الكروموسوم ١٨: العلاج
مع بزوغ فجر الألفية الثالثة، صرنا للمرة الأولى في موضع يمكننا من تحرير نص الشفرة الجينية، فلم تعد تلك الشفرة بالمخطوطة الثمينة، بل صارت متاحة على أقراص مضغوطة، وبمقدورنا أن نحذف منها بعض الأجزاء، أو نضيف إليها أجزاءً، أو نعيد ترتيب الفقرات أو نكتب فوق الكلمات. وهذا الفصل يتناول كيفية عمل تلك الأشياء، وما إذا كان ينبغي علينا فعلها من الأساس، ولماذا، بينما نحن على مشارف هذا الأمر، يبدو أن شجاعتنا تخوننا ونقع تحت إغراء قوي بالعدول عن الأمر برمته والإصرار على الإبقاء على قدسية النص. هذا الفصل يدور حول الهندسة الوراثية.
من وجهة نظر السواد الأعظم من العامة، فإن الوجهة الواضحة لكل هذا البحث العلمي على الجينات، أو الجائزة الكبرى إن شئت تسميتها، هي الوصول إلى إنسان مُهندَس وراثيًّا. وفي يوم ما، ربما بعد قرون من الآن، قد يعني هذا إنسانًا ذا جينات جديدة مخلقة. أما في وقتنا الحالي، فيعني هذا إنسانًا يحمل جينات مستعارة من إنسان آخر أو حتى من حيوان أو نبات. هل هذا الأمر ممكن؟ ولو كان ممكنًا، فهل هو أخلاقي؟
إنني كبير السن بحيث بدأت عملي الصحفي معتمدًا على قطع الورق بالمقص ولصقه بالغراء اللاصق، أما اليوم فلكي أنقل فقرة من مكان إلى مكان أستخدم أيقونات برمجية صغيرة مزخرفة بصور ملائمة صنعها الإخوة في مايكروسوفت، وهي تشير إلى أنها تؤدي الوظيفة نفسها. (لقد نقلت لتوي هذه الفقرة إلى هذا الموضع من الصفحة التالية.) لكن المبدأ يظل واحدًا؛ لتحريك النص، عليَّ أن أقصه من مكانه ثم ألصقه في مكان آخر.
ولعمل الأمر نفسه مع نص الجينات، يحتاج الأمر مقصًّا وغراءً لاصقًا. وفي كلتا الحالتين، لحسن الحظ، وفرت لنا الطبيعة المطلوب لأغراض خاصة بها. فالغراء اللاصق هو إنزيم الربط المسمى الليجاز، الذي يربط بين النهايات الحرة لعبارات الحمض النووي متى قابلها. أما المقص، والمسمى بإنزيمات القص، فقد اكتُشف في البكتيريا عام ١٩٦٨. إن دور هذه الإنزيمات في البكتيريا هو قهر الفيروسات بتقطيع جيناتها إربًا، لكن سرعان ما اتضح أن إنزيمات القص تلك، على عكس المقصات الحقيقية، منمقة للغاية في عملها؛ إذ لا تقطع خيطًا من خيوط الحمض النووي إلا إذا قابلت تتابعًا معينًا من الحروف. نحن الآن نعرف ٤٠٠ نوع مختلف من إنزيمات القص، وكل واحد منها يتعرف على تتابع مختلف لحروف الحمض النووي ومن ثم يقص هناك، مثل المقص الذي يقطع الورقة فقط حيث كُتبت كلمة «قُص».
في عام ١٩٧٢ استخدم بول بيرج من جامعة اسكتلندا إنزيمات القص في أنابيب الاختبار كي يقص قطعتين من الدنا الفيروسي إلى نصفين، بعدها استخدم إنزيم الربط كي يصل نصف كل قطعة بنصف القطعة الأخرى في مزيج جديد، وبهذا أنتج أول حمض نووي «مؤلف». باستطاعة البشرية الآن أن تفعل ما تفعله الفيروسات القهقرية منذ وقت طويل؛ إدخال أحد الجينات إلى أحد الكروموسومات. وفي غضون عام ظهرت للنور أول بكتيريا مهندسة وراثيًّا؛ بكتيريا أمعاء حُقنت بجين مأخوذ من أحد ضفادع الطين.
