سار الزميلان في الشوارع متلكئَين، أحيانًا يكلم أحدهما الآخر كلامًا
مقتضبًا، وأحيانًا يكلم كل منهما نفسه، وأحيانًا يصمتان ويشردان. وفي كل
الأحيان تحصي عين شعبان أكشاك السجاير، ويرقب بنفاد صبرٍ طلوع الفجر،
حتى يستطيعا أن يدخلا ذلك الجحر، شقة أدهم، عدُوَّة الليل. ولم يكن هَرَبُ
أدهم من شقته ليلًا يخلو من فائدة، ما من أحد استطاع أن يعرف حياة
الشوارع ليلًا مثل أدهم، إنها معرفة ألفة وصداقة، لا معرفة ضرورة، إنه
يمشي فيها إلى غير هدف، يتمهل في أحشائها بغير استعجال للنور، ويتباطأ
في الخطى دون رغبة في وصول، وكلما وجد نفسه الصاحي الوحيد وسط الشوارع
الساكنة خيل إليه أنها لا تعرف أحدًا غيره، وكل تلك البيوت النائمة
والحوانيت الهامدة إنما هي أطفال تهجع في أحضانه الساهرة، وهذه
التماثيل الواقفة تخطب في الظلام لجموعٍ وهمية، هو وحده الذي يستمع
إليها، هو الوحيد الآن الذي يمكن أن تقوم بينه وبينها علاقة وحوار،
وكلما مر ليلًا بتمثال طلعت حرب مؤسس بنك مصر قال له: «تكلم … تكلم …
إني مصغ إليك، ولا فرق الآن بيني وبينك، فما في جيبي يساوي الآن
بالتمام ما في جيبك.»
على أن هناك فوق ذلك متعة أخرى قلَّما ظفر بها غيره في تلك السويعات
المهجورة، هي متعة الاستماع إلى الطيور عند استيقاظها، إنه حريص على أن
يمر دائمًا عند بزوغ الفجر قرب حديقة الأزبكية، هناك تبدأ في العزف
أوركسترا الطيور، تطلق العصافير أولًا زقزقاتها الوترية، يصاحبها لحن
قرارٍ مِن ذَكَر الحمام، ثم تدخل ميلودية رقيقة من هديل اليمامات، تقطعها
أصوات معدِنية من صرخات الحِدَآت، ترُدُّ عليها قعقعةٌ صماء من نعيق
الغربان، تلطِّفها خلفية هامسة من هدهدة الهداهد، ويتخللها بين حين وحين
صفيرٌ من ناي العندليب … سمفونية مرتجلة تضعها فرقة كاملة مؤتلِفة
فنيًّا مع تنافر أنواعها، وتؤديها أداءً محكمًا كلَّ فجر، ولا يسمعها أحد
غيره.
فالمستيقظ في تلك الساعة إما مؤمن يُهرَع إلى صلاة الفجر في أقرب مسجد،
فهو مشغول بصلاته … وإما مخمور خارج لتوه من حانته ليَأوِيَ إلى فراشه،
فهو في غير وعيه … وإما عامل ذاهب إلى مصنعه، فهو يفكر في مواعيد
العمل وزحمة المواصلات … وإما فلاح يسرح إلى غيطه، فهو يسوق أمامه
جاموسته وحماره، ويصغي إليهما أكثر من إصغائه إلى الطيور، فلديه ما
يشغله عن موسيقى الطير. إلا إذا كان شاعرًا، كما كان في طفولته أدهم
سليمان أبو حواية، لقبه «أبو حواية» هذا حُذِفَ عند التحاقه بالمدارس،
لكنه عندما كان طفلًا بقريته (كفر عنبة) لم يكن عَرِيف الكُتَّاب يناديه إلا
بالولد أبو حواية.
في تلك الأيام كانت صلته وثيقة أيضًا بالفجر، كان يحب سماءه
الرَّمادية، ثم اللون الأُرجُواني الصاعد فوق الأفق شرقي التُّرعة، على أن
الذي كان يسحره حقًّا هو صوت القُبَّرة ورَدُّ أبي فصادة، فيقف يتلكأ قربهما
وتحت إبْطه ربع القرآن واللوح الأَردُواز، وفي عودته يترك رفاقه الصغار
ويجلس على شط التُّرعة يلعب في الطين ويصنع تماثيل صغيرة للقبرة وأبي
الفصاد، إلى أن مر به ذات يوم حمار يشرب بجواره من الترعة، وفوقه غازية
غجرية خلفها طبَّالها وزَمَّارها، قالت له وهي تشاهد طيور الطين إنها تستطيع
أن تصنع له جملًا، جملًا كبيرًا من الجريد، جريد النخيل المعرَّش أمامه
على حافة الأجران، فما إن سمع منها ذلك وأدار الصورة في مخيلته حتى
تعلَّق بها وتشبَّث بذيل حمارها، وسار خلفها من قرية إلى قرية، ونسي كُتَّابه
وعَرِيفه وبيته وأمه وأباه الشيخ المزارع الطيب، وظل غائبًا يومين وأهله
يقيمون الدنيا ويقعدونها! … إلى أن عثر به أحد أهالي قريته فأمسك به
وأعاده إلى أهله. إنه متشرد من يومه، هكذا قال في نفسه وهو سائر صامت
إلى جوار زميله شعبان، وكم خيب آمال أهله فيه.
