الضحك في الكتب الدينية
في القرآن الكريم
لا يتقابل شعوران من طرفي التعظيم والاستخفاف كما يتقابل الشعور بالمقدَّس والشعور بالمضحِك في النفس البشرية.
ولا يوجد لنا مرجع نعتمد عليه في هذه المقابلة الواقعية أَوْلَى بالرجوع إليه من الكتب المقدسة، ولا سيما الكتب التي تسوق العبرة من القصص والأمثال وتروي الأخبار عن الضحك والضاحكين من مختلف الطبائع والأمزجة وفي مختلف المناسبات.
وهذه الأخبار متكررة في القرآن الكريم، وكلها شاهد محكم للعالم النفساني يركن إليه في تفسيره لأطوار النفس البشرية، حيث تبرز حقيقة الضحك مع سياق الكلام عنه في كلام مقدس؛ لبروز الفارق بين الشعورين: شعور القداسة في موضعها، وشعور الضحك بشتى معانيه.
جاءت الإشارة إلى الضحك في القرآن الكريم مرة في قصة إبراهيم، ومرة في قصة سليمان عليهما السلام.
ففي قصة إبراهيم يقول إبراهيم حين زاره الملائكة فلم يعرفهم وخافهم، ثم بشَّروه بولادة إسحاق من زوجته سارة: فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود: ٧٠–٧٢].
فهنا خوف فاطمئنان فبُشْرَى مفاجئة على غير انتظار، فتعجبٌ لا تملك سارة أن تجهر به فتقول: إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ.
كل عوامل الضحك النفسية التي ظهرت للباحثين النفسانيين في تفسيراتهم تعرضها هذه الآية الكريمة على نسقها المتتابع فتأتي بالضحك حيث يأتي الضحك مطردًا في مواضعه المختلفة من تحول الشعور طمأنينة بعد خوف، ومعرفة بعد نكران، وبشارة بما ليس في الحسبان من الولادة بعد سن اليأس وخيبة الأمل في الذرية زمنًا طويلًا تعتلج فيه النفس بأشتات من دواعي الحزن والعزاء والغيرة والتسليم.
ولا تغني هنا كلمة «سُرَّت، أو كلمة استبشرت، أو فرحت» في مكان كلمة «ضحكت»؛ فإن الضحك هو الأثر الملائم لهذه الحالة التي تشابكت فأصبحت في قرارة النفس حالات متناقضات.
•••
وجاء في القرآن الكريم عن قصة سليمان عليه السلام: حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ [النمل: ١٨–١٩].
فهاهنا عوامل الضحك على سجيتها ماثلة في نقائضها الدقيقة ومصاحباتها التي تقترن بها على حسب هذه المناسبة دون غيرها، وهي مناسبة مخالفة في بعض أجزائها لمناسبة الضحك في قصة إبراهيم.
هنا الفارق الشاسع بين ضآلة النمل وبين ضخامة الملك الذي أوتيه سليمان.
وهنا عجب سليمان من ظن النملة أنه لا يدري بموقعها ولا يشعر بها ولا يفهم عنها ما تقول.
وهنا رضي سليمان بما تفيضه نعمة الملك العريض في نفسه من السعة والغبطة وتلهمه من الشكر والخشوع، وكل ذلك آت من حيث لا ينتظر، من نملة ضئيلة تخشى أن تحطم هي وواديها كله ولا يشعر بهم سليمان العظيم.
وورد الضحك في آيات متفرقة بمعنى السخرية والاستهزاء، فجاء في سورة المطففين: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين: ٢٩–٣٥].
فالضحك هنا مقترن بالتغامز الخفي، كأنما يحسب المستهزئون أنهم يستغفلون المؤمنين الذين يمرون بهم فيسخرون منهم بالتغامز بينهم، ويضحكون إذا التفت إليهم المؤمنون على حين فجأة فلا يملكون إخفاء العبث والسخرية، كما يحدث دائمًا بين المتغامزين إذا انكشفوا وامتنع عليهم الكتمان والتمادي في الاستهزاء من وراء الأنظار.
والضحك الأخير يأتي حين لم يكن في الحسبان؛ لأن الكفار كانوا يضحكون فإذا بهم قد انقلب عليهم الأمر فهم أضحوكة للضاحكين، وهؤلاء وادعون على الأرائك ينظرون.
وجاء في سورة الزخرف: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ [الزخرف: ٤٦–٤٧].
وضحك المفاجأة هنا واضح من طلب الآيات ثم إخلاف ظن موسى — عليه السلام — لأنهم عبثوا به وهو ينتظر منهم بعد مجيئهم بالآيات أن يؤمنوا، فإذا هم يفاجئونه بما لم ينتظر من إصرارهم على الكُفران.
ولا بد في كل ضحك من الشعور بالمفاجأة في الضحك أو فيمن يتعرض للضحك، فهو شعور ملازم للمضحكات من طرفيها.
