الفصل الأول
ناطحة سحاب عجيبة في تركيبها … يبلغ ارتفاعها خمسة أمتار. إنها ليست من أحجار، بل من آدميِّين استلقى أحدهم على ظهره فوق المسرح، ورفع قدميه إلى أعلى، وجاء آخر فقفز فوق القدم اليمنى، وجاء ثالث فقفز فوق اليسرى، ورابع تسلَّق كتفَي رجل اليمين، وخامس تسلق كتفي رجل اليسار، وإذا بسادس، أو على الأصح سادسةٌ حسناء ظهرت وانحنت تحيي الجماهير برأسٍ فاحمٍ قصير الشعر، وقفزت هي الأخرى قفزة لا يدري أحد كيف حدثت، فإذا هي في قمة هذا البناء الشامخ. ولم تمض لحظة حتى أقبل صبي يحمل صينية عليها أكوابٌ وآنيةٌ بها شراب أحمر، قذف بها هو الآخر فتلقفها أحد الرجال، وظل يسلمها إلى الطوابق التي فوقه طابقًا طابقًا حتى استقرت في يد الحسناء بالقمة فتناولتها ووضعتها على رأسها، وصبت من الآنية الشراب الأحمر في الكئوس دون أن تستند بيدها، بينما جماهير الصالة تنظر وتصفق.
وقف أدهم سليمان قرب أحد الأبواب يشاهد مع المشاهدين، وكان قد دخل إلى الصالة خلسة، مدفوعًا بالفضول والفراغ والصعلكة. لم يكن مظهره يوحي بأنه ممن يستطيعون حجز كرسي أو مائدة في هذا المكان، لكنه كان يملك الجرأة على اقتحام مثل هذا الملهى، ولقد أعد جوابًا سريعًا لمن يسأله عن سبب وجوده، إنه تابع دخل يبحث عن متبوعه، سائق سيارة خاصة، رسولٌ مُوفَدٌ للبحث عن متفرج محترم، وسيذكر أي اسم يخطر على باله، وباله هذا لم يخذله يومًا في اختراعِ ما لا وجود له. رأسٌ ملآن بالأفكار التي لا يقدِّرها أحد، شأن كبار المخترعين في أول أمرهم، الفرق بينه وبينهم في رأيه هو مجرد الحظ، وهو الآن في انتظار هذا الحظ، لأنه سوف يمر به حتمًا في مكانٍ ما، في لحظةٍ ما، كشعاع من الشمس لا بد أن يقع على وجهك مرة — في مكانٍ ما، في لحظةٍ ما — أثناء دوران الأرض الذي لا ينتهي.
على أن رأس أدهم سليمان مشغول الآن بفكرة طرأت عليه وهو يتأمل ناطحة السحاب الآدمية هذه، وقمتها رأس الآنية الزجاجية المملوءة تكاد تمَسُّ سماء المسرح، ومن تحتها رأس الحسناء السمراء تطأ بقدميها طوابق من أكتاف رجال، كل ذلك راسخ كالبنيان، وكل هذا البنيان يمكن أن تطيح به سعلة صغيرة أو عطسة مفاجئة! حقًّا! ماذا يمكن أن يحدث لو دهمت أحدَهم عطسة؟ سينهار بالطبع هذا البناء كله، وينقلب الموقف البطولي إلى مهزلة، في طرفة عين! لماذا إذن لا يحدث هذا؟ ما من أحد سمع أن هذا حدث مرة فوق مسرح … مع أن هذا ممكن جدًّا. إن أساس العمارة هذا — ذلك الرجل المستلقي على ظهره رافعًا عموديه؛ أي ساقيه، ليحمل البناء — مصاب ببرد مصحوب بزكام، وقبل المجيء الليلة فاتَحَ تلك الحسناء في ذلك. إنها زوجته، وليست مع ذلك زوجتَه؛ لقد طلقها مرارًا وردَّها مرارًا لسلوكها السيِّئ. عشاقها كثيرون تلك التي التقطها هو من الحانات والشوارع وعلَّمها ودرَّبها. ما من شابٍّ يحلو في عينيها إلا وتهرب معه، فينفصل عنها الزوج ويتركها للمغامرة، إلى أن تنتهي الرغبة فتعود إليه صاغرة، ثم تهرب مرة أخرى ثم تعود، حياتها هروب وعودة، والزوج يقاسي وهي تقاسي. هو لا يدري متى تستقر حياته الزوجية، وهي لا تدري متى تنتهي نزواتها! … إنها لا تستغني عن نزواتها ولا عن زوجها، الزواج والطلاق يتأرجحان باستمرار في هذه الحياة البهلوانية. وهو الساعةَ، في استلقائه على ظهره، متزوج منها، ولكنه لا يدري موعد الانفصال القادم! … في الأفق شبح مغامرة جديدة، يشمها ولا يتبينها، هذا القلق النفسي الذي يعيشه، وهذا القلق الجسماني من عطسة زكامه … كيف استطاع أن يسيطر عليه في هذه اللحظة؟ … إن مجرد التفكير في العطسة أو السعلة، وتصور هذا البنيان الشامخ وهو «يتدربك» فوق رأسه بين ضحكات الناس في الصالة، لكفيل بأن يُحدِث الكارثة! … ولكنه سيطر على كل هذا في تلك اللحظة … بماذا؟!
