٦٠ نادرة
(١) نوادر الذكاء والحكمة
(١-١) آل خبرة
كان جحا يتولى القضاء، فجاءه رجل يستغيث به لأنه وجد طنبوره المسروق، مع بائع في السوق، وأراد أن يأخذه منه فادعاه السارق لنفسه وأنكره، فأرسل جحا في طلب البائع المتهم، وسأل صاحب الطنبور عن شهوده، فجاءه بشاهدين، أحدهما صاحب حانة، والآخر ماجن متبطل بغير عمل.
وشهد الشاهدان بأنهما يعرفان الطنبور ويعرفان أنه للمدعي، وعلامته أن فيه كسرًا بأعلاه ورباطًا بأسفله، وليست مفاتيحه محكمة الشد والحركة.
وطابقت العلامة وصف الطنبور، ولكن السارق طلب تزكية الشاهدين وقال إن شهادة الخمَّار والماجن لا تُقبل في الشريعة.
قال جحا: نعم، وأما حين تكون الدعوى على طنبور، فالخمار والماجن أصلح الشهود!
(١-٢) من راقب الناس
كان لجحا ولد يعصيه كلما أمره بعمل، ويقول لأبيه: وماذا يقول الناس عنا إن عملناه؟!
وأراد جحا أن يلقنه درسًا ينفعه، ويعلمه أن رضا الناس غاية لا تدرك، فركب حماره وأمر ابنه أن يتبعه، ولم يمض غير خطوات حتى مر ببعض النسوة فشتمنه وقلن له: أيها الرجل، أما في قلبك رحمة؟! تركب أنت وتدع الصبي الضعيف يعدو وراءك؟!
فنزل جحا عن الحمار، وأمر ابنه بركوبه، ومضى مسافة غير بعيدة، ثم مر بجماعة من الشيوخ يستشرقون، فدق أحدهم كفًّا بكف، ولفتهم إلى هذا الرجل الأحمق وهو يقول ويعيد: لمثل هذا فسد الأبناء، وتعلموا عقوق الآباء … أيها الرجل، تمشي وأنت شيخ، وتدع الدابة لهذا الولد، وتطمع بعد ذلك أن تعلمه الأدب والحياء؟
قال جحا لولده: أسمعت؟ تعال إذن نركب الحمار معًا.
وما هي إلا لحظة، حتى مر بهما جماعة من أصدقاء الحيوان صاحوا بهما: أما تتقيان الله في هذا الحيوان الهزيل؟ أتركبانه معًا، وكلٌّ منكما يزن من اللحم والشحم ما يزيد على وزن الحمار؟!
قال جحا لولده: الآن نمشي معًا ونرسل الحمار أمامنا، لنأمن سوء القالة من النساء والشيوخ وأصدقاء الحيوان.
وما هي إلا لحظة أخرى حتى مر بهما طائفة من «أولاد البلد» الخبثاء، فجعلوا يعبثون بهما ويقولون لهما: والله ما يحق لهذا الحمار إلا أن يركبكما أو تحملاه وتريحاه من وعثاء الطريق!
فمال جحا إلى شجرة، وأخذ منها فرعًا متينًا وربط فيه الحمار، وحمل الفرع من طرف ووضع الطرف الآخر على كتف ولده، فإذا البلد كله وراء هذا الركب العجيب، وإذا بالشرطي يفض هذا الزحام ليسوقهما إلى البيمارستان.
قال جحا لابنه في طريقهما مع الشرطي: هذه يا بني عاقبة من يستمع إلى القال والقيل، ولا يعمل عملًا إلا ابتغى به مرضاة الناس!
(١-٣) إحصاء المنافقين والرقعاء
كان جحا دائم الشكوى من أهل بلده، يقول لكل من لقيه منهم أو من الغرباء عنهم إنهم كلهم منافقون رقعاء.
ولامه هذا وراجعه ذاك، فعمد إلى إقناع اللائمين والمناقضين بأسلوبه في الإقناع: أسلوب المشاهدة والعيان، فخلع باب الدار وحمله على ظهره وقال لأول مناقض له في تشهيره بأهل البلد: تعال معي واحسب! وعند منعطف الطريق صاح به صائح من أهل البلد وهو يضحك: ما هذا الذي تحمله على ظهرك يا جحا؟
قال جحا لصاحبه: هذا واحد، أتراه لا يعرف الباب الطويل العريض الذي يسأل عنه؟
(١-٤) العصا تحمل الأرجل
حمل جحا إوزة مشوية إلى الأمير، وغلبه الجوع ورائحة الشواء في الطريق، فأكل إحدى رجليها، ثم وضعها بين يدي الأمير، فسأله عن الرِّجل الناقصة أين ذهبت!
