الكروموسوم ٢: النوع
أحيانًا تكون الحقيقة واضحة وضوح الشمس أمام أعيننا لكننا نخطئها؛ فحتى عام ١٩٥٥ كان هناك إجماع على أن الإنسان يملك أربعة وعشرين زوجًا من الكروموسومات. لقد كانت هذه حقيقة أخرى من تلك الحقائق التي يعرف الجميع أنها صحيحة. وقد أيقن الكل صحة هذا الزعم لأنه عام ١٩٢١ قطع أحد أبناء تكساس ويدعى ثيوفيلوس بينتر شرائح رفيعة من خصي رجلين أسودين ورجل أبيض أُخصوا بسبب إصابتهم بالجنون وشروعهم في «إيذاء الذات»، ثم وضع الشرائح في مواد كيميائية وفحصها تحت المجهر. حاول بينتر أن يعد الكتل المتشابكة من الكروموسومات غير المرتبة التي كان يراها في الخلايا النطفية لهؤلاء الرجال تعيسي الحظ، ثم وصل إلى الرقم أربعة وعشرين. وقال: «أثق أن هذا هو الرقم الصحيح.» كرر آخرون بعده التجربة نفسها بصور مختلفة، واتفقوا كلهم على الرقم أربعة وعشرين.
في الحقيقة إنه لأمر يدعو للدهشة ألا يملك البشر أربعة وعشرين زوجًا من الكروموسومات، فالشمبانزي تملك أربعة وعشرين زوجًا من الكروموسومات، مثلها مثل الغوريلا وقرود الأورانج أوتان، فمن بين فصيلة القردة نعد نحن استثناءً. وتحت المجهر يتضح أن أكثر الاختلافات وضوحًا ولفتًا للنظر بيننا وبقية أفراد فصيلة القردة العليا هو أننا نملك زوجًا أقل من الكروموسومات. بيد أنه يتضح لنا على الفور أن السبب وراء ذلك ليس أننا فقدنا أحد أزواج الكروموسومات الموجودة في القردة، بل إن اثنين من أزواج الكروموسومات الموجودة في القردة قد امتزجا معًا بداخلنا، فالكروموسوم رقم ٢، وهو ثاني أكبر الكروموسومات البشرية، يتكون في حقيقة الأمر نتيجة امتزاج اثنين من كروموسومات القردة متوسطة الحجم، وهو ما يمكن رؤيته من واقع أنماط الشرائط الكروموسومية السوداء الموجودة على هذه الكروموسومات.
لقد ذكر البابا يوحنا بولس الثاني، في رسالته إلى الأكاديمية البابوية للعلوم في الثاني والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) عام ١٩٩٦، أنه توجد «فجوة وجودية» بين أسلاف القردة والإنسان الحديث، وهي النقطة التي من المفترض أن الله نفخ فيها الروح البشرية في هذه السلالة الحيوانية. وبهذا يمكن للكنيسة أن تتفق مع نظرية التطور. ربما كانت تلك الفجوة الوجودية هي تلك اللحظة التي حدث فيها الاندماج بين اثنين من كروموسومات القردة، وأن جينات الروح تقع بالقرب من منتصف الكروموسوم رقم ٢.
إلا أن البشر، وفيهم البابا نفسه، ليسوا ذروة التطور. ليست هناك ذروة للتطور من الأساس. كما لا يوجد ما يسمى بارتقاء سلم التطور، فالانتخاب الطبيعي هو في بساطة عملية تتغير فيها أشكال الحياة لكي تتوافق مع ذلك العدد الكبير من الفرص الذي تقدمه البيئة المادية وغيرها من أشكال الحياة الأخرى. ويمكننا الزعم أن بكتيريا «الدخان الأسود» — التي تعيش في الشقوق الكبريتية الموجودة في قاع المحيط الأطلنطي، والتي انحدرت من مجموعة من البكتيريا افترقت عن أسلافنا بعد وقت قصير من اليوم الذي وجدت فيه لوكا — أكثر تطورًا من موظف البنك، على المستوى الجيني على الأقل. وبفضل قصر عمر أجيالها أتيح لها المزيد من الفرص لتحسين جيناتها.
