في الأدب الياباني
يعتقد كثيرون أن اليابان كانت بلادًا منحطة فاعتنقت الحضارة الأوروبية، ثم وَثَبتْ إلى التقدم فصارت الآن في طليعة الأمم الراقية.
والحقيقة أنها لم تكن قط منحطة أو متدهورة، وإنما كانت تسير على مبادئ المدينة الشرقية التي نشأت عليها، ثم وجدت باحتكاكها بأوربا أن حضارة أوروبا تفوق حضارتها فاصطنعتها وسارت عليها.
ومما يدل على صحة قولنا هذا هذه القصة التالية التي ألَّفها أحد أدباء اليابان في أواخر القرن السابع عشر، والمؤلف يقصد منها بيان الآداب الفاشلة بين طبقة الأشراف الحربيين المسمين ساموراء، قال:
منذ زمن غير بعيد كان رجل يدعى هارادا نيسوك، يسكن هو وزوجته في بلدة شنجاوة، وكانا فقيرين مُعْدَمَيْنِ، وكانت السنة قد أوشكت أن تنتهي، فكانا لذلك يترقبان نهايتها بخوفٍ وقلق؛ لأنه لم يكن عندهما شيء من المال لكي يقوما بما يتطلبه منهما ختام العام.
وكان للزوجة قريب يشتغل بحرفة الطب، وكان يعيش في حالة اليسر، فلما بلغ منها اليأس كتبت إليه ترجوه أن يقرضها شيئًا لعيد ختام العام، وكان هذا الأخ سخي النفس فلما جاء خطاب شقيقته أزعجه فقال في نفسه: «لا بد من مساعدتهما ولا بد أن أبعث لهما بشيء».
فأخذ عشرة نقود ذهبية ووضعها في علبة، وأخذ يربطها وهو يضحك، ثم أرسلها لأخته في شنجاوة.
وحمل صبي الطبيب هذه العلبة إلى منزل هارادا نيسوك في الوقت المناسب، فقابل الزوجان هذا الصبي بالحفاوة والشكر، وما كاد يتركهما ويعود إلى منزل الطبيب حتى فتحا العلبة، فوجدا داخلها ورقة تشبه الورق الذي يكتب عليه الأطباء وصفات الدواء: وكان مكتوب عليها ما يلي:
-
المرض: الفقر.
-
الدواء: عشرة نقود ذهبية.
-
الجرعة: أحسنا الاستعمال فتشفيا.
فضحك الزوجان فرحًا لهذا المزاح اللطيف، ولم يكادا يصدقان أعينهما عندما رأيا في العلبة عشرة نقود ذهبية، وكان هذا المبلغ بالنسبة إليهما ثروة كبيرة، فرأيا جريًا على سُنَّة الساموراء أن يشتركا مع غيرهم في التنعم بهذه السعادة، وفي الحال أخذ الزوج يكتب إلى جميع أصدقائه يدعوهم إلى وليمة في منزله في ختام العام.
وجاء المساء الذي ضرب فيه معاد الوليمة وكان البرد شديدًا قارسًا والثلج يتساقط، ومع ذلك قد حضر سبعة من أصدقائه، فلما اجتمعوا وأُعدت المائدة وأخذ المدعوون يعجبون للبذخ الذي لم يألفوه سابقًا من صديقهم، فقال لهم هارادا نيسوك: «لقد جاءني بعض المال، ولذلك إني أستطيع أن أحتفل بالسنة الجديدة احتفالًا عظيمًا».
ثم طاف عليهم يريهم وصفة صهره الطبيب، فضحكوا وسُرُّوا من دعابة هذا الطبيب، وأخذوا يتأملون بعين الإعجاب النقود الذهبية العشرة، وهي شفاء أكيد لذلك المرض الذي قد عمَّتهم إصابتُه.
ولما دارت عليهم العلبة بنقودها قال رب البيت: «والآن دعوني أرد هذه النقود إلى العلبة وأغلقها»، ثم عد النقود فوجدها تسعة فقط.
فوقف الضيوف في الحال وجعلوا ينفضون ملابسهم، ولكن النقد المفقود لم يظهر، وكذلك بحثوا عنه بين الوسائد فلم يجدوه.
فتهامسوا قائلين: «هذا غريب، أين هو إذن؟» وبقوا في حيرة.
ثم تظاهر هارادا نيسوك بأنه قد تذكر شيئًا وضرب جبهته بيده قائلًا: «صحيح صحيح، ما أشد بلاهتي، إني آسف جدًّا لأني أزعجتكم، فقد نسيت أننا أنفقنا نقدًا من هذه النقود فلم يبقَ سوى تسعة».
قال ذلك ثم لَفَّ العلبة، ولكن الضيوف لم يطمئنوا إلى هذا القول، وعدوه منه لطفًا وأدبًا اقتضاه الحال. وقال كل منهم للآخر: «النقود عشرة».