قال: لم تذهب إلى مكان، وإنما الإوز كله برجل واحدة في هذا البلد. ثم تقدم بالأمير إلى نافذة القصر وأشار إلى سرب من الإوز قائم على قدم واحدة كعادته في وقت الراحة، فدعا الأمير بجندي من حرسه وأمره أن يشد على سرب الإوز بعصاه، وما كاد يفعل حتى أسرع الإوز يعدو هنا وهناك على قدميه.
قال الأمير: أرأيت؟ إن إوز هذا البلد أيضًا خلق بقدمين ولم يخلق بقدم واحدة!
قال جحا: مهلًا أيها الأمير، لو شد أحد على إنسان بهذه العصا لجرى على أربع!
(١-٥) تماطل الله وتستدين
جلس جحا يبيع زيتونه فساومته امرأة، واستكثرت على الزيتون الثمن الذي طلبه، وقالت له: إذا أردت أن تبيعني بالثمن الذي أخبرتك به مؤجلًا، فأنت تعرف زوجي وهو فلان بن فلان.
وناولها جحا زيتونة لتذوقها وتعرف جودة الصنف وحقه من الثمن، فاعتذرت بأنها صائمة لأنها مرضت من سنة وأفطرت في شهر رمضان!
قال جحا: الآن بطل الخلاف، لا مساومة ولا تأجيل، أتراك تماطلين الله سنة ولا تماطلينني إلى يوم القيامة؟!
(١-٦) تيمور في الآخرة
وسأله تيمورلنك الطاغية المشهور: أين ترى يكون مثواي في الآخرة يا خوجة نصر الدين؟
فقال جحا ولم يتردد: وأين ترضى أن تكون، إن لم تكن مع جنكيزخان والإسكندر وفرعون والنمروذ؟
(١-٧) ثمن طاغية
وسأله تيمورلنك، وقد أخذه معه إلى الحمام، وخلع ملابسه إلا مئزرًا يديره على وسطه: بكم تشتريني الآن لو عرضت عليك في السوق يا خوجة نصر الدين؟
قال: بخمسين دينارًا.
قال تيمور: ويحك! إن ثمن هذا المئزر خمسون دينارًا.
قال جحا: وهذا هو الثمن الذي حسبته!
(١-٨) الحساب المهضوم
وأراد تيمور أن يصادر أموال الحاكم بمدينة «آق شهر» فاتهمه باختلاس أموال الديوان، وأبرأ الحاكم بذمته بالحساب المكتوب على دفاتر الديوان الغلاظ، فأخذها تيمور من يده ومزقها وأمره بابتلاعها، ثم أحال حكم المدينة إلى الخوجة نصر الدين.
وحان موعد الحساب، فجاءه الخوجة نصر الدين بجلود مطوية نشرها فوجد في طيها رقائق من الخبز مكتوبًا عليها الحساب بالحلوى.
قال تيمور: ما هذا؟
قال الخوجة: هذا الذي يحتمله جوفي يا سيدي؛ لأنني شيخ فانٍ ولست فتى ضليعًا كحاكمك القديم.
(١-٩) أيهما أحب إليه
وكانت له زوجتان، فجلس معهما يتسامر، وطاب لهما أن تحرجاه، فسألتاه: أيهما أحب إليه؟
قال: أنتما معًا حبيبتان إلى قلبي!
قالتا: لا، إنك لا تستطيع أن تضحك منا بهذه المراوغة، وأمامك هذه البركة نخيرك في إغراق إحدانا بها، فمن منا تلقي بها في الماء الآن؟
وحار في أمره هنيهة، ثم التفت إلى الزوجة الأولى وقال لها: أذكر أنك تعلمت السباحة قديمًا يا عزيزتي!
(١-١٠) المكان الأمين في الجنازة
وسئل: أيهما أفضل؟ المسير خلف الجنازة، أو المسير أمامها؟
قال: لا تكن في النعش، وسر حيث تشاء.
(١-١١) القِبلة الأمينة
وسئل: وماذا يستقبل السابح إذا نزل في الماء؟
فقال: يستقبل المكان الذي عليه ملابسه.
(١-١٢) الفضول
ولقيه بعض معارفه في الطريق فقال له: إني رأيت الساعة رسولًا يحمل مائدة حافلة بالطعام الفاخر.