إن الاهتمام المفرط من جانب هذا الكتاب بأحوال جنس واحد من الأجناس، هو الجنس البشري، ليس تأكيدًا على أهمية هذا الجنس دون سواه. لا شك أن الجنس البشري متفرد، فالإنسان يملك في رأسه أعقد آلة بيولوجية على سطح هذا الكوكب. بيد أن التعقيد ليس كل شيء، ولم يكن دومًا الهدف الأسمى للتطور، فكل نوع على سطح هذا الكوكب متفرد، والتفرد ليس بالسلعة النادرة هنا. ومع هذا فأنا أحاول سبر أغوار هذا التفرد البشري في هذا الفصل بغرض كشف النقاب عن السبب في تفردنا نحن البشر. وإني أرجو أن تغفروا لي ضيق نظرتي هنا. فعلى الرغم من أن قصة تطور نوع الرئيسيات عديم الشعر وافر العدد هذا الذي نشأ في أفريقيا ليست إلا حاشية موجزة في تاريخ الحياة، فإن لها أهميتها الفائقة في تاريخ نوع الرئيسيات عديمة الشعر. والسؤال هنا: ما هو موطن تفرد الجنس البشري تحديدًا؟
إن البشر جنس ناجح من الناحية البيئية؛ فهم أكثر الحيوانات الكبيرة عددًا على سطح الكوكب بأسره، إذ يصل عدد أفراد هذا النوع إلى ما يناهز ستة مليارات فرد، أو ما يعادل من ناحية الوزن حوالي ٣٠٠ مليون طن من الكتلة الحيوية. والحيوانات الوحيدة الكبيرة التي تنافس أو تفوق هذه الكمية هي إما حيوانات دجنّاها، كالأبقار والدجاج والخراف، أو حيوانات تعتمد على مواطن صنعها البشر، مثل العصافير والفئران المنزلية. وعلى النقيض نجد أنه يوجد أقل من ألف غوريلا جبلية في العالم، وحتى قبل أن نبدأ في ذبحها وتدمير مواطنها الطبيعية لم يكن عددها يتجاوز هذا الرقم بعشرة أضعاف. إضافة إلى ذلك أظهر الجنس البشري قدرة مدهشة على استيطان مناطق متباينة، باردة وساخنة، جافة ومطيرة، مرتفعة ومنخفضة، على شواطئ البحار وفي الصحراء. وطيور العقاب وبوم الحظائر والخطاف الوردي وحدها هي الأنواع الكبيرة الأخرى التي يمكنها العيش في جميع القارات، باستثناء القارة القطبية الجنوبية، لكنها مع ذلك تظل مرتبطة بمواطن معينة. لا شك أن هذا النجاح البيئي للجنس البشري له ثمن كبير، وقد تصيب البشر كارثة محققة في وقت قريب؛ فعلى الرغم من أننا جنس ناجح، فإننا شديدو التشاؤم حيال المستقبل، لكننا في الوقت الحالي لا نزال ناجحين.
مع هذا، فالحقيقة الجديرة بالملاحظة هي أننا جئنا عبر سلسلة طويلة من الإخفاقات، فنحن ننتمي لفصيلة القردة عديمة الذيل، وهي المجموعة التي تكاد تكون انقرضت منذ خمسة عشر مليون عام لحساب قرود السعدان الأفضل تكوينًا. ونحن أيضًا من الرئيسيات، وهي مجموعة من الثدييات شارفت على الانقراض منذ خمسة وأربعين مليون عام لمصلحة القوارض الأفضل تكوينًا. وننتمي أيضًا إلى مجموعة الزواحف رباعية الأرجل، وهي مجموعة من الزواحف انقرضت تقريبًا منذ مائتي مليون عام لمصلحة الديناصورات الأفضل تكوينًا. وأيضًا ننحدر من مجموعة الأسماك ذات الأطراف، التي انقرضت بدورها منذ ٣٦٠ مليون عام لمصلحة الأسماك شعاعية الزعانف. وننتمي أيضًا لشعبة الحبليات، وهي الشعبة التي عاشت بصعوبة في العصر الكمبري منذ ٥٠٠ مليون عام إلى جانب شعبة المفصليات شديدة النجاح. لقد تحقق نجاحنا البيئي على الرغم من ظروف عديدة معاكسة.
وطوال أربعة مليارات عام أعقبت ميلاد لوكا صارت الكلمة ماهرة في بناء ما أطلق عليه ريتشارد ديكنز اسم «ماكينات البقاء»، والمقصود بها تلك الكيانات الكبيرة المكسوة باللحم التي يطلق عليها اسم الأجساد، والتي بدورها كانت تعمل على مقاومة الفوضى من أجل مضاعفة الجينات داخلها. وقد قامت بهذا عن طريق تلك العملية الهائلة الجليلة المسماة بالمحاولة والخطأ، والمعروفة أيضًا باسم الانتخاب الطبيعي. إن ملايين الملايين من الأجساد الجديدة بُنيت واختُبرت، لكنها لم تتمكن من التكاثر إلا عندما كانت قادرة على الوفاء بعدد متزايد من معايير البقاء القاسية. في البداية كان الأمر يعتمد ببساطة على الكفاءة من الناحية الكيميائية؛ فأفضل الأجساد كانت خلايا وجدت طرقًا لتحويل المواد الكيميائية إلى دنا وبروتين. استمرت هذه المرحلة نحو ثلاثة مليارات عام بدا خلالها أن الحياة على كوكب الأرض — بصرف النظر عن الشكل الذي كانت عليه على أي كوكب آخر — كانت معركة متواصلة بين سلاسل متناحرة من الأميبا. إن فترة الثلاثة مليارات عام التي عاشت خلالها تريليونات التريليونات من الأميبا، وكل واحدة منها تتكاثر وتموت كل بضعة أيام أو نحو ذلك، هي المسئولة عن ذلك التراث الهائل المتراكم من عمليات المحاولة والخطأ.
