الفصل العاشر
نفذ شعبان الاتفاق واتصل بفاطمة عصر الخميس كما أرادت، قالت له إنها ستكون في انتظاره في ذلك المنزل بالمعادي حوالي الثامنة بمفردها، لأن الخادمة تكون قد انصرفت في إجازتها الأسبوعية. كانت تكلمه بالتليفون وعينها تراقب المكان خشية من مفاجئ، كأنها مراهقة تخاطب أول حبيب، وما إن وضعت السماعة حتى أسرعت إلى الحمام ومعها ملابس داخلية شفافة اشترتها أخيرًا وتأنقت في اختيار ألوانها، كان مجرد اهتمامها بنفسها الآن يمنحها فرحة الحياة الجديدة … ومهما يكن تفكيرها في صواب ما تفعل فإنه لم يكن من السهل عليها الآن رفض هذه الفرصة، وانتهت من زينتها وارتداء ثيابها وخرجت توًّا إلى منزل المعادي.
كانت الخادم في انتظار قدومها فصرفتها، وصعدت إلى الطابق الأعلى، وما إن اقتربت الساعة من الثامنة حتى هبطت إلى الصالة، وفتحت الباب ووقفت تترقب، وأقبل شعبان في الموعد، وكان لقاء مما يحدث بين عاشقَين، وقادته إلى نفس الحجرة، وتخفف كل منهما من بعض ثيابه، وكاد يقع بينهما ما وقع في المرة السابقة، لولا صوت صرخة انتفضت لها فاطمة، وقفزت من مضجعها، وخرجت في الحال وصعدت إلى الطابق الأعلى. ومن لهفتها نسيت أن تستأذن من شعبان أو حتى أن تضع شيئًا فوق كتفها العارية، وذهل شعبان لحظة، ثم تمالك وارتدى سُترته وانطلق في أثرها يستطلع الخبر، صعِد إلى الطابق الأعلى فوجد أمامه بابًا مفتوحًا فأطل منه، فإذا هو يجد امرأة بيضاء الشعر، تلك التي لمح خيالها في الشباك من الحديقة وقال إنها شبح، كانت تَنشِج وتبكي وتضحك في حركات عصبية، وفاطمة آخذة برأسها في رفق تهدئها، ثم أحضرت لها دواء في كوب وجرَّعتها ثم أسندتها إلى ظهر مقعد كبير، وجعلت تمسح جبينها بحنان إلى أن استرخت وأغمضت عينيها وراحت في سبات، فتركتها وسارت على أطراف القدمين إلى الباب، فوجدت في وجهها شعبان واقفًا ينظر إلى ما حدث، فبُهِتَت قليلًا ثم سحبته من يده ونزلت به إلى حيث كانا من الحجرة.
وقرأت في عينيه تساؤلًا، فترددت، أتقول له الحقيقة؟ أم تخترع له حكاية؟ ولحظ ترددها فعاجلها قائلًا: «إذا لم أكن جديرًا بثقتك فلا تقولي شيئًا.» فأجابته: «سأقول، على أن يكون هذا سرًّا بيننا، هذه أختي.» وانطلقت تخبره أن هذه هي أختها الكبرى خديجة، لم تمت، أصيبت بالجنون، ولم يكن من الصواب ترك مرفت تعتقد أن أمها حية، فتعيش صباها وشبابها وهي تعلم أن أمها مجنونة، أمامها حياة … أمامها المدرسة وزميلاتها، ثم بعد ذلك فرص الزواج … كيف يمكن مواجهتها لكل هذا والناس تعلم بحالة أمها؟! أُخْفِيَت عنها الحقيقة بإحكام، ونُقِلَت الأم منذ أعوام إلى هذا المنزل المنعزل، وأُقِيمَت على خدمتها هذه المربية القديمة لمرفت، تظل معها طول الأسبوع لا تتركها إلا ليلة الجمعة، في إجازة تُمضيها مع ذويها، وتحل محلها فاطمة منتحلةً لمرفت العذر بأنها في زيارة إحدى القريبات. وجنون أختها هذا هو كل الحقيقة، التي لا يعرفها غيرها هي والمربية القديمة ومنير عاطف بالطبع، لأنه هو المتولي الإنفاق على احتياجات هذا المنزل، من حساب التركة التي خلَّفها أخوه عادل ويديرها هو، لكن … أكانت هذه حقًّا هي كل الحقيقة؟
هنالك سؤال لم يخطر على بال شعبان أن يسأله، أو خطر له وأحجم: ما سبب هذا الجنون؟ هنا يكمن سر المأساة، لكنه على كل حال ما كان سيتلقى عنه جوابًا صريحًا، فما من أحد يعرف غير فاطمة وحدها، وهي لا يمكن أن تُفضي به، حتى منير عاطف يجهله، ولو أنه عرَفه لأذلَّها وصيَّر حياتها جحيمًا، بل إنها هي نفسها طالما حاولت خنقه في صدرها وكتمان همسه، واقتضاها ذلك سنوات، استحال فيها الهمس الخانق إلى صدًى بارد … ومع ذلك فقد مس شعبان حافة سرها يوم اكتشف أنها ليست بكرًا، أمَّا مَن هو صاحب تلك الفعلة، وما ترتب عليها، فإن الصمت الدائم قد ختم على شفتيها … إلا من رعشة عين ورجفة صوت لم يلاحظهما شعبان، وهي تنطق باسم عادل عاطف زوج أختها، الذي وصفت نظراته بأنها لا تُقاوَم!
