الكروموسوم ٦: الذكاء
ليست الفكرة المغلوطة المأخوذة عن الوراثة هي ذلك الزعم البسيط أن حاصل الذكاء
«متوارث» إلى حد ما، [بل] هي المساواة بين ما هو «متوارث» وما هو «حتمي».
ستيفن جاي جولد
قد ضللتك أيها القارئ، وأثناء ذلك حطمت القاعدة التي وضعتها بنفسي. وعليّ أن أكتب
العبارة
التالية مائة مرة كعقاب: «الجينات ليست موجودة كي تسبب الأمراض.» فحتى لو تسبب الجين
في
إصابة الإنسان بمرض لأنه «تالف»، فإن أغلب الجينات غير «تالفة» لدينا جميعًا؛ هي فقط
تأتي
بنكهات متباينة. فجين العيون الزرقاء ليس بنسخة معيبة من جين العيون البنية. وإذا استخدمنا
المصطلحات الوراثية المتخصصة فسنقول إنها ليست إلا آليلات مختلفة، أي نسخ بديلة من
«الفقرات» الجينية نفسها، وكلها سليمة وصحيحة ولا غبار عليها. إنها جميعًا طبيعية، خاصة
وأنه لا يوجد تعريف واحد فقط لكلمة طبيعية.
1
حان وقت التوقف عن المماطلة، والدخول مباشرة في أكثر الأدغال تشابكًا على الإطلاق،
أكثر
المناطق وعورة وامتلاءً بالأشواك واستعصاءً على الفهم في الغابة الجينية قاطبة؛ وراثة
الذكاء.
الكروموسوم ٦ هو أفضل مكان نجد فيه مثل هذا الدغل الشائك؛ فعلى الكروموسوم ٦، بالقرب
من
نهاية عام ١٩٩٧، أعلن أحد العلماء الشجعان، أو بالأحرى المتهورين، لأول مرة على العالم
أجمع
أنه وجد الجين «المسئول عن الذكاء». هذه شجاعة منه لا ريب، خاصة أنه مهما تكن قوة أدلته
فلا
يزال الكثيرون يرفضون الاعتراف بفكرة إمكانية وجود مثل هذا الجين من الأساس، ناهيك عن
الاعتراف بوجوده فعلًا. وهم لا يستندون في شكوكهم هذه على تلك الريبة المألوفة — الناتجة
عن
عقود من الدراسات ذات التوجهات السياسية — حيال أي شخص يجرؤ على الاقتراب من موضوع وراثة
الذكاء فقط، بل يستندون أيضًا على قدر كبير من المنطق السليم، فمن الواضح أن الطبيعة
لم
تترك أمر تحديد قدراتنا العقلية لذلك المصير الأعمى لجين واحد أو أكثر، بل منحتنا الآباء
والتعلم واللغة والثقافة والتعليم كي نشكل أنفسنا بها.
غير أن هذا هو ما أعلن روبرت بلومين اكتشافه هو ومجموعة من زملائه. تجتمع مجموعة
من
الأطفال المراهقين ذوي القدرات العقلية الفائقة، والمختارين من جميع أرجاء الولايات المتحدة
الأمريكية لأنهم أقرب إلى العبقرية من حيث قدراتهم الدراسية، كل صيف في ولاية أيوا. تتراوح
أعمار هؤلاء الأطفال بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من العمر، ويكونون قد تلقوا اختبارات
منذ خمسة أعوام وجاءوا ضمن نسبة أعلى واحد بالمائة في النتائج، ويبلغ متوسط حاصل الذكاء
لديهم ١٦٠. كان فريق بلومين يؤمن بأن هؤلاء الأطفال يملكون بكل تأكيد أفضل النسخ من كل
الجينات التي لها تأثير في الذكاء، لذا أخذوا عينات دم من كل طفل منهم وشرعوا في البحث
عن
قطع صغيرة من الدنا في الكروموسوم ٦. (اختار بلومين هذا الكروموسوم وفق تخمين مبني على
ما
قام به من دراسات سابقة.) وتدريجيًّا وجد قطعة على الذراع الطويلة للكروموسوم ٦ لدى الأطفال
الأذكياء تكون عادة مختلفة عند غيرهم من الأشخاص. كان الأشخاص العاديون يملكون تتابعًا
معينًا، أما الأطفال النابغون فكان لديهم تتابع مختلف اختلافًا طفيفًا؛ ليس دائمًا، ولكن
على نحو متكرر كاف للفت الانتباه. يقع هذا التتابع في منتصف الجين المسمى
1GF2R.
2
ليس لحاصل الذكاء تاريخ مشرف؛ إذ نادرًا ما نجد موضوعًا خلافيًّا في تاريخ العلم عولج
بهذا القدر من الغباء كما حدث مع موضوع الذكاء. العديد من الأشخاص، وأنا واحد منهم، يقتربون
من هذا الموضوع بقدر كبير من عدم الثقة. أنا لا أعلم ما هو حاصل الذكاء الخاص بي. كنت
قد
أجريت اختبار حاصل الذكاء وأنا في المدرسة، لكن لم أُخبر بالنتيجة. ولأنني لم أدرك أن
الاختبار كان محددًا بمدة زمنية أنهيت قدرًا قليلًا منه وعلى الأرجح سجلت رقمًا منخفضًا.
بالطبع عدم إدراكي أن الاختبار محدد بوقت لا يوحي بأي درجة من العبقرية. وقد جعلتني هذه
الخبرة لا أحترم فكرة ذلك القياس الفج لمستوى ذكاء الأشخاص برقم وحيد. إن القدرة على
قياس
ذلك الأمر المراوغ في نصف ساعة تبدو لي أمرًا سخيفًا.
في حقيقة الأمر، كانت المحاولات الأولى لقياس حاصل الذكاء مدفوعة بتحيزات فجة هي
الأخرى.