قال جحا: وماذا يعنيني؟
قال صاحبه: إنهم يحملونه إلى بيتك.
قال: وماذا يعنيك؟
(١-١٣) التقوى المهلكة
وسكن في دار، فشكا إلى صاحبها أنه يسمع قرقعة في سقفها.
قال صاحب الدار: لا تخف، إنه يسبح الله.
قال: وهذا الذي أخشاه، تدركه رقة فيسجد علينا!
(١-١٤) حدود الأبوة
وسئل جحا: هل يولد للرجل بعد بلوغ الستين؟
قال: يجوز!
قيل: وبعد بلوغ الثمانين؟
قال: يجوز.
قيل: وبعد بلوغ المائة؟
قال: نعم، إذا كان له جار في العشرين!
(١-١٥) العمامة القارئة
وعرض عليه رجل كتابًا بالفارسية ليقرأه فتعلل برداءة الخط، ورد له الكتاب.
قال صاحب الكتاب محنقًا: وعلامَ إذن تضع هذه العمامة على رأسك كأنها الرحى؟
فخلع الشيخ العمامة، ووضعها جانبًا، وقال له: دونك العمامة فاسألها، فإنها صاحبة العلم الذي تبغيه!
(١-١٦) تحويل الجزاء
وصفع رجل «جحا» على قفاه بعرض الطريق يريد أن يسخر منه: فأخذ جحا بتلابيبه إلى القاضي ولم يقبل منه اعتذاره بالخطأ فيه؛ لأنه ظنه من أصدقائه الذين يمازحونه بمثل هذا المزاح الثقيل.
وكان الرجل العابث من معارف القاضي فأحب أن ينجيه من العقاب، وحكم لجحا بأن يصفعه كما صفعه أو يتقبل منه عشرة دراهم على سبيل الجزاء أو التعويض.
وطمع جحا في الدراهم فسأل القاضي المدعى عليه: أمعك الدراهم؟ وفطن صاحبنا لغرض القاضي فقال: كلا، ولكنني أحضرها بعد قليل من البيت.
وأذن له القاضي بالانصراف لإحضار الدراهم، فذهب ولم يعد. وطال الانتظار على جحا، فأدرك حيلة القاضي واقترب منه كأنه يهمس في أذنه، ثم صفعه صفعة عنيفة، وقال له وهو ينصرف: إذا عاد إليك الرجل بالدراهم، فخذها حوالة مني إليك.
(١-١٧) دعوى بدليلها
وادعى الولاية، فسأله السامعون عن كرامته، فقال: أتريدون مني كرامة أعظم من علمي بما في قلوبكم جميعًا؟
قالوا: وما في قلوبنا؟
قال: كلكم تقولون في قلوبكم إنني كذاب!
(١-١٨) من يلد يموت
واستعار حلة كبيرة من جاره. ثم أعادها إليه وفيها حلة صغيرة، فسأله جاره: وما هذه؟ قال: هذه بنتها، ولدتها عندنا. فتقبلها جاره ولم ينكر عليه.
ثم استعارها مرة أخرى ولم يردها، فلما سأله عنها، قال: البقية في حياتك، إنها ماتت عندنا في النفاس … رحمها الله.
قال صاحب الحلة متعجبًا: أيموت النحاس؟
قال جحا: من يلد يموت، وقد يموت في النفاس.
(١-١٩) ثمن الضرورة
وعطش في طريقه، وهو بمنقطع من الماء في الصحراء، فمر به أعرابي يحمل قربة، عرض عليه جحا أن يبيعها إياه فلم يقبل بأقل من خمسة دراهم، فاشتراها جحا، وجلس يأكل من طعام دسم كان معه، واستضاف الأعرابي فأعطاه من الطعام ما أشبعه وأظمأه، فسأله شربة من القربة، فلم يقبل جحا بأقل من خمسة دراهم، وباع الشربة بثمن القربة!
(١-٢٠) ثمن الحمار!
وضاع حماره، فأقسم ليبيعنه إن وجده بدينار واحد، ثم وجده وندم على حلفه، ولم يشأ أن يحنث في قسمه، فاحتال عليه ليبِرَّ باليمين، ويحفظ على نفسه ثمن الحمار، وعرض الحمار في السوق وقد ربط إلى عنقه حذاءً قديمًا، فجعل ينادي عليه: الحمار بدينار والحذاء بعشرة دنانير، ولا يباعان على انفراد!
