جحا في الأدب
جحا في الأدب، أو على الأصح النوادر الجحوية في الأدب؛ لأن هذه النوادر على أنواعها موزَّعة بين زمرة من الحمقى والمحمقين بدأت الكتابة عنهم من القرن الأول للهجرة، واشتهر منهم في الأدب العربي رهط يبلغ العشرة ويزيد عليها، منهم هبنقة الأحمق، وباقل العيي، وأشعب الطفيلي، وماني الموسوس، وأبو العبر المتحذلق، ومزبد المديني، والحموي الشاعر، وغيرهم من المحتالين بالحماقة أو التطفيل أو الخلاعة، وليس فيهم من الخلة الجحوية إلا اتساع كلمة الغفلة للاشتقاق بين غافل ومتغفل ومتغافل، على بعد ما بين هذه المشتقات من المعاني والألوان.
وهؤلاء الذين وردت أخبارهم في كتب الأدب أرفع في طبقة «الذوق الفني» من جحا في جملة نوادره وأخباره، فليس فيهم من يسف بأضاحيكه إلى الصبيانية أو السذاجة السخيفة كما يلاحظ على الكثير من نوادر جحا التي وصلت إلينا مضافًا إليها نوادر المجموعة التركية، وهي محيطة بما وضعه الترك وما وضعه غيرهم من عامة الشعوب الشرقية الإسلامية، وبعضه مما وضعه غير المسلمين من جيران الترك العثمانيين — كالأرمن — ونسبوه إلى جحاهم المسمى عندهم باسم «أرتين».
وعلة هذه النقاوة فيما أثبته المؤلفون المتأدبون أنهم أسقطوا البارد الغثَّ من النوادر، ولم يثبتوا إلا ما فيه معنى وله طعم في مذاق الأديب والفنان، فلا تجد — مثلًا — في تلك النوادر ما تحسبه من تأليف الصبيان أو أشباه الصبيان من السذج والجهلاء، وما فيه دليل على الغفلة أو التغافل فهو دليل عليهما بحق في عرف الذكي اللبيب، وليس مما يكثر فيه الخلط ليحسب من الغفلة أو التغافل في عرف الصغار والأغرار.
ولو كانت كل النوادر الجحوية من قبيل نوادر المزبد أو الحموي لكانت طرازًا من هذا الفن لا يعدله طراز في لغة من اللغات، ولكانت بابًا من أبواب الدراسات الصادقة للفكاهة الفنية والعوارض النفسية التي يعتمد عليها من يجدُّ في البحث عن شواهد التحليل.
فمن كلام الحمدوني حين لاموه على التحامق: «إن حماقة تعولني خير من عقل أعوله.»
ومن أضاحيك المزبد أنه هم بتطليق امرأته فذكَّرته طول الصحبة، فقال لها: «والله ما لك ذنب غيرها.»
ومن أضاحيكه أنه سمع عن صيام يوم بمثابة صوم سنة، فصامه إلى الظهر وأفطر، وقال: «حسبي من الثواب ستة أشهر، نحسب منها شهر رمضان.»
ولو اجتمعت ستمائة نادرة من هذا الطراز لكانت كما أسلفنا ذخيرة لا تعدلها ذخيرة في آداب العالم، ولكنها لا تجتمع بطبيعتها ولا مناص من اختلاطها بالسخف والهراء كلما تناقلها العديد الأكبر من عامة الرواة، وأضافوا إليها ما يخترعونه باجتهادهم على حسب مداركهم، أو ما يستدركون به الفوات والنسيان.
والكتب التي جمعت هذه النوادر المنتقاة تعد من أمهات كتب الأدب إلى أيام الدولة العباسية، ثم يعرض لها الإسفاف والابتذال فيما بعد ذلك من جراء الشيوع والذيوع أو من جراء الهزال والاضمحلال في دور المهانة والجمود.