وهذه الحسناء في القمة، عندها قلقها هي الأخرى. كل واحد من هؤلاء «المتشعلقين» في الفضاء، بل كل واحد من الناس في الصالة له قصة قلقه. هكذا كان يفكر أدهم وهو مستند بكوعه إلى الباب، لا يدري متى يُطرَد من هذا المكان الذي دخله خلسة. وحوَّل بصره إلى الصالة التي عبِق جوُّها بعطور الغواني والسيدات، ممتزجة برائحة الكباب المشوي … إلى تلك الموائد التي يجلس إليها نساء مع رجالٍ ذوي جيوب سمينة كضروع البقر على المَذاود، أمامهم الطعام والشراب وآنية الثلج الفضية كأنها الجرة التي يُحلَب فيها لبن هذا البقر، والحالبات موجودات؛ راقصات وغانيات تَدربْنَ على الملاطفة والمداعبة والملاعبة أثناء حلب الجيوب، في صورة زجاجات وكئوس تسيل بلا انقطاع، مستعينات في أعمالهن بسقاة «وجرسونات» واقفين عن قرب، بين عيونهن وعيونهم سلك كهربائي أسرع وأبلغ من كل زر أو جرس … كل من في الصالة من حالب ومحلوب تبدو على وجهه صورة انفعالية واحدة أمام النمرة التي تُعرَض فوق المسرح. لكنْ خلف هذه الصورة الواحدة، آلافٌ وملايين من الصور المتعددة غير المكررة لأنواع من قصص القلق النفسي والجسماني، تدمغ كل فرد بدمغة مختلفة كبصمات أصابع اليد. وقصة قلق أدهم سليمان من بينهم معروفة له بالطبع، سببها بسيط في نظره، وسيوضحها هو تفصيلًا فيما بعد. أما الآن، في هذا المكان، فهو يريد أن يقرأ وجوه الآخرين؛ ليحل رموز تلك الشَّفرة التي تخفي حقيقة الصورة الظاهرة. إنها هوايته، وربما كانت مصيبتَه، وربما كانت مصدرَ حظه الذي لم يشرق بعد. ها هي ذي الموائد أمامه بمن عليها من قطيع مشغول بالأكل والشرب، أما الفرجة فقد استطاعها بالمجان، لكن الطعام؟! … يحسن أن يتخيل طعمه من مجرد النظر، كما تخيل قصص الآكلين. هذه الشريحة من اللحم المشوي محاطة بالبطاطس المقلية، موشاة بالبقدونس في طبق هذا الرجل البدين، يفتك بها فتكًا لا هوادة فيه، لعل خلف هذا عملية انتقامية، لا محل للاسترسال في حياة هذا الرجل، كل ما يهم منه الساعةَ هو طَبَقُ لحمه. وعلى الرغم من أن قطعة اللحم تبدو عسيرة على السكين، لرداءة الماشية أو كِبَر سنها، إلا أن اسمها لحم، وأدهم لا يذكر متى أكل اللحم آخر مرة، وهو بخياله المنطلق يستطيع أن يتذوقها خيرًا من الآكل الحقيقي، فها هي ذي السكين في يده هو، قد سارت فيها كما تسير في الزُّبد، وها هي ذي تذوب في فمه سائغة شهية، في حين أن ذلك الآكل الحقيقي سيصاب بعسر الهضم.
