في أدب الزنوج
القصة التالية من القصص المنظومة التي يتغنَّى بها المنشدون الجائلون في بلاد الزنج الواقعة بين نهر النيجر وبين الصحراء الكبرى الغربية الإفريقية، فإذا دخل المنشد القرية انعقد حوله سامر وأخذ يقص على المجتمعين أقاصيص النجدة والبسالة التي يتَّصِفُ بها أبطال الزنج.
ويرى القارئ في هذه القصة أن الزنج يشتركون وسائر الأمم في تلك الأحدوثة القديمة التي كُنَّا نسمعها ونحن أطفال عن ابن الملك الذي يهجر أباه ويتزوَّج من ابنة ملك آخر ويظفر في القتال وما إلى ذلك. قال:
كان سمبا جبانًا، وكان منذ طفولته إذا رأى أحدًا يرفع يده يصيح من الخوف، وكان إذا صرخ في وجهه أحد جرى منه مرعوبًا، ونشأ على هذه الحال حتى صار رجلًا، وأعطاه أبوه فرسًا وسائسًا وعيَّن له أيضًا منشدًا لكي يقص عليه الأقاصيص ويؤدبه، وكان جميع الناس يحتقرونه لجبنه، فقالت أمه لمؤدبه: «جميع الناس يسخرون من ابني فهل لك من سبيل إلى إصلاحه؟».
فأجابها المؤدب قائلًا: «لا يمكن إصلاحه فإني كل يوم أعلمه الشجاعة وأقص عليه جميع الملاحم العظمى لكي أبعث في نفسه روح المنافسة، ولكنه كان جبانًا في صغره وسيبقى كذلك في كبره».
فقالت أمه: «يا لفضيحة أسرتنا! لست أطيق هذا. يا للعار!».
وبعد ذلك بأيام قرع طبل الحرب لأن معركة كانت على وشك النشوب قريبًا من مكانهم، فقال المؤدب لسمبا: «لقد قرع طبل الحرب» فلم يجبه سمبا. وبعد صمت قليل عاد المؤدب وقال: «لقد قرعت الطبول، فهلَّا ذهبنا إلى المعركة؟».
فقال سمبا: «ما ظنك بي؟ هل تظن أني سأذهب إلى الحرب لأنك قصصت عليَّ الأقاصيص؟ كلا. إني سأبقى هنا».
ثم جاء والد سمبا وقال له: «اصغ إليَّ يا بني. ألست تذهب إلى الحرب مع الآخرين».
فقال سمبا: «كلا. إني أفضل البقاء هنا في البيت».
فصاح به أبوه عندئذ قائلًا: «لقد فضحتني. اذهب عني. فلا أراك بعد الآن».
قالت أمه: «عندما أنظر إليك أشعر بالفضيحة والعار، فاذهب عنَّا».
فخرج سمبا وهتف بالسائس فلبَّاه، فقال له: «لقد طردني أبواي لأني أكره الذهاب إلى الحرب، أَسْرِجْ لي فرسي فإني سأبحث عن بلاد لا يكون فيها حرب أو قتال».
وأسرج الفرس وجاء المؤدب وقال: «اني أرغب في أن أذهب معك إلى بلاد نائية».
وخرج الثلاثة معًا وصاروا يجوبون البراري حتى مضى شهر ونصف، وأخيرًا انتهيا إلى جوار قرية كبيرة، وكان يحكم هذه القرية حاكم شديد وكانت له ابنة لم تزل بكرًا، وكانت أمة هذه الفتاة في الغابة قد خرجت تحتطب، وما كادت تضع الحطب على رأسها وتسير نحو البيت حتى وقعت عينها على سامبا فافتتنت بجماله وهو ممتطٍ صهوة جواده، حتى ألقت بالحطب على الأرض وجرت إلى البيت فقالت لسيدتها: «وصل إلى القرية فارس جميل معه مؤدِّبُه وسائسه، اسألي والدك أن يحتفي بزيارتهم بمكان طيب ينزل فيه».
فذهبت الفتاة إلى والدها وطلبت إليه ما أشارت عليها به الأَمَةُ.
وجاء سمبا واستقبله الحاكم وأنزله في عشة كبيرة وذبح له خروفًا إكرامًا لمقدمه: ونزل سمبا وعاش في هذه القرية وتزوج من ابنة الحاكم.