لكن اتضح أن الحياة لم تكن قد أخرجت بعدُ كل ما في جعبتها، فمنذ نحو مليار عام مضى ظهر — فجأة — نظام عالمي جديد، وذلك مع تكون أجساد أكبر متعددة الخلايا، وهنا حدث انفجار ضخم للمخلوقات الكبيرة. وفي غمضة عين من الناحية الجيولوجية (إن ما يسمى بانفجار العصر الكمبري استمر فترة لا تتجاوز عشرة إلى عشرين مليون عام وحسب) كانت هناك مخلوقات عديدة على درجات متباينة من التعقيد، مثل ثلاثيات الفصوص التي تناهز القدم طولًا، والديدان اللزجة التي كانت أطول، والطحالب المتماوجة التي يصل عرضها إلى نصف القدم. كانت الكائنات وحيدة الخلية هي المهيمنة، بيد أن هذه الأشكال غير العملية من مخلوقات البقاء العملاقة كانت توجد مكانًا لنفسها. ومما يدعو للدهشة أن هذه الأجساد عديدة الخلايا صادفت نوعًا من التقدم غير المقصود. وبالرغم مما كان يقع من حوادث عرضية — مثل ارتطام أحد النيازك الآتية من الفضاء الخارجي بسطح الأرض، وهو ما كان يؤدي إلى إبادة أكبر أشكال الحياة وأكثرها تعقيدًا — فقد كانت هناك نزعة واضحة مميزة؛ فكلما زادت فترة بقاء الحيوانات زادت درجة تعقيد بعضها. وعلى وجه الخصوص أمخاخ أكثر الكائنات ذكاءً صارت أكبر حجمًا مع كل عصر؛ فأكبر الأمخاخ في حقبة الحياة القديمة (الباليوزويك) كانت أصغر من أكبرها في حقبة الحياة الوسطى (الميسوزويك)، التي كانت بدورها أصغر من أكبر الأمخاخ في حقبة الحياة الحديثة (السينوزويك)، التي كانت بدورها أصغر من أكبر الأمخاخ في الوقت الحالي. لقد وجدت الجينات سبيلًا لتحقيق طموحاتها، وذلك من خلال بناء أجساد قادرة ليس على البقاء فقط، بل على تبني سلوكيات ذكية أيضًا. وهكذا، إذا وجد الجين نفسه داخل حيوان تهدده العواصف الشتوية أمكنه الاعتماد على أن جسد الحيوان سيتصرف تصرفات ذكية، كالهجرة إلى الجنوب أو بناء مأوى لنفسه.
نصل في رحلتنا تلك التي تحبس الأنفاس، والتي بدأت منذ أربعة مليارات عام، إلى عشرة ملايين عام ماضية، بعد ظهور أول الحشرات والأسماك والديناصورات والطيور، إلى الوقت الذي كانت فيه المخلوقات التي تملك أكبر أمخاخ على ظهر الكوكب (بالمقارنة بأجسادها) هي على الأرجح أسلافنا؛ القردة. عند هذه النقطة — منذ عشرة ملايين عام — كان يعيش على الأرجح نوعان من القردة على الأقل في أفريقيا، وربما زاد العدد عن اثنين: أحدهما كان سلف الغوريلا، والآخر هو السلف المشترك للشمبانزي والإنسان. وقد اتخذ أسلاف الغوريلا من الغابات الجبلية الموجودة على سلاسل من البراكين في وسط أفريقيا موطنًا لها، وبهذا عزلت نفسها تمامًا عن جينات الأنواع الأخرى من القرود. وفي وقت ما على مدار الخمسة ملايين عام التالية انقسم النوع الثاني إلى نوعين مختلفين، وهذا الانقسام أدى إلى ظهور كل من الإنسان والشمبانزي.
إلى جانب اندماج الكروموسوم ٢ فإن الاختلافات الظاهرة بين كروموسومات الشمبانزي والإنسان قليلة وضئيلة، ففي ثلاثة عشر كروموسومًا لا يوجد أي اختلافات مرئية من أي نوع. وإذا اخترت عشوائيًّا أي «فقرة» من جينوم الشمبانزي وقارنت بينها وبين «فقرة» مكافئة في الجينوم البشري فستجد أن عددًا قليلًا جدًّا من «الحروف» هو المختلف؛ في المتوسط أقل من حرفين في كل مائة حرف. إن الإنسان، بنسبة ثمانية وتسعين بالمائة، شمبانزي، كما أن الشمبانزي، بنسبة ثمانية وتسعين بالمائة، إنسان. فتدبر — وإن لم يقلل هذا من تقديرك لذاتك — حقيقة أن الشمبانزي غوريلا بنسبة سبعة وتسعين بالمائة، وأن الإنسان أيضًا غوريلا بنسبة سبعة وتسعين بالمائة. ويعني ذلك أننا أكثر من الغوريلا شبهًا بالشمبانزي.