وتذكر والده الشيخ عبد الصمد أبو حواية وفدادينه الخمسة التي
يستأجرها في أطيان البك الكبير عادل بك عاطف الوجيه الأنيق. وِقفته
المَهيبة كانت تبهره هو وبقية أطفال القرية، أنظارهم كانت تتعلق بالمقبض
الذهبي لشمسيته وهو يشرف بنفسه على جمع القطن في شهر سبتمبر من كل عام،
الشهر الوحيد الذي يجيء له من القاهرة مع أسرته؛ زوجته الحسناء وأختها
الصغرى اليافعة وابنته الطفلة مرفت. كان يسمع الخدم ينادونها مرفت هانم
أو الست الصغيرة مرفت، وهي تلح وتبكي لتركب حِصان البك الكبير، كانت في
الرابعة وكان هو في العاشرة، يراها بعيدة مثل ثمرة البرتقال والرمان
والجوافة التي تتمايل فوق الأشجار من خلف سور الحديقة المحيطة
بالسراية، هكذا كانوا يُسمُّون الفيلَّا التي يقطنها البك، مرة واحدة غامر
وتسلق السور ومد يده إلى ثمرة جوافة قطفها من غصنها المتدلي، ولمحه
الخولي وقامت الضجة وأُجْرِيَ التحقيق، وسمع من يقول إنهم سيوقعون غرامة
على أبيه. ما زال يرن في أذنه صوت أبيه المتألم: «ليه يا ابني ليه؟»
لكن القطوف الدانية فوق الشجر أتوجد يد طفل تقاوم إغراءها؟!
ولكنه أيضًا يرى أباه وقد جرُّوه ذات صباح إلى سجن المركز بتهمة
التبديد، كان أبوه يصيح قائلًا إنه معترف ولا ينكر بيعه قطنه المحجوز
عليه لعدم سداد الإيجار، كان ذلك يا ناس ضروريًّا لتجهيز ابنته الكبرى
للزواج. ها هو ذا الصندوق الأحمر يتراءى لعين الطفل، كان موشًّى بزخارف
طالما لعب فيها خياله، وإلى جوار الصندوق مرتبة ولحاف ببوشة، وحلل وطست
نحاس أحمر، ثم ثوب من القطيفة السوداء ومكحلة نحاسية صغيرة، وزوج غوايش
ذهبية وزجاجية ونميسة ذهب بجلاجل. ولكن رنين صوت أبيه ما زال في أذنه
وهو واقف يستعطف قرب باب السراية، ثم يضع كفه على رأس طفله ويرفع عينيه
إلى السماء داعيًا: ليس بكثير عليك يا رب أن تجعل ابني من الحكام، في
يده أمر السجن والإفراج!
ولقد أصر فعلًا على تعليم ابنه، أرسله إلى خاله في القاهرة، عطار
صغير في خان جعفر، ونجح أدهم في كل مراحل التعليم، لم يبخل عليه أبوه
بكل ما استطاع من مصروف، ولا والدته بكل ما استطاعت من تدبير، المئونة
من جبن وبيض وبتاو وبرام أرز تصله من حين إلى حين، وعندما التحق بكلية
الحقوق باع والده الجاموسة لينفق عليه، لكنه كان قد بدأ يَقرِض الشعر،
ويعتنق آراءً غريبة، ويرى الدنيا بعينه الخاصة، ومات والده وفي قلبه
حسرة يوم عَلِمَ أنه ترك كلية الحقوق واشتغل بالصحافة، ثم اعتُقل، ثم أُفرِجَ
عنه وعاد إلى الصحافة … ثم لم يعد أحد في قريته يسمع عنه شيئًا،
انقطعت صلته بأهله، قيل له وهو في المعتقل إن أمه أيضًا ماتت. لم يبقَ
له أحد يهمه سوى أخته الكبرى التي تزوجت، وسمع أن زوجها الفلاح قد
ملَّكوه خمسة أفدنة في الإصلاح الزراعي، لكنه الآن بعيد كل البعد عن كل
ذلك، دنياه الآن مختلفة، ورأسه يموج بأفكار … وأفاق أدهم فجأة، والتفت
إلى زميله شعبان فوجده يسير هو الآخر تاركًا العِنان لهواجسه، وربما هو
أيضًا لذكرياته، كانت مصابيح الشوارع لم تزل ترسل أضواءً خافتة أمام
بواكير الصباح. قال له آن الأوان لتشريف الشقة، واتجها بِجِد نحو شارع
محمد علي.
لم يكن أدهم يعرف شيئًا عن أسرة شعبان جاد عوضين ولا عن نشأته، كل ما
يعرف عنه أنهما كانا زميلَي دراسة في الكلية، ثم زميلا تشردٍ الآن، ولما
نكشه قليلًا ليفضي إليه بشيء، أجابه باختصار أن والده كان برَّادًا في
عنابر السكة الحديد، ثم تركها واشتغل عند ميكانيكي سياراتٍ إيطالي، ثم
استقل بورشة صغيرة عبارة عن دكان واحد في حي باب الخلق. وأن له أخوين
أكبر منه، استمرَّا في الدراسة ونجحا، أصبح أحدهما مهندسًا والآخر
مدرسًا، وتركا الحي وعاشا حياتهما المستقلة. أما هو فقد ابتُلي وهو في
الكلية بحب فتاة في الحي، سحرته بلفة جسمها في الملاية اللف، فتزوجها
سرًّا عن أبيه، ثم طلقها وتزوج غيرها من زميلاته في العمل بعد ترك
الكلية، ثم طلقهن جميعًا كما سبق أن أخبره، وأصبح طريد النفقة إلى أن
يئسن منه موسرًا، وأيقَنَّ أنه احترف العُسر … ما أدهش أدهم من كل هذا هو
أن زميله شعبان لا يرى في مثل هذه الحياة ضياعًا، ربما لأن الخيال
ينقصه، كما قال في سره. لكن الأعجب هو أن أدهم نفسه يرى حياته هو
طبيعية، لأنه يعتقد أنه صاحب مبدأ، صاحب نظرة خاصة، كان يرفض الحياة
المبنية على الامتلاك. الامتلاك في رأيه هو السجن، والحر الحقيقي هو من
لا يملك شيئًا؛ لا أرضًا ولا عقارًا ولا زوجةً ولا أطفالًا. وعندما وضع هذه
الأفكار في الشعر لم تكن في ذلك خطورة، لكن عندما بشر بهذه الحرية من
خلال سطور مقالاته الصحفية دخل السجن.
