ثلاثة أيام مرت دون أن يطرق أحد باب الشقة، ولم يشعر الزميلان بمتاعب
الحياة، فعندهما زاد من السجاير والطعام؛ إذ بعد أن فرغ أدهم من صياغة
المقال المطلوب، واجتهد في أن ينفشه حتى بلغ ست صفحات، استطاع أن يحصل
نظيره على جنيه ونصف علاوة على الجنيه الذي كان قد تقاضاه دفعة أولى.
وفوق ذلك أيضًا خطف من يد الصحفي متولي سعد علبة سجاير بلمونت كاملة
العدد. لكن … ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، إن الإنسان قاطرة، تملؤها
فحمًا تعطيك دخانًا. هذا بالطبع عند إنسان مثل أدهم، وقد تطاير بالفعل
من رأسه دخان كثير، وأخذ أنفاسًا متلاحقة من سيجارته وجعل يفكر … أهو
حقًّا يضيع حياته … كما قال له متولي؟ … أهو يلعب بها؟ … إنه حقًّا يحب
دائمًا أن يلعب بشيء، منذ أن كان طفلًا في قريته يلعب بالطين ويشكله
عصفورًا. ربما كان يلعب بحياته، لكنه لم يشكلها بعد، أما الضياع فلم
يحسه قط. حتى عندما سار خلف الغازية الغجرية من قرية إلى قرية لم يشعر
أنه طفل ضال، ولم يستشعر الوحشة، ولم يجد في نفسه الرغبة في العودة إلى
أهله، لأنه من فصيلة طير النورس، يحوم على سطح البحر ويغوص أحيانًا بين
الموج ولا يغرق أبدًا، ولأنه لا يعرف الغرق فهو يعرف القلق، وقلقه من
نوع مختلف عن قلق الآخرين. كل ما يخشاه هو أن يُرغَم على قبول شكل في
الحياة يسجنه. لقد أراد أن يلعب بالحياة لعبًا حرًّا، وهذا ما أعماه عن
رؤية المأساة فيما يفعل، إن ما يفعله بحياته لم يضعه حتى في قصيدة من
الشعر الحر. كتب بالفعل عدة قصائد ومزقها، فالكلمات في نظره أصبحت مثل
نمال تركب فوقها أفيال، كل شيء ضخم إلى أن يحاول صبه في شكل، فليكن هو
نفسه القصيدة، وليتركها متحررة من القوالب، كوب ماء بغير كوب.
حتى عندما حامت حوله الظنون وأُدخِل المعتقل، ورأى الطوائف المختلفة
هناك ترحب به طامعة في ضمه إلى صفوفها، محاولة صب أفكاره في فلسفتها،
رفض هذه الفلسفات المتينة التركيب، حتى حسبوه مدسوسًا أو جاسوسًا، ثم
انتهوا إلى اعتباره مجرد حطام متحلل لا يُرجى منه شيء … ابتسم لتذكره
ملامحهم وهو يقول لهم إن الشيوعية الحقيقية بدأت عند الرجل الأول وهو
في الجنة، وإن ماركس لا بد كان في وعيه الخفي جنة آدم كما ذُكِرَت في
الأديان، تلك الجنة التي يسكنها آدم مع حواء، إنها في عرف المسيحيين
كانت على هذه الأرض نفسها، وكذلك في عرف بعض المفسرين من المسلمين
الذين قالوا إنها كانت دار «ابتلاء وليست هي جنة الخلد التي جعلها الله
دار جزاء»، وإنها كانت في بقعة مرتفعة من الأرض ذات أشجار وثمار وظلال
ونضرة ونعيم … ما هو إذن النظام الذي كان سائدًا على هذه الجنة
الأرضية؟ إنه كان ولا شك النظام الشيوعي في آخر مراحله، فإن آدم وحواء
ما كانا يعرفان المِلكية، كل منهما كان يأخذ ما شاء على قدر حاجته لا
على قدر عمله، لأنه لم يكن هناك عمل، إلا اقتباس المعرفة من النور
العلوي والاستمتاع بالجمال السرمدي … ما الذي حدث إذن لهذا النظام؟
حدث أن آدم وحواء أُخْرِجَا من هذه الجنة إلى جهة أخرى مجدبة فيها عمل
وعناء، وهناك أنجبا أولادًا، والأولاد أخذوا يملكون، هذا زارع يملك
قطعة أرض، والآخر راعي غنم. عرفوا الملكية فعرفوا النزاع والتنافس،
وحدث القتل، أول جريمة في تاريخ البشر، والعجيب أن القاتل فيها كان هو
قابيل المالك العقاري! منذ ذلك العهد وكل ما يحرك ذهن البشرية حتى
اليوم هو ذكرى تلك الجنة والعودة إليها … تلك الجنة التي يأخذ فيها كلٌّ
على قدر حاجته … الإنسانية كلها تحاول شق طريق إليها، إما عن طريقٍ
مرصوف بالمذاهب العلمية، وإما عن طريقٍ مفروش بالعقائد الدينية … كان
أدهم يقول مثل هذا الكلام لزملائه في المعتقل فيسخرون منه، برفق حينًا
وبعنف حينًا، فهو مخرف في عرف هؤلاء، ومجدف في عرف أولئك، وهم جميعًا
يمدون الأكف ليقبضوا على تلك الفراشة الهائمة فوق رءوسهم كي تقع في هذه
المنطقة أو تلك، وهو يصيح فيهم: دعوني! لا أريد أن أكون مالكًا ولا
مملوكًا … لا أريد أن أملك أحدكم ولا أحدكم يملكني.