ويعبر فرانسيس جالتون، أول من أجرى دراسة على التوائم بغرض تمييز المهارات الفطرية عن
المهارات المكتسبة، عن الأمر بوضوح تام قائلًا:
3
كان مقصدي الأساسي هو ملاحظة القدرات الوراثية المتنوعة لرجال مختلفين، وملاحظة
الاختلافات العظيمة بين العائلات والأعراق المختلفة، وذلك بغرض معرفة إلى أي مدى
يمكن للتاريخ أن يوضح لنا ملاءمة عملية استئصال السلالات البشرية غير الفعالة ووضع
أخرى أفضل منها محلها، والتفكير في مدى معقولية أن يكون من واجبنا أن نفعل هذا
الأمر، وبذا ندفع أنفسنا صوب قمة التطور على نحو أسرع وأقل عسرًا مما لو تركنا
الأمر رهنًا للظروف.
بمعنى أنه كان يريد انتقاء الأفراد وتربيتهم كما لو كانوا ماشية.
لكن في الولايات المتحدة اتخذت عملية قياس الذكاء منحًى بغيضًا. أخذ إتش إتش جودارد
أحد
اختبارات الذكاء التي ابتكرها العالم الفرنسي ألفريد بينيه وطبقه على الأمريكان والراغبين
في الحصول على الجنسية الأمريكية، منتهيًا بطمأنينة سخيفة إلى أنه ليس فقط العديد من
المهاجرين إلى الولايات المتحدة «أغبياء»، بل إنه يمكن لأي مُلاحِظ مدرب أن يرى هذه الحقيقة
فيهم فور النظر إليهم. كانت اختبارات حاصل الذكاء التي طبقها غير موضوعية بدرجة عالية
ومنحازة للقيم الغربية وقيم الطبقة الوسطى، فكم عدد اليهود البولنديين الذين يعرفون أن
ملعب
التنس به شبكة في المنتصف؟ وقد كان متيقنًا أشد اليقين من أن الذكاء موهبة فطرية إذ
قال:
4 «المرتبة الطبيعية للمستوى العقلي أو الفكري لكل شخص تتحدد بنوع الكروموسومات
التي تتجمع معًا في الأمشاج، وهي لا تخضع لأي تأثيرات لاحقة عدا الحوادث الخطيرة التي
قد
تدمر جزءًا من طبيعة تركيبها.»
يتضح لنا من واقع مثل هذه الآراء أن جودارد
كان مهووسًا بفكرة معينة. ومع ذلك فقد سيطرت أفكاره على السياسة القومية بدرجة كافية
سمحت
باختبار المهاجرين فور وصولهم إلى جزيرة إليس، بل تبعتها أفكار ذات طبيعة أكثر تطرفًا؛
فقد
أقنع روبرت ييركيز جيش الولايات المتحدة الأمريكية بأن يسمح له بتطبيق اختبارات الذكاء
على
ملايين المجندين إبان الحرب العالمية الأولى، ومع أن الجيش تجاهل في العموم نتائج
اختباراته، فإن الخبرة ذاتها أمدت ييركيز وآخرين بأساس وبيانات تدعم زعمهم أن اختبار
الذكاء
يمكن أن تكون له فوائد تجارية وقومية من حيث تصنيف الأفراد بسرعة وسهولة إلى مستويات
متباينة. كان لاختبارات الجيش تأثير كبير على المناقشات التي قادت إلى تمرير مجلس النواب
لتشريع القيود على الهجرة في عام ١٩٢٤ محددًا حصصًا للقادمين من جنوب وشرق أوروبا على
أساس
أنهم كانوا أكثر غباءً من أقرانهم «الشماليين» الذين هيمنوا على الشرائح السكانية الأمريكية
قبيل عام ١٨٩٠. لم يكن هدف التشريع مرتبطًا بالعلم، بل كان هذا القانون تعبيرًا عن التحيز
العرقي ويهدف إلى حماية الاقتصاد الوطني، لكنه وجد مبرراته من خلال ذلك العلم الزائف
المسمى
باختبار الذكاء.
سنترك قصة اليوجينيا، أو محاولات تحسين النسل، لفصل لاحق، لكن لا يستغرب أن يترك تاريخ
قياس الذكاء لدى أغلب الأكاديميين، خاصة في مجال العلوم الاجتماعية، إحساسًا قويًّا بعدم
الثقة حيال كل ما له علاقة باختبارات حاصل الذكاء. وحين انجرف البندول مبتعدًا عن العنصرية
واليوجينيا قبيل الحرب العالمية الثانية، صارت فكرة الذكاء المتوارث أقرب إلى التحريم.
لقد
تجاهل أشخاص مثل ييركيز وجودارد التأثيرات البيئية في القدرات بدرجة تامة إلى الحد الذي
وصل
بهم إلى اختبار غير المتحدثين باللغة الإنجليزية باختبارات مكتوبة باللغة الإنجليزية،
واختبار الأميين باختبارات تتطلب منهم استخدام الأقلام في الكتابة ببراعة للمرة الأولى
في
حياتهم. لقد كانوا تواقين إلى الإيمان بالوراثة حتى إن منتقديهم اللاحقين افترضوا أنه
لم
تكن لديهم قضية من الأساس. فالبشر — على أي حال — قادرون على التعلم. ومن الممكن أن يتأثر
حاصل الذكاء بفعل تعليمهم، لذا ربما يجدر بعلم النفس البدء من افتراض أنه لا توجد عوامل
وراثية خاصة بالذكاء من الأساس، وأن الأمر كله مسألة تدريب لا أكثر.
من المفترض بالعلم التقدم عن طريق وضع فرضيات ثم اختبارها بالسعي إلى إثبات خطئها،
لكن
هذا لم يحدث هنا، فمثلما نظر دعاة الحتمية الوراثية في عشرينيات القرن العشرين إلى أدلة
تدعم فكرتهم ولم يحاولوا قط اختبار خطئها، نجد دعاة الحتمية البيئية في ستينيات القرن
العشرين يبحثون بدورهم عن الأدلة الداعمة لأفكارهم ويحولون أبصارهم عن أي أدلة مناقضة،
في
الوقت الذي كان يجدر بهم أن يبحثوا عنها. ومن قبيل المفارقة أن هذا الجانب من العلم هو
الجانب الذي كان فيه «الخبراء» أكثر خطأ من العامة، فالأشخاص العاديون طالما عرفوا أن
التعليم مهم، وفي الوقت ذاته كانوا يؤمنون بوجود قدرة فطرية من نوع ما. لقد كان الخبراء
هم
من تبنوا آراءً وافتراضات عبثية متطرفة.
