لماذا نضحك؟
بعض الناس يحبون المتعة ولا يعنيهم لماذا يستمتعون بها، وبعضهم تتم متعته بها إذا عرف أسبابها.
قلت في الكلام عن سارة وهمام من قصة سارة: «تتسرب إلى المنزل أنباء الأصيل بالاستقراء لا بالمشاهدة في معظم الأيام، فيقرآن أو يسمعان بعض الأغاني، أو يلعبان الدومينة قليلًا، وهي لعبة تحذقها سارة، ويعتقد همام أنها أصح الألعاب وأشدها مطابقة للحياة؛ فالشِّطرنج والضامة يعولان على الحيلة، وكل شيء فيهما مكشوف بعد ذلك، والنَّرد يعول على المصادفة والذكاء، وكل شيء فيه مكشوف بعد ذلك، والورق إما مصادفة وإما صراع قلما يشبه صراع الحياة … أما الدومينة ففيها حساب للمصادفة، وفيها حساب للتدبير، وفيها حساب لليقين، وفيها حساب للظنون، وفيها حساب للغيب الذي تجهله أنت وخصمك، والغيب الذي تجهله أنت ويعرفه خصمك أو يجهله هو وتعرفه أنت، وللعيان الذي يعرفه كل من يشاء، ولها قوانين تمنعك أن تتحرك على هواك، ولها حرية تمنحك الخيار بين ما في يديك.
قالت سارة يومًا، بعدما استعادته شرح فلسفة الدومينة للمرة الخامسة أو السادسة أو السابعة: أَوَلا تستمتع بشيء إلا أن تكون له فلسفة؟
قال: لا، بل أنا أستمتع بالشيء ثم أبحث عن فلسفته، وإنني لأبحث عن فلسفته كما يجيل الشارب الكأس في جميع جوانب فمه ولهواته، كي لا يبقى جانب من النفس لا يأخذ نصيبه من متاعه، فأحسه وأعمله وأذكره وأفكر فيه وأستقصي معناه …»
وأقول في صدد البحث عن أسباب الضحك: إنني أُشبه همامًا في هذه الخليقة، وإنني أحب أن أفهم ما أحسه وأن أحس ما أفهمه، وإنني جريت على ذلك في البحث عن أسباب الضحك منذ بدأت الكتابة وتدوين الخواطر والأفكار بين الخامسة عشرة والعشرين، ولهذا أذكر هذه العادة فيما نحن بصدده؛ لأنني إذا مررت بما اعتقدته من أسباب الضحك قبل العشرين وبعد العشرين، وفي خلال النظر والمطالعة والتجربة اليوم؛ تدرجت بهذه الأسباب في أطوار طبيعية تعين على المقارنة والتتبع والوصول إلى النتيجة.
كانت لي في نحو السادسة عشرة مفكرة يومية أدوِّن فيها خواطري وتعليقاتي، جمعتها بعد ذلك باسم «خلاصة اليومية»، وحذفت منها عند الطبع كثيرًا من الخصوصيات التي ترتبط بتلك الخواطر لا أذكره الآن.
إن المضحكات ليست بالقليلة، ولكن الذين يحسنون صناعة الضحك هم القليلون، فليس من الضروري أن نفتش عن الرجل من أمثال موليير لنغرب في الضحك؛ فإن في كل رجل من الذين نراهم ونعاشرهم موطنًا للنقص، وفي كل عمل موضعًا للكلفة والتصنُّع. والوادع الناعم البال — ولو كان مغمورًا بالشقاء — ذلك الرجل الذي يعرف كيف يفطن إلى مواطن الغرور والرياء من أعمال الإنسان، فإنه لا يطبق فمه ما دام يفتح عينيه.
وهنا كنت أقرن أسباب الضحك بملاحظة النقص والادعاء والغرور والكلفة التي يحاول صاحبها أن يخدع الناس عن الحقيقة، وهي واضحة لمن يلتفت إليها.
ولا أذكر أنني تحريت الترتيب عند طبع الخواطر والمفكرات، ولكنني أجد في الصفحة الثالثة والأربعين هذه الخاطرة عن الضحك، وفيها أقول: إن «للضحك عدة أسباب، أكثرها يدور حول محور واحد هو الاغتباط بأنفسنا، إما بما نحسه من كمالها أو بسلامتنا من النقص الذي نكشفه عن سوانا …»
«ولما كان الإنسان لا يضحك إلا سرورًا برجحانه فهو يضحك في الأحوال التي رجحانه فيها معروف غير محدود؛ فالرجل المعروف المكانة ليس يضحك من تصرف الصعلوك الوضيع وإن كان مضحكًا في ذاته، إلا إذا كان يسخر من أهل طبقة ليباهي بطبقته أو من أهل بلاد ليباهي ببلاده.»
«وقد يضحك الإنسان من نفسه إذا كان الاستهزاء لا يناله وحده … فلما كان ملوك أوروبا وأمراؤها وسُوَّاسها وقوادها مجتمعين في سنة ١٨١٥ في فيينا وهم واثقون أنهم أحكموا الشبكة على بونابرت وقد جلسوا يصلحون ما أفسده ويعيدون ما درسه من معالم أوروبا؛ أُعلن في المجلس أن الرجل قد أفلت من جزيرة ألبا وأنه قد عاد ثانية إمبراطورًا على فرنسا، فوجموا هنيهة ثم ارتفعت لهم ضحكة طويلة عالية كأنما يقول كل منهم: إن هذا الكورسيكي لم يعبث بي وحدي، بل عبث بنا جميعًا.»
ويلي هذه الخاطرة عن الضحك خاطرة عن البكاء قلت فيها: إن الإنسان «يبكي لغير ما يضحك له: يبكي حين يظهر به النقص والعجز ظهورًا لا سبيل إلى المداجاة فيه، يبكي في المواضع التي يشعر لديها بالقهر التام ويتحقق له تجرده من الحول والقوة حيالها.»
«في تلك المواضع يقول المسلم متمثلًا: لا حول ولا قوة إلا بالله. كأنه لا يريد أن يكون ضعيفًا إلا أمام الله الذي يتساوى الناس عزيزهم وذليلهم في الضعف أمام حوله وطوله، والأطفال المستضعفون أكثر الناس بكاء لأنهم أقلهم اقتدارًا … على أن عدم البكاء لا يفيد في أكثر الأحيان القدرة على دفع المصاب، فإن من أصحاب المظاهر والأبهة من يترفع عن البكاء ويتكلف الجلد والسكون حتى في الفجائع الفادحة كأنهم يأبون الإقرار بالانقهار على كل حال.»
