي تصيب الكروموسوم ١٣ وتحتم على نساء يهود الأشكيناز الإصابة بسرطان الثدي، من الممكن أن يكون هناك سبب وراء العديد من الخصائص الجينية العرقية والقومية المميزة. بعبارة أخرى، تقدم الجغرافيا الجينية للعالم إسهامًا وظيفيًّا وتفصيليًّا يساعد على الربط بين التاريخ المعاصر وفترة ما قبل التاريخ.
لنأخذ مثالين بارزين: الكحول واللبن. إن القدرة على هضم كميات كبيرة من الكحول تعتمد بقدر ما على الإنتاج الغزير لإنزيم يسمى نازع الهيدروجين الكحولي، وذلك بواسطة مجموعة من الجينات الموجودة في الكروموسوم ٤. يملك أغلب الناس القدرة على تحفيز هذه الجينات على الإنتاج، وهي حيلة بيوكيميائية تعلموها على الأرجح بالطريقة الصعبة؛ بمعنى أن من لا يملكون هذه القدرة يموتون أو يعانون الإعاقة. وقد كانت تلك حيلة مفيدة بحق؛ لأن السوائل المخمرة نظيفة ومعقمة نسبيًّا، فهي لا تحمل الجراثيم. ولا شك في أن تأثير بعض أنواع الإسهال التي سادت أول ألفية من حياة الزراعة كان مروعًا. «لا تشربوا المياه»، هذا ما نقوله نحن الغربيين بعضنا لبعض عند التوجه إلى المناطق الحارة. وقبل المياه المعبأة، كان المصدر الوحيد الآمن للماء هو إما الماء المغلي أو المخمر. وحتى أواخر القرن الثامن عشر في أوروبا، لم يكن الأثرياء يشربون سوى النبيذ والبيرة والقهوة والشاي. وأي شيء غير ذلك كان يعني المخاطرة بالموت. (إن العادات تموت بصعوبة حقًّا.)
لكن الرعاة الجوالين والصيادين لم يكونوا عاجزين عن زراعة المحاصيل لتخميرها فحسب، بل لم يحتاجوا السائل المعقم من الأساس، فقد كانوا يعيشون وسط كثافات سكانية منخفضة، وكانت مصادر المياه الطبيعية آمنة بما يكفي. لذا ليس من العجب أن نجد أن السكان الأصليين لأستراليا وأمريكا الشمالية كانوا ولا يزالون أكثر عرضة لإدمان الكحوليات وأن الكثيرين منهم لا يستطيعون «التوقف عن الشراب» الآن.
يخبرنا أحد الجينات، جين إنزيم اللاكتيز، على الكروموسوم ١ بقصة مشابهة. هذا الإنزيم ضروري لهضم اللاكتوز، وهو السكر الذي يحتوي عليه اللبن بكميات وفيرة. كلنا نولد وهذا الجين ناشط في جهازنا الهضمي، لكن في أغلب الثدييات، ومن ثم لدى أغلب الناس يتوقف هذا الإنزيم عن العمل أثناء فترة الطفولة، وهذا أمر منطقي؛ فأنت تشرب اللبن أثناء فترة الرضاعة، ويعد تصنيع الإنزيم بعد ذلك الوقت إهدارًا للطاقة. لكن منذ بضعة آلاف قليلة من السنوات عرف الإنسان كيفية سرقة اللبن من الحيوانات المدجنة ليشربه بنفسه، ومن هنا ولدت عادة شرب اللبن. لم يكن هناك ضير من هذه العادة لدى الأطفال، لكن لدى الكبار كان من العسير هضم اللبن دون إنزيم اللاكتيز. وإحدى طرق تجنب هذه المشكلة جعل البكتيريا تهضم اللاكتوز أولًا وتحول اللبن إلى جبن. ولأن الجبن يحوي كميات قليلة من اللاكتوز، يكون هضمه سهلًا على الكبار والأطفال على حدٍّ سواء.
لكن في بعض الأحيان، لا بد أن يعاني الجين الذي يوقف عمل جين اللاكتيز طفرةً ما، وهو ما يؤدي إلى عدم توقف إنتاج اللاكتيز بنهاية فترة الطفولة. تسمح هذه الطفرة لحاملها بشرب وهضم اللبن طوال حياته. ولحسن حظ مصنعي رقائق الإفطار مثل كورن فليكس وويتابيكس، فإن أغلب الغربيين اكتسبوا هذه الطفرة. إن أكثر من سبعين بالمائة من الأوروبيين الغربيين يمكنهم على نحو فطري أن يشربوا اللبن وهم بالغون، بالمقارنة بأقل من ثلاثين بالمائة من سكان بعض أجزاء أفريقيا وشرق وجنوب آسيا والأوقيانوس. يتباين معدل تواتر هذه الطفرة من شعب لآخر ومن مكان لآخر وفق نمط تفصيلي محدد، إلى حدٍّ يسمح لنا بطرح سؤال والإجابة عنه حول الأسباب التي دفعت الأفراد إلى تبني عادة شرب اللبن من الأساس.
توجد ثلاث فرضيات في هذا الصدد؛ أولاها وأكثرها بديهية أن أغلب الناس أقدموا على شرب اللبن كي يوفر لهم مصدرًا ملائمًا مستمرًّا للطعام، وذلك من قطعان حيوانات الرعي. الثانية هي أن الناس أقدموا على شرب اللبن في الأماكن التي يوجد بها قدر بسيط من ضوء الشمس، وهو ما يجعلهم بحاجة إلى مصدر إضافي لفيتامين د، وهي المادة التي تصنع عادة بمساعدة ضوء الشمس. إن اللبن غني بفيتامين د. اعتمدت هذه الفرضية على ملاحظة أن سكان شمال أوروبا عادة يشربون اللبن الخام، بينما سكان حوض البحر المتوسط يتناولون الجبن. ثالث الفرضيات تقول: إن شرب اللبن ربما يكون قد بدأ في الأماكن الجافة حيث الماء شحيح، وأن الغرض الأساسي منه كان توفير مصدر للمياه لساكني الصحراء. ومثال على ذلك نجد أن البدو والطوارق في صحراء أفريقيا وبلاد العرب يقبلون على شرب اللبن.
تشير الأدلة إلى أن تلك الشعوب تبنت الحياة الرعوية أولًا، ثم طورت القدرة على هضم اللبن في فترة لاحقة استجابة لها. لم يكن الأمر أنهم تبنوا هذه الحياة الرعوية لأنهم وجدوا أنفسهم مستعدين من الناحية الجينية لها. وهذا يقدم لنا مثالًا على التغير الثقافي المفضي إلى تغير بيولوجي تطوري. يمكن حث الجينات على التغير عن طريق الفعل الواعي الطوعي الناتج عن إرادة الفرد الحرة. وبتبني نمط حياة الرعاة المنتجين للألبان خلق البشر الضغوط التطورية الخاصة بهم. الأمر يبدو شبيهًا بتلك المغالطة اللاماركية التي شوهت وجه دراسة النشوء والارتقاء فترة طويلة: فكرة أن الحدّاد — بفضل اكتسابه لأذرع قوية في حياته — ينجب أبناء يتمتعون بأذرع قوية أيضًا. الأمر ليس كذلك، بل هو مثال على كيفية تغيير الفعل الإرادي الواعي للضغوط التطورية الواقعة على أحد الأجناس؛ وعلى جنسنا البشري بالتحديد.