وأشهر هذه الكتب نثر الدرر للآبي، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والمحاضرات لأبي القاسم الراغب الأصفهاني، والبيان والتبيين للجاحظ، وعيون الأخبار لابن قتيبة، وأخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وفوات الوفيات لابن شاكر، وذيل زهر الآداب للحصري، والمستطرف للأبشيهي، وثمرات الأوراق لابن حجة الحموي، وحلبة الكميت للنواجي. ثم يلي هذه الطبقة كتاب الفاشوش في حكم قراقوش لابن مماتي، وكتاب مضحك العبوس لابن سودون المجنون، ويستطرد الإسفاف بعد ذلك إلى القرن الرابع عشر للهجرة، وفيه ظهرت مجاميع النوادر المنسوبة إلى جحا منقولة عن أخلاط الألسن في كل أمة تناقلت هذا الاسم بين الأمم الشرقية.
الأدب الجحوي بعد النهضة الشرقية
وقد ازدهر الأدب الجحوي بعد النهضة الشرقية الحديثة، فظهرت المؤلفات عنه على مناهج شتى، يقتبس بعضها من نوادره للأغراض التعليمية، ويستخدم بعضها هذه «الشخصية» لأغراض النقد الاجتماعي على طريقة جحا في التحامق والحكمة التي تجري على ألسنة المجانين، ويُعنَى بعضها بالإحصاء التاريخي والاستقصاء في تدوين الروايات والأسانيد، ويرجع هذا الازدهار في الأدب الجحوي بعد عصر النهضة الحديثة إلى العناية بإحياء الآثار السلفية، كما يرجع إلى شيوع النقد الاجتماعي بأسلوب الجد والفكاهة.
ونخال أن القراء الغربيين أقبلوا على نوادر جحا لأنها وافقت عندهم نماذج من الشخصيات المضحكة يألفونها ويتناقلون حكاياتها الصحيحة أو الموضوعة. وربما كانت نوادر جحا نفسه قد تسربت إلى الغرب بالتنقل والرواية الشفوية والاطلاع على الكتب العربية في أصولها أو ترجمتها، ولا يبعد أن يكون كثير من هذه النوادر قد انتقل من المغرب إلى أبناء جزيرة مالطة الذين يتحدثون في لغتهم الممتزجة بالعربية عن شخصية كشخصية جحا تسمى عندهم جهان، وهو تصحيف يسير كتصحيف كثير من الأسماء العربية التي يتسمى بها أبناء تلك الجزيرة. أما اسم «جوكا» المشهور باللغة الإيطالية فلا نخاله من قبيل هذا التصحيف كما خطر لبعضهم؛ لأن مادة «جوكا» بمعنى المزاح والضحك شائعة في اللغات الغربية اللاتينية والسكسونية، ومنها كلمة «الجوكندا» لصورة موناليزا الخالدة بمعنى «المبتسمة» من عمل ليوناردو دافنشي الفنان الكبير.
وأيًّا كان مصدر هذا «البنش» فهو باقٍ إلى اليوم يصغي الناس إلى فكاهاته متفرعة متجددة، متطورة، كما نقول بمصطلحات زماننا وقلما يعنيهم أن يتتبعوها إلى جذرها القديم.
•••
ومن أطوار الشعوب في تناقل الفنون أو الموضوعات الفنية أن نهضة الشرق نبَّهت الأوروبيين إلى تراث الشرقيين القديم، وأن عناية الأوروبيين نبَّهت إليه أناسًا من الشرقيين الذين يكتبون باللغات الأوروبية، فوضع الأستاذ عسكر نحاس باللغة الفرنسية كتابًا سماه «تأملات ابن جحا» يحاكي فيه الابن أباه بالحكمة المازحة والدعابة الحكيمة، ومن أمثاله قوله عن المرأة «إنها خلقت في الرجل الأنانية لتحقيق مطالبها»، وأن «امرأة واحدة تبحث عن سيد، ولكن امرأتين معًا تبحثان عن فريسة»، وأن «الرجل الشرير في عين المرأة الخائنة هو السمكة التي ترفض الطعم»، وأن «المرأة تعذب رجلها عقابًا له على أنها شيء لا غنى عنه لديه».
وسينشأ لجحا بعد ابنه هذا حفدة وأبناء حفدة، ولا نظنهم جميعًا قالوا — بعد — كلمتهم الأخيرة باللغة العربية، أو التركية، أو بسائر اللغات، فإنهم خالدون بخلود النفس البشرية بين كل قبيل.