لا يوجد تعريف متفق عليه للذكاء؛ فهل سرعة
التفكير، أم القدرة على الاستنتاج، أم الذاكرة، أم المفردات، أم العمليات الحسابية العقلية،
أم الطاقة العقلية، أم مجرد قدرة الشخص على ممارسة النشاط الفكري هي التي تجعله ذكيًّا؟
من
الممكن أن يتصرف الأشخاص الأذكياء على نحو شديد الغباء حيال بعض الأمور، كالمعارف العامة
أو
الاحتيال أو تجنب أعمدة الإنارة. قد يكون لاعب كرة قدم ذو سجل دراسي سيئ قادرًا في جزء
من
الثانية على انتهاز فرصة وإيجاد السبيل لتمرير الكرة تمريرة مدهشة. والموسيقى والطلاقة
اللغوية، بل القدرة على فهم ما يجري في عقول الآخرين، كلها قدرات ومواهب قد لا يبدو كثيرًا
أنه يجمعها قاسم مشترك. يدعم هوارد جاردنر دعمًا قويًّا نظرية الذكاء المتعدد التي تنظر
إلى
كل موهبة باعتبارها قدرة منفصلة، لكن روبرت ستيرنبرج اقترح بدلًا من هذا أنه يوجد بالأساس
ثلاثة أنواع من الذكاء؛ التحليلي والإبداعي والعملي. المشكلات التحليلية هي تلك التي
يصوغها
أشخاص آخرون، وتكون محددة تحديدًا واضحًا، وتأتي ومعها كل المعلومات المطلوبة لحلها،
ويوجد
لها حل واحد صحيح، ومستقلة عن الخبرة العادية ولا يوجد حيالها اهتمام حقيقي، كالاختبارات
المدرسية باختصار. أما المشكلات العملية فتتطلب منك التعرف عليها وصياغة المشكلة نفسها،
ولا
تكون معرفة تعريفًا جيدًا، وتفتقد إلى بعض المعلومات ذات الصلة، وقد يكون لها حل وحيد
صحيح
أو قد لا يكون، وهي أيضًا تنبع من الحياة اليومية. إن أطفال الشوارع البرازيليين الذين
فشلوا في الرياضيات في المدرسة يُجيدون في براعة تامة نوع الرياضيات الذي يحتاجونه في
حياتهم العادية. وعند قياس قدرة المنظمين المحترفين لسباقات الحواجز للخيول سنجد أن حاصل
الذكاء يعد مؤشرًا فرديًّا سيئًا. أيضًا نجد أن بعض الأطفال الزامبيين يحرزون نتائج جيدة
في
اختبارات حاصل الذكاء التي تعتمد على النماذج المصنوعة من الأسلاك ويحرزون نتائج سيئة
عندما
يُطلب منهم استخدام الورقة والقلم، أما في حالة الأطفال الإنجليز، فالعكس هو الصحيح.
تهتم المدارس — بطبيعة الحال — بالمشكلات التحليلية، وهو ما ينطبق كذلك على اختبارات
حاصل
الذكاء. ومهما اختلفت اختبارات الذكاء من حيث الشكل أو المحتوى، فإنها تنحاز بطبيعتها
إلى
أنواع معينة من العقول. ومع ذلك فهي تقيس شيئًا ما. وإذا قارنت أداء الأشخاص في أنواع
مختلفة من اختبارات حاصل الذكاء فلن تتباين النتائج كثيرًا. كان عالم الإحصاء تشارلز
سبيرمان هو أول من لاحظ، عام ١٩٠٤، أن الطفل الذي يجيد في إحدى المواد الدراسية يميل
إلى
الإجادة في غيرها من المواد، وأن الأنواع المختلفة من الذكاء يبدو وكأنها مترابطة، وليست
مستقلة بعضها عن بعض. أطلق سبيرمان على هذا اسم «معامل الذكاء العام» الذي يشار إليه
اختصارًا بالحرف
g. يرى بعض علماء الإحصاء أن هذا المعامل
ما هو إلا سمة إحصائية؛ ليس إلا حلًّا واحدًا محتملًا من بين حلول عديدة لمشكلة قياس
الأداءات المختلفة. ويظن آخرون أنه قياس مباشر لحكمة العامة؛ حقيقة أن بمقدور الناس أن
يتفقوا على من هو «ماهر» ومن ليس كذلك. ومع ذلك ما من شك في نجاح هذا العامل؛ إذ إنه
يتنبأ
بأداء الطفل في مراحل عمرية تالية في الدراسة أفضل مما يفعل أي مؤشر آخر. وكذلك يوجد
دليل
موضوعي صادق آخر على صحة هذا العامل، وهو أن السرعة التي يؤدي بها الأفراد المهام التي
تتضمن مسح المعلومات واسترجاعها ترتبط بحاصل الذكاء الخاص بهم. إن حاصل الذكاء العام
يظل
ثابتًا على نحو مثير للدهشة في أعمار مختلفة؛ بالطبع يزداد ذكاؤك زيادة شديدة السرعة
بين
السادسة والثامنة عشرة، بيد أن حاصل ذكائك بالمقارنة بأقرانك لا يتغير إلا قليلًا. وفي
حقيقة الأمر، ترتبط السرعة التي يعتاد بها الطفل الرضيع على المثير الجديد بحاصل ذكائه
المستقبلي ارتباطًا شديدًا، وكأنه يمكن التنبؤ بحاصل الذكاء عند البلوغ للطفل البالغ
من
العمر بضعة أشهر، مع وضع بعض الافتراضات بشأن تعليمه. وترتبط درجات حاصل الذكاء بنتائج
الاختبارات المدرسية بدرجة كبيرة. ويبدو أن الأطفال ذوي حاصل الذكاء المرتفع يفهمون المزيد
من الأشياء التي تُدرس في المدرسة.
5
لكن هذا لا يعني التسليم بعدم جدوى التعليم؛ فالاختلافات الكبيرة بين المدارس وكذلك
بين
الدول في متوسط الإنجاز في تعليم الرياضيات وغيرها من المواد تبين مقدار ما يمكن تحقيقه
بالتعليم؛ ذلك أن «جينات الذكاء» لا يمكن أن تعمل في الفراغ، بل تحتاج إلى تحفيز بيئي
كي
تتطور.
