خلاصة تاريخية
والخلاصة من الناحية التاريخية — وهي أقل النواحي ثبوتًا وأهمية في هذا المبحث — أننا نستطيع أن نتقبل أبا الغصن جحا كما ذكره الميداني في أمثاله كأنه شخصية تاريخية لا غرابة في وجودها، ولا داعية للشك في إمكان وقوع النوادر المنسوبة إليها، فإن الذين يشبهون أبا الغصن هذا في غفلته وسهواته يوجدون في كل بيئة، وفي كل زمن، وإن تنوعت المناسبات والأحوال التي تكشف للناس عما طبعوا عليه من الغفلة.
ويلحق بأبي الغصن أناس على شاكلته لم يشتهروا مثل اشتهاره ولم يسمع بهم الأمراء والولاة كما سمعوا باسمه وخبره، فيطلق الناس عليهم اسم جحا نبزًا أو تشبيهًا أو تغليبًا أو تفيهُقًا بالحكاية النادرة التي تدل على علم بأخبار السلف إذا رويت عن مشهور متقدم، ولا تدل على شيء من ذلك إذا رويت عن سكان البلد في ساعتهم الحاضرة، ويعمل الوضع و«القفش» عملهما أثناء ذلك فيجتمع من النوادر الجحوية ما تصح نسبته إلى شخصية قديمة أو حديثة، وما تصح نسبته إلى أحد غير وُضَّاعه ومخترعيه من الرواة والملفقين.
ونحن في عصرنا هذا قد شهدنا نشأة أمثال هذه الشهرة الصحيحة والمخترعة وشهدنا تطورها من مبدئها إلى مصيرها بعد عشرين أو ثلاثين سنة، وكان «الفضل» في ذلك للصحافة الأسبوعية المضحكة التي كانت تقوم في أوائل القرن العشرين على «القفش» والملحة المخترعة. ويعلم الكتاب والقراء والمستمعون أنها تلفيق يعتمد على أصل ضعيف، وأنها براعة في صناعة «القفش» ويتنافس فيها أولئك الصحفيون، وهم ولا ريب خلفاء الندماء الذين كانوا يتولون هذه الصناعة في صدر الدولة الإسلامية وما يليه من العصور قبل نشأة الصحافة.
رأينا الأديب «إبراهيم الدباغ» يأكل في مأدبة فلم نلحظ عليه شيئًا من النهم الذي اشتهر به بين المتندرين، وسألنا صاحبًا له فقال إنها أكلة واحدة أو أكلات قليلة بعد جوع أكسبته هذه الشهرة الباطلة. وأنت تعلم أنه كثير السخرية والاستهزاء بالأدعياء من محترفي الأدب والصحافة الذين يتزاحمون على مجالس الأغنياء. فانتهزوا «فرصة» هذا النهم الموقوت للقصاص والوقيعة وملئوا الصحف الأسبوعية «بالقفشات الدباغية» حتى أصبح «الدبغ» كلمة في اللغة الدارجة تطلق على النهم، وقد ظلت هذه الكلمة تحمل معناها المستعار إلى يومنا هذا، وأصبحنا نسمع من يقول عن أحد من الناس إنه «دباغ» وهو لا يعرف أصلًا لهذه التسمية.
وقد حكينا ما رأيناه من الشيخ الدباغ وما سمعناه من صديقه لصاحب إحدى الصحف الأسبوعية التي أولعت «بالقفش» له والتلفيق عليه، فقال: «لا تنخدع به فتدعوه إلى طعام، فإنما يكف الرجل يده عن الأكل وهو مشتاق إليه ليدحض كلامنا عنه ويغرر بالحاضرين فيقعون في الشَّرك، ويندمون حيث لا ينفع الندم.»
فلم ندرِ — ونحن معاصرون لصاحب الشهرة من شهروه بها — أي القولين نصدق، وأي القفشات يعتمد على الواقع، وأيها يستمد من الفكاهة والخيال.
واشتهر رجل آخر في تلك الآونة بالمبالغة في الادعاء — أي بالفشر كما يقولون في اللهجة البلدية — وكان حقًّا يدَّعي ويبالغ في دعواه، وكان ظريفًا يحسن التخلص من المأزق إذا امتحن بمن يتعقبه بالنقد والسخرية، وكان إلى هذا وذاك على يسار يُطمع فيه طلاب الاشتراكات للصحف الأسبوعية في ذلك الحين، فامتلأت هذه الصحف بدعاويه وبالدعاوي المقيسة عليها مع التوسع والإغراب، وأصبح اسمه كذلك عَلَمًا على «الفشر» يكاد يلغي هذه الكلمة لولا أنها متأصلة في الأقوال والأقاويل.
فلا غرابة في نشأة النوادر الجحوية سواء صحت نسبتها أو لم يصح منها إلا القليل.