الضحك والبكاء نقيضان
في هذه الخاطرة حسبت أن الضحك والبكاء نقيضان، وأن الإنسان يبكي لغير ما يضحك له، ومدار الضحك والبكاء معًا على الغبطة بالنفس أو نقيضها، فإذا اغتبط الإنسان بنفسه ضحك، وإذا شعر بالمهانة والنقص بكى.
وليست هذه المقابلة بالصحيحة في جميع نواحيها؛ إذ نحن لا يضحكنا كل شيء لا يبكينا، وقد يكون الشيء مضحكًا ومبكيًا كما يقول أبو الطيب:
والأصح أن الضحك لغةٌ تعبر عن كثير من الحالات كما قدمنا في الفصل السابق، وليس من اللازم أن يقابله البكاء في كل حالة، وقد قال الشاعر بيرون وغيره: «إنني أضحك لكي لا أبكي.» كأنما يقولون إن الضحك بدل من البكاء في بعض الأحوال، ويشبه هذا من بعيد قولنا في تلك الخاطرة إن بعض الناس يتكلفون الجلد والسكون حتى في الفجائع الفادحة، كأنهم يأبون الإقرار بالانقهار.
ونقول إنه شبه بعيد؛ لأن الذي يضحك «لكي لا يبكي» يضحك حقًّا ولا يتكلف الجلد، بل يقدر على الضحك لأنه يكشف من أسبابه ما ليس يكشفه غيره، أو لأنه يوسع النظر إلى المسألة ولا يحصرها في أضيق حدودها، فهو ضاحك لأسباب أوسع من الأسباب التي تُبكي غيره، وإن لم تتناقض هذه الأسباب وتلك الأسباب.
وقد كان آخر ما دونته في خلاصة اليومية عن الضحك كلمة في الصفحة السادسة والثمانين، فحواها أن قوة الاستحضار في الذهن لها شأن في الشعور بالمضحكات وغيرها، «فمن أهل هذا الخاطر السريع من تبلغ به قوة الاستحضار أن يستحضر أمرًا مضى فيضحك أو يبكي كما كان الأمر قد وقع له فعلًا في ذلك الحين …»
وفي ختام هذه الخاطرة أقول: إن «الرحمة ليست إذن حيلة اخترعها الضعفاء لمصلحتهم كما افترض النيتشيون، ولكنها طبيعة من طبائع الإنسان، والفرق فيها بينه وبين الحيوان فرق بين دماغ ودماغ، فذهن الإنسان لارتقاء تركيبه يأخذ الشبيه بالشبيه، وذلك ما لم يصل إليه الحيوان.»
وفحوى هذه الآراء في مجموعها أن الشعور بالمضحكات والمحزنات ملكة إنسانية وُجِدت في الإنسان ولم توجد في الحيوانات؛ لأنه يدرك المشابهة ويحس بالتعاطف ويستدعي الخواطر من قريب أو بعيد.
ملكة السخرية
ولست أحصي تطور هذه الآراء خلال الفترة التي تلت طبع «خلاصة اليومية» سنة ١٩١٢.
ولم أقصد خلال هذه الفترة إلى كتابة شيء أبسط فيه القول عن أسباب الضحك في عمومه، وإنما كنت أعود على الموضوع كلما استدعاه التعقيب على مسألة تمُتُّ إليه، كسخرية أبي العلاء والصور الفكاهية «في المرآة» من تأليف الأستاذ عبد العزيز البشري رحمه الله.
فابتدأت القول عن ملكة السَّخْر عند المعري سائلًا: لمَ يسخر الإنسان؟
ثم أجبت قائلًا: «إنه ينظر إلى مواطن الكذب من دعاوى الناس فيبتسم، وينظر إلى لجاجهم في الطمع وإعناتهم أنفسهم في غير طائل فيبتسم، وهذا هو العبث، وذاك هو الغرور.»
«فالعبث والغرور بابان من أبواب السخر، بل هما جماع أبوابه كافة، وكل ما أضحك من أعمال الناس فإنما هو لون من ألوان الغرور أو ضرب من ضروب العبث، وكثيرًا ما يلتقيان، فإن الغرور هو تجاوز الإنسان قدره، والعبث هو السعي في غير جدوى، ولا يكون هذا في أكثر الأحيان إلا عن اغترارٍ من المرء بنفسه وتعدٍّ منه لطوره.»
«والناس يعلمون ذلك بالبداهة، فهم يعلمون أن الغرور والعبث مادة الضحك وجرثومته التي يتفرع منها كل مضحك من الأعمال والأقوال، ويجربون ذلك كل يوم في مداعباتهم لصغارهم وامتحانهم لقوة أطفالهم، يقبض الرجل كفه لابنه الصغير على غير شيء، فيأخذه بأن يفتحها ويعده بكل ما يجد فيها إذا هو قوي على فتحها، فيجاهد الطفل في ذلك ما يجاهد: يقوم ويقعد، ويشتد ويحتد، ويلتوي ويعتدل، ويرفع أصبعًا بعد أصبع، فإذا الذي رفعه قد عاد فأطبق مرة أخرى، ويعييه الجهد فيركن إلى الملق والخديعة، وهو في كل هذا يحسب نفسه قادرًا على أن يغلب أباه عنوة وقسرًا أو يغلبه خديعة ومكرًا، وهذا هو الغرور.»
«ثم تلين تلك القبضة فيفتحها فإذا هي خاوية وإذا بذلك العناء الذي أجهده وبهره قد ذهب سدى، وهذا هو العبث، ومن هذا وذاك تضحكنا الطفولة وتعجبنا غرارتها وكبرياؤها ونتخذها تسلية ولهوًا، ولكن هل يضحكنا من الكبار شيء غير هذا؟ وهل مهازل الحياة ومساخر التمثيل إلا صورة مكبرة من هذه اللعبة الصبيانية وسذاجة مركَّبة من هذه السذاجة البسيطة.»