وأخرج أدهم سيجارة أخرى من العلبة الموضوعة فوق المكتب، لم يبق فيها
غير سيجارتين، وأشعلها ونفث الدخان، وألقى نظرة شاردة على صاحبه شعبان،
فوجده مشغولًا بعمل لم يخطر على باله، رآه قد قلب مرتبة السرير وأخذ
يلتقط من أركانها البق ويحمله بين أصابعه ويلقي به في المرحاض. تأمله
قليلًا وقال في نفسه: أي نوع من الناس شعبان هذا؟ لا يمكن أن يكون هو
أيضًا قد قصد أن يلعب بحياته لعبًا حرًّا، إنه مجرد هارب من سجن؛ من
نفقة مطلقاته، لكن إذا سنحت له فرصة صب حياته في أي قالب فإنه لن
يتأخر، ولعله أخذ فكرة البنك، بنك القلق، هذا المأخذ. لكن فكرة هذا
البنك هل هي شيء آخر غير مجرد لعبة من الألعاب، كما قال متولي؟ هل يظن
أدهم حقًّا أنه مشروع جدي؟ إنه ما اعتاد أن يسأل نفسه سؤالًا كهذا، لأن
الجد والهزل عنده حتى اليوم لفظان غير موجودين، أو هما سِيَّانِ ولا داعي
عنده لفصلهما، يكفي عنده دائمًا أن تشتعل في رأسه فكرة، ما من أسئلة من
هذا القبيل تقوم في ذهن طفل يلعب بالطين ويصنع منه تماثيل. إنه لا يزال
يذكر رجلًا آخر رآه يومًا في قريته، ربما ظل دائمًا طفلًا هو الآخر،
كان هو الوحيد في القرية الذي أدار ظهره لحركتها الدائبة، وانفلت من
المحاريث السائرة والنوارج الدائرة والسواقي الناعرة، وذهب إلى شط
التُّرعة يقطع سيقان البوص ويصنع منها مزامير، ملأ عُبَّه منها وجعل يتنقل
بها بين القرى والعزب والكفور، ما كان يهمه أن يبيعها بقدر ما كان يهمه
أن يزمر بها، واللعنات تلحقه من أهالي الناحية، ما الذي جرى لعقل هذا
الرجل؟ وماذا يصنع بحياته؟ وأي مستقبل ينتظره؟ كل الناس يلقون هذه
الأسئلة عنه، وهو لا يلقيها على نفسه.
