الإنسانية والفكاهة
أيًّا ما كان القول في تعريف الضحك وتعليله، فمن أصح الأقوال مع جميع التعريفات والتعليلات أن الضحك — كما قال برجسون — ملكة إنسانية من طرفيها، فلا يضحك إلا إنسان، وما من شيء يضحكنا إلا أن يكون «إنسانيًّا» في صورة من صوره، ولو على سبيل التشبيه.
ولنا أن نقول إن الإنسان حيوان ضاحك، كما نقول إن الإنسان حيوان ناطق.
أفنعني بذلك أن كل إنسان يضحك بلا استثناء؟
كلا، إلا كما نعني أن كل إنسان ينطق ويفكر ويتكلم بلا استثناء.
فهناك خرس لا ينطقون، وهناك بله لا يفكرون، وهناك صغار أو همج تتولاهم الغرائز على نحو قريب من سيطرة الغرائز على الأحياء التي لا تساوي البشر في الخلق أو في الذكاء.
ولكننا مع ذلك نقول إن الإنسان حيوان ناطق، ونريد بذلك أنه ناطق «بالقوة» على اصطلاح المناطقة، أو بالاستعداد العام في أبناء نوعه كما نقول في عرف المصطلحين، وكذلك يقال إن الإنسان حيوان ضاحك، ومنه جماعات بدائية لا تفهم الضحك ولا تدري موقعه من أعمال الناس، ولا تميز بين المضحكات وغيرها من الأعمال المخالفة للمألوف؛ لأن مخالفة المألوف بين أبنائها ظاهرة نادرة جدًّا لانطباعهم على العرف المتوارث الذي لا يخالفونه إلا وقعوا في محظور «المحرمات» … مع قصورهم عن المقارنة التي تتضح منها النقائض ومواطن الضحك أو الاستغراب.
ولعل هذا العجز عن الضحك في هذا الطور من أطوار الإنسانية معزز لقول القائلين: إن الضحك خاصة إنسانية لا يشترك فيها عامة الأحياء، فلا يضحك الإنسان وهو — بعد — قريب من أطوار الحيوانية في حكم الغريزة وغلبة العادة على التفكير، وإذا رجعنا إلى تفسير برجسون في هذا الصدد فلا محل للمفاجأة هنا من جريان الإنسان على سنة الآلات في اطراد العمل بغير تفكير، فإن القبائل البدائية المغرقة في الهمجية تجري كلها على هذه السنة، ولا يكون فيها مخالفًا للمألوف إلا الذي يشذ بالتصرف على خلاف الوتيرة المطردة والنهج المرسوم.
أما بعد هذا الطور من الهمجية البدائية فالشعوب جميعًا تعرف الضحك وتعرف واضعه وموضوعه بالتجربة العملية، وإن لم تعرفهما بالتفسير والتقسيم.
ونريد بواضع الضَّحك من يخلقه بتمثيل المضحكات واختراعها وحكايتها كالفنانين والندماء.
ونريد بموضوع الضحك من يكونون أضحوكة الناس بالغفلة أو النقص أو التصرف المتناقض الذي يحول شعور ناظره من وجهة إلى وجهة على حين غرة على الإجمال.
الأمم الضاحكة
وقد جرت عادة المعاصرين على وصف بعض الأمم بالفكاهة وتجريد بعضها منها، أو وصفها بجهلها وبطء الإحساس بها عند المقابلة بينها وبين الأمم «الفكاهية».
والثابت الذي لا شك فيه عن جميع الأمم أنها أخرجت نوابغ الفكاهة في جميع أجيالها، وأنها في العصر الحاضر تمثل الفكاهيات وتعرضها على جمهرة من أبنائها، فلا توجد أمة متحضرة لها تاريخ قديم خلت من نوابغ الفكاهة ومن آثار هؤلاء النوابغ في الآداب والفنون.
