نبذة عن الكتاب
تحديث جينومي
ألا يوجد حدٌّ لتلك المهانة التي يكيلها العلم للجنس البشري؟ لقد طرد كوبرنيكوس كوكبنا من مركز الكون، واختزلَنا داروين إلى غصن على شجيرة التطور ليس إلا، ثم بدأ علماء الوراثة يكشفون أن جيناتنا عادية للغاية، فلدينا كروموسومات أقل عددًا منها في الدجاج، ودنا أقل من دنا الأسماك الرئوية، وجينات أقل من جينات نبات الأرز (٢٤ ألفًا يقابلها ٤٠ ألفًا).
ويزداد الأمر سوءًا. فحتى بضع سنوات خلت كان البشر يعتقدون أنهم يملكون خمسين ألف جين فريد يقتصر وجودها على نوعهم فحسب، وتساعد في تكوين أمخاخهم الفذة. والآن بعد أن تمكنا من قراءة جينوم الفأر، عرفنا أن الفئران لا تمتلك عدد الجينات نفسه الموجود لدى البشر فحسب، وإنما نوع الجينات نفسه أيضًا. فبإضافة القليل من الجينات أو باستثناء القليل منها، نجد أن كل جين في الفئران له نظير بشري معروف، وعادةً يختلف عنه اختلافًا طفيفًا، لكن يظل أساسهما واحدًا. لا يكمن الفرق بين الإنسان والفأر في اختلاف الجينات، وإنما في تنشيطها وفق نمط مختلف وترتيب مختلف أيضًا.
وأفضل هنا أن أذكر تشبيهي المفضل لذلك: فمسرحيات «هاملت» و«عطيل» و«الملك لير» كُتبت بالكلمات نفسها في الأساس مع إضافة مجموعة صغيرة من أسماء الأعلام أو حذفها. لكن هناك اختلافًا جوهريًّا بين المسرحيات الثلاث، لأن الكلمات استُخدمت وفق نمط وترتيب مختلفين. ندرك الآن أن هذه تقريبًا هي كيفية عمل الجينومات في الثدييات: فهي تستخدم الجينات نفسها في أنسجة مختلفة لأداء وظائف متنوعة في مراحل مختلفة من النمو ولفترات زمنية متفاوتة. فأحد الأجناس يختلف عن الآخر في تنشيط جينات معينة في مرحلة مبكرة أو متأخرة أو لفترة زمنية طويلة أو قصيرة. إنه اكتشاف مهم وغير متوقع يؤكد اتصال نَسَبِنا مع باقي الثدييات وأيضًا أهمية الاستفادة منها في الفحوص الطبية.
منذ اكتمال خريطة الجينوم البشري عام ٢٠٠٣، بدأ تسليط الضوء على الأجزاء الموجودة بين الجينات وليس على الجينات نفسها؛ فهناك — بين التتابعات «المهملة» غير المُشفِّرة — تكمن أسرار التحكم في ترتيب الجين ونمطه. فبإضافة امتدادات قصيرة من «النص» المتدفق عكس اتجاه الجين أو حذفها، يمكن للطبيعة أن تغير مكان الجين ووقت تنشيطه. وتتكشف هذه «المُعَزِّزات» أمام العلم ببطء وبعناء.
لكننا نواجه نقاطًا غامضة أخرى؛ فقد كشف التسلسل المكتمل للكروموسوم «واي» في الإنسان النقاب عن سمة غريبة هي وجود سلسلة من الحروف الهائلة التي تُقْرَأ طردًا وعكسًا في تسلسل الحمض النووي؛ سلسلة طويلة من الحروف تُكَرَّر في اتجاه عكسي. يقع معظم الجينات في هذه التسلسلات المقروءة طردًا وعكسًا والمرتبة ترتيبًا بالغ الدقة حتى إنه لا يوجد حرف واحد خطأ ضمن ألف حرف. فضلًا عن ذلك فهي طويلة جدًّا حتى إن أحدها يساوي نصف طول الأعمال الكاملة للكاتب المسرحي شيكسبير. فما سبب وجودها في هذا المكان؟ لم يتوصل أحد إلى إجابة عن هذا السؤال بعد، لكن يبدو أنها وسيلة تُمَكِّن جينات الكروموسوم «واي» من التحقق من هجائها مقارنةً بنسخة احتياطية، وهو ما تفعله الجينات على الكروموسومات الأخرى عن طريق التحقق من الفرد الآخر من زوج الكروموسومات.
بل إن هناك لغزًا آخر يفوق ما أشرنا إليه، وهذا اللغز لم يكن معروفًا عندما ألَّفت كتاب «الجينوم». يطلق على هذا اللغز اسم تداخل الرنا. يبدو أن الخلية لديها آلية لإيقاف تشغيل الجينات في حالة ظهور نسخة رنا ثنائي الجديلة لجزء من الجين. وحتى وقتنا الحالي ربما يكون هذا وسيلة مقاومة غير معروفة للوقاية من الفيروسات. لكن من بين آثارها أن علماء الوراثة الآن في المختبرات يستطيعون إيقاف الجينات عن العمل بإرادتهم لغرض دراستها. وربما يتمكنون في المستقبل القريب من إيقاف نشاط الجينات المَعِيبَة المسئولة عن أمراض بعينها، وربما تكون الأمراض السرطانية من بينها.
يدور العلم في فلك من الغموض؛ فهو يكشف عن ألغاز جديدة بنفس السرعة التي يحل بها بعض الألغاز المعروفة. غير أن أحدًا لم يتعرض بعد للكم الهائل من العجائب التي يخفيها الجينوم البشري داخل نصه المكون من مليار كلمة.