وفى أحد الأيام دقت طبول الحرب، وكان سمبا راقدًا في بيته لا يبالي بصيحة الحرب، وجاءت إليه زوجته وركعت أمام باب غرفته احترامًا له ثم قالت: «سمبا. أتسمع طبول الحرب؟ ألست ذاهبًا إلى القتال».
فنهض سمبا وقال «ما هذا؟ أتظنين أني أذهب إلى الحرب لأنَّ أباك ذبح لي خروفًا؟ كلَّا. لن أفعل هذا فإني أكره الحرب؛ فإني سمبا الجبان، طردني أبواي لأني جبان أرفض القتال».
فنهضت ابنة الحاكم وقد أخذ منها الحنق وقالت: «هل أنت هذا الرجل؟ هل أنت سمبا الجبان؟ إذن هذه قطيعة بيني وبينك وقد طلقتك، فاذهب في تجوالك فإني لا أحبك».
فصاح سمبا بسائسه وأمره أن يسرج فرسه وهم بركوبه لكي يذهب، فقال له مؤدبه: «سأعود إلى قريتنا فإني أكره البقاء معك إذ لا فائدة من ذلك، فلست أنتظر منك سوى العار والفضيحة».
ورجع المؤدب إلى قريته، أما سمبا وسائسه فأخذا في تجوالهما حتى انتهيا إلى قرية كبيرة وكان يحكمها ملك عظيم، وكان لهذا الملك ابنة عاقلة جميلة لم تتزوج بعد. وكانت أمة هذه الفتاة قد خرجت لكي تغسل ملابس مولاتها على شاطئ النهر قريبًا من باب المدينة، فما هو أن رأت الفارس ووراءه سائسه حتى أخذ جماله ببصرها فافتتنت وتركت الملابس وجرت إلى سيدتها فدخلت عليها في غرفتها، وقالت لها: «رأيت فارسًا جميلًا يقترب من المدينة، اطلبي إلى أبيك أن يستقبله ويحتفي به فإني لم أر أجمل منه في حياتي»
وذهبت الفتاة إلى والدها الملك وقالت له: لقد أخبروني أنَّ فارسًا جميلًا قد اقترب من المدينة فأرجوك أن تستقبله وتحتفي به.
فأعد له الملك مكانًا شريفًا، وعندما وصل سمبا ذبح له ثورًا، وقالت الفتاة لأَمَتِهَا: «لقد قلت صدقًا فإنه أجمل من رأت عيناي» ثم كافأتها بثوب جميل.
فانشرح صدر سمبا لهذا الاستقبال وعاش في المدينة كأنه من أهلها، وكانت الأطعمة الفاخرة تُقَدَّمُ إليه كل يوم. وتزوج ابنة الملك وأولمت الولائم المطهمة في عرسهما، ولكن لم تمضِ أيام بعد ذلك حتى قرعت طبول الحرب وتصايح الناس: «العدو على الأبواب. العدو على الأبواب!» وتصامم سمبا عن هذه الصيحة.
ووقفت زوجته تراقب ما يفعل زوجها وما أزمع، ولمَّا لم تَرَ شيئًا ركعت أمامه وقالت له: «سمبا لقد قُرِعَتْ طبول، فاذهب مع رجال الملك لكي تقاتل العدو»
فقال سمبا: «لن أذهب. فقد طردني أبواي لخوفي من الحرب؛ ولذلك هم يسمونني سمبا الجبان، وقد طلقتني امرأتي الأولى لأني جبان، فهل تظنين أني تغيرت وأني أذهب إلى القتال لأن أباك ذبح لي ثورًا؟ كلا لن أذهب. وإذا لم ترغبي ببقائي فإني أرحل عنك».
وكانت الفتاة مع جمالها وكبريائها ذكية وقد تحدثت كثيرًا إلى سمبا منذ زواجهما، وعرفت سريرته وكانت متعلقة به لفرط جماله. فقالت له: «لن أتركك ولو أنك تقول إنك سمبا الجبان، فإني سأرتدي ملابسك وأذهب بنفسي إلى العدو، والظلام ينتشر الآن فلن يعرفني أحد».
وكان هناك عبيد سمعوا وعرفوا كل ما قيل ولبست ابنة الملك ملابس زوجها وقالت لهم: «إن من يبوح منكم بما رأى فإني سأقطع رأسه».
ثم امتطت جواد سمبا وركضته في الظلام، وصار سمبا ينظر إليها وهو غارق في التفكير.