وكل ما جاء في الكتب العربية من هذه «الجحويات» فلا غرابة في نشأته، ولا غرابة فيه من كل وجه إلا في التناقض بين الغفلة والتغافل في أخبار الرجل الواحد، ولا سيما الأخبار التي تتحقق صفات صاحبها ويثبت أنه من المجانين المسلوبين الذين لا يحسنون تدبير «التغافل»، ولا تجيء منهم الحكمة إلا فلتة غير مقصودة في القليل من الأحايين.
الخوجة نصر الدين التركي
أما جحا التركي المسمى بالخوجة نصر الدين فالمنسوب إليه يملأ مئات الصفحات، وبين أيدينا كتاب بالتركية مطبوع في الآستانة بالحرف الدقيق (سنة ١٣٢٨ هجرية) يقع في مائتي صفحة وخمس وخمسين، ولا يستوعب كل ما نسب إلى جحا أو إلى الخوجة نصر الدين من نوادر الحكمة أو نوادر الغفلة والبلاهة.
والأمر الذي لا شك فيه أن كثيرًا من هذه النوادر وضعت بالتركية ولم تنقل عن العربية، وأنها ترجع إلى شخص عاش في بلاد الترك ولم تكن نشأته على الأقل في بلاد أخرى.
ويدعونا إلى الجزم بذلك أن النوادر تشتمل على جناس يوجد في الألفاظ التركية ولا يوجد في ألفاظ لغة أخرى، كالجناس بين جل وكل في نادرة المسامير والخطوط مع لفظ الكاف كما تلفظ الجيم في بعض الكلمات، والجناس بين جمع أيوب وكلمة «أيب» بمعنى حبل في نادرة يحذر فيها الخوجة نصر الدين أبناء بلده من الإفراط في تسمية أبنائهم باسم أيوب، أو كالجناس في الاصطلاح على تسمية المطر بالرحمة وقولهم عن نزول المطر إنه رحمة نزلت «رحمة انيور» من عند الله.
ويدعونا إلى الجزم بتأليف الترك لكثير من هذه النوادر أنها تذكر المدن والأقاليم في آسيا الصغرى وما جاورها بخصائصها المشهورة إلى هذه الأيام.
ويرجح لدينا أن نصر الدين شخصية تركية غير منقولة عن الأمم الأخرى أنه نشأ في آسيا الصغرى حيث تنتشر جماعات الدراويش الدينيين من قبل الإسلام، وحيث يعهد في آحاد من هؤلاء الدراويش أن يخلطوا خلط المجاذيب ويفتوا فتوى العلماء والفقهاء، وأن يلوذوا بمظاهر التخليط أحيانًا بغية السلامة من بطش الحكام المغيرين على البلاد، وقد يلوذ بهم عامة الناس إيمانًا بكراماتهم وشفاعاتهم ليدفعوا عنهم مظالم الطغاة، فيحتالون على استرضاء الظالم بالفكاهة أو بالوعظ المقبول أو بالتخليط الذي ينالون به ما طلبوه من الحاكم إذا أضحكوه واستطاعوا في وقت واحد أن يلمسوا في نفسه موطن التقوى والخوف من الله ومواطن الرضا والسرور.
•••
والخوجة نصر الدين مشهور بكراماته وكرامات ضريحه في مقبرة «آق شهر» بعد وفاته بزمن طويل، ويذكر الناس أضاحيكه فيضحكون منها ولكنهم يحيلونها إلى حالات أهل الجذب بين عالم الأسرار وعالم العيان، أو يحيلونها إلى حب التقية والاحتيال على الموعظة الحسنة بالأسلوب الذي يؤدي إلى مرماه ويعفيه من عقباه.
والشك الأكبر إنما يعرض لهذه السيرة من أطباق النوادر الكثيرة فيها على اجتماع الخوجة نصر الدين بتيمورلنك أثناء غزوته لبلاد الروم، والمشهور أن الخوجة نصر الدين توفي سنة ٦٧٣ أو سنة ٦٨٣ هجرية، فهو قد توفي قبل مولد تيمورلنك بأكثر من نصف قرن، ولا يعقل أنه رآه وحضر مجالسه إلا إذا كانت وفاته حوالي سنة (١٤٠٥م) التي توفي فيها تيمور.
ولا يسهل التوفيق بين هذه الروايات إلا على فرض من فرضين: أحدهما خطأ المتأخرين في تعيين السنة التي توفي فيها الخوجة نصر الدين، والثاني أن تيمورلنك لقي شيخًا آخر على شاكلة الخوجة نصر الدين فتداخلت الروايات وعلقت البقية الباقية منها بالاسم المشهور.
وأيًّا كان صواب النسبة في بعض النوادر التي تحتمل الخلاف فهناك جملة من النوادر لا اختلاف في وضعها بعد عصر تيمورلنك وبعد العصر المفروض للخوجة نصر الدين، وهي النوادر التي وردت فيها الإشارة إلى المخترعات الحديثة كالبندقية وساعة الجيب، أو كالنوادر التي تكذبها وقائع التاريخ العثماني وتاريخ آسيا الصغرى على الخصوص.