وإذا كان هذا معدن السخر وأصل الدعابة، فما أجدر رجلًا كصاحب رسالة الغفران أن يكون ساخرًا! بل ما أجدره ألا يكون له عمل في الحياة غير السخر! إنه رجل استخف بالحياة جمعاء، وهانت عليه الدنيا بما وسعت، فما من دعوى من دعاوى الناس تتنزه عن الغرور في اعتقاده، وما من غاية من غايات الناس لا تنتهي في تقديره إلى عبث فارغ وخديعة ظاهرة؛ كلهم مغرور وكلهم عابث متعلق من الأقدار بمثل تلك القبضة التي يعييه أن يفض أصبعًا منها … حتى إذا فضها أو خطر في وهمه أنه فضها لم يجد ثَمَّ شيئًا، أو وجدها ملأى بما يشبه الفراغ سخية بما ليس يختلف عن الحرمان … وكلهم محتقب عدة لا تنجع ومتقلد سلاح لا يصيب:
لا، بل هَبْهُ وصل بسيفه الصارم وقاتل وظفر وسلم، فماذا عساه يغنم؟ ألعله الثناء على الأفواه؟ أو لعله عرش مملكة؟ … إن كان ذاك — وقلَّ أن يكون — فلعمر أبي العلاء ما قصارى الثناء والسمعة؟
وما العروش والدول؟ وما الملوك والأقيال؟ فلكم غبر على هذه الأرض من جيل وزال من مجد أثيل وملك عريض طويل.
… وهل نسينا أن القبر يضحك من تزاحم الأضداد؟ فهكذا تتشابه الأمور فإذا الهزل كالجد وإذا الحلم كالعيان!
لا، بل هو كل شيء ككل شيء، هو العلم كالجهل والحق كالباطل والهدى كالضلال.
فعلامَ إذن يزعج الإنسان نفسه؟ وبأي شيء يحفل؟ وما اجتهاده في التدبير والتقدير وتغيير ما كان بما سيكون؟ إلا أننا لنسعد ونشقى عبثًا، ونسعى ونسكن عبثًا، ونرجو ونقنط عبثًا، ونبكي ونضحك عبثًا، ومن وراء ذلك كله هاتف يهتف بنا في غير رفق ولا رحمة:
مرد النكتة
إن مرد النكتة إلى خلل في القياس المنطقي بإهدار إحدى مقدماته أو تزييفها، أو بوصلها بحكم التورية ونحوها بما لا تتصل به في حكم المنطق المستقيم. فتخرج النتيجة على غير ما يؤدي إليه العقل لو استقامت مقدمات القياس … وهذا الذي يبعث العجب ويثير الضحك والطرب، فالنكتة بهذا ضرب من أحلى ضروب البديع، ولا يعزب عنك كذلك أن النكتة إذا لم تكن محكمة التلفيق متقنة التزييف بحيث يحتاج في إدراكها إلى فطنة ودقة فهم؛ خرجت باردة مليخة لا طعم لها في مساغ الكلام.
وكان تعقيبي على مقدمة الأستاذ البشري أنه على صواب في جزء واحد من أجزاء هذا التعريف، وهو الذي يقول فيه إن الخلل في القياس المنطقي مضحك وإن التزييف والتلفيق داعية من دواعي السخرية، أما الجزء الذي نراه على غير الصواب فيه فهو قوله إن النكتة هي التي تشتمل على الخلل أو على التلفيق والتزييف؛ لأن اشتمال النكتة على خلل في القياس يسقطها ويلحقها بالهذر والمجانة، والذي نظنه نحن أن النكتة تضحكنا لأنها تفضح الخلل وتهتك الدعوى الملفقة وتطلعنا على سخافة العقول التي لا يستقيم تفكيرها ولا تطرد حجتها، ومن ثم تكون النكتة هي المنطق الصحيح وهي الحجة المفحمة وهي البرهان الذي يرجح بالبراهين في معرض الجدال.
«… وقد يسأل سائل: ولماذا تضحكنا النكتة السريعة ولا يضحكنا القياس المفصل والفضيحة المبسوطة؟! فجواب هذا قد يوجد في تعليل هربرت سبنسر للضحك وهو خير تعليل وقفنا عليه في كتب المعاصرين، ولا نقصد هنا إلا تعليل حركة الضحك الجسدية لا تعليل أسباب الضحك؛ فإن السبب الذي يذكره برجسون مثلًا رجيح صالح لتفسير كثير من علل المضحكات، ونعني رأيه الذي يذهب فيه إلى أننا نضحك من كل تصرف في الإنسان يشبه التصرف الآلي الخالي من التفكير، ونحن مع هذا نقول إن التماس علة واحدة لجميع الضحك خطأ لا يؤدي إلى رأي صائب؛ لأن الضحك وإن كان اسمه واحدًا إلا أنه ليس بظاهرة واحدة حتى يكون له سبب واحد.»
«ونعود إلى رأي سبنسر بعد هذا الاستطراد فنقول: إن الضحك عنده ينشأ من تحول الإحساس فجأة من الأعصاب إلى العضلات، فإن من المقرر في النفسيات أن الإحساس إذا اشتد وألحف على الأعصاب تجاوزها إلى العضلات فظهر عليها في حركة عنيفة أو رقيقة على حسب قوته واشتداده، فإذا حبس الإحساس في طريقه فجأة تحول بغير إرادتنا من الأعصاب إلى أسهل العضلات حركة وأسرعها تأثرًا وهي عضلات الوجه والشفتين ثم عضلات العنق والرئتين، فتتحرك بالابتسام أو بالضحك أو بالقهقهة أو بالوقوف والاختلاج عند من يغلبه الضحك وتهتز له عضلات الجسم كله. والدليل على ذلك أننا نضحك إذا غلبنا الإحساس وتحول من العصب إلى العضل أيًّا كان الموحي به والباعث عليه، فنضحك من الغيظ والألم ونضحك الضحكة الهستيرية التي يفرج بها المكروب عن أعصابه المكظومة كأنما يخفف عنها بنقل شيء من ضغط الإحساس عليها إلى العضلات، فالضحك هو الانتقال فجأة من الإحساس إلى الحركة العضلية، والنكتة السريعة تضحكنا لأنها تفاجئ التفكير بحالة غير مرتقبة وتعجله عن انتظار النتيجة في طريقها الممهد المألوف. ومن الأمثلة التي أوردها سبنسر للمضحكات منظر جدي يظهر على المسرح فجأة بين حبيبين يتناجيان … فإحساس النظارة هنا يمشي في طريق الغزل وينتظر أن يمشي فيه إلى نهايته المناسبة له ويوجه الذهن إلى هذه الناحية، ولكنه لا يلبث أن يلمح الجدي على المسرح حتى يحتبس في موضعه ويتحول على غير انتظار إلى ناحية أخرى، فيندفع الإحساس من الأعصاب إلى العضلات وتحدث الحركة التي نسميها الضحك حين يختلج بها الفم والرئتان … وفي كل نكتة شيء من هذا التحول الذي مثَّل له سبنسر، ينجم عن المفاجأة بما ليس في الحسبان ويتلخص في إظهار نتيجة غير النتيجة التي تبدر إلى الذهن لأول نظرة من الشيء المضحوك منه.»