لذا دعونا نقبل بهذا التعريف بادي السخافة للذكاء الذي يقول إنه ذلك الشيء الذي يمكن
قياسه من خلال متوسط عدد من اختبارات الذكاء، ونرى إلام يوصلنا هذا الأمر. اللافت للنظر
بخصوص اختبارات الذكاء هو أنها بالرغم من اتصافها بالسوء وعدم البراعة في الماضي، وحتى
عدم
شمولها الكامل في الحاضر، فإنها تعطي نتائج متسقة للغاية. وإذا ظهرت علاقة بين حاصل الذكاء
وجين معين عبر ما أطلق عليه مارك فيلبوت «ضباب الاختبارات غير المثالية»،
6 فإن هذا يؤكد وجود عنصر موروث خاص بالذكاء. إضافة إلى ذلك فقد حسنت الاختبارات
الحديثة بدرجة كبيرة من موضوعيتها وعدم قابليتها للتأثر بالمرجعيات الثقافية أو المعارف
المتخصصة.
في أوج اختبارات حاصل الذكاء الهادفة إلى تحسين النسل في عشرينيات القرن العشرين لم
يكن
هناك دليل على توارث الذكاء؛ إذ كان هذا افتراضًا فقط افترضه الممارسون. أما اليوم فلم
يعد
الحال كذلك، حيث صار توارث حاصل الذكاء (بصرف النظر عن ماهيته) فرضية علمية خضعت للاختبار
على فئتين من الناس: التوائم، وأطفال التبني. إن نتائج هذه الدراسات، مهما اختلفت الطريقة
التي تنظر بها إليها، مذهلة؛ إذ لم تخفق دراسة واحدة عن مسببات الذكاء في إيجاد علاقة
وثيقة
بالوراثة.
في ستينيات القرن العشرين، ذاعت عادة فصل التوائم عند مولدهم، لا سيما عند عرضهم
للتبني.
وفي حالات عديدة كان هذا يحدث من دون سبب محدد، لكن في حالات أخرى كان يحدث عن عمد بدوافع
علمية خفية، وهي (كما كان مأمولًا) اختبار الرأي السائد وقتها والبرهنة عليه، وهو أن
التنشئة والبيئة هما المسئولتان عن تشكيل الشخصية وليست الجينات. أشهر هذه الحالات كانت
لفتاتين من نيويورك تدعيان بيث وآمي، فُصلت إحداهما عن الأخرى على يد عالم نفس فرويدي
مولع
بالبحث. وُضعت آمي في أسرة مع أم فقيرة بدينة غير مستقرة نفسيًّا وغير محبة، وبالطبع
نشأت
آمي طفلة عصبية منطوية على نفسها، تمامًا كما تتنبأ النظريات الفرويدية. بيد أن هذا هو
نفسه
ما حدث، تفصيلًا، مع بيث، التي كانت أمها بالتبني امرأة غنية مستقرة نفسيًّا محبة ومرحة.
كانت الفوارق بين شخصيتي بيث وآمي غير موجودة تقريبًا حين اكتشفت كل منهما وجود الأخرى
بعد
عشرين عامًا. وبدلًا من إثبات أثر التنشئة في تشكيل عقولنا، أثبتت الدراسة العكس تمامًا؛
قوة الغريزة.
7
بعد أن بدأ المناصرون لفكرة الحتمية البيئية دراسات التوائم الذين يُربون تربية منفصلة،
تبنى هذه الدراسات بعد ذلك من هم على الجانب المعاكس من النقاش، وتحديدًا توماس بوشارد
من
جامعة مينسوتا. فبداية من عام ١٩٧٩ أحصى أزواجًا من التوائم المنفصلين من كل أنحاء العالم
وجمع بينهم وعكف على دراسة شخصياتهم وحاصل ذكائهم. وفي الوقت نفسه اهتمت دراسات أخرى
بمقارنة حاصل الذكاء للأطفال بالتبني بحاصل ذكاء آبائهم بالتبني وإخوتهم بالمولد أو
بالتبني. وعند جمع مثل هذه الدراسات معًا، مع إضافة نتائج اختبارات الذكاء لعشرات الآلاف
من
الأشخاص، بدا الجدول على النحو الآتي؛ ففي كل حالة يمثل الرقم علاقة ارتباط نسبية، حيث
الارتباط بنسبة مائة بالمائة يعني التطابق التام والارتباط بنسبة صفر بالمائة يعني الاختلاف
العشوائي.
الشخص نفسه تعرض للاختبار مرتين |
٨٧ |
توائم متطابقة تربوا معًا |
٨٦ |
توائم متطابقة تربوا تربية منفصلة |
٧٦ |
توائم غير متطابقة تربوا معًا |
٥٥ |
إخوة بالمولد |
٤٧ |
آباء وأطفالهم يعيشون معًا |
٤٠ |
آباء وأطفالهم يعيشون متباعدين |
٣١ |
أطفال بالتبني يعيشون معًا |
٠ |
أشخاص لا تربطهم صلة يعيشون معًا |
٠ |
مما لا يدعو للدهشة أن نسبة الارتباط الأعلى جاءت بين التوائم المتطابقين
الذين يعيشون معًا. فبسبب تشاركهم في الجينات نفسها والرحم نفسه والأسرة نفسها، لا يمكن
التفريق بينهم وبين الشخص الذي خضع للاختبار مرتين. أما التوائم غير المتطابقين، الذين
يتشاركون في الرحم لكنهم من الناحية الجينية لا يختلفون عن الإخوة العاديين، فهم أقل
ارتباطًا بكثير، ومع ذلك فهم أكثر ارتباطًا من الإخوة العاديين، بما يعني ضمنًا أن الأشياء
التي مروا بها في الرحم أو في المراحل المبكرة من العمر يمكن أن يكون لها بعض التأثير.
لكن
النتيجة المدهشة حقًّا هي ذلك الارتباط بين نتائج الأطفال بالتبني الذين يعيشون معًا،
وهي
صفر. يبدو أن العيش في الأسرة نفسها ليس له تأثير ملحوظ على حاصل الذكاء.