إنها فعلًا لم تقاومها طويلًا يوم كانت فتاة في التاسعة عشرة تدرس في الجامعة، وتعيش بينهما بقوامها الرشيق ونهديها البارزين. لا تريد أن تتذكر غوايتها وسقطتها، فإنَّ مرَّ الزمن لم يمحُ تمامًا آثار ذلك الخزي وآلامه. لكن كيف استطاع ذلك الرجل أن يسيطر عليها ويجعلها عشيقته، أكثر من عام، في غفلة من زوجته! إن أختها لم تكن تشك لحظة فيما نشأ بين زوجها وأختها الصغرى من علاقة آثمة، فقد كان زوجها مثلها الأعلى في الرجولة والشهامة، بعد أن وقف وقفته المتحدية أمام أسرته من أجلها، كانت تعبده، وربما كانت هذه العبادة هي التي أعمت بصرها، إن العبادة رفض للنظر. وظلَّ الحجاب مسدولًا وكثيفًا بينها وبين ما يجري حولها، حتى وقعت الواقعة ذات ليلة، فطِنت إلى زوجها وهو ينسَل من جانبها في الفراش ويخرج من الحجرة، ظنته ذهب يقضي حاجة، لكن غيبته طالت، وخافت عليه ونهضت تتحرى الخبر، وعند اقترابها من حجرة أختها فاطمة سمعت أصواتًا غريبة، فوضعت عينها على ثقب الباب فأبصرت الكارثة! … زوجها وأختها متعانقان في فراش واحد، تماسكت حتى لا تقع على الأرض، وكتمت فمها بيدها حتى لا تنطلق منها صيحة، وارتمت في فراشها ودست وجهها في الوسادة وغابت عن الوعي.
مضت ساعات وأفاقت فوجدت زوجها إلى جوارها نائمًا يغط، كان قد عاد ولم يفطن إلى ما بها، إلى الصدمة التي زلزلتها، نظرت إليه وهو راقد في نوم عميق لذيذ، وأيقنت أن حياتها معه قد غدت مستحيلة، بل مجرد حياتها لم تعد في الإمكان، انهار مثلها الأعلى، وانهار هيكل عبادتها، وأصبح الممدِّد بجوارها جثةَ أملٍ وجِيفةَ حُلم، وما قيمة حياة لن يخرج منها بعد الليلة إلا رائحة العفن … ولم تشعر بنفسها وهي تخرج من الحجرة إلى المطبخ، وتحضر كوزًا مملوءًا بالبترول، تصبه على زوجها النائم وتشعل فيه النار، ثم تطرح جسمها بجواره معانقة إياه ليشتعلا معًا، مِيتة بالنار قد يكون فيها أيضًا معنى التطهير.
وهب زوجها واللهب يلفه ويلفها، فدفعها عنه بعيدًا وألقى عليها أغطية الفراش فأنقذها من الموت، أما هو فظل يجري هنا وهناك بلهبه وهو يصيح طالبًا النجدة، ودخل الحمام محاولًا إطفاء النار بإلقاء جسمه في الحوض، لكن امتلاء الحوض احتاج إلى وقت، كانت النار قد تمكنت منه، وعندما خف الجميع لإسعافه كان إنقاذه قد فات أوانه، وتم إسعاف زوجته، لكن الهزة العصبية التي أصابتها من الحروق الخطيرة ومن مأساة الليلة ومما فعلته بزوجها … كل ذلك أدى إلى جنونها، ولم يعلم أحد شيئًا من تفصيلات ما حدث، ولم يكن هناك بالطبع، بالنسبة إلى مثل هذه الأسرة المحترمة، أي تحقيق جِدي، وما كان يُسمَح لأي خاطر أن يتجه إلى سبب يؤذي سمعة الأسرة.