كيف يمكن هذا؟ فالاختلافات بيني وبين الشمبانزي كبيرة؛ هو يحمل شعرًا أكثر كثافة، وله رأس ذات شكل مختلف، وجسد ذو شكل مختلف، وأطراف مختلفة، ويصدر أصواتًا مختلفة. لا يوجد شيء في الشمبانزي يشبه الإنسان بنسبة ثمانية وتسعين بالمائة. حقًّا؟ لو أنك أخذت نموذجين من الصلصال لفأر وحاولت أن تحول أحدهما إلى شمبانزي والآخر إلى إنسان، فستكون أغلب التغيرات التي ستجريها واحدة في الحالتين. وإذا أخذت نموذجين من الصلصال للأميبا وحولت أحدهما إلى شمبانزي والآخر إلى إنسان، فستكون جميع التغيرات التي ستجريها واحدة تقريبًا. فكلاهما سيحتاج إلى اثنين وثلاثين سنًّا، وخمس أصابع، وعينين، وأربعة أطراف، وكبد. وسيحتاج كلاهما إلى شعر، وجلد جاف، وعمود فقري، وثلاث عظام صغيرة في الأذن الوسطى. وسواء من منظور الأميبا أو من منظور البويضة المخصبة، فإن الإنسان والشمبانزي متماثلان بنسبة ثمانية وتسعين بالمائة. لا توجد عظمة في جسد الشمبانزي غير موجودة في جسم الإنسان، ولا توجد مادة كيميائية معروفة في مخ الشمبانزي غير موجودة في مخ الإنسان، ولا يوجد جزء معروف من الجهاز المناعي أو الهضمي أو الوعائي أو الليمفاوي أو العصبي موجود لدى الإنسان وغير موجود في الشمبانزي أو العكس.
فعلى أي حال، لم يمض أكثر من ٣٠٠ ألف جيل بشري منذ أن وجد السلف المشترك لكلا النوعين في أواسط أفريقيا، فإن أمسكت بيد والدتك، وأمسكت هي بيد والدتها، ثم أمسكت الجدة بيد والدتها وهكذا، فسيمتد هذا الصف من نيويورك إلى واشنطن فحسب قبل أن يمسك آخر أفراده بيد «الحلقة المفقودة»، وهو السلف المشترك لنا مع الشمبانزي. إن خمسة ملايين عام مدة طويلة، بيد أن التطور لا يعمل وفق الأعوام، بل وفق الأجيال. وبمقدور البكتيريا أن تمر بالعدد نفسه من الأجيال الذي نمر به خلال هذه الفترة، لكن في غضون خمسة وعشرين عامًا فقط.
ماذا كان شكل هذه الحلقة المفقودة؟ من خلال البحث في السجلات الحفرية لأسلاف البشر المقربين، يحقق العلماء تقدمًا ملحوظًا على سبيل معرفة الجواب. إن أقرب ما وصلوا إليه هو هيكل عظمي صغير لرجل-قرد يدعى «أرديبيتيكوس» يرجع إلى ما يربو على الأربعة ملايين عام بقليل. وعلى الرغم من اعتقاد بعض العلماء أن أرديبيتيكوس هو السلف السابق على الحلقة المفقودة، فإن هذا الطرح لا يبدو واردًا، فتجويف الحوض الموجود بهذا المخلوق مصمم بالأساس لكي يمشي منتصبًا، ومن غير المرجح أن يتطور هذا الشكل إلى شكل تجويف الحوض الموجود لدى الشمبانزي والشبيه بالموجود لدى الغوريلا. إننا بحاجة إلى العثور على حفرية أكبر من هذا العمر بعدة ملايين من السنين كي نتأكد من أننا ننظر إلى السلف المشترك لنا وللشمبانزي. ومع هذا يمكننا بالنظر إلى أرديبيتيكوس أن نخمن الشكل الذي كانت عليه هذه الحلقة المفقودة؛ حيث كان مخها على الأرجح أصغر حجمًا من مخ الشمبانزي الحديث. وكان جسمها قادرًا على الحركة الخفيفة على قدمين فقط مثل الشمبانزي الحديث، كما كان غذاؤها، أيضًا، مماثلًا لغذاء الشمبانزي الحديث، الذي يتكون في الأساس من الفاكهة والنباتات. وكان حجم الذكور فيها أكبر من حجم الإناث بقدر كبير. من الصعب، من منظورنا نحن البشر، ألا نفكر في شكل الحلقة المفقودة على أنه أكثر شبهًا بالشمبانزي منه بالإنسان. بالطبع قد لا توافقنا الشمبانزي على هذا الرأي، لكن، مع هذا، من الواضح أن سلالتنا قد شهدت تغيرات أكبر من تلك التي شهدتها سلالتها.