ساد شعور عارم بالقلق من هذا الأمر على الفور، ولم يكن ذلك مقصورًا على العامة وحسب، فالعلماء أنفسهم رأوا أنه من الأفضل التريث قبل الإسراع في استخدام هذه التكنولوجيا الجديدة. وهكذا قرروا تعليق كل أعمال الهندسة الوراثية في عام ١٩٧٤، وهو ما نجح فقط في إذكاء مشاعر القلق لدى العامة بقدر أكبر؛ فإذا كان العلماء أنفسهم قلقين إلى حد يدفعهم إلى التوقف، فمن المؤكد إذن وجود ما يدعو إلى القلق. إن الطبيعة وضعت جينات البكتيريا في البكتيريا، وجينات الضفادع في الضفادع، من نكون نحن كي نبادل بينهم؟ ألن تكون العواقب وخيمة؟ درس المؤتمر الذي عقد في أسيلومار عام ١٩٧٥ اعتبارات السلامة، وأوصى بالاستئناف الحريص للهندسة الوراثية في الولايات المتحدة تحت إشراف لجنة فيدرالية. كان العلم هو الحارس على نفسه. وبالتدريج بدأت مخاوف العامة في الاختفاء، على الرغم من عودتها مجددًا للظهور القوي المفاجئ في منتصف التسعينيات، وهذه المرة ليس من منطلق معايير السلامة بل من منطلق الاعتبارات الأخلاقية.
وهكذا ولدت التكنولوجيا الحيوية: أولًا ظهرت شركة جينيتيك للنور، ثم سيتوس وبيوجين، تبعتها شركات أخرى حاولت الاستفادة من التكنولوجيا الجديدة. كان هناك عالم من الاحتمالات ينتظر هذه الشركات الوليدة. صار من الممكن الآن حث البكتيريا على تصنيع البروتينات البشرية من أجل الاستخدام الطبي والغذائي والصناعي. وتدريجيًّا بدأت خيبة الأمل تسود، وذلك حين اتضح أن البكتيريا لم تكن جيدة إلى هذه الدرجة في تصنيع أغلب البروتينات البشرية، وأن البروتينات البشرية كانت معروفة بدرجة قليلة تصعب من وجود طلب كبير عليها بوصفها دواءً. وعلى الرغم من استثمارات رأس المال الهائلة، فإن الشركات التي حققت أرباحًا لمساهميها كانت شركات مثل أبلايد بايوسيستمز التي صنعت المعدات التي تستخدمها الشركات الأخرى. ومع هذا كانت هناك منتجات. وبحلول أواخر ثمانينيات القرن العشرين كان هرمون النمو البشري، المصنع داخل البكتيريا، قد حل محل البديل الباهظ الثمن الخطير المستخلص من أمخاخ الموتى. وإلى هذه النقطة لم يكن هناك أساس للمخاوف الأخلاقية وتلك المتعلقة بالسلامة؛ فعلى مدار ثلاثين عامًا من الهندسة الوراثية لم يقع حادث صحي بيئي أو جماهيري — كبيرًا كان أم صغيرًا — نتيجة تجربة من تجارب الهندسة الوراثية. وإلى هذا الحد كانت الأمور تسير على ما يرام.
في الوقت ذاته كان للهندسة الوراثية تأثير أكبر في العلم عن تأثيرها في الأعمال التجارية. صار من الممكن الآن «استنساخ» الجينات (في هذا السياق تحمل الكلمة معنى مختلفًا عن معناها الشائع): وذلك عن طريق عزل «إبرة» أحد الجينات في «كومة قش» الجينوم ثم زرعه في البكتيريا واستنبات ملايين النسخ منه، بحيث يمكن تنقيتها وقراءة تتابعات الحروف الخاصة بالجين. وبهذه الوسيلة أُنشئت مكتبات هائلة من الحمض النووي البشري محتوية على آلاف الشظايا المتداخلة للجينوم، وكل واحدة منها موجودة بكمية وفيرة للدراسة.
هذه المكتبات هي التي مكنت القائمين على مشروع الجينوم البشري من تجميع ذلك النص المعقد. بدأ المشروع في أواخر ثمانينيات القرن العشرين بذلك الهدف الطموح غير المعقول المتمثل في قراءة الجينوم بأكمله في غضون عشرين عامًا. وعلى مدى أربعة عشر عامًا لم يتحقق سوى تقدم ضئيل. بعدها في عام واحد أتمت آلة واحدة جديدة لتحديد تتابع الجينات المهمة بالكامل. وفي السادس والعشرين من يونيو (حزيران) عام ٢٠٠٠ أعلن المشروع عن اكتمال «النسخة الأولية» من الجينوم البشري.