«فالنكتة الصادقة هي الحجة التي تظهر لنا فساد الأقيسة المختلفة واضطراب النتيجة التي تأتي في غير موضعها وتلتوي على مقدماتها، وهذه هي النكات التي تفيد النفس لأنها تروِّح عنها، وتفيد الذهن لأنها ضرب من المرانة على التفكير السريع وشحذ للفهم وتقويم له على المنطق السديد. ولَنُكتة واحدة يفهمها الطالب حق الفهم خير من مائة درس في المنطق يقرؤها ويعيدها وهو لا يحسن القياس ولا يفقه الدليل.»
«وكُتاب الأوصاف المضحكة يعتمدون في نكاتهم على ملكات كثيرة قد يناقض بعضها بعضًا، وقد لا يجتمع منها ملكتان لكاتب واحد، فمنهم من يعتمد على ملكة السخر وهو يحتاج إلى الذكاء وإدراك الفروق، وقد يصحبه شيء من الجد والمرارة، ومنهم من يعتمد على الدعابة وهي تحتاج إلى مرح في الطبيعة مرجعه في الغالب إلى المزاج لا إلى الدرس والتعليم، ومنهم من يعتمد على الهزل وهو خلق ينشأ عن جهل بتقدير عظائم الأشياء، وقد يستحل الضحك في جلائل الخطوب، ومنهم من يعتمد على العطف وهو يرضي الإنسان عن نقائص الناس ويضحكه كما يرضى الوالد الشفيق عن جهل وليده الصغير، وخير هذه الملكات وأعلاها ملكة السخر يمازجها العطف، وهي عبقرية لا تقل في اقتدارها على تجميل الحياة وتثقيف النفوس والأذواق عن عبقرية الفلسفة وعبقرية الشعر والتلحين.»
ووقفت بالبحث حيث وقفت في الكلام على النكتة ورأي سبنسر وبرجسون فيها، وأعني أنني وقفت في البحث كتابة ولم أقف به عناية بالموضوع واطلاعًا على آراء خبرائه وذوي الاختصاص بفنونه، وكنت كلما توسعت في استيعاب آراء الخبراء وتواريخ هذه البحوث من أوائلها بدا لي أن فهم «المضحك» كما فهمته لأول الأمر مقابلًا للمبكي أو المحزن بداءة طبيعية لهذه البحوث، فإن الفلاسفة الذين تكلموا عنه قبل أربعة وعشرين قرنًا إنما تحركوا من هذه النقطة، فوضعوا التراجيدية أو المأساة مقابلة للكوميدية أو المهزلة، وضموا الجد والبكاء جميعًا في تعريف المأساة كما ضموا الهزل والعبث جميعًا في تعريف المهزلة، وكذلك فعل أفلاطون وفعل أرسطو من بعد، واقتدى بهما كل من تصدى لتحليل فنون المسرح والشعر عامة مع قواعد الخطابة والبلاغة في جميع هذه الأغراض.
يبدأ فهم المضحكات على هذا النحو الذي تغلب عليه المقابلة الاسمية بين الضحك والبكاء، ثم يتفرع الضحك ويتشعب وتلوح منه الأفانين التي لا يقابلها البكاء في كل حالة، بل يدخل فيها ويحسب منها في بعض الحالات.
الفيلسوف الباكي والفيلسوف الضاحك
وقبل أن نأخذ في تلخيص آراء أفلاطون وأرسطو لا ننسى من السابقين لهما في تاريخ الفلسفة اليونانية اسمين متناقضين كان كلاهما مادة من مواد الضحك وشاهدًا من الشواهد التي يسوقها المعنيون بتعريفاته وتقسيماته، وهما الفيلسوف هيرقليطس المولود في القرن السادس قبل الميلاد، والفيلسوف ديمقريطس المولود في القرن الذي يليه.
فالأول كان يلقب بالفيلسوف الباكي؛ لأنه كما زعموا كان دائم البكاء لا ترقأ له عين ولا يبتسم له ثغر، ولا يزال ناعيًا على قومه سوء ما صنعوا وما يصنعون في أمورهم العامة والخاصة.
والثاني كان يلَقَّب بالفيلسوف الضاحك؛ لأنه كما زعموا كان دائم الضحك لا يكف عن الابتسام أو القهقهة ولا يكرثه خطب من الخطوب جلَّ أو هان.
وقد قال جوفنان الشاعر اللاتيني الساخر إن العجب لهيرقليطس أعظم من العجب لزميله، فإن دوام الضحك — صحيحًا أو متكلفًا — لا يشق على أحد يريده، وأما العجب كله فمن ذلك الفيلسوف الذي يجد في عينيه معينًا لا ينضب من الدموع، ويحزن جدًّا أو يتكلف الحزن تمثيلًا ولهوًا حيثما وجد مع الناس.
والقصة كلها «مزدحمة» بشواهد الضحك ومعارض البحث في حقائقه وأكاذيبه.
فمن من الرجلين يا ترى أدعى إلى الضحك عند الناظرين إليه؟
أنضحك من دائم البكاء أم نضحك من دائم الابتسام والقهقهة؟
يخيل إلى الأكثرين أن الرجل الذي لا ينقطع بكاؤه أدعى إلى الضحك من الرجل الذي لا ينقطع ضحكه وابتسامه، وأنهما — بعد — موضوع صالح جدًّا للدعابة والسخرية.
وأول ما يرد على الذهن من أسباب ذلك أن الضحك الدائم والبكاء الدائم كلاهما غير معقول.
وهنا نذكر أن الإنسان حيوان ناطق وحيوان ضاحك، وأنه استأثر بالنطق وبالضحك؛ لأنهما مقياسان مشتركان للعقل وللمعقول … وهنا نذكر أيضًا أن النكتة وسيلة لإظهار الخلل المنطقي وأن كل الفرق بينهما أن النكتة تفاجئنا بإظهار الخلل وأن الدليل المنطقي يسترسل في إظهاره بغير مفاجأة.