واقتربا أخيرًا من باب المنزل
الذي يقطنه، كان على رأس الحارة المؤدية إلى ذلك المنزل دكان طعمجي، هو
الوحيد الذي فتح دكانه مبكرًا، وبدأ يقلي الطعمية في طاسة فوق موقد،
فيُسمَع للقلي نشيش، وتُشَم له رائحة أخذت بمجامع قلب شعبان، فتسمَّرا على
باب الدكان. كان لا بد لهما من الأكل، لأن هذا بالنسبة إليهما هو
العشاء لا الفطور، فهما سيصعدان للنوم طول نهارهما. وقدم البائع لكل
منهما سندوتش طعمية وفول محبش بالسلطة، لكن المهم الدفع، وتظاهر شعبان
بأن هذا واجب عليه، وجعل يخرج من جيوبه نقودًا لا وجود لها، قرش واحد
فقط خرج بين أصابعه من أعماق البطانة، إنه ما زال يقترض من والده كلما
تعطل عن العمل، ولا يسمي ذلك قرضًا، بل هو في عرفه رَدٌّ لقرض سابق لا
ينتهي سداده، فهو في آخر وظيفة له قبض مرتبه وذهب به إلى والده في
ورشته وأصر على أن يسلفه جنيهين من المرتب، لم يكن أبوه في حاجة
إليهما. من ذلك الوقت وهو يروح من حين إلى حين يطالب أباه بالرد مع
الفوايد، حتى قبض منه أضعاف ما اقترض. وما زال يقبض ما تيسر، أي مبلغ
أو أجر يفوز به، ولو أجر سيجارتين وسندوتشين، إنه لا يطالب بالكثير حتى
يكون له حق الاستمرار. وأيقن أدهم أن زميله غير جادٍّ في الدعوة، فأخرج
في الحال بعض ما في جيبه ودفع، وجيبه هو أيضًا لا يحوي إلا القليل، إنه
ليس عنده والد ينصب عليه، لكن لديه صديقًا صحفيًّا سقيم الخيال ركيك
الأسلوب، يقدم إليه من يوم إلى آخر بعض المقالات ليصوغها له بأسلوب شيق
ويعطيه أجرًا من الباطن. وضع — في رأيه — يحرره من سيطرة رئيس التحرير.
وتم العشاء الصباحي، وطلعت الشمس، فصعِدا إلى الشقة على سلم مظلم متآكلِ
الدرج، لا يعرف هو الآخر وجود النهار، على الصاعد عليه أن تكون لقدميه
عيون. وظل شعبان الغريب غير المعتاد يتعثر ويلعن وصاحبه يُنهضه، حتى
بلغا باب الشقة في آخر طابق. وأخرج أدهم من جيبه المفتاح وفتح الباب
وقال لضيفه: تفضَّل. وتفضل شعبان ودخل فوجد نفسه في مدخل صغير يؤدي إلى
حجرتين، واستقبله بالترحاب ترابٌ ملأ خياشيمه، وهذا بديهي؛ فمن ذا الذي
يتولى التنظيف هنا؟! أما المدخل فهو خالٍ تمامًا إلا من الغبار، وأما
الحجرة التي تواجهه فهي فيما يظهر بالتخمين حجرة مكتب؛ فهذا شيء يشبه
المكتب، ربما كان من خشب، عليه جوخة كانت خضراء في يومٍ ما. وهذان كرسيان
من الخيزران مثقوبان ولا يصلحان للجلوس إلا مع الرفق والحيطة والحذر.
هز شعبان رأسه وقال: إن هذه الحجرة يفترض فيها أن تكون مكان العمل
والكتابة. وإن كان يدهشه أن يخرج منها شعر أو نثر! … وفجأة ارتفع في
الشقة صوت حاد يصيح: «يا سعيد أفندي، كلم سيادة المدير … يا جرجس
أفندي، كلم سيادة المدير!» فأجفل شعبان وارتعد وهمس: هل هذه الشقة
مسكونة؟ … فابتسم أدهم وهدَّأ روعه وأخبره أن هذا صوت السكرتير الخاص، فما
دام يوجد مدير عام لا بد أن يكون له سكرتير خاص، ولا بد من المدير ما
دام هناك بنك. وأشار له إلى الحجرة الأخرى، فدخلها شعبان مترددًا، فلم
يجد بها غير سرير صغير من حديد قديم، وقطعة حصير على الأرض، ومسمار في
الحائط معلق عليه جلابية وطاقية، إنها ولا شك حجرة النوم، لكن أين هذا
السكرتير الخاص؟ … وحانت منه التفاتة إلى الشباك الوحيد في الحجرة،
شباك يطل على منور مهجور، فإذا معلق به قفص فيه ببغاء أخضر أحمر ضخم،
قال أدهم إنه وجده بالشقة التي آلت إليه بعد سفر أو هرب ساكنها السابق
اليهودي، وقد تولى هو بعد ذلك تعليمه وتدريبه على أعمال
السكرتارية!