8
بدأ العلماء حديثًا في إدراك أهمية الرحم، فوفقًا لإحدى الدراسات فإن نسبة عشرين
بالمائة
من التشابه في الذكاء بين التوائم يمكن إرجاعها إلى ما يمرون به في الرحم، وخمسة بالمائة
فقط من ذكاء الإخوة يمكن إرجاعها إلى ما يمرون به في الرحم. الفارق هنا هو أن التوائم
يتشاركون الرحم في وقت واحد، وهو ما لا يحدث في حالة الإخوة العاديين. إن تأثير ما يحدث
بالرحم في الذكاء يعادل ثلاث مرات تأثير أي مما يفعله آباؤنا لنا بعد المولد. وعلى هذا
فإنه
حتى تلك النسبة من الذكاء التي يمكن عزوها إلى «التنشئة» وليس الطبيعة هي في الواقع محددة
بواسطة شكل ثابت لا يمكن تغييره من التنشئة في الماضي. على الجانب الآخر، تواصل الطبيعة
التعبير عن نفسها عن طريق الجينات عبر مرحلة الشباب. إن الطبيعة، وليس التنشئة، هي التي
تملي علينا عدم أخذ قرارات نهائية بشأن ذكاء أطفالنا وهم في سن صغيرة للغاية.
9
لكن هذا أمر عجيب للغاية، فهو يتحدى المنطق السليم؛ فمن المؤكد أن ذكاءنا يتأثر بالكتب
والمناقشات التي وجدناها في منازلنا في مرحلة الطفولة، أليس كذلك؟ بلى، لكن ليست هذه
هي
المشكلة، فعلى أي حال يمكن للوراثة أن تعد المسئولة إلى حدٍّ بعيد عن كون الآباء وأطفالهم
القاطنين المنزل نفسه محبين للتفكير العقلي. ولم تُجر أي دراسة، عدا دراسات التوائم
والتبني، تفرق بين الوراثة وتأثير الرعاية الأبوية المنزلية. إن دراسات التوائم والتبني
الحالية تؤكد بشدة على تأثير الوراثة فيما يخص العلاقة بين حاصل ذكاء الآباء والأبناء.
ومع
هذا من الممكن أن تكون دراسات التوائم والتبني مضللة لأنها تُجرى على نطاق ضيق للغاية
من
الأسر؛ إذ إن أغلب الأسر موضع الدراسة تكون لأشخاص من البيض ينتمون إلى الطبقة الوسطى،
ولا
يُدرج سوى عدد قليل جدًّا من الأسر الفقيرة أو من السود في عينات الدراسة. ربما لا يدهشنا
إذن أن يكون نطاق الكتب والمناقشات الموجودة في جميع الأسر الأمريكية البيضاء المنتمية
إلى
الطبقة الوسطى متماثلًا تقريبًا، فحين أجريت دراسة متعددة الأعراق عن أطفال التبني وجد
ارتباط بسيط بين حاصل ذكاء الأطفال وحاصل ذكاء آبائهم بالتبني (قدره تسعة عشر
بالمائة).
لكن يظل هذا الأثر ضئيلًا. والخلاصة التي تُجْمِع عليها هذه الدراسات كلُّها هي أن
حوالي
نصف حاصل الذكاء الخاص بك موروث، وأقل من الخمس مسئولة عنه البيئة التي تتشاركها مع إخوتك،
أي الأسرة. أما الباقي فيأتي من الرحم والمدرسة وتأثيرات خارجية مثل جماعات الأقران.
بيد
أنه حتى هذه النتيجة مضللة؛ فحاصل الذكاء الخاص بك لا يتغير مع التقدم في العمر وحسب،
بل
تتغير أيضًا قابليته للوراثة؛ فمع التقدم في العمر ومراكمة الخبرات «تزداد» قوة تأثير
جيناتك. ماذا؟ أنت تعني قطعًا أنها تقل، أليس كذلك؟ كلا؛ فنسبة الذكاء الموروث تبلغ في
مرحلة الطفولة خمسة وأربعين بالمائة، وتصل في أواخر مرحلة المراهقة إلى خمسة وسبعين
بالمائة. فبينما تتقدم في العمر تبدأ تدريجيًّا في إظهار ذكائك الموروث وتتخلص من المؤثرات
التي يتركها الآخرون فيك. إنك تختار البيئة التي تناسب ميولك الموروثة، بدلًا من تعديل
ميولك الموروثة وفق البيئات التي تجد نفسك فيها. وهذا يثبت لنا أمرين مهمين؛ أولهما:
أن
التأثيرات الجينية ليست ثابتة منذ لحظة تكون الجنين، والثاني: أن التأثيرات البيئية ليست
تراكمية على نحو حتمي. فالتوارث لا يعني الثبات وعدم القابلية للتغيير.
استخدم فرانسيس جالتون في بداية مناقشته الطويلة تشبيهًا ملائمًا للغاية لهذه الفكرة؛
إذ
كتب يقول: «كثيرٌ منا التمسوا لأنفسهم بعض اللهو بإلقاء بضعة أعواد في جدول صغير، ثم
مراقبتها وهي تسير مع التيار، وكيف يتعطل سيرها بسبب عائق ما، ثم بسبب آخر، ومجددًا،
وكيف
تعمل مجموعة من الظروف على تسهيل تقدمها إلى الأمام. وقد يعلق الرائي أهمية معينة على
أحد
هذه الأحداث، ويفكر إلى أي مدى يحدد مصير هذه الأعواد مجموعة من الأحداث التافهة. ومع
هذا
تنجح جميع الأعواد في السير مع التيار، وعلى المدى البعيد تسير جميعها بالسرعة نفسها
تقريبًا.» يتأكد لنا بالدليل أن تعريض الأطفال المكثف لتعليم أفضل له أثر جذري في نتائج
اختبارات الذكاء الخاصة بهم، لكن على نحو وقتي فحسب. فبنهاية مرحلة الدراسة الابتدائية
نجد
أن الأطفال الذين كانوا في برامج المتفوقين لا يحققون تقدمًا على أقرانهم الذين لم يتلقوا
هذه البرامج.