في حقيقة الأمر، دُفع مشروع الجينوم البشري إلى هذا الإعلان. ولكريج فينتر، الذي لم يكمل دراسته الثانوية، وراكب الأمواج المحترف السابق والجندي المحنك المشارك في حرب فيتنام، جزء من الفضل في هذا. قلب فينتر عالم علوم الوراثة رأسًا على عقب ثلاث مرات قبل ذلك؛ كانت أولها حين اخترع وسيلة سريعة للعثور على الجينات قال الخبراء إنها لم تكن نافعة، لكنها كانت كذلك. بعد ذلك، بعد أن انتقل إلى القطاع الخاص، اخترع طريقة سريعة لتحديد التركيب الجيني تسمى أسلوب «بندقية الصيد»، الذي يعمل على تكسير الجينوم إلى شظايا عشوائية ثم يعيد تجميعها بالترتيب الصحيح عن طريق البحث عن التداخلات. ومرة ثانية كان الخبراء على قناعتهم بأن هذا الأسلوب لن ينجح في الوقت الذي كان فينتر قد استخدمه فعلًا لتحديد التركيب الجيني لجينوم البكتيريا.
لذا حين أعلن فينتر في مايو (أيار) من عام ١٩٩٨ أنه بصدد وضع خريطة الجينوم البشري لأول مرة وتسجيل النتائج كبراءة اختراع باسمه، عم الذعر مشروع الجينوم البشري. استجابت هيئة ويلكوم تراست البريطانية التي توفر ثلث تمويل المشروع من خلال مركز سانجر الواقع بالقرب من كامبريدج بأن رفعت حد الرهان، حيث ضخت المزيد من الأموال وطالبت بمواعيد نهائية أقرب لهذا المشروع الحكومي. بالمثل، ترأس رئيس مركز سانجر، جون سولستون، حملة عامة ضد ما اعتبره قرصنة اللحظة الأخيرة الساعية وراء الأرباح من طرف فينتر. وفي النهاية ساد التعقل وأعلن التعادل بين الطرفين في يونيو (حزيران) من عام ٢٠٠٠.
لكن لنعد إلى موضوع الهندسة الوراثية. إن هندسة أحد الجينات البكتيرية شيء، وإدخال أحد الجينات إلى إنسان شيء مختلف تمامًا. إن البكتيريا لا تمانع في امتصاص تلك الحلقات الصغيرة من الحمض النووي والمسماة البلازميدات، وأن تتبناها وكأنها جزء منها. إضافة إلى أن كل بكتيريا مكونة من خلية واحدة، في حين يتكون الإنسان من مائة تريليون خلية. وإذا كان هدفك هو الهندسة الجينية للبشر، فسيكون عليك أن تدخل الجين المراد إلى كل خلية ذات صلة، أو البدء مع الجنين وهو مكون من خلية واحدة فحسب.
إن الاكتشاف الذي حدث في عام ١٩٧٠، الخاص بقدرة الفيروسات القهقرية على تصنيع نسخ لحمضها النووي من الرنا، جعل «العلاج الجيني» على نحو مفاجئ هدفًا قابلًا للتحقق. إن كل فيروس قهقري يحمل رسالة مكتوبة بلغة الرنا تقول في جوهرها: «اصنع مني نسخة وألصقها في كروموسومك.» وعلى هذا يكون كل ما على المعالجين بالجينات عمله هو أخذ أحد هذه الفيروسات القهقرية، ثم التخلص من بعض جيناته (خاصة تلك التي تجعله حاملًا للعدوى بعد الإدخال الأول له)، ثم وضعه داخل أحد الجينات البشرية وحقن المريض به. وهكذا يشرع الفيروس في العمل مدخلًا الجين إلى كل خلية من خلايا الجسد، ويا للعجب، يصير لدينا شخص معدل وراثيًّا!
في بدايات ثمانينيات القرن العشرين، ساور العلماء القلق بشأن مدى سلامة مثل هذا الإجراء؛ فقد يعمل الفيروس القهقري بطريقة أفضل من المطلوب ولا يكتفي فقط بعدوى خلايا الجسد العادية، بل يصيب خلايا التكاثر كذلك. وقد يعيد الفيروس القهقري اكتساب جيناته الأصلية بطريقة ما ويتحول إلى فيروس خبيث، أو قد يخلخل استقرار جينات الجسد ويتسبب في تفشي السرطان فيه. قد يحدث أي شيء. تأججت المخاوف بشأن العلاج الجيني في عام ١٩٨٠ عندما خرق مارتن كلاين، العالم الذي يدرس أمراض الدم، الوعد الذي قطعه بعدم محاولة إدخال جين مؤلف لا ضير منه إلى مريض إسرائيلي يعاني مرضًا بالدم يدعى الثلاسيميا (لكن دون الاستعانة بأحد الفيروسات القهقرية). خسر كلاين وظيفته وسمعته، ولم تظهر دراسته للنور قط. واتفق الجميع على أن تجربة هذا الأمر على البشر يعد شيئًا سابقًا لأوانه، على أقل تقدير.