وفي سورة النجم عن نوح عليه السلام: وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ * هَٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلهِ وَاعْبُدُوا [النجم: ٥٢–٦٢].
ففي هذه الآيات يحسب الرسول أنه يأتيهم بما يبكيهم فلا يحسون داعية للبكاء ويستغربون، فينتقل بهم الاستغراب من أحاديث الرسول عن نذير الآزفة المطبقة إلى الأمان الذي يتصورونه ولا يحسون غيره. وبين هذين النقيضين المتباعدين يتعجب القوم ويضحكون، موقف لا وسط فيه بين البكاء والضحك، فإما أن يحس السامع نذير الآزفة فيبكي، أو يستغربها ويستبعدها فيضحك تعجبًا من كلام القائل واطمئنانه إلى الأمان الذي يقال لهم إنهم مهددون فيه.
والضحك من البلاء الذي لا يحسه السامع ويحس نقيضه كالضحك من البلاء الذي يحسه ويحس أنه ناجٍ منه، وقد تكرر ذكر الضحك بهذا المعنى فجاء في سورة التوبة عن المخلفين الذين فرحوا بمقعدهم عن القتال: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: ٨١–٨٢].
وهذا الضحك أيضًا مقرون بالسماع عن الخطر مع الشعور بالأمان، فهو — كما تقدم — كالشعور بالخطر حيث يغلب اليقين بامتناعه أو يمتنع بعد نذير لا يخيف.
وقد ورد في القرآن الكريم ذكر الضحك بمعنى السرور؛ لأنه يلازمه في معظم دواعيه ومظاهره.
وورد ذكر السخرية والاستهزاء، وهما في أكثر الآيات بمعنى الاستخفاف والكبرياء، أو بمعنى التردد بين حالتين: حالة ظاهرة وحالة باطنة تناقضها، ولا يخفى أن نقل الشعور بين هاتين الحالتين سبب من أسباب الضحك على اختلاف الضاحكين: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: ١٤–١٥].
وما من آية ورد فيها ذكر السخرية إلا كان فيما تحتويه شعور قوم فارغين باجتهاد الأنبياء وندائهم في غير طائل على ما يبدو لأولئك الفارغين، ويتكرر هذا الضرب من السخرية في قصة نوح؛ لأنه من جهة ينذر ويحذر ويتوعد بالغضب المحيق، وهم من جهتهم وادعون غافلون يمرون به وهو جاهد في عمل الفلك فيتضاحكون: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [هود: ٣٨–٣٩].
وكلا الجانبين — جانب نوح وجانب قومه — فيه أمان مع خوف يتناقضان، وفيه ثقة تناقض الثقة التي تقابلها، فكلاهما عنده سبب للسخرية بين هذين النقيضين.
في التوراة
وقد مر بنا استشهاد الفيلسوف العبري بالتوراة عن ضحك الإله ممن يغترون بقدرتهم ويعتزمون أمورًا يجترئون عليها ثم يعجزون عنها.
فالضحك هنا يترجم عن حالتين متناقضتين: إحداهما غرور ظاهر بالقوة، والأخرى حقيقة هذا الغرور العاجز الذي لا قبل له بما يدعيه.
والاختلاف بين هاتين الحالتين هو مثار الضحك مجازًا بالنسبة للإله، وحقيقة بالنسبة إلى الإنسان.
وجميع ما ورد في العهد القديم عن الضحك فإنما يفهم الضحك فيه بمعنى الاستهزاء والسخرية إذا كان من المنكرين، وبمعنى الاستغراب والدهشة إذا كان من المؤمنين.
وجميع هذه الشواهد ينحى على المستهزئين؛ لأنهم يستكبرون ولا يصدقون، فهم يستهزئون بالأنبياء لأنهم يرونهم بأعينهم مدعين القدرة ظاهرًا وعلى غير شيء في الباطن، والأنبياء يستهزئون بهم؛ لأنهم يرون الحقيقة معكوسة من جانبهم على أولئك المنكرين المستكبرين، فهؤلاء المنكرون المستكبرون هم الذين ينتفخون على هواء، ويرى النبي صورتهم المنتفخة وصورتهم الخاوية فيرى منهم تناقضًا يوحي بالاستهزاء، ولا سيما حين يغتر أصحابه فيستهزئون بالعارفين.
ففي سِفْر أشعيا يقول النبي عن الأمراء والسادة: «اسمعوا كلام الرب يا رجال الهزء، ولاة هذا الشعب الذي في أورشليم.»
وفي «الأمثال» من الإصحاح الأول كلام عن ضحك الشماتة والاستهزاء يقول فيه صاحب السفر: «إني دعوت فأبيتم ومددت يدي وليس من يبالي، بل رفضتم كل مشورتي ولم ترضوا توبيخي، فأنا أيضًا أضحك عند بليتكم، أشمت عند مجيء خوفكم.»