ولكننا نرى أن إحصاء النوابغ هنا لا يفيدنا كما يفيدنا دليل الأمثال التي يتداولها الناس ويتوارثونها جيلًا بعد جيل، فإن آثار النوابغ قد تكون مقتصرة عليهم وعلى فئة من قرائهم أو من القادرين على الاستمتاع بفكاهتهم، ولكن الأمثال الشائعة ترجمان صادق لتفكير الأمة وشعورها وطريقتها في التعبير عن تجاربها، وهذه الطريقة تكاد أن تتفق في جميع الأمم أو تتقارب غاية التقارب في المضامين والمرامي وإن لم تتقارب في اللفظ والتركيب.
وهذه أمثال الأمم بين أيدينا تقترن فيها الحكمة، أو تأتي فيها الحكمة من طريق الفكاهة على أسلوب تمتزج فيه السخرية بالتهكم والعطف والدعابة، وتؤخذ فيه الحكمة مأخذ الجد والمزاح في وقت واحد؛ لأنها تشير إلى عواقب الخطل والحماقة إشارة التعقيب بعد مرور المئات من الأمثلة والقرائن والمناسبات، فهي تتكلم في أمان بعد فوات الضرر وقبل وقوعه على المقصودين بالنصيحة والتذكير.
وعلى سبيل التمثيل بالواقع نستشهد هنا بالأمثال في أمتين من أمم المشرق وأمتين من أمم المغرب، يقال عن إحداهما إنها أمة ذات فكاهة أو أمة فكاهية، ويقال عن الأخرى إنها لا تفطن للفكاهة وإنها اشتهرت بالجهامة وأخذ الأمور كلها بالجد والصراحة التي لا تعرف التورية والتلميح.
ففي المشرق أمة الفرس مشهورة بالنكات القديمة والحديثة من عهد الحضارة الكسروية، وأمة اليابان مشهورة بالكد والدأب والانصباب على العمل والتكليف.
وفي المغرب تقابل هاتين الأمتين الأمة الفرنسية في صفة الفكاهة، والأمة الألمانية في صفة الجد والجهامة.
وهذه طائفة من أمثلة الأمة الفارسية — التي يقال عنها إنها فرنسا الشرق — نتبعها بطائفة من أمثلة الأمة اليابانية بغير اختيار بين صفحات الكتب الجامعة لأمثال هاتين الأمتين.
أمثال فارسية
-
الصدق والسُّكْر زميلان.
-
الحب والعطر لا يختبئان.
-
الخادم الجديد أسبق من الغزال.
-
ليس القلب مائدة تبسط لكل ضيف.
-
الذهب والحجر من معدن واحد في الصندوق.
-
الخائط عريان والإسكاف حافٍ.
-
الجاهل لا نفع فيه، لا هو إنسان ولا هو حمار.
-
يبيع الجلد قبل صيد الغزال.
-
من دواعي الرثاء أن تنفق الذهب في الطلاء.
-
لا لزوم للسمك في بركة بلا ماء.
-
الكلام يلد الماء والأمطار تلد الثلوج.
-
ما الفائدة؟ عندما أستطيع لا أعرف وعندما أعرف لا أستطيع!
•••
-
الحب لا يميز بين «الميكاد» والفلاح.
-
قد ترى السماء من ثقب إبرة.
-
صدر الإنسان أصون الصناديق لأسراره.
-
نصف الناس يضحكون من النصف الآخر، والنصفان حمقى.
-
إذا تقدمت الحماقة رجعت الحكمة.
-
أعتى العواصف لا تثير الموج في أعمق الآبار.
-
ما من شجرة تحمل الأرز مطبوخًا.
-
لا السكير يدري بعار الخمر ولا المفيق يدري بسلطانها.
-
لا يرجع الضحك بما أذهبه الغضب.
-
المبالغة في التحية ازدراء.
-
أجمل الغلال نبت في حقول الآخرين.
-
اقرص نفسك تعلم لماذا يصيح المقروص.
-
لا تذهب الفضيلة بعيدًا إلا أن يكون الغرور في ركابها.
-
حب الذات أبرع المتملقين.
-
المذنب المحبوب سرعان ما تنكشف براءته.
-
خيال بلا علم أجنحة بلا أقدام.
-
الحمقى القدماء أحمق من إخوانهم المحدثين.