أما التجارب التي أجريت على الفئران فقد كانت نتائجها مطمئنة ومحبطة في الوقت ذاته، فبعيدًا عن كون العلاج الجيني غير آمن، بدا غير عملي أيضًا. فكل فيروس قهقري يمكنه أن يُعدي نوعًا واحدًا فقط من الأنسجة، كما تحتاج عملية إدخال الجين فيه إلى حرص شديد، إلى جانب أنه يهبط هبوطًا عشوائيًّا في أي مكان داخل الكروموسوم وعادة يفشل في تنشيط نفسه، كما أن الجهاز المناعي للجسم، المستعد لملاقاة جحافل الأمراض المعدية، لن يخطئ مثل ذلك الفيروس القهقري الأخرق غير متقن الصنع. إضافة إلى ذلك، بحلول أوائل ثمانينيات القرن العشرين، لم يكن قد استُنسخ سوى القليل من الجينات البشرية، إلى حد أنه لم يوجد جين مرشح للإدخال في أحد الفيروسات القهقرية حتى لو كان بالإمكان دفع هذا الأخير للعمل.
ومع ذلك، بحلول عام ١٩٨٩، اجتيزت العديد من المحطات الرئيسية؛ إذ حملت الفيروسات القهقرية جينات الأرانب إلى خلايا القرود، كما وضعت جينات بشرية مستنسخة في الخلايا البشرية، إلى جانب وضع جينات بشرية مستنسخة في خلايا الفئران. ثم قرر ثلاثة رجال يتسمون بالجرأة، وهم فرنش أندرسون ومايكل بلايز وستيفن روزنبرج، أن الوقت قد حان لتجربة الأمر على البشر. وعبر معركة طويلة مريرة في بعض الأحيان مع اللجنة الاستشارية للحمض النووي المؤلف التابعة للحكومة الأمريكية سعوا للحصول على تصريح بإجراء التجارب على مرضى السرطان الميئوس من شفائهم. أظهر هذا الجدال اختلاف الأولويات بين الأطباء والعلماء. فمن وجهة نظر العلماء بدت التجربة متعجلة وسابقة لأوانها، أما من وجهة نظر الأطباء، والمعتادين على رؤية مرضى السرطان وهم يموتون، فقد كان التعجل أمرًا طبيعيًّا. «ما الداعي للعجلة؟» هكذا تحدث أندرسون في إحدى الجلسات مضيفًا: «كل دقيقة يموت أحد مرضى السرطان في بلدنا هذا. ومنذ أن بدأنا هذا النقاش منذ ١٤٦ دقيقة، قضى ١٤٦ مريضًا نحبهم بالسرطان.» وفي نهاية المطاف، في العشرين من مايو (أيار) عام ١٩٨٩، منحت اللجنة التصريح، وبعدها بيومين تلقى موريس كونتس — سائق شاحنة يحتضر بفعل سرطان الجلد — أول جين جديد (مصرح به) مدخل عن عمد. لم يكن هذا الجين مصممًا لعلاجه، ولا حتى للبقاء في جسده دائمًا، بل مجرد أداة مساعدة لنوع جديد من علاجات السرطان. كان قد طور — خارج جسد هذا المريض — نوعًا خاصًّا من كرات الدم البيضاء، التي تجيد تخلل الأورام والتهامها. وقبل حقنها فيه مجددًا أضاف الأطباء لها فيروسًا قهقريًّا يحمل أحد الجينات البكتيرية البسيطة، غرضه الوحيد هو تمكين الأطباء من متابعة الخلايا داخل الجسد ومعرفة الأماكن التي تذهب إليها. توفي كونتس، ولم تظهر أي نتيجة مدهشة لهذه التجربة، لكن كان العلاج الجيني قد بدأ.
عند مولد التقنيات الجديدة، دائمًا تبدو غير قادرة على المنافسة مطلقًا. فأولى خطوط السكك الحديدية كانت أكثر تكلفة بكثير من القنوات المائية الموجودة فعلًا ولم يكن يعتمد عليها مثلها. فقط تدريجيًّا ومع الوقت تنجح التقنيات الحديثة في تخفيض تكاليفها ورفع كفاءتها إلى الحد الذي يجعلها ندًّا للتقنيات القديمة. وهذا ما حدث مع العلاج الجيني، فقد ربح العلاج البروتيني سباق علاج العوز المناعي المشترك الشديد، لكنه كان يحتاج إلى الحقن المؤلم على مدار شهور بالبروتين في الورك، كما كان باهظ الثمن ويحتاج إلى الاستمرار فيه مدى الحياة. لكن لو نجح العلاج الجيني في العمل فسيحل محل كل هذه المعاناة بعلاج يستخدم مرة واحدة يعيد شحن الجسد بالجين الذي كان من المفترض وجوده فيه من الأساس.
