الكروموسوم ٢٢: الإرادة الحرة
شوكة هيوم: إما أن تكون أفعالنا مقدرة علينا، وفي هذه الحالة لا نكون مسئولين عنها، وإما أن تكون نتيجة لأحداث عشوائية، وفي هذه الحالة أيضًا لا نكون مسئولين عنها.
من أين أتت هذه الإرادة الحرة؟ من الواضح أنها لم تأت من جيناتي، وإلا لن تكون إرادة حرة. الإجابة — وفق ما يرى الكثيرون — هي أنها تأتي من المجتمع والثقافة والتنشئة. وحسب هذا المنطق فإن الحرية تعادل تلك الأجزاء من طبيعتنا التي لم تحددها الجينات؛ إنها أشبه بزهرة تتفتح بعد أن تكون الجينات قد انتهت من أسوأ أعمالها الاستبدادية. بمقدورنا إذن السمو فوق الحتمية الجينية والقبض على تلك الزهرة الغامضة؛ الحرية.
سادت وقتًا طويلًا نظرة تقليدية بين نوع معين من كتاب العلوم، مفادها أن عالم الأحياء مقسم إلى أشخاص مؤمنين بالحتمية الجينية وآخرين مؤمنين بالحرية. ومع هذا رفض هؤلاء الكتاب أنفسهم فكرة الحتمية الجينية فقط كي يضعوا أشكالًا أخرى من الحتمية البيولوجية محلها، على غرار حتمية التأثير الأبوي أو التشكيل الاجتماعي. ومن العجيب أن العديد من الكتاب الذين يدافعون عن كرامة الإنسان ضد طغيان الجينات يتقبلون بكل سعادة فكرة طغيان العوامل البيئية المحيطة. تعرضت ذات مرة للانتقاد في كتابات أحدهم لأنني بزعمه (وهو ما لم يحدث) قلت إن أنواع السلوك كافة محددة جينيًّا. وقد استفاض الكاتب في ذكر أمثلة تؤكد على أن السلوك ليس جينيًّا، على غرار أنه من المعروف جيدًا أن المعتدين جنسيًّا على الأطفال كانوا عامة عرضة للاعتداء وهم أطفال أيضًا، وأن هذا هو السبب وراء سلوكهم اللاحق، لكن لم يخطر على عقله ولو لحظةً أن هذا التفسير على القدر نفسه من الحتمية، وأنه أكثر إدانة وقسوة للأشخاص الذين عانوا فعلًا بما يكفي من أي مما قلته. كان يجادل بقوله إن أبناء المعتدين على أطفالهم من المرجح أن يصيروا معتدين على أطفالهم بدورهم، وإنه لا يوجد بيدهم ما يمكنهم عمله لتفادي هذا المصير. لم يخطر على باله أنه بهذا يطبق معيارًا مزدوجًا؛ المطالبة بدليل دامغ على التفسيرات الجينية للسلوك، وفي الوقت ذاته القبول بكل يسر بالتفسيرات الاجتماعية للسلوك.
إن الفصل الفج بين الجينات بوصفها مبرمجات عنيدة ذات طبيعة حتمية كلفينية والبيئة بوصفها موطنًا للإرادة الحرة هو فكرة مغلوطة، فمجموع الظروف المحيطة بالجنين في الرحم من أقوى المشكّلات البيئية للشخصية والقدرة البشرية، ولا يمكنك عمل شيء حيالها. وكما قلت في الفصل الخاص بالكروموسوم ٦ فإن بعض جينات القدرة العقلية هي على الأرجح جينات خاصة بالرغبة وليس بالاستعداد؛ بمعنى أنها توجه حاملها نحو مسار من التعلم الإرادي. ويمكن تحقيق النتيجة نفسها على يد معلم ملهم. وبعبارة أخرى، إن الطبيعة أكثر قابلية للتطويع من التنشئة.
تعرض رواية «عالم جديد شجاع»، التي ألفها ألدوس هكسلي في ذروة الحماس لليوجينيا في عشرينيات القرن العشرين، عالمًا مرعبًا من السيطرة القسرية الفارضة للاتساق لا مكان فيه للفردية؛ حيث يقبل كل فرد في خنوع واستعداد مكانه في نظام طبقي مرتب من الألف إلى الهاء، ويؤدي مهامه طائعًا ويروح عن نفسه بالوسائل التي يتوقعها منه المجتمع. إن عبارة «عالم جديد شجاع» نفسها صارت مرادفًا للديستوبيا (أو المدينة الشريرة) التي أوجدها التعاون الوثيق بين التحكم المركزي والعلم المتقدم.