-
البساطة المفتعلة تكلُّف مطلي.
-
لا يقول عن الحظ إنه أعمى إلا الذي لا يراه.
-
تزيدنا السن حمقًا كلما زادتنا حكمة.
-
أصدقاؤنا الأعزاء يقولون كما نقول.
-
الحب مملكة المرأة.
-
للقلب منطق لا يعرفه المنطق.
-
الذي يحسن الحساب لا يثق في حساب.
•••
-
سفينة وتدها من الذهب ترسو في كل ميناء.
-
إن لم تكن مطرقة فكن سندانًا.
-
الكيس الفارغ لا يقف مستقيمًا.
-
بطن فارغ أشجع من رأس ملآن.
-
الضرير أقل عثرات من البصير.
-
من بدأ بالألف انتهى إلى الياء.
-
التخمة أقتل من الجوع.
-
طريق الشحاذ لا ضلال فيه.
-
آدم وحواء أكلا التفاحة، ونحن نطالب بقائمة الحساب.
-
امرأتان طيبتان في الدنيا: إحداهما ماتت والأخرى مفقودة!
-
المرأة التي لا يصحبها أحد يصحبها الجميع.
-
يضحك من الندوب من لم يعرف الجراح.
•••
وهذه اثنا عشر مثلًا من كل أمة مشهورة بالفكاهة أو مشهورة بالجهامة، غير أننا لو جعلناها عشرة أضعافها لما تغيرت نسبة الموازنة بينها، ولا خرجنا منها بتفضيل حاسم لأمة على أمة حين نقتبس فكاهة الأمم من تجاربها وأمثالها، فكلها سواء في مزج الجانب المضحك بالجانب الحكيم من تجارب الحياة المتكررة. ولا شك أن هذه التجارب وهذه التعبيرات عنها أدل على ملكة الفكاهة الشائعة بين بني الإنسان من الأقوال المتفرقة على ألسنة الآحاد.
•••
وهناك مقياس آخر للفكاهة الشائعة بين بني الإنسان نرجع فيه إلى مواسم الفكاهة التي تعرض لجميع الأمم في حالات متماثلة، وهي حالات التنفيس عن الحرج أو حالات التمرد والاحتجاج على البدع الشائعة، ولا سيما البدع التي حان لها أن تزول أو تبدلت دواعيها بتبدل الأحوال.
وشعوب الصقالبة في أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى من الشعوب التي اشتهرت بجهل النكتة وخشونة الفطرة وقلة الفطنة لكل معنى في القول غير معناه الصريح الذي يفهم على وجه واحد ولا يفهم على وجهين كما يغلب على جميع المضحكات.
إلا أن هذه الشعوب قد رويت عنها نوادر في موسم الحرج لا تفضُلُها من نوعها نوادر الشعوب الغربية في أمثال هذه المواسم.
وهذه متفرقات من تلك النوادر مأخوذة من الصحف أو من مجاميع الفكاهة العالمية التي تصدر من حين إلى حين وتتمثل فيها أمزجة الأمم التي تُروَى تلك النوادر عنها على غير قصد من جامعيها:
أرادت إذاعة روسية أن تطلع الفلاحين على أجهزة الإذاعة، وأن يشترك كلٌّ منهم في إرسال الحديث إلى العالم بكلمة واحدة لا يزيد عليها، فلما تقدم الفلاح الأول وسئل أن ينادي بالكلمة الوحيدة صاح بملء فيه: النجدة!
وطاف مفتش من مفتشي الدعاية بين الفلاحين المتذمرين فقال في بعض القرى للشاكين من قلة الطعام والكساء: «ماذا تقولون؟ أتشكون من أبدع المذاهب الاجتماعية من أجل لقمة وخرقة، فماذا عساكم قائلين لو رأيتم الأفريقيين العراة الذين لا يعرفون الخبز ولا الطعام المطبوخ في مجاهل القارة السوداء؟!»
فحك أحد السامعين رأسه وقال: «أظن يا حضرة الرفيق أن هؤلاء سبقونا إلى أبدع المذاهب الاجتماعية!»