كان السهر والتعب قد نالا منهما، وشرع شعبان في خلع ثيابه وهو ينظر
إلى ناحية السرير الوحيد، فلم يسع أدهم صاحب البيت إلا أن ينزل له عنه
وينام هو فوق المكتب أو فوق الكرسي، وإذا بضيفه ينظر أيضًا إلى الجلباب
المعلق على المسمار فصاح به: «لا … حاسب!» إن هذا الجلباب ليس على
مقاسه، وسيمزقه حتمًا لأنه فارعٌ ممتلئ، في حين أن أدهم أقرب إلى
النحافة والقصر. ولم يمهله وبادر إلى جلبابه فارتداه وإلى طاقيته فدَسَّ
رأسه فيها، وانسل إلى الحجرة الأولى وارتمى على كرسي ومد قدميه فوق
المكتب وراح في سبات، ولم يجد شعبان بُدًّا من البقاء في بنطلونه فتمدد
به فوق السرير، ولم يمضِ قليل حتى علا الشخير.
لم يتحرك أحد منهما إلا
على أذان العصر من المسجد القريب، فنهض أدهم أولًا وفرك عينيه، ثم أيقظ
زميله فقام وهو يحك جلده من البق ويلعن اختياره للسرير! … ولم يلبث
النشاط أن دب فيهما، فخف الاثنان إلى العمل. جعل شعبان يبحث في درج
المكتب عن ورق، وقعد يحرر بيده نسخًا متعددة من صيغة الإعلان، فلما
انتهى وقف يعلن أن قسم الدعاية للبنك قد تم إنشاؤه بحمد الله وعونه،
واصطحب أدهم ونزلا معًا إلى الشارع ولبثا يتسكعان حتى دخل الليل وأوغل،
وأغلقت الحوانيت، فصار شعبان يمر بأكشاك السجاير ودكاكينها ويتخير منها
ما يصلح، ويلصق على جداره إعلانًا مما خطته يده … إلى أن نفدت جميع
النسخ، فقال إن مهمة قسم الإعلانات قد انتهت ولم يبقَ سوى انتظار
النتيجة … وعادا إلى الشقة ينتظران الزبائن. وعندما استقبلهما بالباب
الغبار المعهود أدركا أن أول واجب عليهما هو تنظيف هذا المكان وجعله
لائقًا بدخول الآدميين، ولأول مرة دخلت المكنسة الشقة، اقترضها أدهم من
أحد الجيران وسلمها إلى زميله شعبان، باعتبار أن النظافة تدخل في اختصاص
قسم الإدارة والدعاية والإعلان.
المنظر الثاني
(أدهم وشعبان في الشقة ينتظران.)
شعبان
(في يده المكنسة)
:
الشقة ونظفناها، والإعلانات ولصقناها، واللافتة على
الباب وركبناها، باسم البنك ومواعيد الفتح والغلق، كل شيء
أصولي، أربعة وعشرين قيراط وفي انتظار تشريف الزباين.
أدهم
:
اسمع يا شعبان … أنت متأكد أن إعلاناتك هذه يمكن أن
تأتي بزباين؟!
شعبان
:
وهل في هذا شك؟! إعلانات مبتكرة.
أدهم
:
مكتوبة بخط يدك، وملصقة على أكشاك السجاير!
شعبان
:
أحسن مكان، لأن المدخنين عادة هم القلقون.
أدهم
:
إعلانات خط يد!
شعبان
:
ومالُه؟! شغل يد، وشغل اليد دائمًا أغلى من شغل
المكن.
أدهم
:
وخطك الذي يشبه نبش الفراخ؟!
شعبان
:
هذا أدعى إلى لفت النظر.
أدهم
:
أتستطيع أن تقول لي من هو هذا الزبون الذي سيذهب لشراء
علبة سجاير ويلفت نظره ورقة صغيرة ملصقة بجدار الكشك عليها
كتابة بخط منعكش تدعوه إلى زيارة بنك مؤسس في درب الطبالي
بشارع محمد علي؟
شعبان
:
حب الاستطلاع يصنع العجب.
أدهم
:
نحن إذن في انتظار شخص يكون عنده حب استطلاع.
شعبان
:
سيأتي هذا الشخص.
أدهم
:
إذا تصادف وقرأ إعلانك!
شعبان
:
سيقرؤه إن شاء الله.
أدهم
:
أنت متفائل.
شعبان
:
دائمًا.
أدهم
:
أنت بالطبع عارف شغلك.
شعبان
:
مؤكد، أنا الصراف وأنت المدير.
أدهم
:
الصراف؟
شعبان
:
طبعًا، لأن الخزينة تتبع قسم الإدارة والإعلان، فأنا إذن
المشرف على الخزينة، يعني الصراف.
أدهم
:
وهو كذلك، بس خذ بالك لئلا يدخل زبون ويجد في يد الصراف
مكنسة! إنها علامة غير مستحبة.
الببغاء
(تصيح في الخارج)
:
يا سعيد أفندي كلم سيادة المدير … يا جرجس أفندي كلم
سيادة المدير.
شعبان
:
السكرتير الخاص ينبه الموظفين! … آه لو عرف الزباين أن
سكرتيرك الخاص هذا ليس إلا ببغاء في قفص!