وليس أكثر في كتاب «الأمثال» من الإشارة إلى الاستهزاء بمعنى الكبرياء والغرور والجهالة، ومن الإشارة إلى جزاء المستهزئ وأثره السيئ في قومه وحكمة تأديبه لينتفع الحمقى بعبرته ويزدجروا بالنظر إلى مصيره.
قال: المستهزئ يطلب الحكمة ولا يجدها.
وقال: المنتفخ المتكبر اسمه مستهزئ عامل بفيضان الكبرياء.
وقال: اضرب المستهزئ فيتذكى الأحمق.
وقال: بمعاقبة المستهزئ يصير الأحمق حكيمًا.
وقال: المستهزئون يفتنون المدينة، أما الحكماء فيصرفون الغضب.
وقال: الابن الحكيم يقبل تأديب أبيه، والمستهزئ لا يسمع انتهارًا.
•••
وكتاب «الأمثال» أكثر الكتب في العهد القديم إشارة إلى الهزء والاستهزاء وهو تكرار يوافق طبيعة السفر كله؛ لأن الأمثال سفر الحكمة والتجربة وهما نقيض الاستهزاء الذي يستخف صاحبه بجميع الأمور ولا يزال كذلك حتى تهديه تجارب الأيام إلى الاعتبار بالحوادث وبعد النظر في عواقب الأمور، فإذا هو ينظر إليها كما قال الشاعر العربي:
وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة — أي الربيع — ويكون لسارة امرأتك ابن. وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه، وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام، وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء فضحكت سارة في باطنها قائلة: أَبَعد فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك؛ لأنها خافت، فقال: لا، بل ضحكت.
فالمواضع التي ورد فيها الضحك في كتب العهد القديم إنما كانت تنديدًا بخليقة الاستهزاء والسخرية، أو كانت بمعنى الاستهزاء الذي يرد الاستهزاء على أصحابه، ومن هذا القبيل ما ينسب إلى الإله أو إلى عباده الصالحين.
وبهذا المعنى نُسب إلى أيوب حيث جاء في سفره: «لا ترفض تأديب القدر؛ لأنه هو يجرح ويعصب، يسحق ويداه تشفيان، في ست شدائد ينجيك وفي سبع لا يمسك بسوء، في الجوع يفديك من الموت وفي الحرب من حد السيف، ومن سوط اللسان، فلا تخاف من الخراب إذا جاء … تضحك على الخراب والمحل ولا تخشى وحوش الأرض.»
وهنا يعود أيوب فيهزأ بالخراب والمحل بعد أن كان ضحكة لهما أو ضحكة للهازلين الذين حسبوه فريسة لهما وحسبوا ألا نجاة له من مصابه بهما وبغيرهما من ضروب المحنة والبلاء.
لا جرم يقال عن الضحك بمعنى الاستهزاء، كما جاء في الأمثال: «إنه في الضحك يكتئب القلب وعاقبة الفرح حزن»، أو كما جاء في الجامعة: «إن الحزن خير من الضحك؛ لأنه بكآبة الوجه يصلح القلب.»
ولم يذكر الاستهزاء بخير في كتب العهد القديم إلا أن يكون ردًّا على المستهزئين وعقابًا للسخرية والمجون.
على أن الضحك قد ورد في العهد القديم بمعنى السرور مقابلًا للحزن مصحوبًا بالغناء، كما جاء في المزامير بعد رد السبي: «إننا … حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكًا وألسنتنا ترنمًا.»
ولا يلزم في هذا المعنى تفسير الضحك بالأسباب التي أجملناها فيما تقدم، ولكنه — على هذا — لا يخلو من الشعور بالنقيض بعد النقيض؛ إذ ينتقل المرء من الأسر إلى الطلاقة، فيعبر عن فرحه بالضحك والغناء.
في الإنجيل
ورفع عينيه إلى تلاميذه وقال طوباكم أيها المساكين؛ لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن؛ لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون.
وهنا يأتي الضحك مقابلًا للبكاء ولا يخلو من دواعي الضحك في جميع الأحوال وأهمها تبدل الحالة والمقابلة بين النقيضين.
•••
وهذه الشواهد من هذه الكتب الدينية التي يقرؤها المؤمنون بها ويقدسون ما فيها خير ما يستشهد به على طبيعة الضحك في حالات متعددة؛ لأن هذه الدواعي تبرز في مواضعها بروزًا واضحًا بما يقابلها من شعور القداسة، وتنبِّئُنا عن أناس متباعدين في الأزمنة والأمكنة والطبائع والأخلاق، فنعلم أن الإنسان إنسان في كل زمان ومكان، وأن الضحك خاصة إنسانية تعم بني الإنسان.