وشُغِلَ أدهم بقطعة اللحم فلم يفطن إلى مائدة أخرى في صدر المكان، ليس عليها طعام أو شراب، عليها فقط أطباق فاكهة، وسوف يفطن إليها قطعًا عندما يريد التحلية. وهذا ما حدث بالفعل بعد قليل، لكن الذي أدهشه أن هذه الفاكهة لا تمسها يد، أو على الأصح تناول منها أصحاب المائدة القليل، بأناقة، وتركوها في الحال، وانصرفوا إلى المشاهدة. لم يكن على هذه المائدة غير سيدتين، سيدة شابة في نحو الثلاثين، أنيقة مليحة نافذة العينين، لهما لمعانٌ خاطف كبرق المغنسيوم، أما صاحبتها فسيدة تقترب من الخمسين محتشمة صارمة الملامح، وإن كان عليها آثار مَلَاحةٍ قديمة ذبلت. لم يكن الأمر يحتاج إلى فِراسة أو خيال لإدراك حقيقة الحال، فهذه امرأة شابة مع أمها أو حماتها، لكن لماذا هما في هذا المكان وحدهما دون رجل مصاحب؟ … أليس للشابة زوج؟ لا يمكن أن تكون فتاة لم تتزوج بعد، مظهرها مظهر زوجة، لعلها أرملة أو مطلقة، نعم هذا هو الأرجح، وهي ترتاد هذه الأمكنة على حريتها، وحدها مع أمها، نعم … لا يمكن أن تكون حماتها إذن.
وهذه الأم تتبع ابنتها المتحررة سعيًا وراء زوج جديد. إن منظر هاتين السيدتين الأنيقتين بدون رجل قد لفت النظر فعلًا، لكن الوقار المحيط بهما قد أقام حولهما سياجًا. كانت نظرات أدهم هنا أيضًا موجهة إلى الفاكهة، ولم يلتفت إلى تغير النمرة فوق المسرح، فهناك الآن رجل يلبس الفِراك ويلعب في الهواء بثلاثة أسياخ مشتعلة، والنار المتوهجة منها تنتقل بسرعة خاطفة من إحدى يديه إلى الأخرى، فتصنع في الهواء دوائر متداخلة تصبح أحيانًا كأنها حلقة واحدة كبرى من النيران، ثم تنفرج وتتشكل في صورة نافورة ملتهبة. كان لمنظر اللهيب هذا تأثير غريب على السيدتين، فقد اهتزتا في مقعديهما، وخامرتهما في وقت واحد فكرة النهوض السريع والانصراف، كالهرب من شيء مخيف، لكنهما تماسكتا، ثم فاجأت كل منهما الأخرى بنظرة رعب لم تلبث أن انطفأت في إطراقة ذات معنى. صورة النار لها ولا شك دلالة مشتركة بينهما! وكان فزع السيدة المسنة أكثر عمقًا، وكأنها كانت تخشى تأثير النار على شيء ما في أعماق السيدة الشابة، للنار قصة في حياتهما إذن، قصة تريدان نسيانها أو تناسيها. لكن عين أدهم كانت مركَّزة على طبق التفاح، في أي تاريخ، قبل الميلاد أو بعده، وقعت في يده تفاحة؟!
لا لزوم لإجهاد الذاكرة، إن الذاكرة عنده جهاز لم يعد يسترجع الماضي، إنه الآن يخلق صورًا حاضرة ومستقبلة، فهو غير قدير على تجميع أجزاء حياته الماضية، ولا جدوى في ذلك عنده، لأنه لا يوجد عنده أمس، إنه قشة في أمواج المجتمع، مجرد قشة، ولكنه لن يغرق، لأن القشة لا تغرق، إنه إذن مطمئن من هذه الجهة، لكن هذا الاطمئنان نفسه غير مطمئن، هناك شيء أخطر من الغرق، شيء يشعر بوطأته هناك في أعماق نفسه، على الرغم من هدوء السطح وصفاء الجو، هذا الوجه الخالي من الزوابع، المشبع بعدم الاكتراث، لكنه يقاوم … وأداته الابتسام، وهوايته أن يجعل القشة راقصةً تلعب بالمرح فوق الموج. وها هي ذي النمرة فوق المسرح قد تغيرت، وظهرت راقصةٌ تلعب ببطنها، فاستقبلتها الأيدي بالتصفيق، والأفواه بالهتاف، وخاصة من رجل جالس في الوسط بين غانيتين مبتذَلتين تحلبان جيبه، رجلٍ يبدو أنه حديث عهد بلبس البذلة، بذلة غالية الثمن لكنها كالغريبة عنه، يعلوها رباط عنق غير منسجم، وأمام الرجل كئوس كثيرة وأطباق دجاج محمَّر، لقد منع الجرسون من إحضار لحم، قال: إن اللحم في هذه المَحالِّ لا يؤكل، وهو أدرى، لأنه هو نفسه تاجر الماشية المورِّد لتلك اللحوم التي يَروضُها ويغازلها بسكينه ذلك الزبون البدين وتصيبه بعسر الهضم. نظر أدهم إلى ذلك التاجر ولم يحسده إلا على الدجاجة المحمَّرة، ثم انصرف عنه وبحث بعينيه عن السيدتين فوجدهما قد غادرتا الملهى، والجرسون ينظف مائدتهما ويرفع أطباق الفاكهة.