(١-٢١) الكرام قليل
أمره الوالي أن يعد مجانين البلد، فقال: بل أعد لك العقلاء، ومن عداهم كثيرون لا يحصرون.
(١-٢٢) يقضي على القاضي
جاء الشرطي برجلين إلى مجلس القضاء، وجحا عند القاضي يحدثه في بعض شئونه، فعرض الشرطي قضية الرجلين، وقال إنه وجد في الطريق بين بيتيهما أقذارًا ممنوعة، وادَّعى كلٌّ منهما أن جاره مُطالَب بإزالتها؛ لأنه هو الذي وضعها في عرض الطريق.
وأراد القاضي أن يعبث بجحا ليسخر منه ويفضح دعواه؛ لأنه كان يدَّعي العلم ويتصدى للإفتاء، فأحال عليه القضية، وسأله أن يقضي فيها بالحق بين الرجلين.
فقبل جحا مقترح القاضي، وسأل الشرطي: هل كانت الأقذار أقرب إلى دار هذا أو دار ذاك؟
قال الشرطي: إنها كانت في الوسط بينهما.
(٢) نوادر الحماقة والبلاهة
(٢-١) على قدر الوضوء
توضأ جحا، ولم يكفه الماء لإتمام وضوئه، وبقيت رجله اليسرى بغير وضوء، فقام يصلي برجله اليمنى ولا يضع اليسرى على الأرض.
فسألوه: ما بالك تقف على رجل واحدة؟
قال: الأخرى غير متوضئة!
(٢-٢) أنا مكرر
رأى رجلًا في الطريق لا يعرفه، فتبسط معه في الحديث، ورفع الكلفة بعد عبارة أو عبارتين.
فعجب الرجل وسأله: ألك بي معرفة فترفع الكلفة هكذا بيني وبينك؟!
قال: بل حسبتك أنا؛ لأن ثيابك كثيابي ومشيتك كمشيتي، ولكنك لست أنا كما علمت الآن!
(٢-٣) ترويج زوجة
وحاول أن يبيع بقرة له فأعياه بيعها، فرآه دلال في السوق، تكفل له ببيعها إذا أسلمه إياها وأعطاه الجُعل المعلوم، وقبل جحا، فأخذ الدلال ينادي على البقرة، ويذكر منافعها ومحاسنها، ومنها أنها حبلى في ستة أشهر.
ثم جاء الخواطب إلى داره يخطبون بنته ويتطلعون إلى محاسنها، فتذكر الصفة التي روجت سوق البقرة، وقال للخواطب: هي كما ترون وزيادة أنها حبلى في شهرها السادس.
(٢-٤) يريح كما يراح
ورأوه يركب حمارًا ويحمل خرجه على كتفه، فضحكوا منه ورموه بالعبث والدعابة، وقال له قائل منهم: ألا تعرف كيف تضع الخرج تحتك أو أمامك ولا ترهق نفسك بحمله وأنت راكب؟
قال: عدل من الله، أراضي الحمار من حمل نفسي بأن أريحه من حمل خرجي!
(٢-٥) أكبر خوخة
وكان في منديله فاكهة، فسأله بعضهم: ما هذا الذي في منديلك يا جحا؟
قال: لا أقول لكم، ولكني أعطيكم أكبر خوخة إذا عرفتموه.
قال السائل: إنه خوخ؟
فانطلق قائلًا: أيُّ ملعون أنبأكم بأمره وهو مصرور؟!
(٢-٦) أحجية محلولة
ورأى بعضهم أن يمتحنه فقال له: إن عرفت ما في منديلي أعطيتك واحدة منه تكفي لعمل عجة مليحة.
قال: صِفْه لي ولا تذكر اسمه.
قال صاحبه: إنه أبيض وفي وسطه صفار.
قال جحا: الآن عرفته، إنه لفت حشوتموه جزرًا!
(٢-٧) الحمد الله
وضاع حماره فطفق يصيح وهو يسأل الناس عنه: ضاع الحمار والحمد لله.
قيل له: فهل تحمد الله على ضياعه؟
قال: نعم، لو أنني كنت أركبه لضعت معه ولم أجد نفسي.
(٢-٨) أربعون يومًا من رمضان
وكان من عادته إذا صام يومًا في رمضان أن يلقي بحصاة في جرة، ورأته ابنته فألقت في الجرة ملء كفيها من الحصى، وهي تظن أنها تساعده.