أدهم
:
على فكرة … ألقِ نظرة من عندك … هل عنده أكل؟
شعبان
:
وما هو أكله؟
أدهم
:
قشر خيار … قشر قرع … أي قشر.
شعبان
:
ومن أين لك هذا الخيار والقرع؟
أدهم
:
صفيحة الزبالة عند الجيران عامرة دائمًا ولله
الحمد!
شعبان
(يلقي نظرة في الحجرة الأخرى)
:
عنده أكله … سكرتير قانع متواضع! … إنه هو حقًّا الذي
لا يعرف القلق!
(طرق على
الباب.)
أدهم
:
الباب … زبون … ارم المكنسة حالًا وافتح!
شعبان
(يفتح باب الشقة مرحِّبًا)
:
تفضل … تفضل … أهلًا وسهلًا … شرفت!
الزائر
(في المدخل)
:
من أنت؟
شعبان
(في المدخل)
:
أنا صراف الخزينة.
الزائر
:
خزينة؟
شعبان
:
تفضل … تفضل جوه عند المدير.
أدهم
(ينهض لاستقباله)
:
تفضل هنا!
الزائر
(لأدهم)
:
الحمد لله لقيتك.
أدهم
(مأخوذًا)
:
هو انت؟!
الزائر
:
أنا يا سيدي … نسيتني … نسيت شكلي؟
أدهم
:
لا أبدًا، أنت دائمًا في الذاكرة … تفضل اقعد خذ
راحتك!
الزائر
:
لا متشكر، أنا مستعجل، أنت عارف طبعًا سبب حضوري.
أدهم
:
الأشواق طبعًا، والقلوب عند بعضها.
الزائر
:
القلوب عند بعضها صحيح، والأشواق إليك صحيح، وإلى أجرة
الشقة كذلك.
أدهم
:
أجرة الشقة؟
الزائر
:
أنا متأسف أذكرك.
أدهم
:
هذا حقك، المطلوب كم بالضبط؟
الزائر
:
أربعة أشهر متأخرة.
أدهم
:
وتتأخر أربعة أشهر؟
الزائر
:
أنا لم أتأخر، أنت الذي تأخرت.
أدهم
:
وعندما تأخرت أنا، أين كنت أنت؟
الزائر
:
كنت أحضر فأجد الباب مغلقًا، وأدق فلا أجد من
يجيب!
أدهم
:
غريبة! … لا بد أنك كنت تحضر في غير المواعيد.
الزائر
:
وما هي المواعيد؟
أدهم
:
مكتوبة عندك على اللوحة المعلقة بالباب.
الزائر
:
لم أقرأ لوحة.
أدهم
:
هذه ليست غلطتنا، المفروض أن اللوحة موضوعة لتقرأ،
والحضور يكون طبقًا للمواعيد المحددة على اللوحة، هذه هي
أصول البنوك.
الزائر
:
البنوك؟!
أدهم
:
طبعًا، هنا بنك، واللوحة على الباب مكتوب عليها اسم
البنك.
الزائر
:
هنا بنك؟!
شعبان
:
وله مواعيد فتح وغلق، ولا بد من طلب النقود في مواعيد فتح
الخزينة، لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، خمس دقائق زائدة أو خمس
دقائق ناقصة تمنع من الصرف، هذه هي الأصول المعمول بها في
كافة البنوك، هل تستطيع سيادتك أن تذهب إلى البنك الأهلي
بعد الساعة الثانية عشرة والنصف بدقيقة واحدة وتطلب
نقودًا؟
الزائر
:
وهل عندكم نقود؟
أدهم
:
طبعًا، إذا حضرت في الوقت المناسب.
الزائر
:
ومتى الوقت المناسب؟
أدهم
:
عندما يكون عندنا نقود.
الزائر
:
ومتى يكون عندكم نقود؟
أدهم
:
عندما يأتي الوقت المناسب.
الزائر
:
بالاختصار، أنا أمام جماعة مماطلين مفلسين!
شعبان
:
من فضلك … لا تقل مفلسين … هنا بنك مثل كل بنك. كل بنك
في الدنيا خزينته تفرغ في ساعة، وتمتلئ في ساعة … حركة
صادر ووارد … وأنت مع الأسف تأتي في ساعة الصادر.
الزائر
:
وما قولكم في أن صبري نفد، وأني سأشرع فورًا في اتخاذ
إجراءاتي ضد هذه المماطلات، وألقي بكم في الشارع أنتم
وكراكيبكم هذه كلها.
أدهم
:
وما قولك أنت في قبولك شريكًا معنا في عمليات
البنك؟
الزائر
:
شريك؟!
أدهم
:
بحق الثلث، وبذلك تشرف على جمع الإيرادات، وتأخذ نصيبك
علاوة على أجر الشقة والمتأخرات.
الزائر
:
وهل يدخل لكم إيرادات؟
شعبان
:
طبعًا … هذا بديهي، ألم تقرأ اللوحة؟ … هنا بنك يُجري
عمليات مهمة جدًّا.
الزائر
:
وما هي هذه العمليات؟
شعبان
:
نحن نتعامل في القلق … هذا هو الصنف الذي نتعامل
فيه.
الزائر
:
الصنف؟!
أدهم
:
لا … لا تفهم خطأ … أعمالنا كلها مشروعة، وفي حدود
القانون والشرف، نحن هنا نعالج الناس من قلقهم ويدفعون لنا
أجر العلاج، ويعالجوننا من قلقنا وندفع لهم أجرهم.