وساح تاجر مجري في روسيا والأقاليم المجاورة لها، فجعل يرسل التذاكر البريدية إلى أصحابه كلما نزل بعاصمة من العواصم، فكتب في التذكرة الأولى: تحيات من موسكو الحرة، وكتب في التذكرة الثانية: تحيات من وارسو الحرة، وكتب في التذكرة الثالثة: تحيات من براغ الحرة، ثم صمت شهرًا وجاءت إلى أصدقائه من باريس تذكرة يقول فيها هذه المرة: تحيات من الحر رابينوفتش!
واقترب غريب في بودابست من جندي الشرطة ليسأله عن الساعة، فنظر الشرطي إلى النوافذ وقال له: «إنها الثامنة وثلاثون دقيقة بالضبط.»
فعجب الزائر الغريب وفاتحه بعجبه قائلًا: «كيف عرفتها وأنت لم تنظر في ساعتك؟»
قال الشرطي: «هذه النوافذ المغلقة في هذه اللحظة دليل على ميعاد الإذاعة الأجنبية!»
وقد نقلت عن الألمان في أيام هتلر حكايات يتداولها الشعب الألماني من قبيل التمرد والاحتجاج على شدة الحجر أو على البدع الاجتماعية، ونختار حكاية من كلٍّ منها تنبئ عن سائرها.
فمن حكايات التمرد على الحجر وسوء الحال أن رجلًا ضاقت به الدنيا، فعول على الانتحار، واشترى حبلًا ليشنق نفسه فانقطع الحبل ونجا الرجل من الموت؛ لأن الحبل «ارساتز» أي تقليد صناعي … فاشترى سمًّا من صيدلية وضاعف المقدار فلم يمت؛ لأن السم «ارساتز» أي تقليد صناعي للمواد التي تصنع منها السموم … واشترى مسدسًا وأطلقه على نفسه فلم يمت؛ لأن المسدس والرصاص كله «ارساتز» لا يميت … فلما يئس من الموت عدل عن الانتحار، وأجمع عزيمته على البقاء واحتمال الحياة على علاتها، وذهب إلى مطعم أكل فيه وشرب وأفرط في أكل اللحوم وشرب الجعة تعويضًا لما فاته من متعة الحياة في اليومين السابقين فمات في هذه المرة؛ لأن الطعام والشراب «ارساتز!»
وشاع بين الفتيات زي الملابس القصيرة التي تكشف عن الصدور والسواعد والسيقان، وعاد أحد الأزواج إلى بيته في بعض تلك الأيام فاستقبلته زوجته متهللة وقالت له: أتدري يا فلان؟! إنهم يبيعون الفساتين بالتقسيط على عشرة أقساط، وقد انتهزت الفرصة واشتريت فستانًا يوفر عليك سداد ثمنه الكبير دفعة واحدة.
فنظر الزوج إلى امرأته التي كادت أن تبدو أمامه بغير كساء، وقال وهو يظهر الموافقة على مضض: أظن أن هذا هو القسط الأول من الفستان!
النوادر القراقوشية
إن الاستعداد لتأليف الفكاهة التي تنفس بها الأمم عن صدورها في أوقات الحرج يكاد يتساوى بين جميع الأمم ومنها — أو في مقدمتها — الأمم التي لم تشتهر بالنكتة واشتهرت على نقيض ذلك بأنها تجهلها ولا تحسنها.
ونقول إن هذه الأمم في مقدمة الأمم التي تؤلف النكات في هذا الغرض؛ لأنها في الغالب هي الأمم التي تبتلى بالحرج وتعز عليها حرية القول، فلا يوجد في العصر الحاضر نظير لهذه النوادر في الأمم التي تملك حرية النقد وتجهر بآرائها في حكومتها وحكامها، ولا محل للمقارنة بين الشعوب الأوروبية في هذا الباب من أبواب الفكاهة؛ لأنها لا تتساوى في ظروفه ودواعيه، وإنما تستطاع المقارنة بين النكات المتقدمة والنكات التي شاعت في مصر على عهد «قراقوش»، ودوَّنها «ابن ممَّاتِي» في كتابه المسمى «الفاشوش في حِكم قراقوش» وليست كلها من تأليفه وابتكاره، بل هي مما يشيع مجهول المصدر ثم يقاس عليه ويظل في طي الكتمان إلى حين.
