مذكرات مكسيم جوركي
أنقل للقراء فيما يلي نموذجًا من الأدب الروسي في قطعة مختارة من مذكرات مكسيم جوركي، ويذكر القراء أن هذا الأديب الشهير قد عُيِّنَ في بدء الحركة البولشفية مديرًا لإدارة الفنون الجميلة، ثم لم يطق استبداد لنين فاستقال ورحل من روسيا إلى بلاد أوروبا، والقطعة التالية تبين للقارئ ذلك القلق الذهني الذي أصاب أدباء روسيا من تأثير الصدمة التي نالتهم في ذلك الانقلاب الهائل عند انتقال الأمة الروسية من أوتوقراطية القيصر إلى ديمقراطية البولشفيين، أو بالأحرى فوضاهم.
قال جوركي:
تحدثت أمس إلى الشاعر إسكندر بلوك، وقد خرجنا معًا من إدارة الآداب فسألني رأيي عن محاضرته التي ألقاها من مدة وكان موضوعها: «تحطم آداب الإنسانيات».
فقد ألقى هذه المحاضرة منذ أيام وقد كانت أشبه بمقالة منها بمحاضرة، وشعرت وأنا أصغي إليه كأن معناها كان غامضًا ولكنه كان ذا مغزًى سيئ ونذير شؤم. وكان بلوك وهو يقرؤها يذكرني بذلك الطفل في تلك الأسطورة الشهيرة حيث يضل في الغابة فيشعر كأن الجن المردة تقترب منه، وتحدثه نفسه بأن يقول تعويذة قد حفظها لطرد هؤلاء الجن فيدمدم بها وهو خائف مذعور، فكانت أصابعه ترتجف وهو يقبض بها على أوراق المحاضرة.
وتساءلت وأنا أنظر إليه وقتئذٍ عمَّا إذا كان هو قد سَرَّهُ تحطم هذه الآداب أو أساءه، وهو في النثر قليل الحظ بخلافه هو في الشعر، فأسلوبه جامد ولكنه عميق الشعور يميل إلى الهدم والتدمير، وأقول بعبارة أخرى إن بلوك من رجال «الانحطاط» واعتقادي أن آراء بلوك غير واضحة في ذهنه؛ فكلماته كالأعشاب التي تنبت الأحجار ليس لها جذور عميقة في ذهنه، فهي لا تغور إلى ذلك العمق الذي لو بلغه لتحطم هو أيضًا مع ما يسميه «تحطم آداب الإنسانيات».
وبعض الآراء التي أدلى بها في المحاضرة تراءى لي عندئذ كأنه فج لم ينضج، مثال ذلك قوله:
«إن نشر الحضارة بين سواد الأمة ليس من المستطاع ولا هو من الضروري». وقوله أيضًا: «إن المخترعات قد أخذت مكان المستكشفات».
فإني أعرف أن القرن التاسع عشر والقرن العشرين إنما كان غنيَيْنِ بالمخترعات لأنهما كانا أعظم العصور وأخصبها في المستكشفات، ثم القول بأن الحضارة غير ضرورية للأمة الروسية وغير ممكنة هو نوع من الهمجية.
وقد أخذت أوضح له رأيي في حذر وحيطة؛ لأن من الصعب أن يناقشه الإنسان في موضوع ما، فإنه يزدري بجميع الناس الذين لا يأنسون إلى عالمه الذهني فينظرون إليه نظرة الاستغراب ويرون أنه غير واضح، وقد كنت أنا أحد هؤلاء، وقد اعتدت أن أجتمع به مرتين في الأسبوع في إدارة الآداب.
وقد تناقشت معه غير مرة عن نقص الترجمة من حيث روح اللغة الروسية، ومثل هذه المناقشات لا تُقَرِّبُ الناس بعضهم من بعض، وكان مثل سائر الموظفين في إدارة الآداب ينظر إلى الأعمال نظرًا رسميًّا فلا يكترث لها.
وقد قال لي إحدى المرات إنَّه قد سُرَّ لأنه رآني قد تخلصت من تلك العادة التي يقع فيها رجال الذهن في روسيا، وهي ميلهم إلى حل المسائل الاجتماعية، وكانت كلماته لي وقتئذٍ: «لقد كنت على الدوام أشك في حقيقة هذا الميل فيك، وظاهر من قصتك «مدينة أوركوروف» أن المسائل الصبيانية تقلقك وتزعجك، وهي في الواقع أهم االمسائل وأروعها وأعمقها».