وتبين بعد ذلك أن صيحة الحرب كانت هرجًا لا أصل له إذ لم يكن هناك قتال، وعاد المقاتلون في نصف الليل ومعهم ابنة الملك التي خلعت ملابس زوجها عند وصولها ولبست ملابسها، وكان سمبا يعبر أحد ميادين المدينة فسمع منشدًا يتغنى ويقول:
«رأيت فارسًا شجاعًا ليس من أهل مدينتنا يخرج إلى العدو وكله شجاعة ونجدة، ولو وقعت الوقعة لأبلى فيها وقتل الكثيرين ونشر جثثهم على الأرض».
وسمع سمبا هذا المنشد ثم عاد إلى منزله، وكانت زوجته حزينة لأنها لم تستطع أن تجعل من زوجها مقاتلًا.
وأخذت تفكر في هذا الموضوع وتدرس أخلاق سمبا وكان مما يرجيها في ذلك أنه كان لا يزال صغير السن.
وحدث بعد ذلك في أحد الأيام أن جاء الملك وقال لابنته: «إذا لم أكن مخطئًا فإني أتوقع أن نقاتل أعداءنا هذا المساء. فأخبري سمبا بذلك ولكن احذري من أن يُفْشُوا الخبر بين أهل المدينة».
فذهبت وأخبرت زوجها، ثم اشترت قرعة مملوءة بخمر العسل، فلما أمسى المساء ذهبت إلى سمبا فلم يعرف سمبا ما معها لأنه كان ساذج القلب لم يكن يدري أن هناك من الأشربة ما يُسْكِرُ، فسألها عنه فقالت: «هذا شراب ينفع البدن، اشرب قليلًا منه».
فجرع سمبا منه قليلًا ثم قال: «لم تخبريني قبلًا عن هذا الشراب الفاخر؟»
وصار يشرب حتى صعد الشراب إلى رأسه فلما رأت ذلك زوجته قالت له: «يعتقد الناس هنا أنك قوي وأنك يمكنك أن تقتل عصابة لصوص بأكملها» فتبسم سمبا وأخذ يوالي الشرب.
وقرعت طبول الحرب فهَمَّتْ زوجته بأن تلبس ملابسه وتخرج، ولكنه أوقفها قائلًا: «هل تبغين الذهاب بدلًا مني إلى الحرب؟ كلَّا. فإن الطبول تقرع لأجلي أنا وحدي والناس يقولون إني يمكنني أن أهزم عصابة لصوص بأجمعها».
ثم نادى سائسه وأمره بتهيئة جواده لأنه يريد الذهاب إلى الحرب.
وذهب إلى المعركة وقتل أحد الأعداء وعاد إلى زوجته وقال: «لقد ساء حظي هذا اليوم إذ لم أقتل غير واحد» ثم رقد ونام.
وكان بجانب المدينة التي يسكن فيها صهر سمبا رجل مشهور بشراسته وجبروته وسعة أراضيه، وكان يُدْعَى جومبل وكان عنده من العبيد الذين يشتغلون في أرضه عدد كبير، وكان يقتل كل من يطأ أرضه عمدًا وسهوًا ويعلق رءوسهم على الأشجار حول أملاكه، وكان من الشهرة والشجاعة بحيث كان الجميع يَخْشَوْنَ اسمه ويَتَفَادَوْنَ السير على الطرق التي تؤدي إلى أرضه.
ولما رأت ابنة الملك أثر الخمر على سمبا اشترت شعيرًا وخَمَّرَتْهُ جعة قوية في بيتها وصارت تناوله وهو يشرب حتى إذا انتشى قالت له: «الناس جميعهم يُطْرُونَ شجاعتك».
فقال سمبا: «كلَّا. إني ما فعلت شيئًا. فإني أسمع عن رجل يُدْعَى جومبل».
فقالت زوجته: «لا تذكر اسمه؛ فإن الجميع يخافونه».
فأخذ سمبا قرعة الجعة وجرع جرعة كبيرة ثم نهض وقال: «هلمي إلى أبيك أخبريه بأن يأمر بقرع الطبول لأني أريد أن أقاتل جومبل».
فسارعت إلى أبيها وأخبرته بذلك فُسَرَّ لهذا الخبر وأمر بقرع الطبول.