وإحدى هذه النوادر أو النكات قد سبق لها نظير في النوادر التي استشهد بها فرويد وهي نادرة الحداد المحكوم عليه بالموت.
قيل إن غلامًا لقراقوش قتل نفسًا فحكم عليه بالشنق، ثم تشفع لديه الشفعاء وقالوا له: إنه حدادك ينعل لك الفرس ويخدمك، فإن شنقته لم تجد غيره، فنظر قراقوش ناحية الباب ووقعت عينه على رجل قفاص فقال: هذا القفاص لا حاجة بنا إليه، فاشنقوه في مكان الراكبدار. وهي وظيفة الغلام الحداد عنده!
وعلى هذا المثال تجري النوادر «القراقوشية» التي أثبتها «ابن مماتي» في كتابه أو تناقلها الرواة على لسان غيره.
ومنها نادرة الرجل الذي أوثقه الناس وحموله حيًّا ليدفنوه وهو يصيح في النعش مستغيثًا بقراقوش، فلما سمعه قراقوش ترك المشيعين يمضون به وقال له: ويحك! لا أصدقك وأكذب مائة من ورائك!
وقيل إن قراقوش نشر قميصه فوقع القميص من الحبل، فتصدق بألف درهم وقال: لو كنت ألبسه ساعة وقوعه لانكسرت.
وقيل إن جنديًّا نزل في مركب، وكان به فلاح وزوجته وهي حامل في سبعة أشهر، فصدمها الجندي وأسقط حملها، فأخذ زوجها بتلابيبه وقاده إلى قراقوش، فقضى على الجندي أن يأخذ الزوجة ويطعمها ويكسوها ولا يعيدها إلى زوجها إلا وهي حامل في سبعة أشهر!
وشكا إليه مدين أنه يجمع دينه ويذهب به إلى صاحب الدين فلا يجده، ثم يأتي هذا فيطالبه ويلح عليه وهو خالي الوفاض لا يملك السداد، فأمر قراقوش بحبس صاحب الدين حتى يعرف المدين موضعه متى جمع المال المطلوب منه، ولا يضيع الدين على صاحبه بين البحث والتأجيل!
وكان لقراقوش باز يصيد به، فطار الباز ولم يعد إليه، فأمر بإغلاق أبواب المدينة ليرجع الباز إليه إذا أغلقت جميع الأبواب!
وشكا إليه الفلاحون بَرَدًا أصاب القطن وأتلفه والتمسوا منه أن يعفيهم من الضريبة ذلك العام، فأبى أن يعفيهم لأن القطن إنما أصيب بالبرد لإهمالهم وقلة درايتهم، ولو زرعوا معه صوفًا لما أصابه التلف من برد الشتاء!
•••
ومن باب هذه الحكايات عن قراقوش حكايات كثيرة يتناقلها المصريون عن الحكم التركي في عصر المماليك وبعد عصرهم إلى أيام الخديو إسماعيل.
ومنها أن حاكمًا تعود أن يقترض مالًا من بعض الصيارفة ويكتب له وثيقة به ثم يأمره بابتلاعها إذا جاءه في الموعد مطالبًا بحقه، ولا يزال يقترض ويأبى السداد على هذا النحو ويضيف الدين الجديد إلى الديون القديمة حتى يئس الصيرفي من سداد جميع الديون، فلما استدعى الصيرفي بعد ذلك جاءه ومعه ورقة شفافة ورجاه أن يكتب الوثيقة عليها؛ ليسهل عليه ابتلاعها في موعد السداد.