وعلى هذا يصير من المدهش أن نقرأ الكتاب ونكتشف أنه لا يحوي كلمة تقريبًا عن اليوجينيا، فالأفراد من الطبقات ألف إلى هاء لا يتناسلون، بل يُنتَجون بواسطة تعديلات كيميائية في أرحام صناعية تتبعها عمليات تشكيل سلوكية وغسيل مخ بافلوفية، بعدها يعيشون حياتهم تحت تأثير عقاقير أشبه بالأفيون. بعبارة أخرى، هذا العالم الكئيب البغيض لا يدين بشيء للطبيعة، بل يدين بكل شيء للتنشئة. إنه جحيم بيئي، لا جيني. مصير كل فرد محدد بواسطة بيئته الخاضعة للسيطرة، لا بواسطة جيناته. إنها حتمية بيولوجية فعلًا، لكنها ليست حتمية جينية. تجلت عبقرية ألدوس هكسلي في إدراك كيف أن العالم الذي تهيمن فيه التنشئة سيكون جحيمًا حقيقيًّا. وفي الواقع من الصعب الحكم هل تسبب أنصار الحتمية الجينية المتطرفون الذين حكموا ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين في معاناة أكثر من التي تسبب فيها أنصار الحتمية البيئية المتطرفون التي سادت روسيا في الوقت نفسه. كل ما نحن متأكدون منه هو أن كلا النقيضين كان رهيبًا.
من حسن الحظ أننا نقاوم غسيل المخ مقاومة رائعة. فمثلًا، مهما حاول الآباء أو السياسيون أن يقنعوا الشباب بأن التدخين ضار بصحتهم، فإنهم يجربونه على أي حال. بل إن السبب الفعلي الذي يجعل التدخين جذابًا على هذا النحو هو إصرار البالغين على تحذير الشباب منه. إننا مزودون بشكل جيني بميل نحو عناد السلطة، خاصة ونحن في سن المراهقة، وأن نحمي شخصياتنا الفطرية من رموز السلطة أو المعلمين أو أزواج الأمهات المسيئين أو حتى الحملات الإعلانية الحكومية.
في الحقيقة، من الجلي الآن أن للأطفال تأثيرات غير جينية على الآباء أكبر من تأثيرات الآباء غير الجينية على أبنائهم. وكما ذكرت في الفصل الخاص بالكروموسومين إكس وواي فإن النظرة التقليدية كانت تقضي أن بُعد الأب والعناية المفرطة للأم هما السببان اللذان يجعلان الصبي مثليًّا. لكن يُعتقد الآن أن العكس هو الصحيح على الأرجح؛ أن الأب هو الذي ينسحب عندما يدرك أن ابنه ليس معنيًّا بالاهتمامات الذكورية، وتعوض الأم ذلك بأن تبالغ في رعايتها بالابن. وبالمثل، صحيح أن أمهات الأطفال المصابين بالتوحد يتسمن بالبرود، لكن هذا أثر وليس سببًا؛ فالأم المنهكة واهنة العزيمة بفعل سنوات غير مجزية من محاولة التواصل مع الطفل المتوحد تستسلم وتتخلى في نهاية المطاف عن المحاولة.
في سبعينيات القرن العشرين، بعد نشر كتاب إي أو ويلسون بعنوان «البيولوجيا الاجتماعية»، وقع هجوم مضاد شرس على فكرة التأثيرات الجينية على السلوك بقيادة زملاء ويلسون من جامعة هارفارد، ريتشارد ليونتين وستيفن جاي جولد. كان شعارهما المفضل، الذي استخدم عنوانًا لأحد كتب ليونتين، قاطعًّا بشكل لا يقبل النقاش وهو: «ليس في جيناتنا!» كان في ذلك الوقت من المقبول الافتراض أن التأثيرات الجينية على السلوك طفيفة أو غير موجودة، لكن بعد عشرين عامًا من الدراسات في مجال علوم الوراثة السلوكية لم يعد من الممكن القبول بهذه النظرة؛ فالجينات تؤثر فعلًا في السلوك.