ثم خلع أحدهم ملابسه كلها ونفضها ووقف عريانًا، وفعل الثاني فعله، أما الثالث فقد بقي صامتًا ساكنًا لا يتحرك، ثم انتقل من مكانه وجلس القرفصاء وبسط أمامه ذراعيه، وقال: «في هذه الحياة كثير من الارتباكات، ولست في حاجة إلى أن أخلع ملابسي، فإن الشر الذي يلازمني قد قضى أن يكون معي هذه الليلة نقد ذهبي، وبما أن نحسي قد قضى عليَّ فها أنا ذا أقضي على حياتي».
وما انتهى من هذا الكلام حتى أعد عدته لكي يقتل نفسه على طريقة الساموراء ولكن الآخرين قالوا: «إنه يقول الحق، فإننا على فاقتنا البالغة قد يملك كل منا نقدًا ذهبيًّا واحدًا وإن كنا لا نحمله معنا».
فقال الرجل: «أمس بعت خنجري وهذا النقد هو ثمنه، ولكني لا أنجو بشرفي إلا بقتل نفسي الآن، ولكني أرجوكم أن تذهبوا غدًا إلى جوزمون الذي بعت له هذا الخنجر واسألوه عن صحة ما قلته».
وهم بوضع السيف في بطنه، ولكن أحد الضيوف صاح قائلًا: «هاكم النقد، لقد وجدته في ظل هذا المصباح».
فتنهد جميعهم تنهد الراحة، ووقف الرجل الذي هَمَّ بالانتحار عن إتمام عمله، وقالوا: «كان يجب علينا أن نبحث جيدًا».
ثم هنَّأ بعضهم بعضًا، وبينما هم يفعلون ذلك إذا بربة الدار قد جاءت تهرول وهي تقول: «لقد وجدت النقد، وجدته لاصقًا في غطاء صندوق الكعك».
فدهش الجميع أشد دهشة، وما روته الزوجة هو الحقيقة، ولكنهم وجدوا الآن أن بين أيديهم أحد عشر نقدًا ذهبيًا، في حين أنه كان ينبغي ألا يوجد سوى عشرة، فمن أين إذن جاء النقد الذي وجد في ظل المصباح؟ فلا بد أن أحدًا منهم وضعه، ولكن من هو؟ وقال واحد منهم: «إذا كانت عشرة النقود قد صارت أحد عشر فيجب أن نفرح».
وأخذوا يهنئون هاردارا نيسوك الذي وقف مدهوشًا من هذه الحوادث، وقال أحد الضيوف: «من الطبيعي أن تصير التسعةُ عشرةً، ولكن من الغريب جدًّا أن تصير العشرةُ أحدَ عشر، فنرجو ذلك الذي دفع هذا النقد الزائد أن يتكلم حتى يرد إليه».
فلم يجبه أحد مع تكراره وإلْحَاحِه، ومضى الليل وصاحت الديكة، وليس فيهم من يعرض لأخذ هذا النقد الزائد، وبدأ الاكتئاب عليهم جميعًا لهذا الحادث الذي نتج عن سوء التقدير، وأخيرًا عرض عليهم ربُّ البيت أن يقترح عليهم اقتراحًا ويدعوهم إلى قبوله، ثم سألهم هل يوافقونه؟ فوافقوه جميعًا.
فقال: «انظروا إليَّ الآن، فإني سأضع هذا النقد في صندوق الكعك، وسأضع الصندوق بجانب البئر عند باب الجنينة، وستخرجون أنتم وتذهبون إلى دوركم واحدًا بعد الآخر، وكلما يخرج واحد منكم من الجنينة يقفل الباب وراءه، ولن يتحرك أحدٌ منكم من هنا حتى نسمع صرير الباب وهو يقفل، فيمكن للشخص الذي دفع النقد الزائد أن يأخذه من الصندوق ويذهب إلى بيته».
ووضع النقد في الصندوق بجانب البئر، وخرج الضيوف فُرَادَى، الواحدُ بعد الآخر، ولما خرجوا جميعًا ذهب صاحب الحفلة وزوجته فَحَصَا الصندوق فلم يجدا فيه النقد.
فمن هو الذي أخذه؟ ليس أحد يعرف ذلك، ولكن بدهي أن الرجل الذي وضعه قبلًا لكي ينجى ذلك الضيف الآخر من القتل هو الذي أخذه، وإنما سلكوا جميعًا هذا السلوك؛ لأنهم كانوا من رجال الحرب الأشراف من ذوي الخلق العظيم، الذين يعرفون واجباتهم وتبعاتهم، وكانت لهم على الرغم من فاقتهم شجاعة وإيمان بمبادئ شيعتهم الساموراء.