ومثل أي قرد وجد على سطح هذا الكوكب، فإن الحلقة المفقودة كانت على الأرجح مخلوقًا يعيش في الغابات؛ قردًا نموذجيًّا من الحقبة الحديثة يعيش في موطنه بين الأشجار. وفي مرحلة ما انقسم أفراد ذلك النوع إلى قسمين. نحن نعرف هذا لأن انفصال أي تجمع سكاني إلى قسمين هو في الغالب الحدث الذي يتسبب في تمايز الأنواع، ومن ثم يبدأ النوعان الوليدان في التشعب التدريجي من حيث التكوين الجيني. ربما كان ما سبب هذا الانفصال هو سلسلة جبال أو نهر (يفصل نهر الكونغو اليوم بين نوع الشمبانزي وشقيقه قرود البونوبو)، أو تكوّن الوادي المتصدع الغربي ذاته منذ خمسة ملايين عام، مما ترك أسلافنا البشر على الجانب الشرقي الجاف. أطلق عالم الحفريات إيف كوبين على تلك النظرية الأخيرة اسم «قصة الجانب الشرقي». أيضًا يحتمل، وفقًا لنظريات بعيدة الاحتمال، أن الصحراء الكبرى حديثة التكون وقتها كانت هي التي تسببت في عزل أسلافنا في شمال أفريقيا، في حين ظل أسلاف الشمبانزي جنوبها. وربما كان الفيضان المفاجئ لحوض البحر المتوسط الذي كان وقتها جافًّا، منذ خمسة ملايين عام، والذي تسبب فيه شلال بحري هائل في جبل طارق، شلال يبلغ في حجمه ألف مرة حجم شلالات نياجرا، هو الذي عزل، على نحو مفاجئ، مجموعة صغيرة من أفراد الحلقة المفقودة على جزيرة كبيرة بالبحر المتوسط، حيث اعتادوا على الخوض في المياه بحثًا عن الأسماك والمحار. هذه «الفرضية المائية» تفسر الأمر من جميع جوانبه تفسيرًا تامًّا، لكن يعوزها فقط الدليل المادي.
لذا فلنتخيل هذه المجموعة المنعزلة من الحيوانات وهي على جزيرة، حقيقية أو افتراضية. بسبب تكاثرها المقتصر على أفرادها، ووجودها على شفا حافة الانقراض، وتعرضها لقوى تأثير المؤسس الجينية (التي تمكن مجموعة صغيرة من الأفراد من أن يمروا بتغيرات جينية كبيرة بفضل عامل الصدفة)، تعرضت هذه المجموعة الصغيرة من القردة لطفرة كبيرة؛ إذ اندمج اثنان من الكروموسومات في كروموسوم واحد. وهكذا اقتصر تناسلهم على أفراد نوعهم وحسب، حتى بعد عودة «الجزيرة» إلى «البر الرئيسي». وأي مولود ناتج عن تناسلها مع أبناء عمومتها على البر الرئيسي يصير عقيمًا. (ها أنا ذا أخمن مرة أخرى، لكن من العجيب أن العلماء يظهرون قدرًا قليلًا من الفضول حيال ذلك الفصل التناسلي الخاص بنوعينا، أي إن السؤال هنا هو: هل يمكننا التناسل مع الشمبانزي أم لا؟)
ولتفكر كما تشاء في البيئة التي انتخبت ذلك التغيير الجذري لشكل الهيكل العظمي لأسلافنا. من الممكن الأخذ ببعض الاقتراحات والتغافل عن البعض الآخر، لكن السبب الأكثر قبولًا وراء هذه التغيرات هو انعزال أسلافنا في بيئة عشبية مفتوحة جافة نسبيًّا. لقد جاء هذا الموطن إلينا، وليس العكس؛ ففي أجزاء عديدة من أفريقيا حلت حشائش السافانا محل الغابات في ذلك الوقت تقريبًا. وبعد ذلك ببعض الوقت، منذ حوالي ٣٫٦ مليون عام، وعلى الرماد البركاني المبلل حديثًا والصادر عن بركان ساديمان فيما يعرف الآن باسم تنزانيا، سار ثلاثة من أسلاف الإنسان عن عمد متجهين من الجنوب إلى الشمال، كان أكبرهم يسير في المقدمة، وأوسطهم حجمًا يسير على خطى القائد نفسها، وأصغرهم، الذي يسير بخطى واسعة كيلا يتخلف عنهم، يسير إلى يسار رفيقيه. وبعد قليل توقفوا واستداروا إلى الغرب قليلًا، ثم واصلوا المسير، بقامات منتصبة مثل قامتك وقامتي. إن طبعات أقدام في منطقة لايتولي تؤكد بوضوح تام حقيقةَ سير أسلافنا بقامات منتصبة.