وسرعان ما ستنضم أمراض أخرى إلى مرض العوز المناعي على قائمة الأمراض التي عولجت بواسطة العلاج الجيني بالفيروسات القهقرية، ومن بينها ارتفاع الكولسترول بالدم، والهيموفيليا والتليف الكيسي، لكن ما من شك أن الهدف الأساسي هو السرطان. في عام ١٩٩٢، حاول كينيث كولفر إجراء تجربة جريئة تضمنت للمرة الأولى الحقن المباشر للفيروسات القهقرية المزودة بجينات في الجسد البشري (في مقابل عدوى خلايا منماة خارج الجسد بهذه الفيروسات ثم نقلها مجددًا إلى داخل الجسد). وقد حقن الفيروسات القهقرية مباشرة في أورام المخ لدى عشرين مريضًا. إن فكرة حقن أي شيء داخل المخ تبدو وحدها مرعبة بما يكفي، ناهيك عن حقن فيروسات قهقرية. لكن انتظر حتى تسمع بما حمله كل فيروس قهقري. لقد حمل كل فيروس جينًا مأخوذًا من فيروس القوباء. تشربت خلايا الورم الفيروس القهقري وعبرت عن جين القوباء، لكن وقتها كان د. كولفر البارع يعالج المرضى فعلًا بعقاقير تهاجم مرض القوباء، وبهذا هاجمت العقاقير الورم نفسه. بدا أن الأمر يسير بنجاح مع المريض الأول، لكنه فشل مع أربعة من المرضى الخمسة التالين.
لم يعد العلاج الجيني الجسدي من هذا النوع محل جدال. بالطبع تظل المخاوف المتعلقة باعتبارات السلامة موجودة، لكن لا يمكن لأحد التفكير في أي اعتراض أخلاقي. إنه مجرد نوع آخر من العلاج، ولا يمكن لأحد شاهد صديقًا أو قريبًا يمر بالعلاج الكيميائي أو الإشعاعي للسرطان أن ينكر عليه ذلك العلاج الجيني الأقل إيلامًا، فقط استنادًا إلى بضعة مخاوف بعيدة الاحتمال. إن الجينات المضافة لا تقترب على الإطلاق من خلايا التكاثر التي ستشكل الجيل التالي، وقد تأكد هذا تمامًا. ومع ذلك فإن العلاج الجيني لخلايا التكاثر، بمعنى تغيير الجينات في المواضع التي ستنتقل بعد ذلك إلى الأجيال المستقبلية — الأمر الذي يظل محرمًا تمامًا لدى البشر — سيكون من ناحية ما أسهل بكثير في القيام به. إن العلاج الجيني لخلايا التكاثر، على شاكلة فول الصويا والفئران المعدلة وراثيًّا، هو الذي تسبب في ظهور تلك الاحتجاجات مجددًا في تسعينيات القرن العشرين. ونقصد بهذا — إن استعرنا التشبيه الملائم — تكنولوجيا فرانكنشتاين.
سارت الهندسة الوراثية للنباتات سريعًا، وذلك للعديد من الأسباب: أولها كان تجاريًّا؛ إذ مثل المزارعون لسنوات طويلة سوقًا متلهفة للأنواع الجديدة من البذور. وفي الأزمنة السحيقة، حولت طرق الاستيلاد التقليدية القمح والأرز والذرة من حشائش برية إلى محاصيل منتجة عن طريق التلاعب في جيناتها بصورة كلية، مع عدم معرفة المزارعين وقتها بطبيعة الحال أن هذا هو ما كانوا يفعلونه. وفي الأزمنة الحديثة، ضاعفت الأساليب نفسها المحاصيل ثلاثة أضعاف، وزادت إنتاجية الغذاء لكل فرد بأكثر من عشرين بالمائة حتى مع تضاعف عدد سكان العالم ما بين عامي ١٩٦٠ و١٩٩٠. كانت «الثورة الخضراء» في الزراعة الاستوائية ظاهرة جينية إلى حدٍّ بعيد. ومع هذا فقد حدث ذلك كله عشوائيًّا، فما الذي يمكن تحقيقه إذن من الاستغلال الجيني الحريص الموجه؟ السبب الثاني وراء الهندسة الوراثية للنباتات هو سهولة استنساخ وتوالد النباتات؛ فأنت لا تستطيع قطع جزء من فأر وزراعته ليصير فأرًا جديدًا مثلما يمكن ذلك مع النباتات. أما السبب الثالث فقد وقع بمحض الصدفة السعيدة؛ إذ اكتُشف نوع من البكتيريا يسمى الجراثيم الأَجْرَعِيَّة يملك خاصية غير معتادة تتمثل في عدوى النباتات بحلقات صغيرة من الحمض النووي تسمى بلازميدات تي، التي بدورها تدمج نفسها في كروموسومات النبات. كانت الجراثيم الأَجْرَعِيَّة أدوات ناقلة جاهزة للعمل؛ فقط أضف بعض الجينات إلى البلازميدات، ثم افركها على ورقة النبات، وانتظر حدوث العدوى، ثم استنبت نباتًا جديدًا من خلايا الورقة، وسينقل النبات الجين الجديد إلى بذوره. وهكذا عُدلت في عام ١٩٨٣ النباتات وراثيًّا بهذه الطريقة، وكان أولها نبات التبغ ثم البتونيا ثم القطن.