أخذ الوقت يمر بطيئًا ثقيلًا على أدهم لأنه وقت انتظار … انتظار زبون
وهمي لا يدري هل يأتي أو لن يأتي، وهو الذي كان دائمًا في نجوة من هذه
البلية، لأنه لم يكن ينتظر شيئًا، لقد خلق الآن بيديه نوعًا من القلق
لم يكن عنده. ولمح شعبان ينظر إلى الباب، بين حين وحين، نظرات تَرَقُّب
غريزية، فأيقن أنه هو أيضًا قد أصبح فريسة هذا الداء، ورأى أن يهون عنه
وعن نفسه وأن يشغله بشيء، فسأله عن نسائه، ولماذا لم يستبْقِ منهن
واحدة، فزفر زفرة ضِيق وقال إن المرأة الواحدة سجن، وأربع نساءٍ حديقةٌ
مغلقة عالية الأسوار، ومائة امرأةٍ حرية، لكنها حرية باهظة التكاليف لا
يقدر عليها إلا الملوك والسلاطين، أما حرية الصعاليك فلا امرأة على
الإطلاق، وعند ذلك يستوي الصعلوك والسلطان. لم يكن رأي شعبان يصدر عن
مبدأ، إنما عن ضرورة، فهو لو استطاع لعاش كالملك سليمان، له ألف زوجة،
إنه على عكس أدهم الذي لا يتصور المرأة إلا مقترنة بالحب، والحب عنده
تلاحم روحي وجسدي في وقت واحد، والعدد اثنان في رأيه هو العدد الوحيد
الذي يمثل الحب، ومن هنا جاءت قوة الحب وقسوته، ولهذا كان أدهم يخشاه
ويفر منه، فراره من قضبان ليمان، ومع ذلك فهو يعرف أن في تركيبه
الطبيعي جهازًا خفيًّا ينبهه عند الخطر، والخطر عنده ليس في أن يحب هو
امرأة، ولكن في أن تحبه هي، وقد أحب ذات يوم زميلة صحفية فأحس أنه
انقلب فراشة، وعندما أحبته هي حنطته في كتابها، فانقلب الحب فيه إلى
دقيق. كان شعبان يصغي إلى هذا الكلام ولا يعجبه ولا يفهمه، لأن الحب
عنده ليس بهذه الخطورة ولا بهذا التعقيد، إلا عند انقلابه إلى مطاردة
في سبيل النفقة. وفرغ من جمع البق في المرتبة على قدر المستطاع وغسل
يديه، وعاد فسحب سيجارة من العلبة، وجلس ومد قدميه في استرخاء، كمن فرغ
من مهمة عظيمة، ونفث الدخان ببطء، وترك جفنيه ينطبقان كما لو أنه
استسلم للنعاس. ولم يشأ أدهم إزعاجه، وحاول أيضًا أن يفعل مثله، لكنه
لم يستطع، فقد تتابعت في رأسه صور وأفكار مختلطة. هذا الشريط السينمائي
الذي يُعرَض أحيانًا في الذهن بغير ترتيب، مرة مقلوبًا ومرة مشوشًا ومرة
باهتًا ومرة ساطعًا … يُعرَض بلا مقدمة ولا خاتمة، ولا يُعرَف له رأس من
قدم.
المنظر الثالث
(أدهم وشعبان في صمت طويل.)
أدهم
(فجأة لزميله)
:
نمت؟
شعبان
(يفتح عينيه)
:
لا، أبدًا … أنا قاعد أفكر.
أدهم
:
تفكر؟ … في أي شيء تفكر؟
شعبان
:
في الإعلان.
أدهم
:
إعلانك يظهر أنه خاب خيبة ثقيلة!
شعبان
:
لا يمكن … الحسبة بسيطة … تعال نحسبها … وضعنا عشرة
إعلانات على الأكشاك والدكاكين، في أهم مركز … اجمع عدد
المارة أمام الأكشاك والدكاكين العشرة … في الأيام
الثلاثة الماضية … وعدد المشترين للسجاير … واستخرج
المتوسط … طبعًا للدقة، اطرح من الحاصل عدد العُميان والعُور
وضعاف البصر واللاهين والسارحين والمخمورين والمغفلين
والأميين وغيرهم ممن لا يقرءون الإعلانات، كم يتبقى لنا
بعد ذلك ممن قرءوا إعلاناتنا … كم؟
أدهم
:
قل أنت!
شعبان
:
ألا يمكن أن يطلعوا خمسين شخصًا؟
أدهم
:
قل عشرين.
شعبان
:
عشرين، أنا معك، عشرين شخصًا … أين هم؟!
أدهم
:
لاحظ أن من بين هؤلاء العشرين عددًا — ربما كان أغلبية
— سيقرأ إعلانك ويهز رأسه بغير اهتمام أو بغير اقتناع
بجدية الموضوع.
شعبان
:
أنا معك، كم تقدر هذه الأغلبية غير المهتمة وغير
المقتنعة؟
أدهم
:
قل مثلًا خمسة عشر شخصًا.