شعبان
:
والفرق دائمًا في مصلحتنا.
الزائر
:
وهل هذا عمل رائج؟
أدهم
:
جدًّا، لأن القلق منتشر، كل شخص عنده ناحية قلق من شيء،
أنت مثلًا أليس عندك قلق؟
الزائر
:
طبعًا.
أدهم
:
إذن نعالجك وتدفع لنا أجرنا، أو يُخصَم من الإيجار، قل لنا
من أي شيء أنت قلق؟
الزائر
:
من عدم دفعكم الإيجار، هذا هو سبب قلقي، وإذا أنتم سددتم
ما عليكم أُشْفَى حالًا.
أدهم
:
كلام جميل، نحن على استعداد …
الزائر
:
على استعداد للتسديد؟
أدهم
:
طبعًا ما دام هذا هو علاجك، لكن عليك أنت أيضًا أن
تعالجنا من مرضنا؟
الزائر
:
وما هو مرضكم؟
أدهم
:
مرضنا هو مطالبتك لنا بالإيجار، وإذا أنت لم تطالِب نُشْفَى
في الحال.
الزائر
:
ما هذا الكلام؟
أدهم
:
نترجم هذا الكلام إلى أرقام وأنت تفهم الحسبة بوضوح، إذا
عالجناك وشُفيت تدفع لنا أجرنا، كلام مفهوم؟
الزائر
:
وكم أجركم؟
أدهم
:
خمسة جنيهات.
الزائر
:
خمسة جنيهات؟ هذا إيجار شهرين!
أدهم
:
أنت أيضًا ستقبض نفس هذا الأجر منا في حالة علاجنا.
الزائر
:
معنى هذا أنكم تدفعون لي الآن خمسة جنيهات بدلًا من
عشرة.
أدهم
:
تمام، مطلوبك كله عشرة، يخصم منه خمسة أتعاب علاج، يتبقى
لك خمسة.
الزائر
:
وهو كذلك، ادفعوا لي الخمسة.
أدهم
:
سندفع لك، هذه حسابات مضبوطة، لكن …
الزائر
:
لكن ماذا؟
أدهم
:
فكرة دفع هذه الخمسة أعاد مرضنا مرة أخرى واحتجنا
للعلاج، نفس العلاج.
الزائر
:
معنى ذلك؟ …
أدهم
:
معنى ذلك أن علاجنا هو في عدم مطالبتك بالخمسة جنيهات
الباقية من مطلوبات الشقة.
الزائر
:
الخمسة جنيهات الباقية؟
أدهم
:
لا تنسَ أنك ستقبض نظير ذلك أتعابك وهي خمسة جنيهات،
وعندئذ تكون أنت قد شفيت فنستحق عليك أتعابنا خمسة
جنيهات.
الزائر
:
الحاصل من كل هذا أني لن أقبض شيئًا.
أدهم
:
طبعًا، عملية مقاصة.
الزائر
:
مقاصة؟
شعبان
:
عملية معروفة في كل البنوك، رصيدك الدائن خمسة جنيهات
والمدين خمسة جنيهات … أي لا لك ولا عليك.
الزائر
:
شيء جميل جدًّا.
أدهم
:
إن شاء الله في العمليات القادمة باعتبارك شريكًا بحق
الثلث سيكون لك رصيد دائن محترم، قل إن شاء الله!
الزائر
:
آه يا لصوص … يا نصابين … يا حرامية!
شعبان
:
احفظ لسانك من فضلك هنا بنك محترم.
الزائر
:
وأنت من حشرك أنت؟ من أنت؟
شعبان
:
قلت لك صراف الخزينة.
الزائر
:
تشرفنا!
أدهم
:
أنت نظرتك فينا غلط، تأكد أننا ناس شرفاء، وأن الأمانة
والذمة رائدنا في العمل، لكن اصبر علينا، صبرك علينا … أسبوع
واحد … وأنت ترى النتيجة سارة جدًّا … نحن في أول عهدنا
… تفاءل … تفاءل … وارجع لنا بعد أسبوع وأنت تقبض جميع
متأخراتك.
الزائر
:
أنا راجع ومعي حكم بالطرد!
(يخرج سريعًا.)
شعبان
:
رُح داهية تغمك!
أدهم
:
ما الذي جاء به اليوم … هذه فاتحة لا تبشر بخير.
شعبان
:
تفاءل … تفاءل!
أدهم
:
أنا متفائل، لكن مجيء هذا الرجل الآن عكر مزاجنا.
شعبان
:
انتظر حتى يجيء قراء الإعلانات، وعندئذ ينشرح
صدرنا.
أدهم
:
نحن في الانتظار.
شعبان
:
على الأقل سيحضر من يطمع فينا … ويدعي علاجنا ليقبض منا
… النصابون في البلد كثير!
(طرق على الباب.)
أدهم
:
الباب! … أسرع!
شعبان
(يذهب ويفتح)
:
تفضل … أهلًا وسهلًا.
أدهم
(ينظر إلى الزائر الداخل)
:
متولي؟!
متولي
:
طبعًا، ومن غيري؟
أدهم
:
قرأت الإعلان؟
متولي
:
أي إعلان؟!
أدهم
:
وما الذي جاء بك الساعة؟
متولي
:
جئت لك بشغل … كالعادة.
أدهم
:
آه! … شغل.