وسأله الجيران يومًا: كم بقي من رمضان؟
قال: أما ما بقي فلا أعرفه، ولكني عليم بما مضى من أيامه. ثم عدَّ الحصى، فزاد على مائة وعشرين حصاة.
قال بينه وبين نفسه: لو أنبأتهم بهذا العدد لسخروا مني، ولكني أنزل به إلى أربعين.
ثم خرج لهم يقول: مضى من الشهر أربعون يومًا على التقريب.
فتضاحكوا منه، وتضاحك هو منهم وهو يقول: إنه شهر طويل على الصائمين، فماذا تصنعون لو أنبأتكم بالعدد الصحيح؟!
(٢-٩) الشمس والقمر
وسألوه: أيهما أنفع: الشمس أو القمر؟
فلم يتمهل وأجابهم بيقين: إنه القمر ولا مراء.
فسألوه: ولم؟
قال: لأن الشمس تطلع في النهار حين يستغني عنها الناس، وأما القمر فلا يطلع إلا في الظلام على حين الحاجة إليه.
(٢-١٠) البحث في النور
ورأوه يبحث في أرض لا شيء فيها، فسألوه: عمَّ تبحث؟
قال: خاتم سقط مني.
قالوا: وهل سقط هنا وليس في الأرض أثر للخواتم؟
قال: بل سقط في الزقاق الذي هناك.
قالوا: وما بالك لا تبحث عنه حيث سقط؟
قال: وأي جدوى للبحث في الظلام؟
(٢-١١) حمار ممسوخ
اشترى حمارًا واقتاده بزمام طويل، فتغفله لصَّان، ذهب أحدهما بالحمار، وربط الآخر نفسه في مكانه.
والتفت جحا فرأى إنسانًا في مكان الحمار.
فاستعاذ بالله، وسأله: أين الحمار؟
قال: أنا الحمار، أعادني الله إنسانًا ببركتك كما كنتُ بعد أن مُسخت حمارًا لدعاء والدتي عليَّ.
فبارك له جحا، وأطلقه وهو يوصيه بطاعة أمه ويحذره العودة إلى إغضابها، وجر الغضب من الله عليه بدعائها.
ثم عاد إلى السوق بعد برهة ليشتري حمارًا غير ذلك الإنسان الممسوخ فرأى الحمار بعينه في يد الدلال، فمال على أذنه وهمس فيها قائلًا: لن تنفعك بركتي بعد مسختين، ولن أشتريك وأنت بهذا العصيان!
(٢-١٢) نصف بنصف وتتم الدار
وكان يشارك على دار، فباع نصفها الذي يملكه ليشتري بثمنه النصف الآخر، وتخلص له الدار بغير شريك!
(٢-١٣) دابة على رمح
ونام في الخلاء ومعه عكاز طويل ركزه ووضع صرة النقود على رأسه لكيلا ينالها أحد.
فرآه لص وعرف غفلته، فأخذ النقود ووضع في موضعها روث دابة، وتيقظ جحا فوجد الروث في مكان الصرة، فلم يعجب لسرقة النقود ولكنه عجب للدابة التي استطاعت أن تصعد على عكاز لتصنع به ذلك الصنيع.
(٢-١٤) مكافأة معقولة
وحمل إلى تيمور رمانات باكورة ظهرت في غير أوانها، فرضي عنه تيمور وأرضاه.
ثم طمع في جائزة أخرى، فجمع رءوسًا من اللفت ليهديها إليه، فقال له بعض جيرانه إن اللفت لا يصلح لإهداء الملوك، فاذهب إليه بنخبة من التين فهو ألطف وأحلى.
واستكبر تيمور أن يهدى إليه التين وهو يملأ الأسواق، وأحب أن يكف جحا عن طمعه، فأمر الجند أن يقذفوه بالتين واحدة بعد واحدة.
فوقف جحا يتلقى الضربات على رأسه وعلى وجهه وعلى عينيه وأنفه وهو يضحك ويدعو للجار الذي أسدى إليه النصيحة الصادقة.
واشتد عجب تيمور من ضحكه ودعائه، فأمر الجند أن يمسكوا عن ضربه، ليسأله عن سر ذلك الضحك وذلك الدعاء.
قال: إنه سر عظيم، لو كان اللفت في موضع هذا التين، لتهشم رأسي وانفقأت عيناي!
(٢-١٥) بروج نامية
وسألوه: ما طالع نجمك؟
قال: ولدت والشمس في برج التيس.
قالوا: لا يوجد في السماء برج يسمى برج التيس، ولكنك تعني برج الجدي.