شعبان
:
من عشرين يتبقى خمسة … أين هم؟
أدهم
:
لا تنسَ أن من بينهم أيضًا عددًا لم يستطع فك خطك الذي
يشبه نبش الفراخ.
شعبان
:
ماشي كلامك … هذا العدد الجاهل الحمار الذي لا يقرأ خطي
كم تقدره؟
أدهم
:
لا … من هذه الجهة لا أقل من تسعة وتسعين في
المائة!
شعبان
:
أنا معك … يتبقى واحد في المائة … أين هو؟
(طرق على الباب.)
أدهم
:
ها هو!
شعبان
(يقفز ناهضًا ويتجه إلى الباب وهو يصلح
ثيابه)
:
يا رزاق يا كريم!
(أدهم ينهض هو الآخر ويصلح من شأنه لاستقبال
القادم.)
شعبان
(يظهر وهو يقود رجلًا وجيه الهندام في
الخامسة والخمسين)
:
أهلًا وسهلًا … تفضل … حصل لنا الشرف.
أدهم
(يسرع بتقديم مقعد إليه)
:
تفضل سيادتك هنا.
الوجيه
(يجلس وهو يتنفس بمجهود)
:
أف … آه … سلمكم متعب جدًّا!
شعبان
:
أي نعم السلم هنا صعب … لكن على كل حال وصلت
بالسلامة!
الوجيه
:
الحمد لله!
أدهم
:
سيادتك طبعًا … حضرت بناء على الإعلان؟
الوجيه
:
أي إعلان؟
شعبان
:
الإعلانات الملصقة في الشوارع.
الوجيه
:
أتوجد إعلانات ملصقة في الشوارع؟
أدهم
:
يقصد على أكشاك السجاير … حضرتك تدخن؟
الوجيه
(يخرج علبة أنيقة ويقدم إلى
أدهم)
:
تفضل!
أدهم
(يتناول سيجارة)
:
شكرًا.
الوجيه
(يقدم العلبة إلى شعبان)
:
تفضل!
شعبان
(يتناول سيجارة)
:
مع الشكر.
أدهم
(يبحث ببصره)
:
علبة الكبريت كانت هنا.
الوجيه
(يخرج ولاعته الثمينة)
:
لا … لا داعي … معي ولاعتي.
(يشعل سيجارته ثم يقدم الولاعة لكل
منهما.)
شعبان
:
لا بد أن حضرتك لم تمر بنفسك أمام كشك أو دكان
سجاير.
الوجيه
:
بالعكس، أنا مررت البارحة واليوم أمام دكان سجاير بميدان
طلعت، واشتريت …
شعبان
:
تمام، هناك تجد إعلاناتنا ملصقة.
الوجيه
:
لا تؤاخذوني! … أنا لم أقرأ لكم إعلانات بالمرة، ولم
يخاطبني أحد في شأن إعلاناتكم.
أدهم
:
وكيف إذن جئت هنا سيادتك؟ من دلَّك على عنواننا؟
الوجيه
:
الأستاذ متولي سعد … الصحفي … لكم به معرفة
بالطبع؟
أدهم
:
طبعًا … زميلي.
الوجيه
:
هو الذي حدثني عنكم وعن مشروعكم.
أدهم
:
بنك القلق؟
الوجيه
:
بالضبط.
شعبان
:
عمل له إذن الدعاية والإعلان.
أدهم
:
قام بالواجب صحيح.
الوجيه
:
الحقيقة أن الفكرة أعجبتني.
أدهم
:
هذا شيء يسعدنا.
الوجيه
:
الواقع أن القلق سائد بشكل وبائي، عند كل الناس، وفكرة
إنشاء بنك للقلق فكرة مدهشة، أهنئكم!
أدهم
:
سيادتك طبعًا مصاب بالقلق.
الوجيه
:
طبعًا مثل كل الناس.
أدهم
:
اطمئن، جئت لنا في الوقت المناسب.
شعبان
:
الحق، هذا من حسن الطالع أن يكون رجل وجيه محترم مثل
حضرتك هو فاتحة أعمالنا.
الوجيه
:
أنا إذن أول من حضر لكم؟
شعبان
:
حصل لنا الشرف.
أدهم
:
الافتتاح على كل حال كان اليوم.
الوجيه
:
وأنا يسرني أن أفتتح عملكم.