ثم يرد على الذهن أن الضحك الدائم والبكاء الدائم كلاهما إفراط وخروج من الجد إلى ما عداه، وما عدا الجد يلتقي بالضحك ولو في بعض الطريق.
وغني عن القول أن الفيلسوفين لم يكونا على الصفة التي تُفهَم من كلمة الفيلسوف الباكي والفيلسوف الضاحك، وأنهما تعرضا لهذه الزيادة في الوصف؛ لأنهما مبالغان أراد الناس أن يكشفا هذه المبالغة منهما فوصلا بها إلى غايتها المستحيلة، وصنعا لهما بذلك الوصف صورة هزلية تشبه الصور التي يتعمد فيها الرسامون الفكاهيون إبراز الملامح الشاذة بتكبيرها والخروج بها عن جميع مألوفاتها.
ولقد كان هيرقليطس يترجم عن سخطه أحيانًا بحركات صبيانية ليست من البكاء ولا الحزن في شيء، فكان يلعب مع أطفال ليسأله الشيوخ فيجيبهم بأن الأطفال أعقل منهم في تدبير اللعب؛ لأنهم لم يصنعوا في ألاعيبهم ما صنعه الشيوخ المحنكون في أحق الأمور بالجد والرَّصانة.
وكان ديمقريطس يسيح في الأرض من بلاده إلى مصر والحبشة وفارس والهند وكل قطر معمور، وكانت الدنيا على أيامه قائمة قاعدة تهون فيها مصائب الآحاد إلى جانب المصائب التي تحيق بالدول والشعوب، فكان يضحك من أولئك الذين يستسلمون للأحزان ولا يعتبرون بما حولهم من عادات الزمن وصروفه، حيث ارتحل وحيث أقام، وقيل من نوادر جرأته بالسخرية أنه اجترأ بها على «دارا» جبار الفرس وهو يسيح في بلاده؛ فإن هذا الجبار أحزنه أن تموت له جارية يحبها فوعده ديمقريطس بإحيائها بعد دفنها، وقال له إن الأمر لا يتطلب أكثر من كتابة ثلاثة أسماء على القبر فتعود الجارية إلى الحياة، وسأله «دارا» في لهفة: «وما تكون هذه الأسماء؟» فأجابه الفيلسوف وهو يصطنع الجد: «أسماء ثلاثة لم يفقدوا أحدًا من الأعزاء.»
وكان هذا هو العزاء …
ولا ريب أن البديهة الإنسانية كانت من قبيل الحديد الذي يفل الحديد، فهي التي لقي منها الفيلسوفان جزاءهما من جنس العمل: سخر كلاهما من قومه فأرسله قومه في التاريخ على ذلك «الكاريكاتور» بين ضاحك دائم الضحك، وباكٍ دائم البكاء.
وهذا أيضًا باب من أبواب المضحكات التي انطوت عليها قصة الفيلسوف: باب الصورة الهزلية أو الكاريكاتور.
ثم يجيء الشاعر الساخر جوفنال فيغمض باختياره عن هذه المبالغة؛ لأنها توافق «القافية» كما نقول في النكتة العربية، وما كان للشاعر الساخر أن يجد بين يديه هاتين الصورتين ثم يردهما إلى سواء الخلقة ليضيع منه المجال الصالح للتهكم على الموصوفين والواصفين.
فلسفة الضحك
على أن هذين الفيلسوفين المضحكين قد زودا فلسفة الضحك من سيرتهما ورسمهما بزاد لم تتزوده تلك الفلسفة من عقلين كبيرين كعقلي الفيلسوف أفلاطون وتلميذه الفيلسوف أرسطو، وهما أعظم فلاسفة اليونان، ولم يعرض لفلسفة الضحك بعدهما عقل أكبر من عقليهما إلى اليوم.
وكان خليقًا بأفلاطون وأرسطو أن ينفذا إلى جوهر الموضوع في فلسفة الضحك وأسبابه لو أنهما قصدا إلى الموضوع في صميمه، وأرادا أن يستوعبا الفروض والاحتمالات في أسباب الضحك وأنواع المضحكات، ولكنهما لم يقصدا هذا المقصد ولم يتكلما عنه إلا عَرَضًا في سياق البحث عن المدينة الفاضلة والبحث عن الشعر وأقسام الروايات الشعرية.
فأفلاطون ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في مدينته الفاضلة أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.
فالإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه، ولكنه لا يبالي أن يبكي وأن يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضًا عليه في رواية فاجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه ويغلب على نفسه في سبيل غيره.
والإنسان الكريم يأبى أن يفوه بالأضاحيك أو الخبائث المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.
وليس بالحسن على كل حال أن يكون في الجمهورية الفاضلة إنسان يغلب على وقاره ضحكًا أو بكاء بله الأناسي الذين يصورون الأرباب في عليين مغلوبين على هذه الصورة، ويقول أفلاطون: إن الإنسان الكريم لا يعرف الجد إلا بالهزل، وإنه من الحسن أن يشهد مناظر الهزل من العبيد والأُجراء المسخرين ولا ينغمس فيها بنفسه. وقد أثنى على المصريين لأنهم يعلِّمون الأبناء الموسيقى والرقص قيامًا بالشعائر الهيكلية، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة والقصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون، وقد كانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة الشعر ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار، ولكنهم يلبسونها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون.
ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حين يحاكون أولئك الجهلاء؛ ولكنهم إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان.
وأرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته عن أقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثًا خاصًّا يتبع فيه المسرحيات المضحكة من أصولها منذ كانت ضربًا من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعًا للإضحاك والتسلية؛ ولهذا جاءت في الترجمات العربية باسم الأهاجي والتهريجات، ولم يبتدعوا لها اسمًا يقابل اسم «الكوميدية» كما صنعنا في العصر الحديث؛ إذ سماها بعضهم بالمهزلة وبعضهم بالملهاة، وعربها بعضهم بلفظها اليوناني فسماها «الكوميدية».
إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفًا لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتناب التشويه.
وكلا الفيلسوفين قد تطرق إليه الخطأ من فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات.