ثم امتطى سمبا صهوة جواده واستصحب معه مئة مقاتل ومئة منشد ومئة عبد ومئة نعال ممن ينعلون الخيل، فلما ساروا بعض المسافة انشعب الطريق طريقين، يمينهما رحب ممهد ويسارهما ضيق يؤدي إلى أرض جومبل، فأخذ سمبا طريق اليسار، فلما سار هنيهة وقف العبيد وقالوا: «هذه حرب جنونية فلنتركها ولنعد».
ثم تفرقوا وعادوا من حيث أتوا، وبعد مدة وقف المنشدون والنعالون وقالوا: «حسبُنا سيرًا؛ فإن أرض جومبل تقع وراء هذه الأكمة».
فلم يبقَ معه سوى المقاتلين وهؤلاء ساروا قليلًا ثم وقفوا أيضًا، فسار سمبا بمفرده حتى أوطأ جواده أرض جومبل وكان يشتغل فيها سبعمئة من أولاده وعبيده، وكان جومبل نفسه راقدًا في ظل شجرة على شاطئ جدول، فسار إليه سمبا وكأنه لا يراه ونظر إليه جومبل وهو لا يكاد ينطق من الدهشة، ثم صاح فيه قائلًا. «أيها الفتى العجيب، هل أنت غريب عن هذه البلاد؟».
فقال سمبا: «أجل أنا غريب».
فقال جومبل. «وكيف ذلك؟ ألم يخبرك أحد من شيوخ بلادك عمَّا يحصل لمن يطأ أرضي؟ ألا فاعلم أني قتلت جميع من مست نعال خيولهم أرضي. قبضت عليهم وقطعت رءوسهم وعلقتها في تلك الأشجار التي أمامك، فاعلم بمكانك الآن»
فقال سمبا: «أراني قد بلغت المكان الذي أردته، فأنا في طلب جومبل».
فقال جومبل. «هأنذا، قل ما تريده فإنك فتى جميل لك ملامح حسنة، ولكن انزل عن جوادك وأخرجه من أرضي أولًا ثم اجمع التراب الذي داس عليه وذره في الرياح خارج أرضي، وأنا أطلب إليك هذا قبل أن نصير صديقين».
فقال سمبا: «إنك لم تفهم غرضي، دعك من كل هذا، إني إنما جئت لكي أقتلك أيها الوغد».
فقال جومبل: «كن لطيفًا في مزاحك فإنك لو لم تكن فتى جميلًا لكنت علقت رأسك إلى تلك الشجرة، ولكني سأمنحك فرصة أخرى؛ فلعلك جائع تبحث عن عمل ترتزق منه، فإذا كنت كذلك فهناك عبدين أعطيهما لك هدية فإني أحب ملامح وجهك».
فقال سمبا. «أرى أنك لا تريد أن تفهم ما أريده منك؛ فإني لا أقصد سوى قتلك».
وفي الحال قفز جومبل على بندقيته وأطلقها على سمبا ولكنه أخطأ، فقبض سمبا عليه وحمله وأداره بين يديه، وهَمَّ أولاد جومبل وعبيده بالهجوم على سمبا ولكن جومبل منعهم وقال لسمبا: «لقد اغتنمت انطلاق البندقية وخطأها».
فتركه سمبا حتى أطلق البندقية مرة أخرى عليه ولكنه أخطأ أيضًا، إذ أصابت لباس رأسه فقط، وقبض عليه سمبا مرة ثانية وأداره في الهواء ثم قال له: «هبني غلبتك مرة ثالثة هل تصير سائسًا عندي؟»
فقال جومبل: «لا يمكنك أن تغلبني مرة ثالثة»
فافترقا، وهَمَّ جومبل بإطلاق البندقية ولكن سمبا قفز عليه وقبض عليه قبل أن يطلقها وأداره في الهواء المرة الثالثة، وحاول أولاد جومبل وعبيده السبعمئة أن يهجموا على سمبا ولكن جومبل منعهم وقال لسمبا: «لقد غلبتني وسأكون سائس جوادك وخادمك، أفعل ما تريد».
فعاد سمبا ووراءه جومبل حتى وصل إلى حيث كان المئة المقاتلون، وصاحوا بنصر سمبا وهزيمة جومبل، ولكن جومبل قال لهم: «لا تهزءوا بي وإلا رأيتم مني ما تأسفون له فأنا خادم سمبا ولست خادمكم، وحسبكم أن تمدحوا سيدكم لأنه شجاع قوي جميل».
وعاد الجميع إلى ابنة الملك حيث عاش جومبل خادمًا لسمبا.