أدهم
:
أحب أطمئن سيادتك أن أسرار الزباين عندنا في الحفظ
والصون، لن نخوض في الخصوصيات ولا الشخصيات، كل ما يهمنا
هو معرفة نوع القلق بصورة عامة، فمثلًا …
الوجيه
:
اسمح لي أن أوفر عليكم الكلام، وأقول بكل اختصار إن
القلق عندي وعند غيري … عند الجميع … وربما في العالم
كله … هو الشعور بعدم الاستقرار … أليس هذا
رأيكم؟
أدهم
:
طبعًا.
شعبان
:
طبعًا … طبعًا.
الوجيه
:
والأسباب مختلفة … كل واحد عنده أسبابه … خذوا مثلًا
حالتي أنا … وحالة أمثالي … افرضوا مثلًا، مجرد فرض …
أني أمتلك خمسمائة فدان … أقصد كنت أمتلكها … والآن
بالطبع لم يبقَ منها إلا مائة فدان فقط حسب قانون الإصلاح
الزراعي.
أدهم
:
سيادتك كنت تمتلك خمسمائة فدان؟
الوجيه
:
مثلًا.
أدهم
:
وأصبحت الآن مائة؟!
الوجيه
:
فقط.
شعبان
:
أنت إذن خير منا.
الوجيه
:
خير منكم؟ … كيف؟!
شعبان
:
أنا مثلًا كنت أمتلك سبعمائة فدان … ضاعت مني كلها ولم
يبقَ لي منها فدان واحد.
الوجيه
:
الاشتراكية؟
شعبان
:
النسوان.
الوجيه
:
يا ساتر!
شعبان
:
وشريكي كان يملك ستمائة فدان … ضاعت منه كلها هو الآخر
ولم يبقَ له منها ولا فدان.
الوجيه
:
النسوان أيضًا؟
شعبان
:
القمار.
الوجيه
:
يا حفيظ! أضعتم أراضيكم كلها في النسوان
والقمار؟!
أدهم
:
وأصبحنا كما ترى لا نملك شيئًا.
شعبان
:
إلا العافية.
الوجيه
:
هذه مصيبة! وما زلتم بعقلكم؟!
أدهم
:
الحمد لله!
الوجيه
:
يا بختكم!
شعبان
:
تحسدنا؟!
الوجيه
:
على هدوء بالكم! … هل تنامون بملء الجفون؟
أدهم
:
ولنا شخير يُسمَع من سابع جار.
شعبان
:
ولا يزعج نومنا شيء غير البق!
الوجيه
:
لا تشعرون بأي قلق؟!
أدهم
:
من هذه الجهة لا.
الوجيه
:
طبعًا، ما دام ليس عندكم فدان واحد تخافون عليه، أنتم في
راحة تامة، أنتم في حالة استقرار، أما من يملك مائة فدان
فإنه يعيش في حالة قلق، لأنه لا يعرف ماذا سيحدث لها غدًا
… لو وثق فقط أنها ستبقى في يده، لكن هذا غير
مؤكد.
أدهم
:
سيادتك تطلب الاستقرار؟
الوجيه
:
هل عندكم علاج؟
شعبان
:
العلاج موجود وفي غاية البساطة.
الوجيه
:
ما هو؟
شعبان
:
اكتب لنا المائة الفدان التي تملكها، نُصَبْ نحن بحالة
القلق وتنعمْ أنت بحالة الاستقرار.
الوجيه
(ضاحكًا)
:
حلوة!
شعبان
:
هذا هو العلاج العملي، ولو أن فيه تضحية منا، لكن واجبنا
الإنساني يدفعنا إلى إنقاذك وتعريض أنفسنا …
الوجيه
:
دمكم خفيف!
شعبان
:
والآن … تسمح سيادتك بالأجرة؟
الوجيه
:
الأجرة؟!
شعبان
:
أتعابنا … أجر العلاج … نحن وصفنا الوصفة … تأخذ بها
أو لا تأخذ هذا شأنك، الدكتور يكتب التذكِرة والمريض حر
يستعمل الدواء أو لا يستعمله، لكن الأتعاب واجبة دائمًا
بالكامل.
الوجيه
:
النكتة تستحق على كل حال … كم الأتعاب؟
شعبان
:
ادفع حضرتك حسب تقديرك.