ومنها أن واليًا كان يجمع الضرائب ولا يقبل عذرًا في تأخيرها، ولا يزال يقول لمن يعتذر بقلة المال: ماذا؟ أليس لديك أربعون ريالًا …؟
وعلم القوم من تكرار هذه «الأربعين» أن الرجل يملك أربعين ريالًا فلا يصدق أن أحدًا لا يملكها مثله، ونقبوا عن دفائنه حتى عثروا بالثروة المجهولة، أو المعلومة، فلم يضرب الوالي بعدها أحدًا يماطل في الضريبة، وجعل يقول لكل معتذر: من أين لك أربعون ريالًا يا مسكين؟ … أنا لا أملك ريالًا واحدًا من الأربعين!
ومنها أن واليًا كان يصلي في أخريات أيامه، ويتبع الصلاة بالدعاء والنحيب، ويسأل الله أن يكفر له ذنوبه لأنه قتل أربعة.
وسمعه زميل له فأدهشه أن يستعظم هذا الذنب اليسير وينحب هذا النحيب من أجل أربعة قتلهم وهم في حسابه عدد غير كبير، فقال له كأنه يؤنبه: ألم تقتل في حياتك غير أربعة يا أغا؟
قال: «لا يا صاحبي … أربعة من الترك، أما الفلاحون فلا عداد لهم فيما أذكر!» وأشباه هذه النوادر لو أحصيت لاجتمع منها مجلدات تربو على العشرات من أمثال كتاب الفاشوش عن حكم قراقوش، وهي جميعًا من تأليف أمة مشهورة من قديم الزمن «بالقفش» والنكتة السريعة، فإذا قوبلت هذه النوادر بنوادر الأمم التي لم تشتهر بالفكاهة في أوروبا الحديثة؛ ظهر من المقابلة أن الاستعداد متقارب أو متساوٍ بين جميع الأمم، وإنما تزيد النكتة المصرية بطابع خاص بها، وهو الجمع بين التنفيس عن الحرج وبين وصف الحاكمين بالغفلة والبلاهة، وسبب هذا الفارق أيضًا راجع إلى الظروف الاجتماعية، لا إلى طبيعة الضحك في النفس الإنسانية، فإن الحاكم الذي تصيبه النكتة المصرية من غير أهل البلد فلا ضير من اتهامه بالغفلة والبلاهة واعتزاز المحكومين على الحاكمين بالفطنة والدراية، ولكن هذا الاعتزاز في أوروبا الحديثة يصيب المحكومين كما يصيب الحاكمين لأنهم من عنصر واحد، فلا حاجة في النكتة هنا إلى أكثر من التنفيس عن الحرج وتمثيل الحجر على الألسنة والأقلام.
فكاهات عهود التحول
وأتم من هذه المواسم الفكاهية التي تنفس بها الأمم عن صدورها فكاهة أخرى أعم وأبقى أثرًا لأنها تشمل العهود المتحولة في حضارة واسعة تحيط بأمم كثيرة، وتأتي هذه الفكاهة في أوانها حين تؤذن العهود بالتحول لتزعزع أركانها وزوال مقوماتها، فينبري لها نابغ ملهم في فن النقد الفكاهي يجسمها في «شخصية» مخترعة يجعلها هدفًا للسخرية والتسخيف، أو يعمد إلى شخصية خيالية قائمة يلبسها ذلك الثوب ويودعها بقايا النفاق والتكلف والتقاليد الخاوية التي تتخلف بعد أجيال عدة في أعقاب العهود الدائلة التي آذنت شمسها بالأفول.
وليس أدل من اصطحاب هذه المساوئ في العهود الدائلة من آيات القرآن الكريم في سورة الفجر حيث تنعى دول التبابعة والفراعنة والجبابرة جميعًا في أمثال هذه العهود: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر: ٦–١٤] إلى قوله تعالى: بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: ١٧–٢٠].
وهذه المفاسد التي جمعتها هذه الآيات هي بعينها مفاسد العهد الذي يمثله جارجنتوا في النهم ويمثله بكروشول في الفتك والعدوان، وكلاهما بعد ذلك باغٍ نهم على زيادة البغي في أحدهما وزيادة النهم في الآخر.