وأقبل فتًى وفتاة، مراهق ومراهقة، من أنصار الخنافس، جلسا وهما يسألان عن موعد انتهاء هذه النمر السخيفة وابتداء حلْبة الرقص. لكن هذه النمر لم يزل فيها بقية، ها هي ذي الراقصة قد اختفت وحل محلها ممثل خفيف الظل يقوم بحركات من يديه وقدميه وحواجبه وعينيه، ويحكي حكايات فكاهية ويلقي نِكاتًا هزلية، يضحك عليها هو أولًا فتَضِجُّ بعده الصالة كلها بالضحك، من سمع ومن لم يسمع، ومن كان مشغولًا بأكل أو شراب أو مغازلةٍ قهقه أيضًا ثم سأل الرفاق عن النكتة! وانتهى عرض النمر بالتصفيق الحاد. وصعِدت على المسرح فرقة جاز بالسكسفون والجيتارات، وفي غمضة عين انفسحت بين الموائد حلْبة رقص، امتلأت وتلاحمت بأجسام مراهقين ومراهقات لا يدري أحد أين كانوا ولا من أين طلعوا! … وانضم إليهم من الرجال والنساء من جاوز الشباب وبلغ الكهولة ولم يخرج عن نطاق المراهقة. وحمي وطيس رقصٍ محموم اهتزت فيه الأكتاف وتخلعت السيقان، وخُيِّلَ للرائي أن أجزاء الإنسان تتطاير منفصلة في المكان، والأفواه تصيح بكلمات لا معنى لها … «تويست» … «هالي جالي» … «شيك» … والصالة كلها — الجالس، والراقص الرزين، والخفيف — قد أصابتهم كلَّهم عدوى الجنون العام، لقد انقلبت الصالة كلها قطعة واحدة كبيرة من المتفجرات الحية. ما هي العواطف الداخلية التي فجرت هذا كله؟ … ما الذي جرى للناس؟ … وقف أدهم سليمان ينظر إلى ما حوله ويحلل لنفسه عناصر هذه الحالة، كل هؤلاء ولا شك ليسوا في حالة طبيعية، ما من أحد الآن في حالة طبيعية، لماذا؟
وسكتت الموسيقى فجأة، بغير مقدمات ولا مناسبة، كما بدأت، شب الضجيج كومضة، ثم انطفأ كومضة أيضًا، وإذا كل من في الحلْبة قد تصبب عرقًا، وانسحب إلى موائده في استراحة قصيرة، ملأها ظهور مغنية تلقي منولوجها المعروف:
وكانت تحمل بالفعل سلة فيها ورد، تلتقط منه وتقذف به الجالسين، وتركَت المسرح ونزلَت الصالة، تسير بين الموائد تغني أغنيتها وتنثر وردها، أو تقدمه بنفسها إلى صاحب الحظوة من زبائنها، أو مَن كُتِبَ له السعد أن يظفر بالتفاتها، لم يَبقَ في الصالة أحد لم يخرج عن رزانته، الجميع يَشِبُّون ويشرئبون طلبًا للورد أو للمغازلة أو لمجرد الزياط والفرفشة، الصاحي منهم والسكران. شخصٌ واحد فقط بين كل هذا الحشد الزاخر والموج الهادر ما تحرك من موضعه، هو بالطبع أدهم سليمان، ظل في موقفه كتمثال، وقد بدا كمخلوق غريب في ثباته بين هذه الحركة المائجة. كانت المغنية قد اقتربت منه، ولاحظت جموده، فألقت إليه بوردة فيمن ألقت، وتهافَت الآخرون، أما هو فلم يتحرك، ولم يُعْنَ بالنظر إليها ولا بالتقاط وردتها، وتركها تسقط عند قدميه. وتعجبت المغنية وأقبلت عليه، ومدت يدها إليه بوردة أخرى، لكن التمثال لم يتحرك، فهزته بيدها مستغربة: أيوجد من يرفض وردتها؟! لم تظفر منه بِرَد، وكان الناس قد بدءوا يفطنون إلى طول وقوف المغنية أمام ذلك الشاب النحيل، الذي لا يبدو عليه تأنُّق ولا يُسر حال، فصوَّبوا إليه الأنظار، وبدأ التهامس، ثم علا اللغَط وتساءل الناس: ما هذا؟ … من هذا؟ … ولم تجد المغنية حيلة مع هذا الشاب الغريب، ورأت أخيرًا ببديهتها الفنية والمهنية أن تخرج من هذا الموقف بشبه نمرة مسرحية، فتناولت زجاجة صودا «سيفون» موضوعةً على مائدة قريبة، وقالت مع ضحكة رنانة: «حضرته حران ويلزم له دش بارد!» ورفعت الزجاجة إلى رأس أدهم وضغطت على مِفتاحها، فاندفع ما فيها من غاز فوَّار ملأ وجهه بالزبَد والحَبَب، فضج الجمهور بالضحك وتحركت الأَكُفُّ بتصفيق الاستحسان للنمرة المرتجَلة، ومع ذلك ظل أدهم بغير حَراك، لم يَلفِظ حرفًا، ولم يرفع يدًا لمسح وجهه، وانصرفت عنه المغنية وهي تهز كتفيها، عادت إلى مسرحها تتبعها العيون، وانصرف اهتمام الناس عن أدهم، وأحس أن أحدًا لم يعد ينظر إليه، فأخرج منديله وجعل يمسح رأسه ويجفف وجهه، ثم ترك مكانه وانسل خارجًا من الملهى.
كان الجو في الخارج لطيفًا، فهي ليلة من ليالي مايو القاهرية، كان السير على كورنيش النيل ممتعًا، وقد كثرت خَلَوات العشاق على مقاعده الحجرية، التصق كل فتًى بفتاته، وأدهم يمر بهم ويرى النتيجة بعين الغد، أزمة مساكن ومواصلات ومواد استهلاكية! … هذا هو حاصل الجمع والطرح والقسمة في العمليات الغرامية لعصرنا الحاضر. ما يُقلق العاشقَين الآن هو كيف يجتمعان، وعندما يضمهما سقفٌ واحد ويتعرى بينهما كل شيء يلبس القلق ثوبًا جديدًا.
تعب أدهم من السير، واستبعد فكرة العودة إلى مسكنه، فهذا المسكن أو الجحر أو الشقة الصغيرة في ذلك البناء القديم بِحارةٍ ضيقة من حواري شارع محمد علي لا تدخله الآن نسمة هواء. ثم إن المصباح ليس به نقطة جاز، إنه بالطبع لا يستعمل الكهرباء، حتى لا يتشرف بزيارة قارئ العداد ومحصل النور، وما حاجته إلى نور، وهو لا يدخل مسكنه قبل الفجر، ما دام التسكع في الطرقات مباحًا، والشوارع بالليل مضاءة. لا بأس من النوم نهارًا، ولا بأس عند الضرورة من تعسيلة قصيرة تحت قبة هذه الشجرة، فوق هذا المقعد الحجري الخالي … واتجه بالفعل إلى مقعد يلقي عليه جسمه المتعَب. لم يكن المقعد خاليًا تمامًا، هناك شخص يجلس عند أحد طرفيه، يجلس بلا حَراك هو الآخر، في نعاس لذيذ على ما يظهر، إذن فليجلس هو على الطرف المقابل، لن يزعجه شيء. وجلس وتنفس براحة في تنهد طويل، وبصره يحتضن النيل كله أمامه احتضان المالك لمِلكه. ويبدو أن صوت تنهده كان مرتفعًا واضحًا، فأيقظ النائم إلى جواره وجعله يلتفت إليه ويحملق فيه، حملق كل منهما في صاحبه، وهنا انطلقت من كلٍّ منهما صيحة في نفس الوقت.
المنظر الأول
(أدهم والشخص الآخر، وقد اقترب أحدهما من الآخر فوق المقعد الحجري.)
(ينهضان ويسيران.)