ليس هدفي تكرار ذلك الجدال بين دور الطبيعة في مقابل دور التنشئة، الذي تعرضت له في الفصل الخاص بالكروموسوم ٦، بل جذب الانتباه صوب حقيقة أنه حتى لو ثبتت صحة التفسيرات المعتمدة على التنشئة، فإن هذا لا يقلل من درجة الحتمية ولو بمثقال ذرة. ففي حقيقة الأمر، بالتأكيد على التأثير القوي للانسجام مع جماعات الأقران على الشخصية، تكشف لنا ريتش هاريس كيف يمكن للحتمية الاجتماعية أن تثير الخوف أكثر من الحتمية الجينية؛ إنها بمنزلة غسيل للأدمغة. وبدلًا من أن تترك مجالًا لحرية الإرادة فإنها تنتقص منها. إن الطفل الذي يعبر عن شخصيته المتفردة (الجينية في جزء منها) ضد ضغوط الوالدين أو الأشقاء هو على الأقل يطيع سببية داخلية المنشأ، وليست تلك المفروضة من شخص آخر.
إن سبب خطأ الاعتقاد بالمساواة بين الحتمية والجبرية هو كما يأتي: افترض أنك مريض، لكنك تفكر في أنه لا فائدة من الاتصال بالطبيب لأنك إما ستتعافى، أو لن تتعافى، وفي كلتا الحالتين سيكون وجود الطبيب أمرًا شكليًّا. بيد أن هذا يغفل حقيقة أن إمكانية تعافيك، أو عدم تعافيك، يمكن أن تترتب على اتصالك بالطبيب، أو عدم اتصالك به. وعلى هذا فإن الحتمية لا تفرض عليك ما عليك فعله أو عدم فعله. إن الحتمية تنظر للخلف إلى مسببات الحالة الراهنة، وليس للأمام إلى العواقب.
ومع هذا تستمر الخرافة القائلة إن الحتمية الجينية هي نوع لا يرحم من القدر، أكثر من الحتمية الاجتماعية. وكما عبر جيمس واطسون عن الأمر: «إننا نتحدث عن العلاج الجيني وكأن بمقدوره تغيير مصير أحدهم، لكنك تستطيع تغيير مصير أحدهم لو سددت ديون بطاقاته الائتمانية من أجله.» المغزى الأساسي للمعرفة الجينية هو علاج عيوب الجينات بالتدخل (غير الجيني في أغلب الأحوال). إن الطفرات الجينية المكتشفة لا تقودنا إلى الإيمان بالجبرية، بل إلى العكس، وذلك كما أوضحت من خلال العديد من الأمثلة التي أدت فيها هذه الطفرات إلى بذل جهود مضاعفة بغرض إصلاح ما تسببت فيه الطفرات من ضرر. وكما أوضحت في الفصل الخاص بالكروموسوم ٦، حينما اكتُشف في وقت متأخر أن خلل القراءة مرض فعلي، جيني على الأرجح، كان رد فعل الآباء والمعلمين والحكومات غير متفق مع هذه النظرة الجبرية؛ فلم يقل أحد إنه بما أن خلل القراءة مرض جيني فمن ثم لا يمكن علاجه ومن الآن سيُسمح للأطفال المصابين بهذا المرض أن يظلوا أميين. بل العكس تمامًا هو ما حدث؛ إذ طُوّر تعليم علاجي للمصابين بهذا الخلل، وحقق نتائج مبهرة. وبالمثل، كما أكدت في الفصل الخاص بالكروموسوم ١١، حتى المعالجون النفسيون وجدوا أن التفسير الجيني للخجل يفيد في التخلص منه. إن طمأنة الخجولين بأن خجلهم هذا طبيعي و«حقيقي» ساعدتهم في التغلب عليه.
إن المسئولية الكاملة للفرد عن أفعاله هي وهم ضروري من دونه سيتعذر تطبيق القانون، لكنها في نهاية المطاف ليست إلا وهمًا. إنك مسئول عن كل ما ترتكبه بشخصك من أفعال، ومع ذلك فإن التصرف من خلال الشخصية ما هو إلا تعبير عن الحتميات التي أدت إلى تكوين هذه الشخصية من الأساس. وجد ديفيد هيوم نفسه في ورطه كبيرة بسبب هذه المعضلة، التي أسماها شوكة هيوم والتي تقول: إما أن تكون أفعالنا مقدرة علينا، وفي هذه الحالة لا نكون مسئولين عنها، وإما أن تكون عشوائية، وفي هذه الحالة أيضًا لا نكون مسئولين عنها. في أي من الحالتين تُنتهك الفطرة السليمة ويستحيل تنظيم المجتمع.