•••
تلك الشخصية الواقعية هي شخصية كارل فردريك منشهاوزن (١٧٢٠–١٧٩٧) نموذج المفاخر المدعاة بين عصر السيف وعصر البندقية والمدفع، وإحدى أعاجيبه أنه نسي النار التي يشعل بها البارود، فأوقد زناد البندقية بضربة على عينه أطارت منها الشرر فانطلق الرصاص … وإحدى هذه الأعاجيب أنه أراد الخروج من القلعة المحصورة فركب القذيفة التي أطلقت عليها فعادت به أدراجها إلى حيث أراد. وكانت أعاجيب منشهاوزن هذا خاتمة العهد الذي راجت فيه أباطيل البطولة بعد عصر الفروسية وقبل عصر السلاح الحديث، وراجت فيه على الجملة أخبار السياحات والرحلات مما يصدقه العقل أو لا يقبل التصديق.
وهذه فكاهات ظهرت لمناسبات متشابهة بين فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبلجيكا وتقبلتها الأمم من المغربيين والمشرقيين حيث تداولتها أيدي القراء بمختلف اللغات، ومن هذه الأمم من اشتهرت بالفكاهة، ومنها من اشتهرت بجهلها وبطء الالتفات إليها، ولا يسع الناقد عند المفاضلة أن يرجح النكتة في إحداها على النكتة في سواها، فربما كان بعض النكات في أعاجيب منشهاوزن أبرع من نكات دون كيشوت، وربما كانت النكتة الإسبانية أحيانًا أبرع من النكتة الألمانية، وعامتها من نسق واحد وطبقة واحدة تؤدي رسالتها في مناسباتها وتسجل الحقيقة التي أسفرت عنها المقابلة بين الفكاهات القومية، ودلت على أن الضحك — كالمنطق — مزية إنسانية توجد بالقوة كما توجد بالفعل حيث يوجد الإنسان، وأن اختلافها إنما هو اختلاف بين الظروف والبيئات قبل أن يكون اختلافًا بين الطبائع والأصول.
•••
على أن طبائع الإنسان العامة لا تمحو الفوارق بين المجتمعات في مواقعها المتباينة، ولا تمحو الفوارق بين المجتمع الواحد في الأزمنة المختلفة والأحوال المتناقضة، وليس من الطبيعي أن تكون الأمة الوادعة كالأمة الكادحة، أو الأمة الغنية كالأمة الفقيرة، أو الأمة التي طال عهدها بالحضارة ومؤنساتها كالأمة التي تحضرت بعد وحشة أو مرت بها الحضارة ناشئة متقطعة، ولا تتشابه في الجد ولا الفكاهة أمة تمرست بالمظالم والشدائد وأمة لم تتمرس بها إلا عرضًا في الآونة بعد الأخرى.
فمهما تتفق طبائع الإنسان فستبقى بعد ذلك بقية للصبغة القومية في الجد والفكاهة، وفي العلم والعمل، وفي التفكير والذوق، وفي الضرورات والكماليات.
فوارق الأمم في الفكاهة
ونحن في هذه الرسالة نجمل القول في أصول الفكاهة لنستطرد منها إلى فكاهة جحا أو الفكاهة المنسوبة إليه في الأمم التي عرفته وتمثلت بحكاياته، وهي الأمة العربية والأمة الفارسية والأمة التركية. وكادت هذه الأمة — أي الأمة التركية — أن تستأثر به من معظم نوادره حتى قيل إن جحا المشهور اليوم إنما هو جحا جديد من مخلوقات البديهة التركية تنقطع الصلة بينه وبين جحا القديم الذي عرفه العرب في أمثالهم ورجع به التاريخ إلى صدر الإسلام، فلا يجمع بينهما غير التسمية باسم واحد.