كان على النباتات الحبيّة، والمقاومة للجراثيم الأَجْرَعِيَّة، الانتظار حتى ابتكار طريقة أخرى فظة إلى حدٍّ ما، وهي قذف الجينات حرفيًّا داخل الخلايا على متن جزيئات صغيرة من الذهب باستخدام البارود أو مسرعي الجزيئات. وقد صار هذا الأسلوب الآن هو الأسلوب المتبع في جميع عمليات الهندسة الوراثية للنباتات. كان من نتائج هذا الأسلوب الحصول على طماطم أقل عرضة للتعفن على الأرفف والقطن المقاوم لدودة القطن والبطاطس المقاومة لخنافس كولورادو والذرة المقاومة لليرقات المتلفة للذرة، وغيرها الكثير من النباتات المعدلة وراثيًّا.
انتقلت النباتات من المختبرات إلى الحقول التجريبية إلى منافذ البيع التجارية دون صعوبات تذكر. في بعض الأحيان لم تنجح التجارب، إذ دمرت دودة القطن محصول القطن المفترض مقاومته لها تمامًا في عام ١٩٩٦، وفي بعض الأحيان أثارت التجارب احتجاجات أنصار البيئة. وفي بريطانيا على وجه التحديد، حيث فقد منظمو قواعد سلامة الغذاء ثقة العامة بعد تفشي وباء «جنون البقر»، صار الطعام المعدل وراثيًّا فجأة قضية كبرى في عام ١٩٩٩، أي بعد أن صار أمرًا روتينيًّا في الولايات المتحدة بثلاث سنوات. إضافة إلى ذلك، ارتكبت شركة مونسانتو في أوروبا خطأً تمثل في تعديل محاصيل وجعلها مقاومة لمبيد الحشائش الضارة الذي تنتجه الشركة نفسها، والمسمى راوندأب. مكن هذا المزارعين من استخدام راوندأب لقتل الحشائش الضارة. أثار مثل هذا المزيج الاستغلالي — التشجيع على استخدام مبيدات الحشائش وجني الأرباح في الوقت ذاته — غضب حماة البيئة. بدأ المخربون المناصرون للبيئة في تخريب قطع أراضٍ مخصصة لتجربة أحد محاصيل البذور الزيتية المعدلة وراثيًّا وقاموا بمسيرات مرتدين حللًا تنكرية على شكل وحش فرانكنشتاين. وصارت هذه القضية واحدة من أهم ثلاث قضايا من وجهة نظر حزب الخضر، وهو ما يعد علامة واضحة على مدى واقعية هذا الحزب.
وكعادتها، عمدت وسائل الإعلام إلى تحويل القضية إلى صراع بين نقيضين من خلال البرامج الحوارية المسائية التي يتنافس الضيوف فيها في الصراخ بأعلى صوتهم، والمقابلات التي أجبرت الناس على الرد بإجابات مفرطة في البساطة على غرار: هل أنت مع الهندسة الوراثية أم ضدها؟ ثم وصلت القضية إلى الحضيض حين أُجبر أحد العلماء على التقاعد المبكر بسبب مزاعم ذُكرت بأحد البرامج التليفزيونية الهستيرية بأنه أثبت أن البطاطس التي أدخلت إليها جينات اللاكتين ثبت أنها مضرة للفئران، وقد «أُبرئت ساحته» لاحقًا على يد مجموعة من العلماء جمعتهم جمعية أصدقاء الأرض. لم تثبت النتيجة عدم أمان الهندسة الوراثية بقدر ما أثبتت عدم أمان اللاكتينات، وهي المسممات الحيوانية المعروفة. وتسببت هذه الرسالة في أن سادت الحيرة. إن وضع الزرنيخ في القدر يجعل اليخنة سامة، لكن هذا لا يعني أن كل أشكال عملية الطهي خطيرة.