متولي
:
موضوع مهم … اسمع … (يلتفت
جهة شعبان) حضرته …؟
أدهم
:
الأستاذ شعبان جاد … زميل قديم في الدراسة، والأستاذ
متولي سعد زميل في الصحافة.
(شعبان ومتولي يتصافحان.)
متولي
:
والأستاذ شعبان صحفي؟
شعبان
:
لا، أنا …
أدهم
:
هو أحد مؤسسي البنك.
متولي
:
أي بنك؟
أدهم
:
ألا تعرف أننا أسسنا بنكًا؟ … ألم تقرأ الإعلانات؟
طبعًا لم تقرأها.
شعبان
:
واللوحة التي على الباب؟
متولي
:
هل على الباب لوحة؟
شعبان
:
لوحة كبيرة بالخط الكبير الفارسي.
أدهم
:
بنك القلق.
متولي
:
بنك ماذا؟
أدهم
:
القلق … القلق … ألا تعرف القلق؟ … تسعون في المائة
من سكان العالم مصابون بالقلق.
متولي
:
جايز، لكن … ما دخلكم أنتم في هذا؟
أدهم
:
لو كنت قرأت الإعلانات كنت عرفت.
متولي
:
قلت لك لم أقرأ إعلانات! أين هي هذه الإعلانات؟!
شعبان
:
تملأ الشوارع.
أدهم
:
ألم تمر بأكشاك سجاير؟
متولي
:
طبعًا، منذ قليل … واشتريت علبة.
أدهم
:
علبة؟ … إذن بالمناسبة … لا بأس من أن تعزم علينا
بسيجارة.
متولي
:
بكل سرور، تفضل.
أدهم
(يتناول سيجارة)
:
شكرًا … تفضل يا شعبان!
شعبان
(يمد يده هو الآخر ويتناول سيجارة)
:
مع الشكر.
أدهم
:
ندخل في الموضوع، من أين اشتريت هذه العلبة؟
متولي
:
من كشك في ميدان طلعت.
شعبان
:
ملصق هناك أكثر من إعلان.
متولي
:
لم يستلفت نظري شيء.
شعبان
:
غريبة!
أدهم
:
ربما كنت شارد الفكر.
متولي
:
أنا لا يشرد فكري أبدًا … أنا لست مثلك … المهم …
أدهم
:
المهم لا بد أن نخبرك باختصاص هذا البنك … يا
شعبان … سلمه نسخة إعلان.
شعبان
:
هنا عندك في درج المكتب المسودة.
أدهم
(يفتح درج المكتب ويخرج ورقة يناولها لمتولي)
:
خذ … ها هي نسخة … تفضل اقرأ.
متولي
(يقرأ بعينيه سريعًا)
:
ما هذا الكلام … الفارغ؟
أدهم
:
فارغ؟!
متولي
(يلقي إليه بالورقة)
:
رجل مثقف مثلك لا يخلو من موهبة، يضيع وقته في مثل هذه
الألعاب الصبيانية!
أدهم
:
صبيانية؟!
متولي
:
اسمع يا أدهم … أنا نصحتك أكثر من مرة … قلت لك أنت
خسارة … خسارة في هذا الضياع … عندنا في الجريدة زملاء
وأنت عارفهم … أقل منك مواهب ووصلوا.
أدهم
:
وصلوا إلى أين؟
متولي
:
إلى الاستقرار في الحياة على الأقل … إلى المحافظة على
مراكزهم … كنت أنت أيضًا تستطيع ذلك … لم تكن أقل منهم
مركزًا في الجريدة … لو كان عندك فقط قليل من المواظبة
والجدية وتحمل المسئولية؟
أدهم
:
الله! أنت جئت الآن تلومني وتعاتبني؟ … قلت لك ألف مرة
هذا طبع … مزاج … أنا هكذا … ولا يمكن أن أكون شيئًا
آخر.
متولي
:
أنت حر، المهم أنا جئت لك بشغل.
أدهم
:
أنا الآن مشغول … أمامي تأسيس بنك.
متولي
:
أرجوك يا أدهم يا صديقي … فكر في شيء مفيد.
أدهم
:
وهل هذا البنك ليس بالشيء المفيد؟! … إن فائدته سوف تعم
المجتمع كله، وغدًا تعرف وتشهد أنها فكرة عبقرية.
متولي
:
أنا معترف لك بالعبقرية … لكن فكرتك هذه، ولا تؤاخذني،
تافهة!
أدهم
:
الأفكار التافهة هي التي غيرت وجه الأرض، قطار السكة
الحديد من أين خرج؟ … خرج من دخان تافه من إبريق شاي …
نظرية الجاذبية من أين هبطت؟ من تفاحة تافهة سقطت من شجرة
… البنسلين من أين ظهر؟ من قطعة خبز تافهة معفنة … وهلم
جرًّا … وهلم جرًّا.
متولي
:
ليس الأمر بكل هذه البساطة … ومع ذلك لا أرى أن فكرتك
هذه يمكن أن يخرج منها شيء على الإطلاق، غير كونها مجرد
مداعبات وألاعيب مما اعتدت أن تضيع فيه وقتك.
أدهم
:
من أدراك أنه لن يخرج منها شيء … أنت لم تفهم جوهر
النظرية.
متولي
:
أي نظرية؟ مكتوب في هذه الورقة أنكم تعالجون القلق … هل
أنتم أطباء؟
أدهم
:
نحن أطباء ومرضى في نفس الوقت.
شعبان
:
نحن نقرض ونقترض مثل البنك.