وأيًّا كان مَنْشؤه من الأمة التركية فهناك «جحا» تنسب إليه الحكايات في اللغة العربية واللغة الفارسية، فإذا عنينا بفوارق الأمم في الفكاهة والمضحكات فليس من غرضنا في هذه الرسالة أن نستقصي الفوارق في جميع الأمم، ولا حاجة بنا إلى أكثر من تمييز الفوارق في خصائص الفكاهة بين السليقة العربية والسليقة الفارسية والسليقة التركية، فربما أعانت هذه الفوارق على إسناد الحكايات إلى كل أمة من هذه الأمم حسب سليقتها الغالبة عليها، ولا يكون هذا الإسناد بعد كل محاولة في ميسورنا الآن إلا على سبيل الترحيب والتقريب دون الجزم والتوكيد. ونحن في هذا كمن يقول إن فلانًا عربي لأنه أسمر، فيقول شيئًا يستحق أن يقال لأنه لا يستحق أن يهمل، ثم لا يجاوز هذا الحد إلى توكيد النسبة مع احتمال وجود البشرة السمراء أو المسمرة بين الشعوب الشقراء، واحتمال وجود البشرة البيضاء بين العرب وغيرهم من الشعوب السمراء.
وعلى هذا النهج من التغليب والترجيح نستطيع أن نميز سليقة الأمة في عامة شئونها، ثم غير السليقة التي تنتظر منها في معارض الفكاهة؛ لأن الصورة الفكاهية نسخة من الصورة المحسوسة مبالغ فيها على مثال المبالغة في هذا الضرب من التصوير المشهور في اللغات الأوروبية باسم الكاريكاتور … وقد وجد هذا الكاريكاتور بالتعبير اللغوي في جميع الأمم قبل أن يوجد بالخطوط والرسوم.
فمن الوصف الصادق لسليقة الأمة العربية أن نقول إنها أمة شعرية منطقية، ومن الوصف الصادق لسليقة الأمة الفارسية أن نقول إنها أمة صوفية دبلوماسية، ومن الوصف الصادق لسليقة الأمة التركية أن نقول إنها أمة عملية واقعية …
وإلى أين تنتهي المبالغة «الكاريكاتورية» بالخيال والمنطق؟
تنتهي إلى الوهم والقياس مع الفارق أو مع الفوارق الكثيرة.
أما المبالغة الكاريكاتورية في السليقة الصوفية فقد تنتهي إلى المحال والمحاولة، وأما هذه المبالغة في السليقة العملية الواقعية فقد تنتهي إلى تحصيل الحاصل والحذلقة بما هو مفهوم مستغنٍ عن التعريف.
وقد أعطانا الشاعر التركي المستعرب — ابن سودون اليشبغاوي من أدباء القرن التاسع بمصر والشام — مثلًا للسليقة التركية لا نظير له فيما نعلم من نظم شعراء العرب والترك ولا شعراء الأمم الغربية؛ لأن أولئك الشعراء يعطوننا المثل فنأخذه من طريق التحليل والاستنتاج، ولكن ابن سودون يعطينا المثل على غير قصد منه بمنظوماته التي تعدو تحصيل الحاصل، ويرسم لنا «الكاريكاتور» بيده ولا يدع لنا أن نرسمه ونستوحي ملامحه من خلال الألفاظ ومعانيها.
ونكتفي هنا بقصيدتين من شعره الذي أراد به الإضحاك بمحاكاة أدعياء المعرفة الذين لا يزيدون في حكمتهم على تعريف المعروف.
وإحدى القصيدتين على قافية الألف المقصورة وهي:
والقصيدة الأخرى البائية التي يقول فيها:
وستمر بنا فيما يلي ألوان من النوادر المنسوبة إلى جحا يحسب بعضها من نوادر تحصيل الحاصل، ويحسب بعضها من نوادر الوهم أو القياس مع الفارق، وبعضها من نوادر المحال والمغالطة. ويساعدنا هذا التقسيم على الرجوع بها إلى مصادرها مع التحفظ والتماس القرائن الأخرى من التاريخ والمناسبات والشواهد النفسية أو الاجتماعية.
ونبدأ قبل البدء بعرض النوادر وتقسيمها فنقول إنه تقريب لا نرجو أن نبلغ به مبلغ الجزم والتوكيد، ولكننا لا نرى من أمانة البحث أن يهمل أو يصرف عنه النظر، فلعله بعد كل ما يقال عن أحكامه «التقريبية» أصدق الموازين الميسرة لنا في هذا المبحث وما جرى مجراه من الروايات المشاعة بلا إسناد تبلغ مبلغ الجزم والتوكيد.