مع ذلك فنحن لا نعرف إلا القليل. فهل كان أصحاب آثار الأقدام في لايتولي ذكرًا وامرأة وطفلًا، أم كانوا رجلًا وامرأتين؟ ماذا كانوا يأكلون؟ ما العادات التي كانوا يفضلونها؟ لقد كان الجزء الشرقي من أفريقيا يزداد جفافًا بسبب إعاقة الوادي المتصدع لدوران الرياح الرطبة الآتية من الغرب، لكن هذا لا يعني أنهم كانوا يسعون إلى الأماكن الجافة. في واقع الأمر إن احتياجنا للمياه، وميلنا إلى التعرق، وتكيفنا العجيب على تناول الأسماك الغنية بالدهون والزيوت وغيرها من العوامل (وحتى حبنا للشواطئ والرياضات المائية)، كل هذا يشي بتفضيلنا المكوث على مقربة من المياه. نحن نجيد السباحة إلى حدٍّ بعيد، فهل عاش جنسنا في بداياته حول ضفاف الأنهار أو حواف البحيرات؟
في الوقت المناسب، سوف يتحول البشر جذريًّا للتغذي على اللحوم، لكن سيظهر نوع جديد، بل أنواع عديدة، من «الرجل-القرد» قبل هذا الأمر، وجميعها منحدرة من مخلوقات شبيهة بتلك التي كانت في لايتولي، لكنها ليست أسلاف بشر، وهي على الأرجح كانت نباتية صرفة، ويطلق عليهم اسم «الأسترالوبيثيسين الأقوياء». ولا يمكن للجينات أن تساعدنا هنا لأن هؤلاء الأقوياء كانوا طريقًا مسدودًا. ومثلما لم نكن لنعرف قرابتنا الوثيقة من الشمبانزي لو لم نكن قد تمكنا من قراءة الجينات، لم نكن كذلك لنعرف بوجود العديد من أقربائنا من الأسترالوبيثيسين الأقوياء لو لم نعثر على الحفريات الخاصة بهم (وأعني بضمير المتكلم هنا في الأساس عائلة ليكي ودونالد يوهانسون وغيرهم). وعلى الرغم من تسميتهم بالأقوياء (وهو الاسم الذي يرجع لتمتعهم بعظام فك كبيرة)، فإن الأسترالوبيثيسين الأقوياء كانوا مخلوقات صغيرة الحجم؛ أصغر حجمًا وأغبى من الشمبانزي، لكن كانت لهم قامة منتصبة ووجوه كبيرة قوية، حيث كانوا يتمتعون بفكوك كبيرة قوية مدعومة بعضلات ضخمة دورها الرئيسي مضغ ربما الحشائش ونباتات أخرى صعبة المضغ. لقد فقدوا أنيابهم حتى يسهل عليهم مضغ النباتات من جانب لجانب. وفي النهاية انقرض هذا النوع، منذ حوالي مليون عام. قد لا نعلم المزيد عنهم مطلقًا. وربما نكون قد أكلناهم فيما مضى.
كان العامل المتحكم في هذه العملية برمتها، على الأرجح، هو الانتقاء الجنسي، فإلى جانب التغيرات في حجم المخ كان هناك تغير ملحوظ آخر آخذ في الحدوث. لقد بدأ حجم الإناث يكبر نسبيًّا مقارنة بالذكور، فعلى الرغم من أننا نجد لدى الشمبانزي المعاصر وحفريات الأسترالوبيثيسين وحفريات الرجل-القرد أن الذكور أكبر من الإناث بمرة ونصف، فإن هذه النسبة لدى الإنسان في الوقت الحالي أقل بكثير. ويعد ذلك الانخفاض الثابت في النسبة من واقع سجل الحفريات من أكثر الملامح التي تغافلنا عنها في تاريخنا القديم. وما يعنيه هذا الانخفاض هو أن نظام التزاوج لهذا النوع كان آخذًا في التغير، فقد حل شكل من أشكال التزاوج الأحادي محل نظام الاختلاط الجنسي لدى الشمبانزي وما يصاحبه من قصر في فترة علاقة الارتباط وكذلك نظام تعدد الزوجات لدى الغوريلا، والدليل الواضح على ذلك هو انخفاض نسبة المثنوية الجنسية. لكن في ظل هذا النظام الأحادي للتزاوج سيكون هناك ضغط على كلا الطرفين لكي يختار كل منهما شريكه بحرص، أما في نظام تعدد الشركاء فتكون الأنثى وحدها هي صاحبة الحق في الاختيار. وبهذا ربطت صلات تزاوج وثيقة كل رجل-قرد بشريكته طوال فترة خصوبتها، وعلى حين غرة أصبح الكيف وليس العدد هو العامل المهم. وفيما يخص الذكور صار حتميًّا أن يختاروا شريكات أصغر، لأن الإناث صغيرات السن تنتظرهن فترة خصوبة أطول. وصار الميل إلى تفضيل الشباب ذوي السمات الأقرب إلى الطفولة في كلا الجنسين يعني تفضيل جمجمة الشباب المقببة الكبيرة، وهذا ما بدأ الدافع نحو أكبر الأمخاخ حجمًا وما ترتب عليها بعد ذلك.