وقد كان مخطئًا في هذا الزعم ولكني لم أناقشْهُ وقلت في نفسي: «فليعتقد فيَّ ما شاء إذا كان هذا الاعتقاد يسرُّه أو إذا كان يضطر إليه اضطرارًا».
ولكنه لجَّ في السؤال حتى قال لي: «لماذا لا تكتب عن هذه المسائل؟».
فقلت له: إن مثل هذه المسائل كمعنى الحياة والموت والحب، هي مسائل شخصية تلصق بي أنا وحدي، فلا أحب أن أنشرها على الناس في الأسواق، وإذا اتفق في النادر أنى أفعل ذلك على الرغم مني فإني عندئذٍ أراني لا أحسن البيان، وكلام الإنسان عن نفسه نوع من الفنون الجميلة لا أزال أجهله.
ثم سِرْنَا إلى بستان الصيف وجلسنا على أحد المقاعد، فكانت عينا بلوك زائغتين، وكانت فيهما لمعة وفي وجهه اختلاجات تنبئ عن حيرة أدركت منها أنه في اشتياق إلى الكلام وإلى السؤال، فحرَّك قدميه على الأرض، ثم التفَّ إليَّ وقال بلهجة العتاب:
«لماذا تخفي؟ أنت تخفي أفكارك عن الروح وعن الحقيقة، فلماذا تفعل ذلك؟».
وقبلما أجيبه على سؤاله اندفع ينكر على رجال الذهن الروسيين طريقتهم وخطتهم، وينتقدهم بألفاظ لم يعد لها موضعٌ بعد الثورة. فقلت له: إني أعتقد أن الموقف الانتقادي الذي يتخذه ضد رجال الذهن هو في الحقيقة موقف ذهني؛ لأن هذا الموقف الانتقادي لم يكن ليأتي عن طريق الفلاحين الذين لا يعرفون من رجال الذهن سوى الطبيب الذي يبذل نفسه في خدمتهم ومعلِّم القرية في الأحوال النادرة، وليس هذا موقف عمال المدن الذين لا يعزون فضل رقيهم وتعلمهم إلا إلى رجال الذهن. وهذا الموقف خطأ في ذاته ثم هو قد أزال من رجال الذهن احترامهم لأنفسهم وأتلف عليهم عملهم التاريخي باعتبارهم حفظة الثقافة ووكلاءها؛ فإن مهمتهم في التاريخ وفي المستقبل بل هي الآن تنحصر في القيام بعمل الجواد الذي يجر المركبات، فقد رفعوا العمال بجهودهم التي لا تعرف الكلال إلى مستوى الثورة التي لم يسبق لها مثيل من حيث مدى المسائل التي تحاول حلها الآن وغورها.
فشعرت كأنه لم يكن ينصت إليَّ، ولكني عندما سكتُّ عاد إلى نغمته الأولى عن رجال الذهن، فأشار إلى تذبذبهم نحو البولشفية ثم التفت إليَّ وقال هذه الكلمة الصادقة:
«لقد أخرجنا روح التدمير من الظلمة وأوجدناه، فليس من الحق بعد ذلك أن ننكر أننا نحن علة وجوده؛ فالبولشفية هي النتيجة التي لم يكن ثَمَّ مناص منها لجميع ما قام به رجال الذهن في محاضراتهم في الجامعات وفي مقالاتهم في الصحف وفيما كانوا ينشرونه سرًّا».
وهنا مرَّت بنا امرأة جميلة فحيَّته تحية الوداد، فنظر إليها نظرة جافية كأنَّه لا يكترث لها. فتركتنا وعلى شفتيها ابتسامة الارتباك. ثم أتبعها بعينيه ينظر إلى قدميها الصغيرتين المترددتين وقال لي:
«ماذا تظن في الخلود. في إمكان الخلود؟».
وكان في سؤاله لهجة إلحاح تتبين العناد من نظرته، فقلت له: ربما كان لاميناس صادقًا في قوله بأنه ما دامت المادة الموجودة في الكون محدودة فيجب أن يتكرر امتزاج هذه المواد عدة مرار على مدى الأبدية؛ وعلى هذا فمن الممكن أنه بعد ملايين من السنين في مساء أحد الأيام سيجلس هنا في «بستان الصيف» بلوك وجوركي يتحدثان عن الخلود مرة أخرى.
فقال: «هل تتكلم بجد؟».
فدهشت من إلحاحه بل شعرت كأنه يحرجني، ولو أني شعرت أنه لم يسألني عن فضول بل عن رغبته في إزالة خاطر قد علق به كالوسواس يزعجه ويقلقه.