وأفلاطون من أجل هذا ينزل بالمقلدين إلى الدرجة الثالثة، فيقول: إن الصورة الفضلى هي صنعة الله ثم يحكيها الصانع الخبير بالصناعة، ثم يأتي الشاعر فيحكي عمل هذا الصانع حكاية بعد حكاية.
ولم يلتفت أرسطو إلى منزلة الشعراء المقلدين إلا في سياق كلامه عن الأخلاق والاستطراد منه إلى أخلاق الهَجَّائين أو الذمامين، فلم يكن من همه أن ينشئ مدينة فاضلة يبيح المقام فيها لأناس ويحرمه على آخرين.
وليس في هذا الخطأ عيب على عقل الفيلسوفين الكبيرين؛ لأنهما بادئان في طريق لم يسبقهما إليها سابق من الخبراء أو غير الخبراء، ولكن العجيب منهما حقًّا أن يحسبا الفن تقليدًا أو محاكاة ولا يحسباه خلقًا وابتداعًا من الشاعر على التخصيص، ومع أن كلمة الشاعر تفيد معنى الصانع أو الخالق باللغة اليونانية.
ونقول: إن هذا عجيب من الفيلسوفين حقًّا؛ لأنهما كانا يستطيعان أن يعلما أن وصف كرسي في الشعر أصعب من عمل كرسي بصناعة النجارة، وأن النجار الذي يعمل ألف كرسي لا يستطيع أن ينظم بيتًا واحدًا من القصيدة التي تُنظَم في وصف أحد كراسيه، وهكذا يستطيع الرسام أن يصور كوبًا من الفخار ولا يستطيع الفخاري الذي يصنع الآنية الفخارية جميعًا أن يخرج صورة لكوب صغير منها.
وقد زاغ هذا الفهم الخاطئ بالفيلسوفين عن أسباب الضحك في تفصيلاتها؛ لأنهما التفتا إلى فكرة التقليد فجعلها أحدهما إسفافًا دون صناعة الصانع، وجعلها الآخر طلبًا للمعرفة يكاد أن يتساوى فيه المقلد ومن يشهد التقليد، ويسر بالنظر إليه، ولم ينظر كلاهما بعين الشاعر لينفذ إلى مواطن الضحك فيما يتحراه من الصور المضحكة ومن تنويع عرضها وتمثيلها.
لكنهما على هذا الخطأ الذي لا ينجو منه كل مبتدئ قد نجحا في التعريف بسبب الضحك نجاحًا غير قليل؛ لأنه كان أساسًا لما بناه التابعون كما كان أساسًا لنقد الناقدين.
فالقول بأننا نضحك من العمل لأنه ينم على جهل لم يبلغ درجة الإيذاء والإيلام، أو أننا نضحك من العمل لأنه يعرض لنا تشويهًا لم يبلغ هذه الدرجة؛ كلاهما قول يؤخذ به للمناقشة والتعقيب ولا يرفض كله جملة واحدة في تعريف من تعريفات المحدثين.
وكل ما نعترض به على التعريفين أن الإنسان قد يتبلد شعوره عن الألم والضحك في وقت واحد، فليس كل إنسان يرى التشويه ولا يؤلمه يضحك منه؛ لأنه قد يكون بليدًا يخفى عليه التشويه والألم في آنٍ.
وإنما الخلو من الألم شرط لكل استمتاع بشيء من الأشياء حتى ما كان من قبيل المتعة المادية؛ إذ كان الألم على الأقل صارفًا للشعور عن سبيل المتعة، إن لم يكن مناقضًا للشيء المضحك أو للشيء الجميل أو للشيء الجليل.
ونضرب المثل لذلك بإنسان مشوه ينظر إليه صاحب الإحساس المرهف فيدرك ما يعانيه، وينظر إليه الطفل الغر أو الرجل الجلف فيهزأ به أو يولع به للضحك منه وإضحاك الناس عليه.
فلا يجوز أن تفهم من ذلك أن الرجل الحساس غير صالح للضحك وغير خبير بالمضحكات؛ لأنه قد يحس منها ما يجهله الأطفال الأغرار والرجال الأجلاف، بل يجوز أن نقول إن الطفل الغر والرجل الجلف لا يعرفان ما يضحك ولا يعرفان ما يؤلم في وقت واحد.
•••
وندر من فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه في حكمة جديرًا بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي ولم يبحثوا بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيدية والكوميدية مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وشعائر الدين ومحافل الأعياد الوثنية.
فيوسف ألبو فيلسوف إسرائيلي ممن درسوا فلسفة الأندلس الإسلامية واقتبس منها في كتابه عن المبادئ والأصول، وتكلم عن الضحك لأنه مذكور في كتب «التوراة» ومنسوب إلى الأنبياء ومنهم إبراهيم الخليل.
قال: «الضحك — وبالعبرية سحوق — كلمة مرادفة لكلمات في معناها، وتدل على الفرح كما جاء عن إبراهيم أنه خر على وجهه وضحك، ومعنى ذلك أنه كان فرحًا بما سمع.»
«وقد يدل الضحك على السخرية والاستهزاء كما يقول القائل: إنني ضحكة للجار، وربما امتزج معنى الضحك والسخرية كما جاء أن الذي يستوي على السماء — الله — يهزأ بهم؛ إذ كان الضحك أحيانًا دليلًا على الشعور باحتقار من يستحق الاحتقار، وهكذا يشعر من يلحظ نقصًا في كلام أحد أو عمله ويشعر بتفوقه عليه لأنه لا يقع في مثل ذلك النقص، فإنما يتولاه الضحك؛ لأنه يرى الآخر يقول أو يعمل ما لا يجمل بالإنسان ووقاره.»
«وعلى هذا النحو ينسب الضحك إلى (الله) في التعبير المتقدم، وسببه أنه يسمع القائلين يقولون: هلموا نمزق شملهم. وهي كلمات لا يجمل بالبشر أن ينبسوا بها. على حد قول الربانيين إن سبب المشابهة بين نشيد أبسالوم وأخبار يأجوج ومأجوج أنه لو سأل سائل: هل من الممكن أن يتمرد العبد على مولاه؟ لكان الجواب: وهل من الممكن أن يتمرد الولد على أبيه؟ وقد حدث هذا فمن الممكن إذن أن يحدث ذاك.»