كان العامل الذي دفعنا نحو هذا التزاوج الأحادي — أو على الأقل ما جذبنا إليه — هو تقسيم العمل بين الجنسين من أجل الحصول على الطعام، فخلافًا لأي نوع آخر على سطح الكوكب اخترعنا علاقة شراكة فريدة بين الجنسين، فبالمشاركة في الغذاء النباتي الذي تجمعه النساء صار للرجال الحرية في الانخراط في ذلك الترف الذي يشوبه الخطر المتمثل في الصيد بهدف الحصول على اللحم. وعن طريق المشاركة في اللحم الذي اصطاده الرجال صار بمقدور النساء الحصول على طعام قابل للهضم ذي محتوى بروتيني مرتفع دون أن يكنَّ مضطرات إلى ترك صغارهن للبحث عنه. وهذا يعني أن جنسنا وجد طريقة للعيش في السهول الجافة لأفريقيا وقت خطر المجاعة، فحين يصير اللحم شحيحًا كان الغذاء النباتي يسد الفراغ، وحين تصير الثمار والفاكهة شحيحة كان اللحم يملأ الفجوة. وبهذا حصلنا على نظام غذائي ذي محتوى بروتيني مرتفع دون الحاجة إلى التخصص الشديد في عملية الصيد مثلما حدث مع القطط الكبيرة.
منذ ذلك الوقت صارت هذه السمات مترابطة فيما بينها؛ فالأمخاخ الكبيرة احتاجت اللحم (النباتيون اليوم يتجنبون نقص البروتينات بتناول الحبوب فقط)، ومكن اقتسام الطعام من إدخال اللحم في النظام الغذائي (لأنه أعطى الرجال حرية المخاطرة بالفشل في عملية الصيد)، وتطلب اقتسام الطعام أمخاخًا أكبر (فمن دون ذكريات تفصيلية يمكن لأي محتال أن يخدعك)، وشجع اقتسام العمل بين الجنسين على التزاوج الأحادي (إذ إن الرابطة بين الزوجين جعلتهما وحدة اقتصادية)، وأدى التزاوج الأحادي إلى انتقاء شركاء أصغر سنًّا (حيث باتت صفة الشباب في الشريك مزية عظيمة). وهكذا نمضي في نظريات تعطينا تبريرات مريحة تثبت لنا كيف أصبحنا على الصورة التي نحن عليها الآن. لقد بنينا بيتًا علميًّا من الورق استنادًا إلى أدلة واهية، بيد أننا نؤمن أنها ستثبت ذات يوم بالدليل العلمي. لن يخبرنا سجل الحفريات إلا بقدر يسير عن سلوكنا؛ فالعظام تعجز عن الحديث، لكن بمقدور السجل الجيني أن يخبرنا بالمزيد. إن الانتخاب الطبيعي هو العملية التي من خلالها تغير الجينات من تركيبها، لكن في خضم عملية التغير وضعت هذه الجينات سجلًّا لسيرتنا الذاتية الممتدة على مدار أربعة مليارات عام كسلسلة نسب بيولوجية. ولو أننا فقط عرفنا كيف نقرؤها فسنجد فيها مصدرًا قيِّمًا للمعلومات عن ماضينا يكون أكثر فائدة من مخطوطات أبي التاريخ الإنجليزي، القديس بيد. يعني ذلك أنه يوجد سجل كامل لماضينا محفور في جيناتنا.
يخبرنا ما يقرب من اثنين بالمائة من الجينوم بقصة تطورنا البيئي والاجتماعي المختلف عن تطور الشمبانزي، والعكس. فحين يُدْخَل الجينوم البشري لشخص عادي إلى حواسبنا الآلية، وحين يُفْعَل الشيء نفسه مع شمبانزي عادي، وحين تُسْتَخْلَص الجينات النشطة مما حولها، وحين تُسْرَد الاختلافات، يكون وقتها فقط لدينا الفرصة لإلقاء نظرة غير عادية على أثر ضغوط حقبة الحياة الحديثة على فصيلتين متباينتين جاءتا من أصل مشترك واحد. إن الجينات المتماثلة ستكون هي الجينات المعنية بالكيمياء الحيوية وتنظيم الجسم، وربما يكون الاستثناء الوحيد هو تلك الجينات المسئولة عن تنظيم النمو وتطور الهرمونات؛ فعلى نحو ما، بلغتها الرقمية، ستخبر هذه الجينات قدم الجنين البشري أن تنمو لتصير منبسطة وبها عقب وأصبع كبير، في حين الجينات نفسها الموجودة لدي الشمبانزي ستخبر قدم جنين الشمبانزي أن تنمو على نحو مقوس بعقب أصغر وأصابع أطول لتقدر على الإمساك بالأشياء.