إذا تقبلت النقد القائل إن هذه الدراسات تضخم على نحو ما من أثر الوراثة لأنها أجريت
جميعًا على أسر تنتمي إلى طبقة اجتماعية واحدة، يستتبع هذا أن تكون عملية توريث صفات
الذكاء
أعظم في المجتمعات المنادية بالمساواة منها في المجتمعات الأخرى. ومن قبيل المفارقة أن
هذا
يجعل تعريف المجتمع المريتوقراطي المثالي (الذي يرتقي فيه الأفراد بناءً على مهاراتهم
وكفاءاتهم) هو ذلك المجتمع الذي تعتمد فيه إنجازات الناس على جيناتهم لأن البيئات جميعًا
متساوية. ونحن نقترب من هذا الحال فيما يخص صفة الطول؛ ففي الماضي كان سوء التغذية يؤدي
إلى
عدم وصول العديد من الأطفال إلى أطوالهم «الجينية» عند البلوغ. أما اليوم، في ظل التغذية
الأفضل للأطفال، فإن القدر الأعظم من الفوارق في الطول بين الأشخاص يُعزى إلى الجينات،
ولهذا أرى أن تحكم الوراثة في صفة الطول في تزايد. بيد أنه لا يمكن قول الشيء نفسه عن
الذكاء بنفس الثقة؛ لأن العوامل البيئية، مثل جودة المدارس أو العادات الأسرية أو الثروة،
تصير أكثر تباينًا في بعض المجتمعات، لا أكثر تشابهًا. ومع هذا فالمفارقة لا تزال قائمة؛
ففي مجتمع المساواة، تصير للجينات أهمية أكبر.
هذه التقديرات الخاصة بالفروق الوراثية تنطبق على الفوارق بين الأفراد، لا بين المجموعات.
قد يبدو أن توارث صفة الذكاء يسير على المنوال نفسه بين الشعوب أو الأعراق المختلفة،
لكن من
المحتمل أن الأمر لم يكن كذلك. ومن غير المنطقي أن نعتقد أنه نظرًا لأن الفوارق في حاصل
الذكاء بين شخص وآخر هي وراثية بنسبة خمسين بالمائة، فمن ثم يكون السبب وراء فوارق الذكاء
بين البيض والسود أو بين البيض والآسيويين هو الجينات. في حقيقة الأمر، هذه النتيجة ليست
مغلوطة من الناحية المنطقية وحسب، بل من الناحية التجريبية أيضًا. وبهذا تنهار إحدى الدعائم
التي تقوم عليها الفرضية المقدمة بأحد الكتب الحديثة بعنوان «منحنى الجرس».
10 أجل هناك فوارق بين متوسطات الذكاء للبيض والسود، لكن لا يوجد دليل واحد على أن
هذه الفوارق وراثية. وفي الحقيقة تخبرنا الأدلة المستقاة من حالات التبني بين الأعراق
أن
متوسط حاصل الذكاء لدى السود الذين تربوا بين البيض لا يختلف عن ذلك الخاص بالبيض.
إذا كان خمسون بالمائة من حاصل الذكاء يعتمد على الوراثة لدى الأفراد، فمن المؤكد
أن بعض
الجينات تؤثر فيه، لكن من المحال أن نعرف كم عددها. والشيء الوحيد الذي يمكننا قوله بثقة
هو
أن بعض هذه الجينات التي تؤثر في حاصل الذكاء متفاوتة، بمعنى أنها توجد في صور متباينة
لدى
الأشخاص المختلفين. إن الوراثة بعيدة كل البعد عن الحتمية. ومن الممكن تمامًا أن تكون
أهم
الجينات المؤثرة في الذكاء في حقيقة الأمر غير متفاوتة، وفي هذه الحالة لن يكون هناك
توارث
للاختلافات التي تسببها هذه الجينات، وذلك بسبب عدم وجود اختلافات من الأساس. على سبيل
المثال: أنا أملك خمسة أصابع في كل يد، وهو الحال مع معظم الناس. والسبب وراء ذلك هو
أنني
ورثت وصفة جينية نصت على وجود خمسة أصابع في كل يد. ومع ذلك لو أنني جُبت العالم باحثًا
عن
الأشخاص الذين يملكون أربعة أصابع فقط، فسيكون خمسة وتسعون بالمائة من الأشخاص الذين
سأقابلهم على هذه الحال، وربما أكثر، هم أشخاصًا فقدوا أحد الأصابع في حادث. وسأجد أن
امتلاك أربعة أصابع ليس له علاقة تقريبًا بالوراثة، بل دائمًا ما يحدث بفعل البيئة، لكن
هذا
لا يعني أن الجينات ليس لها علاقة بتحديد عدد الأصابع، فالجين يمكنه أن يحدد سمة ما في
أجسامنا تكون متماثلة في عدد مختلف من الأشخاص تمامًا مثلما هو قادر على تحديد سمات مختلفة
لدى مختلف الأشخاص. إن رحلات روبرت بلومين لاصطياد الجينات ستتمخض فقط عن العثور على
جينات
تأتي في أشكال متفاوتة، لا عن جينات ثابتة الشكل. ولهذا من المحتمل أن يُتغافَل عن بعض
الجينات المهمة.
للوهلة الأولى، يبدو أول جينات بلومين — وهو جين IGF2R
الموجود على الذراع الطويلة للكروموسوم ٦ — مرشحًا غير محتمل لأن يكون «جين الذكاء»؛
إذ إن
أكثر ما اشتهر به قبلما يربطه بلومين بالذكاء كان ارتباطه بسرطان الكبد. كان من الممكن
أن
يطلق عليه اسم «جين سرطان الكبد»، وهو ما يوضح لنا مدى حماقة تعريف الجينات من واقع الأمراض
التي تتسبب فيها. وربما يكون علينا في مرحلة ما أن نحدد هل وظيفته في كبح السرطان هي
مهمته
الأساسية وقدرته على التأثير في الذكاء هي فقط أثر جانبي أم العكس. في الحقيقة ربما تكون
الوظيفتان أثرين جانبيين؛ فوظيفة البروتين الذي يحمل شفرته مملة بطريقة مربكة: «نقل إنزيمات
الليسوسومات الفسفورية من جهاز جولجي وسطح الخلية إلى الليسوسومات». إنه ليس إلا شاحنة
نقل
جزيئية. ولا كلمة عن تسريع موجات المخ.