واجهت المسيحية هذه القضايا على مدار ألفي عام، وواجهها علماء اللاهوت من شتى الملل قبل ذلك. إذ يبدو أن وجود الإله، من الأساس، ينكر فكرة الإرادة الحرة، وإلا فلن يكون هذا الإله كلي القدرة. إلا أن المسيحية على وجه الخصوص كافحت للحفاظ على مفهوم الإرادة الحرة، التي بدونها لن يكون البشر مسئولين عن أفعالهم. ودون هذه المسئولية تصير الخطيئة محض استهزاء ويصير الجحيم ظلمًا مستقبحًا من الله، لكن يوجد إجماع بين الأوساط الدينية حاليًّا على أن الله غرس فينا الإرادة الحرة، بحيث يكون في يدنا الخيار، إما أن نعيش حياة الفضيلة أو حياة الخطيئة.
زعم العديد من أبرز علماء البيولوجيا التطوريين حديثًا أن الإيمان بالأديان هو تعبير عن غريزة بشرية عامة، بمعنى أنه توجد على نحو ما مجموعة من الجينات للإيمان بالله. (بل يزعم أحد علماء الأعصاب أنه عثر على وحدة عصبية خاصة في الفص الصدغي في المخ، تكون أكبر حجمًا أو أكثر نشاطًا لدى المؤمنين بالأديان، كما أن الإفراط في التدين يعد من علامات بعض أنواع صرع الفص الصدغي.) قد لا تكون هذه الغريزة الدينية أكثر من مجرد نتاج جانبي لخرافة غريزية تفترض أن الأحداث كافة، حتى العواصف الرعدية، لها مسببات متعمدة. ربما كانت مثل هذه الغريزة مفيدة في العصر الحجري؛ فحين يندفع جلمود صخر من أعلى التل ويكاد يسحقك، من الآمن أن تقتنع بنظرية المؤامرة وأن أحدهم هو الذي دفع جلمود الصخر نحوك عن إرجاع هذا الأمر للصدفة. إن لغتنا ذاتها محملة بمفردات تؤكد على التعمد. لقد كتبت من قبل أن جيناتي بنتني وفوضت المسئولية لمخي، لكن في الحقيقة لم تفعل جيناتي أيًّا من هذا؛ لقد حدث ذلك بمحض الصدفة.
كم أود أن أشعر أننا نقترب من حل هذا التناقض أكثر مما هو حادث فعلًا. تذكر أنني، عند مناقشة الكروموسوم ١٠، وصفت كيف أن استجابة التوتر تتكون من جينات واقعة تحت إمرة البيئة الاجتماعية، وليس العكس. فإن كان بمقدور الجينات التأثير على السلوك، وبإمكان السلوك التأثير على الجينات، ففي هذه الحالة تصير السببية متبادلة. وفي نظام من التأثيرات المتبادلة، يمكن لنتائج غير متوقعة بالمرة أن تنتج عن عمليات حتمية بسيطة.
تقدم نظرية الفوضى تفسيرًا أفضل للابلاس. فعلى العكس من فيزياء الكم، هي لا تركن إلى الصدفة. فالنظم الفوضوية — كما يعرفها الرياضيون — محددة بشكل حتمي، وليست عشوائية. بيد أن هذه النظرية تقضي أنه حتى لو كنت تعرف العوامل المحدِّدة في أي نظام فقد تعجز عن التنبؤ بالمسار الذي ستتخذه، وذلك بسبب الطرق المتعددة التي تتفاعل بها المسببات بعضها مع بعض. وحتى النظم المحددة تحديدًا بسيطًا يمكن أن تتصرف تصرفًا فوضويًّا. وسبب تصرفها على هذا النحو يرجع في جزء منه إلى مبدأ الانعكاسية؛ الذي بموجبه يؤثر أحد الأفعال في ظروف بداية الفعل التالي، وبهذا تصير التأثيرات البسيطة مسببات كبرى. إن مسار مؤشر سوق الأسهم، ومستقبل الطقس و«الهندسة الكسيرية» لخطوط الساحل كلها نظم فوضوية، وفي كل حالة منها يمكن التنبؤ بالمسار العام للأحداث، فيما يتعذر التنبؤ بالتفاصيل المحددة. إننا نعرف أن الجو سيكون أكثر برودة في الشتاء عن الصيف، لكن ليس بمقدورنا التنبؤ بما إذا كان الجليد سيسقط ليلة رأس السنة أم لا.