•••
ومن الواجب أن نسلم — بداءة — بوضع العدد الأكبر من النوادر التركية أو نقلها من رواة الأمم الأخرى؛ لأن حصولها كلها من رجل واحد أمر لا يسيغه العقل ولا يروى له نظير في السوابق التاريخية، فلو أن هذا الرجل عاش ليخلق تلك النوادر وعاش الناس معه ليسجلوها، لما اجتمع من أضاحيكه تلك المئات التي تملأ المجلدات، ولا استطاع أن يأتي بما فيها من النقائص العقلية والخلقية، فضلًا عن نقائص الجغرافيا والتاريخ.
فوضع العدد الأكبر من النوادر أمر مفروغ منه لا يجوز أن يحتج به المحتج على بطلانها واختلافها من أصولها، ولعل هذه النوادر الموضوعة أصح في الدلالة على أزمنتها وبيئاتها من وقائع السجلات والأرقام.
قيل إن بين الجليل الرهيب والمضحك المغرب قيد شعرة أو لمحة عين، ولا شك في هذه الحقيقة من الوجهة النفسية كما تقدم؛ لأن الهول يتحول فجأة إلى الضحك بطارئ من طوارئ التغيير والتبديل التي تتعاقب في أيام النصر والهزيمة والقيام والسقوط بين الجبابرة وأصحاب الدولات.
•••
ولا شك في هذه الحقيقة — أيضًا — من الوجهة التاريخية إذا رجعنا إلى عصر تيمورلنك وأشباهه في تواريخ المشرق والمغرب، فليس أحفل بالأضاحيك من عصور التقلب وعصور الشدائد والأهوال.
وظاهرة أخرى من الظواهر الناطقة في النوادر الموضوعة تنبئنا عن زمانها الذي فشت فيه وشاع اختراعها بين جميع الطبقات.
فمنذ القرن السادس للهجرة (والثاني عشر للميلاد) هبطت المعرفة من ذروة الكرامة، وأصبح العارف الأريب من يحتال على رزقه بالمجون والمنادمة والتحامق والتشبه بالجهلاء وأصحاب الجدود من ضعاف العقول، وشاع القول «بحرفة الأدب» مغنية عن القول ببؤس العالم الأديب.
في أوائل هذا العهد ظهرت مقامات الحريري التي يجمع بطلها بين البؤس والبلاغة والبراعة في الحيلة، وفيها تواتر النظم في شكوى الزمان مقرونة بشكوى الأدب والعجب من قسمة الأرزاق، وهذه هي الناحية الأدبية من تلك الشكايات وتلك الحيل «الإنشائية» أو الفنية. وأما الناحية الاجتماعية العامة فآيتها هذه النوادر التي تعد بالمئات ولا تظهر فيها براعة اللبيب الأريب إلا في الاحتيال على أكلة أو في الاحتيال على دفع المحتالين الطامعين في قوته الهزيل.
•••
وبين قصص جحا قصة عن تقسيم الأرزاق يسأل فيها جحا من ندبوه للقسمة هل يريدون قسمة الله أو قسمة العبيد، فلما حكَّموه في توزيع الحظوظ بينهم على قسمة الله أعطى هذا ما لم يعط ذاك وفاوت بينهم أكبر المفاوتة في الأقسام. وما كانت هذه النوادر لتشيع بين العامة من رواة «الجحويات» لو لم تكن لها مصادرها المتواترة من بعيد.
على أن النوادر «الطعامية» تنم على وجه خاص عن سذاجة في الحيلة ترجع نسبتها إلى طوائف المحرومين من الجهلاء الذين يتأسون بذوي المعرفة والتقى ولا تسعفهم القدرة على الاختراع، فغاية جهدهم هذا الذي ابتدعوه وأحبوا تعظيمه وتحقيق الأسوة فيه بنسبته إلى العارفين، وجاءت هذه النوادر الطعامية مجاوبة للمقامات الإنشائية وللقصائد المنظومة في شكوى الزمان والعجب من قسمة الأرزاق، ولم يعرف هذا كله في عصر من عصور الشرق كما عرف بعد القرن السادس للهجرة، وبعد إدبار الدولة العباسية، واجتياح تيمورلنك للعالم الشرقي من تخوم الصين إلى شواطئ بلاد الروم.
•••
ونودع الآن جحا والجحويات ونحن نحمد للضاحك المضحك أنه أعار اسمه — عامدًا وغير عامد — لُبابًا من الدراسة النفسانية والاجتماعية لم يكن ميسورًا لنا بغيره، ولن يبخسه شيئًا من الحمد أن يكون على وفاق مع التاريخ أو على افتراق من كل تاريخ.