متولي
:
اسمحوا لي … أنتم بالكم رايق … تهزلون والدنيا من
حولكم تجد … اسمع يا أدهم … أنا جئت لك بشغل
ونقود.
شعبان
:
نقود؟
أدهم
:
أين هي؟
متولي
:
موجودة في جيبي … والموضوع كتبته لك باختصار في صفحتين،
لكنه يحتاج من قلمك إلى إعادة صياغته بأسلوبك الرشيق إياه،
وعباراتك وتعبيراتك إياها، على شرط ألَّا تشط وتشطح، كن
دائمًا على أرض الواقع وفي حدود الوقائع … خذ … هذا
تحقيق صحفي عن الاتحاد الاشتراكي في كفر عنبة.
أدهم
:
كفر عنبة؟
متولي
:
نعم، بلدك … طبعًا أنت أدرى بها.
أدهم
:
أنت عارف أنا لم أضع قدمي فيها منذ الطفولة.
متولي
:
لا يهم … أنا دونت لك كل الحقائق التي شاهدتها بنفسي
على الطبيعة، وما عليك إلا أن تنفش الصفحتين في أربع أو
خمس صفحات بطريقتك اللامعة المتألقة، لأنها ستنزل على
ثلاثة أعمدة.
أدهم
:
لا أذكر الآن من قريتي هذه إلا سراية عادل بك عاطف، هل
هي لا تزال موجودة؟
متولي
:
موجودة طبعًا، لكنها أصبحت مقرًّا للإصلاح
الزراعي.
أدهم
:
وأين ذهب البك الكبير؟
متولي
:
لا أعلم، يظهر أنه توفي.
أدهم
:
وبنته الصغيرة المدللة مرفت … التي كانت تمتطي حصانه
ويسندها الخدم والحشم؟ … لا بد أنها اليوم في الثلاثين،
كانت أصغر مني بست سنوات.
متولي
:
لا أعرف عنها شيئًا … لكني أعرف عمها منير بك عاطف،
بيته في الزمالك … ما زال له نشاطه في القرية … أراد أن
يكون عضوًا في الاتحاد الاشتراكي … كثير الاتصالات
ومتداخل … نفعني في هذا الربورتاج وزودني بمعلومات
قيمة.
أدهم
:
وزوج أختي؟ … بلغني أنهم ملكوه خمسة أفدنة.
متولي
:
جايز … لقد وزعوا أراضي كثيرة على الفلاحين.
أدهم
:
الحمد لله أني لا أحب امتلاك شيء.
متولي
:
أنت حر في نظرياتك، المهم كن في حدود المعلومات والوقائع
التي دونتها لك، لا تسرح ولا تتفلسف … استلم. (يسلمه الصفحتين) وسلمني الشغل
غدًا … وخذ هذا الجنيه … دفعة أولى.
أدهم
(يقبض منه)
:
هات!
متولي
:
غدًا … تذكَّر جيدًا … لأني يجب أن أسلم الموضوع للجمع
غدًا.
أدهم
:
اطمئن، سأسلمك الشغل غدًا في الميعاد … على شرط.
متولي
:
ما هو؟
أدهم
:
طلب بسيط … انشر لنا خبر البنك في الجريدة … مجرد خبر
صغير.
متولي
:
أنت مجنون يا أدهم!
أدهم
:
كما تنشرون إعلانات عن البنك الأهلي!
متولي
:
أيوجد مجال للمقارنة؟!
أدهم
:
كلها بنوك يا أخي … لماذا التفرقة؟
متولي
:
تتكلم بجد؟
أدهم
:
وهل ترى على وجهي المزاح؟
متولي
:
اسمع يا أدهم … ممكن نشر خبر عنكم … لكن على سبيل
التندر والنكتة والتفكه والتريقة.
شعبان
:
ليس عندنا مانع، المهم الإعلان عن وجودنا بأي
طريقة!
أدهم
:
لا … لا … لا … بأي طريقة لا … أنا لا أقبل أبدًا
تشويه فكرتنا وإضحاك الناس علينا.
شعبان
:
نتساهل قليلًا … لنمشي الشغل.
أدهم
:
ممكن يا متولي إذا أردت … أن تقول مثلًا إنها فكرة
غريبة طريفة غير مألوفة … هدفها كيت وكيت بكل أمانة
وموضوعية.
متولي
:
سأفكر في الأمر … والآن أنا مضطر أترككم … عندي ميعاد
في الجريدة … أكرر رجائي يا أدهم … غدًا بدون تأخير
أستلم منك الموضوع … إلى اللقاء!
(يسلم عليهما ويخرج.)
شعبان
(ينظر إلى النقود)
:
جنيه! يعني مائة قرش صاغ! يعني ما يساوي كم سيجارة وكم
قطعة سندوتش فول وطعمية مع التحابيش والسلطات! … هذه ثروة
هبطت من السما … ومع ذلك يقول إنها دفعة أولى … وعندما
تسلمه الشغل غدًا يسلمك دفعة ثانية! شيء جميل! … قلمك هذا
يؤكلك الشهد يا أخي … ما لنا وما للبنك وشغل البنوك؟ اصرف
نظرك يا أخي عن حكاية البنك، وكان الله يحب المحسنين.
أدهم
:
اخص يا مذبذب! … أنت مزعزع العقيدة سقيم
الوجدان.
شعبان
:
يعني أنت مصمم على مسألة البنك؟!
أدهم
:
إلى النهاية.
شعبان
:
وأنا معك إلى النهاية، هات يدك!
(ويمسك بيده ويرفعها في يده إلى أعلى علامة
التضامن.)