«وواضح من ثَمَّ أن ذلك المقال مما لا يحسن بإنسان أن يقوله وإلا كان أهلًا للازدراء والسخرية، وبهذا المعنى ينسب الضحك إلى الإله وإلى الإنسان.»
«ويضحك الإنسان أحيانًا إذ يخدع غيره في أمر كان ينبغي أن يحذره المخدوع وينتبه إليه، ومن ثم يرجع سبب الضحك في جميع الحالات إلى الشعور بالتفوق في نفس الضاحك حين يرى غيره يقع في حماقة وأمر ينبئ عن جهالة. ويقول العلماء إن الضحك خاصة إنسانية كما يقولون إن أسبابه مجهولة، ويعنون بذلك أننا لا نعلم لماذا يكون الضحك مصحوبًا بحركات جسدية معينة، ولماذا يحدث الضحك عند لمس الإبط أو بعض المواضع الحساسة من الجسد، على أن حدوث الضحك من السخرية معروف جد المعرفة كما بينَّا في شرح الآية.»
وظل هذا الرأي مأخوذًا به في تفسير الضحك إلى أوائل العصور الحديثة، وهو على التقريب رأي الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الذي يرجع بكل خليقة أو عاطفة ترضي الإنسان إلى شعوره بالقوة والامتياز والرجحان، ويرى أن الأخلاق الإنسانية المحمودة تدل جميعها على القوة في صورة من صورها؛ فالكرم والشجاعة والصبر والعزة والفضائل جميعها لا تنال حمد الإنسان ما لم تكن مقرونة بالقدرة والدلالة عليها، وتتساوى الأخلاق النبيلة والعواطف الرفيعة في هذه الخصلة، بل تتساوى فيها الأعمال الإرادية وغير الإرادية كالضحك في صورته العقلية وصورته الجسدية، فإنما يضحك الضاحك؛ لأنه يحس من نفسه انتصارًا مفاجئًا أو مزية مفاجئة، ولا بد من شعور النصر أو الامتياز فيما يضحك الإنسان ويرضيه.
وهذا هو الرأي الذي توافقت عليه أقوال المتكلمين عن الضحك من عصر الفلسفة اليونانية إلى العصر الحديث، ولا حاجة إلى انتظار التعقيب الأخير على جملة الآراء لإظهار الخطأ في هذا التعليل الذي يصح في جانب واحد من المضحكات ولا يصح في جميع جوانبها، فإن الإنسان قد يضحك أحيانًا حين يشعر أنه قد انخدع كما يضحك من غفلة غيره حين تجوز عليه الخديعة البينة، وليس في هذا دليلٌ على الشعور برجحانه، بل هو دليل على شعور برجحان غيره عليه.
والمثل القريب على ذلك ما تقدم عن الضحك «الإجماعي» في مؤتمر الساسة الذين جلسوا لتضييق الخناق على نابليون ثم جاءهم الخبر فجأة بانطلاقه من جزيرة ألبا وعودته إلى فرنسا، فهذا موقف مغلوبين لا موقف غالبين، ولا يستقيم تفسيره بشعور الرجحان أو الانتصار من جانب الضاحكين.
وكل ما يثبت في جميع الحالات أن هناك مفاجأة وأن المفاجأة تخالف الحالة المطردة أو الاتجاه الذي يجري فيه الشعور، وبهذا يسهل تفسير الضحك ممن جلسوا ينظمون القارة الأوروبية بعد اعتقال نابليون كأنما هذا الاعتقال أمر مفروغ منه ثم تقع المفاجأة بما يخالف الحسبان.
إفراط المحدثين
وإذا كانت الشكوى من الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فقد يكون الإفراط في هذا البحث شكوى القارئ من الثقافة الحديثة؛ لأنها توشك أن تتطلب منه تخصصًا ثقافيًّا مقصورًا عليها، وقد أثبت برجسون نحو أربعين مرجعًا من الكتب والأصول ألمَّ بها في رسالته عن الضحك، ويمكن أن يزاد عليها ثلاثة أضعافها من المراجع المتفرقة عن فلسفة المضحكات عامة أو عن موضوعات الفكاهة والنكتة في مزاج هذه الأمة أو تلك أو في آدابها ومأثوراتها.
ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك إلى باعثين جديدين في العصور الحديثة: أحدهما نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة ولا سيما التمثيل، وكأنما كان اهتمام المحدثين بالتمثيل ورواياته وأدواره تجديدًا لاهتمام أفلاطون وأرسطو بالتراجيدية والكوميدية، وملكات الشعراء الذين يكتبون في المحزنات والمضحكات، والملاحم الكبرى عن الأرباب والعبادات وما استطردت إليه من موضوعات لا علاقة لها بالدين، وقد تناقضه وتخالف الأدب الواجب للمعبودات وشعائر العبادة. فإن عودة الأدب المسرحي في العصور الحديثة كانت فاتحة البحوث الفنية والفلسفية في الموضوع من جميع جوانبه وأطرافه، فكان البحث فيه عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقرونًا بالبحث عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وفي الكائنات التي يقدِّسها ويرتفع إليها بالإجلال والابتهال، واستدعى تمثيل هذه الكائنات شعرًا ونحتًا وتصويرًا أن توضع لها الحدود والتعريفات وتقام الفواصل بينها وبين ما يلتبس بها من المتشابهات أو المتناقضات.
هذا أحد الباعثَين الجديدَين إلى إفراط المحدثين في الكلام على الضحك وتعليل أسبابه وتطبيقه على الفنون المتجددة في الزمن الحديث.
أما الباعث الآخر فهو شيوع البحث في التطور ومذهب النشوء … فإن هذا المذهب يفسر تعبيرات الإنسان عن خوالجه وعواطفه بما يوافق طبيعته الحيوانية، ويتقصى وجوه الشبه ووجوه الاختلاف بينه وبين سائر الأحياء في هذه التعبيرات، ويراقب ملامحه ليربط بينها وبين وظائفه الجسدية واستعداد هذه الوظائف لتلبية العوامل الداخلية والعوامل الخارجية.
ولا يسع الإنسان إلا أن يبتسم لتناقض النتائج التي وصل إليها أقطاب هذا المذهب بعد بحثهم في ظاهرة الضحك والفكاهة، فإن العالمين العظيمين اللذين توافيا — بغير التقاء بينهما — إلى تحقيق ظواهره وشواهده قد ذهبا إلى الطرفين المتقابلين في تعليل الضحك والفكاهة.