وعلى النحو نفسه، قد تكون الهندسة الوراثية آمنة أو خطيرة بحسب الجينات التي تعمل عليها، فبعض الجينات آمن، وبعضها خطير؛ بعضها صديق للبيئة، والبعض الآخر مضر بالبيئة. قد لا يكون اللفت المقاوم لمبيد الحشائش راوندأب صديقًا للبيئة لأنه يشجع على استخدام مبيدات الحشائش أو قد ينقل مقاومته هذه إلى الحشائش نفسها. أما البطاطس المقاومة للحشرات فهي صديقة للبيئة لأنها تتطلب رش مقدار أقل من المبيدات الحشرية، ومن ثم وقودًا أقل للجرارات التي ترش هذه المبيدات، واستخدامًا أقل للطرق من جانب الشاحنات التي توصل هذه المبيدات وهكذا. إن المعارضين للمحاصيل المعدلة وراثيًّا، والمدفوعين بكراهيتهم للتكنولوجيا الحديثة أكثر من حبهم للبيئة، اختاروا بوجه عام تجاهل حقيقة إجراء الآلاف من تجارب الأمان دون ظهور أي آثار مضرة، وأن مبادلة الجينات بين الأنواع المختلفة، خاصة الجراثيم، معروف الآن أنها أكثر شيوعًا بكثير عما كنا نظن في الماضي، لذا لا يوجد شيء «غير طبيعي» في المبدأ ذاته، وأنه قبل التعديل الجيني كانت عملية استيلاد النباتات تعتمد على تعريض بذور النباتات لأشعة جاما على نحو عشوائي متعمد بغرض إحداث طفرات، وأن الأثر الأكبر للتعديل الجيني سيكون تقليل الاعتماد على رش المواد الكيميائية عن طريق تحسين مقاومة النباتات للأمراض والآفات، وأن الزيادة السريعة في المحاصيل تفيد البيئة لأنها تزيح عنا ضغوط ضرورة استصلاح الأراضي البرية.
ومع ذلك، وحتى مع الأخذ في الاعتبار الإلغاء المحتمل للعديد من المشروعات توخيًا للسلامة، يمكننا أن نقدر أنه بحلول عام ٢٠٠٠ ستكون من خمسين إلى ستين بالمائة من بذور المحاصيل المباعة في الولايات المتحدة معدلة وراثيًّا. وسواء رضينا أم لم نرض فإن المحاصيل المعدلة وراثيًّا وجدت لتبقى.
وكذلك الحال فيما يخص الحيوانات المعدلة وراثيًّا. إن وضع أحد الجينات داخل الكائن بحيث يتغير هو وسلالته تغيرًا دائمًا أمر يسهل عمله الآن في الحيوانات مثلما هو الحال مع النباتات. كل ما عليك فعله هو لصقه بداخله: اشفط الجين المرغوب بطرف ماصة زجاجية رفيعة للغاية، ثم اغرس طرف الماصة في جنين الفأر المكون من خلية واحدة، والمأخوذ من رحم أنثى الفأر بعد اثنتي عشرة ساعة من التلقيح، ثم تأكد من أن طرف الماصة دخل إحدى النواتين اللتين تحتوي عليهما الخلية، ثم اضغط برفق. هذا الأسلوب أبعد ما يكون عن المثالية، ولن ينشط الجين المرغوب إلا لدى خمسة بالمائة فقط من الفئران الناتجة. وفي حيوانات أخرى، مثل البقر، تكون نسب النجاح أندر، لكن في تلك الخمسة بالمائة تكون النتيجة فأرًا «متحورًا جينيًّا» يعمل به الجين المزروع في موضع عشوائي بأحد كروموسوماته.
تعد الفئران المتحورة جينيًّا منجم ذهب للعلماء؛ فهي تمكن العلماء من معرفة وظائف بعض الجينات والسبب وراء ما تفعله. ليس من الضروري أن يأتي الجين المزروع من فأر آخر، بل من الممكن أن يأتي من إنسان، فعلى عكس الحاسبات الآلية، كل الأجساد الحية تقريبًا يمكنها تشغيل أي نوع من البرمجيات. على سبيل المثال: يمكن للفأر الذي جُعل أكثر عرضة للإصابة بالسرطان بطريقة مخالفة لطبيعته أن يعود إلى حالته الطبيعية مجددًا بغرس الكروموسوم البشري ١٨ فيه، وهذا يشكل جزءًا من أول الأدلة على أن الكروموسوم ١٨ يحمل جينًا مثبطًا للأورام، لكن بدلًا من إدخال كروموسوم بأكمله، من المعتاد بشكل أكبر إدخال جين مفرد.
تسمح عملية إعادة التركيب المتناظر للهندسة الوراثية ليس فقط بإصلاح الجينات، لكن أيضًا بعمل العكس؛ أي إتلاف الجينات العاملة عن عمد بإدخال نسخ معطوبة مكانها. تكون نتيجة ذلك ما يطلق عليه الفئران المعطلة، التي تنمو وينقصها جين معين، وذلك بغرض الكشف عن وظيفة هذا الجين الحقيقية. يدين اكتشاف آليات الذاكرة بالفضل لمثل هذه الفئران المعطلة (انظر الفصل الخاص بالكروموسوم ١٦)، وهو الحال مع فروع أخرى من علوم البيولوجيا الحديثة.