فقلت له ليس هناك من سبب يدعوني إلى اعتقاد أن رأي لاميناس في هذا الموضوع أقل وجاهه من رأي الآخرين الذين كتبوا فيه.
فصك الأرض بقدمه وهو يتململ مع أنه قبل هذه الليلة لم أكن أعهد فيه سوى الصمت والتحفظ. ثم قال: «ولكن عن نفسك. عن نفسك ماذا تعتقد؟».
فقلت: «أما عن شخصي فإني أعتقد أن الإنسان هو أداة تتحول بواسطتها المادة الميتة إلى قوة نفسية، وأنه في أحد الأزمنة الآتية بعد دهر طويل في المستقبل البعيد سيحول الإنسان هذا الكون بأجمعه إلى قوة نفسية لا مادة فيها».
فقال: «لست أفهم ما تعني: تريد عالمًا روحانيًّا؟» فقلت: «كلَّا، فإن الكون كله سينقلب فكرًا مجردًا، وستزول كل مادة لأنها ستصير فكرًا مجردًا، فلا يبقى غير الفكر الإنساني يحتوي على لمحات الإنسان الأولى إلى اللحظة الأخيرة حين يتفجر».
فقال وهو يهز رأسه «لست أفهم ما تعني» فأشرت إليه بأن يتوهم الكون باعتباره انحلالًا دائمًا للمادة، والمادة في هذا الانحلال تصدر عنها قوات مختلفة مثل الضوء والأمواج الكهربائية المغنطيسية والأمواج الهرتزية وما إلى ذلك؛ فالفكر هو أيضًا انحلال مادة الدماغ، وليس الدماغ سوى تآلف بعض المواد الميتة، ففي دماغ الإنسان تتحول هذه المادة على الدوام إلى قوة نفسية، وهذه القوة ستتآلف أجزاؤها وترتاح إلى التأمل في ذاتها وفى قواها المبتكرة العديدة المختبئة فيها.
فتبسم بلوك وقال: «خيال كامل رديء، ومن حسن الحظ أن الناموس القائل أن المادة لا تفنى يعارض ما تقول» فقلت: «وأنا أيضًا أعتقد أن من حسن الحظ أن القوانين التي تصدر عن معامل التدريب لا تتفق ونواميس هذا الكون المجهولة؛ فإني مقتنع بأنه إذا كنا نستطيع وزن هذا الكوكب الذي نسكنه وجدناه يقل بالتدريج».
فهز بلوك رأسه ثانيًا وقال: «هذا عبث، فالمسألة أبسط جدًّا مما ذكرت، وهي تتلخص في أننا قد بلغنا من البراعة حدًّا صرنا لا نؤمن فيه بالله ثم لم نقوَ بعدُ على الإيمان بأنفسنا، أما أساس الحياة والإيمان فوالله ونفسي. تقول النوع البشري؟ ولكن هل تقدر أن تؤمن بالنوع البشري بعد هذه الحرب وهذه الحروب القاسية التي نحن على وشك النزول فيها؟ كلا. إن خيالك غريب وأظن أنك تعبث».
ثم تنهد وقال: «آه لو استطعنا أن نقف عن التفكير مدة عشر سنوات حتى ينطفئ هذا الضوء الخالب، هذه اليراعة التي تسوقنا نحو الظلام، ما أحوجنا إلى أن نصغي بقلوبنا إلى أنغام هذا الكون! يا لهذا الدماغ! إنه عضو لا يصح أن يؤتمن قد عدا طورَه في الضخامة والنمو كأنه ورم».
ثم سكت برهة وشفتاه مطبقتان ثم قال في هدوء:
«لو وقفت كل حركة …».
فقلت: «الحركة تقف إذا كان كل شيء حولها يسير بسرعتها».
فنظر إليَّ بلوك ورفع حاجبيه وأخذ يتكلم بل يهذي بكلمات غامضة لم أفهمها، وشعرت شعورًا غريبًا، شعرت كأنه يمزق من نفسه خرقًا بالية.
ثم وقف فجأة ومدَّ إليَّ يده مودعًا وسار نحو الترام، وقد تشعر وأنت تنظر إليه أن خطواته ثابتة ولكنك متى دققت النظر ألفيتها مضطربة متزعزعة، ومهما كان لباسه من حيث الجودة والنظافة فإنك تشعر أنه يجب أن يختلف الناس في لباسه وهندامه، بخلاف سائر الناس فإنهم مهما لبسوا ومهما كان زيهم لا يختلفون عن غيرهم، ولكن بلوك يختلف عنهم فهو يحتاج إلى زي آخر.