الجين
IGF2R جين هائل الحجم؛ إذ يحمل ٧٤٧٣ حرفًا في
المجمل، بيد أن الرسائل المحتوية على معنى موزعة عبر ما يزيد عن ٩٨ ألف خيط من حروف
الجينوم، تقاطعها ثمان وأربعون من التتابعات التي لا تحمل أي معنى والمسماة بالإنترونات
(أشبه بمقالات المجلات التي تقاطعها الإعلانات المزعجة ثماني وأربعين مرة). هناك سلاسل
متكررة في منتصف الجين تتباين من ناحية الطول، وربما تكون هي المسئولة عن الفارق بين
ذكاء
شخص ما وذكاء آخر. وبما أنه يبدو جينًا مرتبطًا ارتباطًا غير واضح بالبروتينات الشبيهة
بالأنسولين واحتراق السكر، فربما يكون من المناسب هنا أن نذكر أن دراسة أخرى وجدت أن
الأشخاص ذوي حاصل الذكاء المرتفع يستهلكون الجلوكوز استهلاكًا أكثر «كفاءة» في عقولهم؛
إذ
أظهر الأشخاص ذوو حاصل الذكاء المرتفع، أثناء لعبهم لعبة تيتريس على الحاسب، انخفاضًا
أكثر
في معدلات استهلاك الجلوكوز كلما زاد تدريبهم مقارنة بالأشخاص ذوي حاصل الذكاء المنخفض.
لكن
الاعتماد على هذه الفرضية سيكون أشبه بتعلق الغريق بقشة. إن جين بلومين، لو ظهرت حقيقة
تأثيره فعلًا، فلن يكون سوى واحد من جينات عديدة يمكنها التأثير في الذكاء بطرق
مختلفة.
11
تكمن القيمة الأساسية لاكتشاف بلومين في أنه بالرغم من احتمال تشكيك الكثيرين في
نتائج
دراسات التوائم والتبني بوصفها طرقًا غير مباشرة لإثبات تأثير الجينات في الذكاء فإنه
ما من
أحد يمكنه أن يجادل في دراسة مباشرة تربط بين أحد الجينات والذكاء. وتوجد إحدى صور هذا
الجين مضاعَفة تقريبًا لدى أطفال ولاية أيوا العباقرة مقارنة ببقية السكان، وهي نتيجة
من
غير المرجح أن تكون مصادفة. لكن من المؤكد أن تأثير هذا الأمر بسيط؛ فهذه النسخة من الجين
لا يمكن أن تضيف أكثر من أربع نقاط لحاصل الذكاء في المتوسط. من المؤكد أن هذا ليس «جين
العبقرية». يلمح بلومين إلى وجود ما يصل إلى عشرة جينات أخرى من «جينات الذكاء» لدى هؤلاء
الأطفال العباقرة في أيوا. ومع هذا لا تُقابل عودة فكرة توارث الذكاء بالاحترام الكافي
في
العديد من المحافل؛ إذ إنها تثير شبح محاولات تحسين النسل التي شوهت وجه العلم في عشرينيات
القرن العشرين وثلاثينياته. وقد عبر ستيفن جيه جولد، المناهض الشديد لفكرة الحتمية
الوراثية، عن الأمر بقوله: «يمكن تحسين حاصل الذكاء الموروث المنخفض بشدة بالتعليم الملائم.
وقد لا يتحسن. إن كون الذكاء صفة موروثة يجعل التوصل إلى أي نتائج قاطعة شيئًا محالًا.»
وهذا أمر صحيح، لكن هذه هي المشكلة تحديدًا؛ فلا يحتم أن يستجيب الناس للأدلة الجينية
باعتبارها نوعًا من الجبرية، فاكتشاف الطفرات الجينية المسببة لحالات مرضية مثل خلل القراءة
لم يجعل المدرسين يتخلون عن هؤلاء الأطفال لأن حالتهم ميئوس منها، بل على العكس تمامًا،
شجع
هذا الأمر المدرسين على تحديد هؤلاء الأطفال من أجل تقديم نوع من التعليم الخاص
لهم.
12
وفي الواقع، يؤكد أشهر رواد اختبارات الذكاء، الفرنسي ألفريد بينيه، أن الغرض من هذا
النوع من الاختبارات ليس مكافأة الأطفال الموهوبين، بل منح قدر أكبر من الاهتمام للأطفال
الأقل ذكاءً. يستشهد بلومين بنفسه كمثال على هذا النظام؛ إذ يعزي قدرته على ارتياد الجامعة،
من بين أبناء عمومته الاثنين وثلاثين من أسرته الكبيرة في شيكاغو، إلى تمكنه من تحقيق
نتائج
جيدة في أحد اختبارات الذكاء، مما مكنه من إقناع والديه بإرساله إلى الجامعة. إن ولع
الولايات المتحدة بهذه الاختبارات يتناقض مع رعب البريطانيين الكبير منها. لقد كان اختبار
سن الحادية عشرة سيئ السمعة قصير العمر، المبني على الأرجح على بيانات خاطئة أتى بها
سيريل
بيرت، هو اختبار الذكاء الإجباري الوحيد في بريطانيا. وفي الوقت الذي يذكر جميع البريطانيين
هذا الاختبار بوصفه أداة كارثية حكمت على أطفال أذكياء بالذهاب إلى مدارس المستوى الثاني،
في أمريكا المريتوقراطية تعد مثل هذه الاختبارات بوابة المرور للنجاح الأكاديمي للموهوبين
من الفقراء.
ربما تدلنا وراثة الذكاء على شيء مختلف تمامًا، شيء يثبت إثباتًا نهائيًّا أن محاولات
جالتون للتفرقة بين البيئة والتنشئة كانت عرضة لإساءة الفهم. تدبر الحقيقة السخيفة التالية:
الشخص ذو حاصل الذكاء المرتفع، في المتوسط، تكون أذناه أكثر تماثلًا في الشكل من الشخص
ذي
حاصل الذكاء المنخفض. إن أجساد الأذكياء تبدو متناظرة الشكل أكثر، وأشياء مثل عرض القدمين
وعرض الكاحلين وطول الأصابع وعرض المعصمين وعرض المرفقين كلها مرتبطة بحاصل الذكاء.