إن الجنود الألمان أثناء حصار باريس كانوا يندفعون إلى الضحك لكل تفاهة من تفاهات النكتة بعد طول التعرض للخطر الشديد. ويقول مستر هنتون من سان فرنسسكو: إنه كان يتناوبه الصِّياح والضحك وهو على التلال عند الباب الذهبي معرَّضٌ لأفدح الأخطار. وهكذا يشاهد على الأطفال الصغار وهم يهمون بالبكاء أن بكاءهم يتحول إلى ضحك حين يطرأ أمامهم طارئ غير متوقع، مما يفهم منه أن الضحك يفيدهم في تصريف فيض الجهد العصبي الذي يحسونه على تلك الحال.
وينظر داروين إلى أسلوب المجاز حيث يقول القائل: إن الخيال دغدغته فكرة مضحكة، فيلاحظ أن دغدغة الخيال مماثلة لدغدغة الجسد ويتخذ المثل من ضحك الأطفال و«تشنج» أجسامهم الصغيرة بفعل الدغدعة ثم يُلاحظ أن القردة العليا تبدر منها أصوات مرددة في مثل هذه الحالة، ويعود فيفرق بين الضحك من فكرة مازحة والضحك من أثر الدغدغة إلا في أمر واحد هو أن يكون الفكر في حالة راضية، فكما أن الطفل يصيح ولا يضحك إذا دغدغه رجل غريب واشتدت عليه حركة الدغدغة، كذلك ينبغي أن يكون الفكر بعيدًا من الجفوة والشعور بالاكتراث والاهتمام، وتحدث الدغدغة الجسدية في المواضع التي لا تتعرض كثيرًا للمس، ولا يكون موضع الدغدغة معروفًا قبلها، وكذلك تحدث الدغدغة الفكرية من خاطر غير معهود ولا معروف قبل ذلك، ويبدو أن عنصر الطروء أو المنافرة الذي يجري في سياق التفكير هو العنصر القوي في تكوين المضحكات.
وظاهر من دراسة داروين كلها للتعبيرات الإنسانية والحيوانية أنه يتجه بمراقبته إلى العوارض الجسدية التي تعم جميع بني الإنسان وقد تعم بعض الحيوان في بعض الأحوال، والعوارض الجسدية أدق لديه من العوارض الأخرى التي لا يسهل ضبطها وتعميمها، ولا يسهل كذلك تعليلها بالانفعالات المشتركة بين الناس من جانب وبين الناس والأحياء العليا من الجانب الآخر. وهو على خلاف زميله في مذهب النشوء والتطور — ألفرد ولاس — موكل بالتعميم والأشباه الشائعة دون تلك الملكة الخصوصية التي يرى صاحبه أنها مَزيَّة محدودة لا يفسرها تنازع البقاء كأنها ملكة الإدراك الرياضي والبداهة الموسيقية وما إليها، فبينما يهبط داروين إلى عوارض الضحك التي يقل فيها التفكير كضحك الأطفال والعصابيين والقبائل الفطرية؛ يرتفع ولاس إلى ملكة الفكاهة العالية التي يمتاز بها آحاد من النوابغ قلما يزيد عددهم على عدد العباقرة الذين يكشفون خفايا الحقائق الرياضية ودقائق النسب الموسيقية، ويعلمون الناس كيف يفهمونها ويدركونها بعقولهم وبصائرهم فلا يتيسر للكثيرين أن يجاروهم على فهمها وإدراكها.
والنزعة الوجدانية هي سر الاختلاف في النظرة إلى المضحكات بين العالمين الكبيرين؛ فداروين يبحث عن وحدة الأنواع الحيوانية فيهبط إلى مواطن الشبه بين أرقى الأحياء وأقل الناس، ويعقد الصلة بين هؤلاء وهؤلاء بوحدة العوارض الجسدية التي تصاحب الضحك من تأثير الدغدغة أو تأثير المشاهدات الحسية. ويعنيه أن يراقب عوارض الدغدغة في القردة التي تتأثر بعض المواضع في أجسامها باللمس المفاجئ على غير المألوف.
وكل هذا لا يفسر الملكة التي يعنيها زميله ولاس ويعلو بها إلى الطبقة التي ينفرد بها الآدميون، بل ينفرد بها آحاد من الآدميين؛ لأن نزعته الوجدانية تتجه إلى الإيمان بالروح الإلهي ومزاياه التي يفيضها على الأرواح الإنسانية كلما تهيأت لها بهداية السماء.
ولم يزعم داروين أنه فسر الضحك كله واستوعب الكلام في أسرار المضحكات على اختلافها، وإنما أراد منها ما تثبته التعبيرات المحسوسة وتطرد فيه الملاحظة اطرادًا يقبل التعميم.
ويقال هذا أيضًا عن الفلاسفة الذين درسوا الضحك من ناحية علم الذوق أو علم الجمال، فإنهم تناولوه من وجهة المقابلة بينه وبين الأحاسيس الجميلة أو الجليلة أو المقدسة ولم يستوعبوا أصوله وتفريعاته في دراسة مستقلة تحيط به في معانيه الفنية ومعانيه الحيوية.
وليس من اليسير أن نستقصي هنا كل ما قيل في تعريفات الضحك وأسبابه، فإن الجمع الذي يدل على طائفة قليلة من نماذج التفكير أجدى من إحصاء التفصيلات التي تتبعثر بغير رابطة بينها تدور على محور معلوم.
ونرى أننا قد نستغني عن تتبع الآراء المبعثرة في تعليل الضحك إذا اجتزأنا منها بتلخيص ثلاثة آراء نموذجية، هي رأي سبنسر العالم الإنجليزي، وبرجسون الفيلسوف الفرنسي، وفرويد الطبيب النمسوي صاحب مذهب النفسانيات الحديث.
فرأي سبنسر رأي عالم نشوئي يفصِّل رأي داروين وينقحه ويزيد عليه من الوجهة العلمية الطبيعية.
وبرجسون فيلسوف ينظر إلى الوجهة الاجتماعية ولا يهمل الوجهة الفنية، وإن كان يوجزها ولا يستقصيها.
وفرويد ينظر إلى الدخائل النفسية مع ارتباطها بالمجتمع وعلامات الصحة والمرض في الآحاد.
وقَلَّ أن يوجد رأي في الضحك لا يلتقي بهذه الآراء في جزء من الأجزاء.