إن مجرد محاولة تخيل الكيفية التي يمكن أن يحدث بها هذا لأمر محير للعقل حقًّا، فالعلماء لا يوجد لديهم إلا فكرة مبهمة عن كيفية ضبط الجينات لعملية النمو وشكل الجسم، إلا أنه ما من شك في أن الجينات هي المسئولة عن هذه الأمور. إن الاختلاف بين البشر وبين الشمبانزي اختلاف جيني، وليس شيئًا آخر. وحتى من يؤكدون على الجانب الثقافي في حياة البشر وينكرون أهمية الاختلافات الجينية بين الأفراد أو الأعراق أو يشككون فيها يقرون بأن الاختلافات بيننا وبين الأجناس الأخرى هي اختلافات جينية في الأساس. ولتفترض أن نواة خلية شمبانزي حُقِنَت في بويضة بشرية منزوعة النواة، ثم غُرِسَت في رحم بشري، وأن الوليد الناتج عن هذا، لو قدر له العيش، تربى في أسرة من البشر؛ ماذا سيكون شكله؟ لست بحاجة لإجراء هذه التجربة غير الأخلاقية بالمرة كي تعرف أن الإجابة ستكون «شمبانزي»، فعلى الرغم من إحاطته منذ البداية بالسيتوبلازم البشري، وزرعه في مشيمة بشرية، وتنشئته تنشئة بشرية، فإنه لن يبدو، ولو جزئيًّا، مثل البشر.
يمكن الاستعانة بعملية التصوير لتقديم مثال مناسب على هذا الأمر: تخيل أنك التقطت صورة لشمبانزي. لتحميض الصورة يجب أن تضعها في محلول التحميض لوقت محدد، لكن مهما حاولت فلن يمكنك أن تنتج صورة طفل بشري من صورة فوتوغرافية سلبية للشمبانزي، مهما غيرت من تركيبة محلول التحميض. إن الجينات هي الصورة الفوتوغرافية السلبية، والرحم هو محلول التحميض. ومثلما تحتاج الصورة إلى الغمس في محلول التحميض حتى تظهر بشكلها النهائي، تحتاج وصفة الشمبانزي، المكتوبة كتابة رقمية في جينات البويضة، إلى الوسط المناسب حتى تتحول إلى شمبانزي بالغ، ونعني بالوسط هنا المغذيات والسوائل والطعام والرعاية، لكنها تحمل فعلًا المعلومات الخاصة بتكوين الشمبانزي.
بيد أن المبدأ نفسه لا ينطبق انطباقًا مطلقًا على السلوك، فمن الممكن تَكَوُّن البنية الجسدية للشمبانزي حتى في رحم نوع مختلف، لكن السلوك سيكون غير سوي إلى حد بعيد. فالشمبانزي الصغير سيكون متحيرًا من الناحية الاجتماعية لو حدث أن رُبِّي على يد البشر، تمامًا كحال طرزان لو رُبِّي على يد الشمبانزي، فطرزان — على سبيل المثال — لن يتعلم الكلام. وصغير الشمبانزي الذي رُبِّي على يد البشر لن يتعلم تحديدًا كيف يسترضي الحيوانات المهيمنة ويرهب الأفراد الأقل شأنًا منه، ولن يتعلم كيف يقيم أعشاشًا في الشجر أو كيف يصيد النمل الأبيض. في حالة السلوك الجينات وحدها ليست كافية، على الأقل لدى القردة.
لكنها ضرورية. وإن وجدت أنه من المحير أن تتخيل كيف يمكن لاختلافات بسيطة في التعليمات الرقمية الخطية أن تحدث ذلك الاختلاف البالغة نسبته اثنين بالمائة بين الإنسان والشمبانزي، فبالتأكيد ليس من المحير بالدرجة نفسها أن تتصور أن قليلًا من التغييرات في التعليمات نفسها يمكن أن تكون مسئولة عن تغيير سلوك الشمبانزي بهذه الدقة. لقد أسهبت في الحديث عن نظم التزاوج بين أجناس القردة المختلفة، وتعدد العلاقات الجنسية لدى الشمبانزي، وتعدد الزوجات لدى الغوريلا، والرابطة الطويلة بين الزوجين لدى الإنسان. وأثناء عمل ذلك افترضت — بقدر أكبر من الحرية — أن كل نوع يتصرف على نحو متمايز، وهو ما يقودنا إلى افتراض أن الجينات، ولو جزئيًّا، تحدد السلوك أو تؤثر فيه. كيف يمكن لحفنة من الجينات، كل واحد منها مكون من خيط من الرموز الرباعية، أن تجعل الحيوان متعدد الزوجات أو أحادي الزواج؟ الإجابة: ليست لدي أدني فكرة، لكني لا أشك في أنها تستطيع ذلك فعلًا؛ فالجينات هي وصفات تحدد تركيب الجسم والسلوك على حدٍّ سواء.