شهدت أوائل تسعينيات القرن العشرين انتعاشة جديدة للاهتمام بتناظر شكل الجسم، وما
قد
يكشفه عن تطور الجسم في بداية حياته. بعض أشكال التناظر في الجسم متسقة، على سبيل المثال:
يوجد القلب على الجانب الأيسر من الصدر لدى أغلب الناس، لكن هناك أشكالًا أخرى أصغر من
عدم
التناظر تظهر ظهورًا عشوائيًّا في كلا الاتجاهين؛ فلدى بعض الناس تكون الأذن اليسرى أكبر
حجمًا من الأذن اليمنى، ولدى البعض الآخر يكون الوضع معكوسًا. إن حجم عدم التناظر المتقلب
المزعوم هذا يعد مقياسًا حساسًا لقدر الضغوط التي تعرض لها الجسم أثناء مرحلة التكوين،
تلك
الضغوط الناجمة عن العدوى أو المسممات أو سوء التغذية. إن حقيقة تمتع الأذكياء بأجسام
أكثر
تناظرًا توحي أنهم كانوا أقل عرضة للضغوط أثناء فترة التكون في الرحم أو أثناء الطفولة
المبكرة، أو بالأحرى أنهم كانوا أكثر قدرة على مقاومة الضغوط. والقدرة على المقاومة قد
تكون
صفة موروثة. وعلى هذا قد لا تكون وراثة الذكاء سببها وجود «جينات خاصة بالذكاء» على
الإطلاق، بل بفعل جينات غير مباشرة خاصة بمقاومة المسممات أو العدوى. بعبارة أخرى، جينات
تعمل بالتفاعل مع البيئة المحيطة. وبهذا فإنك لا ترث ذكاءك، بل ترث القدرة على تطوير
حاصل
ذكاء مرتفع في ظل بعض الظروف البيئية. كيف يمكن لإنسان أن يقسم هذا الأمر إلى طبيعة وتنشئة؟
بصراحة، هذا أمر محال.
13
يدعم هذه الفكرة ما يطلق عليه «تأثير فلين». لقد لاحظ العالم السياسي المقيم بنيوزيلندا
جيمس فلين في ثمانينيات القرن العشرين أن حاصل الذكاء يزداد في جميع البلاد طوال الوقت،
بمعدل يبلغ حوالي ثلاث نقاط في العقد. ويصعب معرفة السبب وراء ذلك، فقد يكون هو السبب
نفسه
الذي يؤدي إلى زيادة معدلات الطول؛ جودة التغذية أثناء فترة الطفولة. حين أُعطي قاطنو
قريتين في جواتيمالا مكملات غذائية من البروتينات مدة سبع سنوات وُجد أن حاصل ذكاء الأطفال،
عند القياس بعدها بعشر سنوات، ارتفع ارتفاعًا ملحوظًا، أي تأثير فلين لكن على نحو مصغر.
ولكن نتائج اختبارات حاصل الذكاء لا تزال في ارتفاع في البلدان الغربية جيدة التغذية.
كذلك
لا يمكن اعتبار المدارس مسئولة عن هذا الأمر أيضًا، إذ إن الانقطاع عن التعليم الدراسي
ثبت
بالدليل أن له تأثيرًا وقتيًّا في حاصل الذكاء، خاصة أن الاختبارات التي أظهرت الارتفاعات
المتزايدة في حاصل الذكاء هي أقل الاختبارات اعتمادًا على ما يجري تلقينه في المدارس،
والاختبارات التي شهدت أكبر مظاهر التحسن هي تلك الاختبارات التي تختبر القدرة على التفكير
المجرد. يؤمن أحد العلماء، واسمه أولريك نيسر، بأن السبب وراء تأثير فلين هو تشبع حياتنا
اليومية في الوقت الحاضر بالصور البصرية المعقدة — كالرسوم المتحركة، والإعلانات، والأفلام،
والملصقات، والأشكال الرسومية وغيرها من المثيرات البصرية — على حساب الرسائل المكتوبة
في
الغالب. إن الأطفال يعيشون في بيئة بصرية أكثر غنى عما اعتادوا من قبل، وهو ما يساعدهم
في
تنمية مهاراتهم في حل الألغاز البصرية التي تشكل السواد الأعظم من اختبارات
الذكاء.
14
لكن للوهلة الأولى يبدو من الصعب مساواة هذا التأثير البيئي بدراسات التوائم التي
أوضحت
توارث حاصل الذكاء بدرجة عالية. وكما ذكر فلين نفسه فإن زيادة قدرها خمس عشرة نقطة في
حاصل
الذكاء عبر خمسة عقود تعني إما أن العالم كان مليئًا بالأغبياء عام ١٩٥٠ أو أنه مليء
بالعباقرة اليوم. وبما أننا لا نعيش فترة نهضة ثقافية فقد خلص إلى أن حاصل الذكاء لا
يقيس
شيئًا فطريًّا موروثًا، لكن إذا كان نيسر على حق فهذا يعني أن العالم الحديث هو بيئة
تشجع
على نمو أحد أشكال الذكاء؛ فهو مكان مليء بالرموز البصرية. هذه ضربة كبيرة لحاصل الذكاء
العام g، لكن هذا لا ينفي فكرة أن هذه الأنواع المختلفة
من الذكاء على الأقل وراثية بقدر ما. فبعد مليوني عام من الثقافة، التي توارث فيها أسلافنا
التقاليد المحلية المكتسبة، قد تكون العقول البشرية اكتسبت (من خلال عملية الانتخاب
الطبيعي) القدرة على إيجاد تلك المهارات المعينة التي تعلمها الثقافة المحلية، والتي
يتقنها
البشر، والتخصص فيها. إن البيئة التي يعيش فيها الطفل هي نتاج لجيناته بقدر ما هي نتاج
للعوامل الخارجية؛ إذ يبحث الطفل عن بيئته الخاصة ويشكلها، فإن كان لديه نزعة إلى الأشياء
الميكانيكية فسيتدرب على المهارات الميكانيكية، وإن كان محبًّا للقراءة فسيبحث عن الكتب.
قد
تخلق الجينات لدى الفرد ميلًا، لكنها لن تغرس فيه القدرة. وعلى أي حال فإن توارث قصر
النظر
لا يرجع وحسب إلى توارث شكل العين، بل إلى توارث عادات القراءة كذلك. وعلى هذا قد تكون
وراثة الذكاء متعلقة بدراسة التنشئة مثلما هي متعلقة بدراسة الطبيعة، فيا لها من نهاية
ثرية
مُرضية لقرن من الجدل بدأه جالتون!