قال: أفمن مولدي إلى اليوم لا يصبح الجدي تيسًا؟
(٢-١٦) كيف يعرف يمينه؟
وانطفأت شمعة في داره فطلبت منه زوجته أن يناولها إياها من يمينه، قال: يا حمقاء، وكيف أعرف يميني من شمالي في هذا الظلام؟
(٢-١٧) أدب مع التلاميذ
وركب بغلته مستدبرًا رأسها فسأله تلاميذه: لماذا لا تعتدل في ركوبك يا مولانا؟
قال: هذا هو الاعتدال، أدير ظهري لرأس البغلة ولا أديره لرءوس الآدميين!
(٢-١٨) يسمع صوته من بعيد
ورأوه يومًا وهو يغني ويجري، فسألوه: ما بالك تغني وتجري؟
قال: أحب أن أسمع صوتي من بعيد!
(٢-١٩) لماذا ينتشرون؟
سألوه: لماذا ينتشر الناس في جوانب الأرض، ولماذا يذهبون ذات اليمين وذات اليسار كل صباح؟
فتأمل قليلًا ثم قال: لو ذهبوا إلى ناحية واحدة، لمالت بهم الأرض وانكفأت بهم في هاوية ليس لها قرار!
(٢-٢٠) لماذا لا تأكله؟
ومر بفرن تتصاعد منه رائحة الخبز الساخن وهو يشتهيه، ولا يقدر عليه لخلو يده، فاتجه إلى الفران وسأله: ألك كل هذه الرغفان؟
قال: نعم.
قال: ولماذا لا تأكلها يا أحمق؟
(٣) نوادر التحامق والتَّبالُه
وهذه نوادر منسوبة إلى جحا تتوسط بين الحكمة البينة والحماقة البينة، لا نقتصر في اختيارها على النوادر التي يصطنع فيها الحماقة ويتكلفها كأنه يمثلها ويستعيرها، ولكننا نختار من هذه النوادر كما نختار من النوادر التي لا تحسب بطبيعتها من الحكمة ولا تحسب من الحماقة، ولكنها تتوسط بينهما وتغلب عليها هذه مرة وتلك أخرى، وكلها قد نسبت إلى جحا كما نسبت بموضوعها أو بمغزاها إلى ذوي السمعة الفكاهية من أمثاله.
(٣-١) أحمق وأحمقان
رآه الطحان يأخذ من قُفف الناس ويضع في قفته، فصاح به: ما هذا يا جحا؟
قال جحا: لا تؤاخذني فإنني رجل أحمق.
قال الطحان: لو كنت أحمق لأخذت من قفتك ووضعت في قفف الناس!
قال: ويحك! أنا أحمق واحد، ولو صنعت كما تقول لكنت أحمقين!
(٣-٢) ما لا يغتفر
ولقيه بعضهم يلهو فقال له: أنت هنا تلهو وامرأتاك تقطع إحداهما الأخرى؟
ولم يشأ أن يدع مجلسه فسأل الرجل متضاحكًا: أقالت إحداهما للأخرى شيئًا يتعلق بالعمر؟
قال: كلا.
قال: إذن لا داعي للوساطة، فإنها مشكلة سليمة!
(٣-٣) مرق مرق المرق
جاءه ضيف ريفي ومعه أرنب فأكرمه وشيعه كما استقبله بالحفاوة والتحية.
ثم مضى أسبوع وجاءه ضيف من بلدة صاحب الأرنب وقال له إنه جاره القريب.
ثم مضى أسبوع أو أسبوعان وجاءه من تلك البلدة جيران كثيرة يزعمون جميعًا أنهم جيران الرجل في داره أو حقله أو دار أحد من أهله.
فأجلسهم جميعًا على السماط وجاءهم بطست كبير فيه ماء غالٍ، وأومأ إليهم قائلًا: تفضلوا فكلوا من مرق مرق الأرنب، يا جيران جيران صاحب الأرنب المشئوم!
(٣-٤) بلبل ولا كالبلابل
وصعد على شجرة يقطف من ثمرها، فحضر صاحب البستان وفاجأه وهو على تلك الحال.
قال صاحب البستان: من أنت يا هذا؟
قال جحا: أنا بلبل أتنقل على الأغصان.
قال صاحب البستان: أسمعْنَا إذن من غنائك أيها البلبل العجيب.
فتغنى جحا بصوت لا يُسمع ولا يشبه تغريد البلبل، وقال صاحب البستان: ما هذا بتغريد بلابل.