يبدو الأمر سهلًا نوعًا ما. صارت العقبات أمام استيلاد إنسان متحور جينيًّا أو استثنائيًّا مذهلًا تافهة في وجه أي فريق يعمل في مختبر جيد التجهيز. وبعد بضعة أعوام من الآن، قد تتمكن — مثلًا — من أخذ خلية كاملة من جسدك، ثم تدخل فيها أحد الجينات في موضع معين في كروموسوم معين، ثم تنقل النواة إلى بويضة انتزعت منها نواتها، ثم إنماء هذا الجنين إلى إنسان كامل. سيكون هذا الشخص نسخة متحورة جينيًّا منك، يحمل خلايا مطابقة لخلاياك، باستثناء امتلاكه نسخة مختلفة من الجين الذي تسبب — مثلًا — في إصابتك بالصلع. وبالمثل يمكنك استخدام الخلايا الجذعية من هذا المستنسخ كي تستنبت كبدًا احتياطيًّا قد تحتاجه بعد أن تتلف كبدك بفعل معاقرة الكحوليات. أو يمكنك استنبات خلايا عصبية بشرية في المختبر لاختبار العقاقير الجديدة عليها، وبهذا تنقذ حياة حيوانات التجارب. أو — لو كنت على شفا الإصابة بالجنون — يمكنك ترك ممتلكاتك لهذا المستنسخ والانتحار وأنت مطمئن لمعرفة أن جزءًا منك سيبقى، وإن كان أفضل قليلًا. لن يحتاج أحد لأن يعرف أن هذا الشخص هو نسختك البديلة. ولو أثار شبهه المتزايد بك مع تقدمه في العمر الشكوك، فإن عدم إصابته بالصلع سرعان ما سيزيل أي شك.
لم نتمكن بعد من فعل أي من هذه الأمور؛ فالخلايا الجذعية البشرية اكتُشفت للتو، لكن لن يمضي وقت طويل حتى تصير هذه الأمور ممكنة. متى يصير استنساخ البشر ممكنًا، وهل هو عمل أخلاقي؟ بوصفك فردًا حرًّا، أنت تملك جينومك، ولا تستطيع أي حكومة أن تؤممه، أو شركة أن تشتريه، لكن هل يعطيك هذا الحق في أن تورثه لشخص آخر؟ (فالشخص المستنسخ هو شخص آخر.) أو أن تعبث به؟ في الوقت الحالي يبدو المجتمع متحمسًا لكبح جماح نفسه عن هذا الإغراء، وأن يرجئ العمل على الاستنساخ أو العلاج الجيني لخلايا التكاثر وأن يفرض قيودًا صارمة على أبحاث الأجنة، وأن يحرم نفسه من الإمكانيات الطبية في مقابل عدم المخاطرة بإثارة فزع العامة من المجهول. لقد رسخنا في أذهاننا من خلال كل أفلام الخيال العلمي تلك العظة الفاوستية التي تقول إن العبث بالطبيعة سيجلب علينا انتقامًا شيطانيًّا. لقد صرنا أكثر حذرًا، أو على الأقل هذا هو حالنا بوصفنا ناخبين، أما بوصفنا مستهلكين فربما نتصرف على نحو مغاير. قد يحدث الاستنساخ، ليس لأن الأغلبية تقره، بل لأن قلة من البشر ستقدم عليه. إن هذا — على نحو ما — هو ما حدث مع أطفال الأنابيب. لم يقرر المجتمع قط السماح بهذا الأمر، بل اعتاد على فكرة أن من يتحرقون شوقًا لأن يرزقوا بأطفال صاروا قادرين على تحقيق حلمهم.
وفي الوقت ذاته، في واحدة من المفارقات الكثيرة التي تقدمها لنا علوم الوراثة الحديثة، إذا كان الجين المثبط للأورام على الكروموسوم ١٨ معطوبًا، فانس أمر العلاج الجيني؛ فهناك علاج وقائي أسهل بكثير بين يدينا. تظهر الدراسات الحديثة أن من يملكون جينات تزيد من احتمال إصابتهم بسرطان القولون، يمكن للنظام الغذائي الغني بالأسبرين والموز غير الناضج أن يقيهم هذا النوع من السرطان. إن التشخيص جيني، لكن العلاج ليس كذلك. وربما يكون التشخيص الجيني المتبوع بالعلاج التقليدي هو أعظم الهبات التي منحها الجينوم للطب.