للسلوكيات البشرية السمات نفسها. يمكن للتوتر أن يغير من عمل الجينات، وهو ما يؤثر في استجابة التوتر، وهكذا. من المحال إذن التنبؤ بالسلوك البشري على المدى القريب، لكن من الممكن التنبؤ به عامة على المدى البعيد. وعلى هذا يمكنني في أي لحظة من اليوم أن أختار ألا أتناول وجبة طعام، فأنا حر في ألا آكل، لكن على مدار اليوم من المؤكد تقريبًا أنني سآكل. قد يعتمد وقت وجبتي على العديد من العوامل — مدى جوعي (الذي يتحدد جزئيًّا من خلال جيناتي)، أو حالة الطقس (التي تتحدد بطريقة فوضوية من خلال مجموعة كبيرة من العوامل الخارجية)، أو قرار شخص آخر أن يصطحبني للغداء (وهنا يكون هو المحدِّد الذي لا أملك عليه أي سيطرة). إن هذا التفاعل بين المؤثرات الجينية وتلك الخارجية يجعل التنبؤ بسلوكي ضربًا من المستحيل، وليس أمرًا حتميًّا على الإطلاق. وفي الفجوات بين هذه الكلمات تقع الإرادة الحرة.
لا يمكننا الهرب من الحتمية مطلقًا، لكن يمكننا التفريق بين الحتمية المفيدة، وتلك الضارة؛ الحرة، وغير الحرة. افترض أنني جالس في مختبر شين شيموجو في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا وأنه في هذه اللحظة يُستحث جزء من مخي في مكان ما بالقرب من التَّلم الحزامي الأمامي باستخدام قطب كهربائي. بما أن مركز السيطرة على حركاتي «الإرادية» يقع في هذه المنطقة العامة، فمن الممكن إذن أن تصدر عني حركة تتسم، من وجهة نظري، بأنها إرادية من جميع الأوجه. وإذا سئُلت عن سبب تحريكي لذراعي فسأجيب بكل قناعة بأنه قرار إرادي من جانبي، لكن البروفيسور شيموجو سيعرف أن هذا غير حقيقي (أسارع بالتأكيد على أن هذه تجربة افتراضية اقترحها علي شيموجو، ولم تحدث في الواقع). ليست حقيقة كون حركتي مقدرة هي التي تتناقض مع اعتقادي الواهم بحريتي، بل حقيقة تقرير حركتي بشكل خارجي من قبل شخص آخر هي التي تتناقض معها.
إن كنت مصابًا بالعصاب القهري، ونهضت من نومي ومشيت عبر الحجرة، سواء أردت هذا أم لا، أو إذا فعلت هذا لأن شخصًا ما أجبرني عليه، ففي كلتا الحالتين لم أكن أتصرف بحريتي. لكن إذا فعلت هذا الآن، فلا بد أنني أتصرف بحرية، لمجرد أن تلك الظروف غير موجودة؛ وحقيقة وجود سبب لفعلي هذا، من هذا المنظور، غير ذات صلة.
الحرية هي القدرة على الوقوف وتجاوز الحدود التي تفرضها البيئة. هذه القدرة هي شيء وضعه الانتخاب الطبيعي فينا جميعًا، لأنها قدرة تكيفية … إذا كان مكتوبًا عليك أن تخضع للسيطرة، فهل تفضل الخضوع لسيطرة بيئتك المحيطة، المختلفة عنك، أم لسيطرة جيناتك، التي هي بشكل ما جزء من كينونتك؟
تكمن الحرية في تعبيرك عن حتميتك، وليس حتمية شخص آخر. وليست الحتمية هي ما يحدث الفارق، بل مصدر هذه الحتمية. ولو كنا نفضل الحرية فمن الأفضل إذن أن نخضع لسيطرة القوى النابعة من داخلنا عن أن نخضع لتلك الصادرة من آخرين. إن جزءًا من اشمئزازنا من فكرة الاستنساخ يرجع إلى خوفنا من إمكانية مشاركة آخر فيما نتفرد بامتلاكه. وذلك العزم الصارم من جانب الجينات على أن تكون الحتمية مقصورة على أجسادنا هو أقوى حصوننا ضد فقدان حريتنا لحساب مسببات خارجية. هل تدرك الآن سبب مزاحي بشأن اكتشاف جين خاص بالإرادة الحرة؟ إن وجود مثل هذا الجين لن يمثل أي تناقض لأنه سيحدد أن مصدر سلوكنا موجود بداخلنا، حيث لا يستطيع الآخرون الوصول إليه. وبالطبع لا يوجد جين واحد لهذا الغرض، وإنما يوجد شيء أكثر رقيًّا وروعة؛ إنها طبيعة بشرية كاملة، مقدرة تقديرًا مرنًا في كروموسوماتنا ومتفردة في كل واحد منا. ولكل شخص طبيعة داخلية متفردة مختلفة: إنها الذات.