قال جحا: هاتها واسمعها، ألم تقل إنني بلبل عجيب؟
(٣-٥) مصيبة أكبر من مصيبة
ونظر تيمور إلى وجهه في المرآة بعد أن تنعم وتعود معيشة القصور فانقبض لمنظره القبيح، ولمح وزيره انقباضه فأخذ يواسيه على عادة الوزراء بما يسرِّي عنه، وقال له فيما قال: مثلك أيها الخاقان الأعظم لا يأسى على جمال الوجوه وقد أعطاك الله بسطة في الجسم وبسطة في القوة وبسطة في الثروة والسلطان، وإنما يأسى على جمال الوجوه النساء وأشباه النساء من الرجال.
فانبسطت أسارير الطاغية، وابتسم راضيًا عما قاله الوزير، ولكنه التفت إلى الخوجة نصر الدين فرآه يبكي ويستخرط في البكاء.
قال له: ما خطبك يا خوجة نصر الدين؟ أنا صاحب المصيبة تسليت وأنت تأبى أن تتسلى؟
قال جحا: معذرة يا مولاي، إن مصيبتي أكبر من مصيبتك أضعافًا مضاعفة. أنت نظرت إلى وجهك مرة فانقبضت، فماذا أصنع أنا الذي أنظر إليك بالليل والنهار مرات؟
(٣-٦) نقل
دخل لص منزله وحمل بعض أثاثه، فحمل هو بقية الأثاث حتى دخل وراء اللص إلى داره.
ونظر اللص وراءه فرآه يدخل الدار، فسأله: من أنت يا هذا؟
قال: أنا صاحب هذه الدار التي نقلتنا إليها!
(٣-٧) كلهم محقون
اختصم رجلان من أصدقائه وجاءه أحدهما يعرض عليه شكواه، فقال له: إنك مُحقٌّ في شكواك أيها الصديق.
وجاءه الصديق الثاني في اليوم التالي فعرض عليه شكواه فقال له كما قال لخصمه: أنت مُحقٌّ أيها الصديق.
وكانت امرأته تسمع القصتين فسخرت منه قائلة: يا لك من منافق! خصمان مختلفان، وكلاهما محقٌّ في شكواه؟!
قال: ولماذا تغضبين؟ أنت مُحِقَّة أيضًا فيما تقولين؟
(٣-٨) تنقلب الدنيا
وأراد أن يتزوج، فبنى دارًا تتسع له ولأهله، وطلب من النجار أن يجعل خشب السقوف على أرض الحجرات، ويجعل خشب الأرض على السقوف، فراجعه النجار دهشًا ولم يفهم ما يعنيه.
قال جحا: أما علمت يا هذا أن المرأة إذا دخلت مكانًا جعلت عاليه سافله؟ اقلب هذا المكان الآن يعتدل بعد الزواج.
(٣-٩) خروف على عيبه
وأرسله أبوه يشتري له رأس خروف مشوي بأقل من ثمنه، فأكل في الطريق لسانه، ثم راودته نفسه فأكل عينيه، ثم أكل أذنيه، ثم أكل شواته (جلدة رأسه) ومخه، وذهب به إلى أبيه جمجمة نخرة.
فجعل أبوه يقلبها ويسأله: أين مخه؟
فيقول جحا: كان مجنونًا بغير عقل.
فيسأله: وأين عيناه؟
فيقول جحا: كان أعمى.
ويسأله: وأين شواته؟
فيقول جحا: كان أقرع.
ويسأله: أين لسانه؟
فيقول: كان أخرس أعجم.
قال أبوه: فاذهب رده إلى صاحبه.
قال: إنما اشتريته بقليل الثمن على البراءة من كل عيب.
(٣-١٠) العقاب قبل الذنب
وناول بنته الصغيرة جرة تملؤها، وحذرها أن تكسرها، وأنذرها لئن كسرتها، ليصفعنها هكذا، وأردف الإنذار على الأثر بصفعة قوية أبكتها.
فنظر إليه عابر طريق ولامه على ضرب البنت الصغيرة في غير جريرة، وقال له: أتضربها قبل أن تكسرها؟
قال: يا أحمق، إنما ضربتها لتعرف ألم العقاب فتحذره، وأما بعد كسر الجرة فما الفائدة من ضربها؟
(٣-١١) العائل الأكبر
سأله الأمير: كم عيالك؟
قال: سبعة!