ومُسِحَ كل شيء كالعادة في القضاء والقدر، وفي سيجارة افتُرِضَ أنها تركت مشتعلة في الفراش، وأُسدِلَ الستار على المأساة.
شخص واحد فقط شم رائحة الحقيقة، هي فاطمة، أدركت أن أختها اكتشفت كل شيء وأقدمت على هذا الذي حدث، لكن من المنبع الحقيقي للمأساة؟ إنها هي فاطمة … الشعلة الأولى لهذه النار التي شبت في هذا البيت … لا يمكن أن تنسى وجه الصغيرة مرفت — الطفلة بنت السادسة وقتئذٍ — وقد تجمد من الرعب لمنظر أبيها المتدثر باللهب، وهو يصيح وكل من في البيت قد هب لصياحه. لبثت مرفت فترات طويلة من حياتها تفزع لمرأى النيران. وبموت الأب وجنون الأم أصبحت مرفت وحيدة لا عائل لها إلا خالتها فاطمة … وطوت فاطمة كتاب حياتها الخاصة وكرست نفسها لبنت شقيقتها البريئة، ربما كان في هذا بعض التكفير.
توالت هذه الصور سريعًا في ذهن فاطمة وهي جالسة بجوار شعبان على الكنبة، ربما خطرت في بال شعبان أسئلة، وأهمها ما يتعلق بمرفت، ربما آن الأوان ليقترب من مدارها، وربما لم يكن الوقت قد حان، لا بد أن يبدو طبيعيًّا، وليترك الظروف تقرر، وليكتفِ الآن بمواصلة ما هو فيه من توثيق علاقته بفاطمة، إنه كلما التصق بها اقترب من بنت أختها. ومد ذراعه وطوقها برقة … وإذا صوت كأنه صوت سقوط شيء على الأرض في الطابق الأعلى … فنهضت فاطمة مرة أخرى لتصعد مسرعة، وشعبان في أثرها، لكنها استوقفته، ورجته أن يبقى في مكانه وينتظرها. إن أختها لا شك صدمت شيئًا أوقعته على الأرض، وهي غير معتادة رؤية أحد غيرها وغير المربية، وربما أفزعها وجود شعبان.
وامتثل شعبان ووقف ينتظر في الصالة، وأشعل سيجارة وأخذ يتمشى، ثم أدار عينيه يتفحص ما حوله شغلًا للوقت، فوقع بصره على باب الحجرة المقابلة، فاتجه إليه بدافع الفضول وفتحه ونظر … إنها حجرة مكتب مهملة، فدخلها، وجعل يعبث بأدراج المكتب، وإذا هو يعثر في أحدها على علب تسجيل فارغة مما يستعمل في جهاز «الركوردر». وفي قاع الدرج عثر على ورقة كُتِبَ فيها بقلم جاف عبارة: «العلب من رقم ١ إلى رقم خمسة سُلمت إلى م. ي. ع وتم قبض أول دفعة، والدفعة الثانية مع تسليم الأرقام التالية.» ثم عبارة أخرى أو تأشيرة بخط آخر ولون قلم آخر: «يلاحظ توضيح عناوين المهتم بأمرهم من الفئة أ.»
وسمع شعبان صوت فاطمة تنزل السلم فأغلق الدرج، وخرج من حجرة المكتب … واستقبلها وقد آثر ألَّا يخفي عنها ما اكتشف … بادرها بالسؤال عن هذه الحجرة، فقالت إنها حجرة مكتب قديمة لمنير عاطف، أتى بأثاثها هنا ضمن أثاثٍ قديم آخر لم يعد في حاجة إليه، بعد أن ترك منزله الكبير عقب وفاة زوجته، وانتقل إلى شقة الزمالك … سألها: أهو يأتي إلى هنا؟ … أجابت: بالطبع من حين إلى حين ليعطي المربية مرتبها ولوازم المنزل، فقادها من يدها إلى الحجرة وفتح الدرج وأطلعها على العلب الفارغة والورقة والرموز، وأفهمها ما استنتجه، فارتاعت، وقالت إنها لا تستبعد على منير عاطف أي شيء.
ولم يستطع شعبان أن يمكث لحظة، كان من الضروري أن يقابل صديقه وزميله أدهم في أسرع وقت، فاستأذن من فاطمة وقبَّلها وانطلق خارجًا.
المنظر العاشر
(شعبان يدخل على أدهم في مكتبه وهو يلهث.)
(يخرج بسرعة.)
(يغلق الباب.)
(نقر على الباب، فيذهب شعبان ويفتح، ويظهر منير عاطف يحمل جهاز تسجيل صغيرًا.)
(يخرج.)