فأعطاه لكلٍّ من عياله مائة درهم، وخرج جحا، ثم عاد إليه على الأثر وهو يقول: نسيت واحدًا أيها الأمير أنفق من مالي عليه كما أنفق على هؤلاء.
قال الأمير: من يكون يا ترى؟
قال: أنا أكبر عيالي أيها الأمير.
(٣-١٢) يأكلون بالضرب
وذهب إلى قونية، فاعترضه في طريقه دكان حلوى تُعرض فيه أصناف الفطائر والفاكهة المسكرة صابحة شهية فأهوى عليها يأكل منها بلا استئذان، وأهوى صاحب الدكان عليه بالعصا يريد أن يحول بينه وبين حلواه، فتغابى جحا وراح يثني على أهل قونية، ولم يزل يقول: يا لكم يا أهل قونية من قوم كرام، تطعمون الناس بالعصا والكرباج!
(٣-١٣) ماذا يفعل الحذاء؟
ولبس حذاءً جديدًا، فنظر إليه بعض الشطار وأرادوا أن يحتالوا عليه ليسرقوه، فسألوه: أتستطيع أن تصعد على هذه الشجرة وتأتي بشيء من ثمرها؟
قال: نعم، فكم جعلتم؟
فأعطوه ما تيسر لهم وانتظروا أن يخلع حذاءه ليصعد، فلم يفعل، بل صعد على الشجرة ومعه حذاؤه تحت إبطه.
قالوا: وماذا تصنع بالحذاء على الشجرة؟
قال: إذا ألقيت إليكم الثمر فماذا يعنيكم من الحذاء؟ أما أنا فلعلي أجد لي طريق سفر من أعلى الشجرة فأذهب ولا أعود إليكم.
(٣-١٤) لولاك يا كمي
وذهب إلى وليمة بثياب العمل، فطرده الخدم من الباب، فعاد إليهم بثيابه المدخرة، وعليه حلة من الحلل التي يخلعها عليه الأمراء، فأكرموه وتقدموه إلى مكان المائدة، فغمس كمه في الصحان واحدة بعد واحدة، وطفق يقول له كأنه يناجيه: «كل، كل يا كمي، فلولاك ما وصلت إلى هذا الطعام!
(٣-١٥) ماذا أضاعت؟
وقيل له: إن امرأتك أضاعت عقلها، فأطرق يتأمل، وقام إلى داره يبحث فيها.
قالوا: ماذا تصنع يا جحا؟
قال: إنكم تقولون إنها أضاعت شيئًا، ولن يكون ذلك الشيء عقلها، فإنني لا أعرف لها عقلًا تضيعه!
(٣-١٦) بالدور
وقيل له: إن امرأتك تتردد على البيوت وتطيل المكث فيها.
قال: غير صحيح، ولو كان صحيحًا لوصلت إلى دارنا.
(٣-١٧) أصدق من الحمار!
ورجاه بعض جيرانه أن يعيره حماره، فاعتذر له بذهابه إلى الغيط ثم نهق الحمار وهو يكلمه، فعاتبه الجار قائلًا: أليس هذا حمارك ينهق في الدار، وأنت تزعم أنه ذهب إلى الغيط؟
قال: سبحان الله! تكذبني وتصدق الحمار؟
(٣-١٨) يصلح لكل شيء
وسأل امرأته، وقد جاءها برطل من اللحم: لماذا يصلح هذا؟
قالت: يصلح لكل شيء!
قال: فاطبخي عليه إذن كل شيء.
(٣-١٩) قسمة الله
واختاره قوم للقسمة بينهم فسألهم: أترضون قسمة الله أو قسمة عبيده؟
قالوا: بل قسمة الله.
فأعطى أحدهم درهمين، وأعطى الثاني دينارين، وأعطى الثالث لحافًا، وأعطى الرابع سريرًا عليه خشبة، واستبقى سائر التركة بين يديه.
قالوا: ويلك! أهذه قسمة الله؟
قال: انظروا حولكم تفهموا قسمة الله وحكمة الله.
(٣-٢٠) منوم موصوف
وطلبت منه امرأته أن يعود إليها في طريقه من المسجد بدواء منوم لطفلهما الذي يؤرقهما بالبكاء والصياح.
فعاد وليس معه غير الكتاب الذي يقرؤه.
قالت: لعلك نسيت الدواء؟
قال: معاذ الله، هذا هو الدواء، وقد جربته اليوم في الكبار فناموا جميعًا، فجربيه أنت في الصغار.