أدهم
:
ومن جهتنا نحن أيضًا سندفع لك أتعابك إذا قمت
بعلاجنا.
الوجيه
:
علاجكم من ماذا؟ أنتم والحمد لله متمتعون
بالاستقرار.
شعبان
:
استقرارنا متوقف على أتعابك.
الوجيه
:
يعني إذا دفعت لكم …
أدهم
:
نشفى.
الوجيه
:
تفضلوا … جنيه يكفي؟
شعبان
:
خمسة.
الوجيه
:
خمسة جنيهات؟ أتعابكم؟ وهو كذلك … تفضلوا … (يخرج النقود من محفظته) شُفيتم
الآن؟
أدهم
:
نشعر بتحسن كبير.
شعبان
(يتسلم النقود)
:
التوريد عندي، أنا صراف الخزينة.
الوجيه
:
والآن … ما دمتم شُفيتم على يدي ادفعوا لي إذن
أتعابي!
شعبان
(يعطيه جنيهًا من الخمسة)
:
تفضل!
الوجيه
:
جنيه واحد فقط؟
شعبان
:
كفاية.
الوجيه
:
أتعابكم خمسة جنيهات وأتعابي جنيه واحد؟!
شعبان
:
أنت ليس عندك مثلنا مصاريف عيادة، أنت دكتور سرِّيح! لكن
هنا شقة لها إيجار وماء ونور وصيانة ونظافة وهلم جرًّا.
الببغاء
(في الخارج تصيح)
:
يا سعيد أفندي كلم سيادة المدير … يا جرجس أفندي كلم
سيادة المدير!
الوجيه
:
ما هذا؟
أدهم
:
السكرتير الخاص.
شعبان
:
ومصاريف السكرتير الخاص وأكله و…
الوجيه
:
عندكم سكرتير خاص؟
أدهم
(مشيرًا إلى نفسه)
:
ومدير عام!
الوجيه
:
تسمحون لي … ألقي نظرة على الشقة؟
أدهم
:
الشقة في الواقع ليست …
الوجيه
:
لا بأس، المسألة على كل حال أصبحت واضحة … وأنا تمشيت
معكم إلى الآخر لأعرف حقيقة الوضع.
أدهم
:
نحن قصدنا شريف.
الوجيه
:
وهل أنا قلت عنكم، لا سمح الله، نصابين أو مهرجين؟! كل ما
في الأمر أن أسلوبكم تغلب عليه روح المرح والفكاهة
والمداعبة.
أدهم
:
فعلًا … نحن لا نملك إلا أسلوب الترفيه والتخفيف عن
الزبائن.
الوجيه
:
أنا معجب بفكرتكم على أي حال … وأعرض عليكم إذا سمحتم
إدخالي شريكًا ثالثًا معكم في هذا … البنك … ما
رأيكم؟
أدهم
:
شريك؟!
الوجيه
:
وممول علاوة على ذلك … أي إن جميع مصروفات التأسيس
أتكفل أنا بها.
شعبان
:
جميع المصروفات؟! هذا شيء عظيم!
أدهم
:
هذا عرض لا يمكن رفضه.
الوجيه
:
في هذه الحالة اسمحوا لي أبدي بعض ملاحظات … أولًا يجب
إخراج مشروعكم من هذا الجحر فورًا … والانتقال به إلى شقة
محترمة، أي إن مركز البنك يجب أن يكون في مكان لائق وموقع
مناسب.
أدهم
:
لكن …
الوجيه
:
اطمئن … عندي شقة خالية في عمارتي بأول حي شبرا نخصصها
مقرًّا لهذا المشروع … ما رأيكم؟
شعبان
:
عمارتك؟
الوجيه
:
أظن يحسن أن أعرفكم بنفسي … وأنا لست غريبًا عنك كثيرًا
يا أستاذ أدهم … نحن بلديات … وإن كنت لم أرك من قبل ولم
ترني … قال لي زميلك متولي سعد إنك من كفر عنبة … أظنك
تسمع عن عائلة عاطف بكفر عنبة؟ … أنا منير عاطف.
أدهم
:
منير بك عاطف؟
الوجيه
:
وشقيق المرحوم عادل عاطف … والدك الله يرحمه كان فيما
أعلم مستأجرًا في أطيانه.
أدهم
:
فعلًا … صحيح.
الوجيه
(يخرج من محفظته نقودًا)
:
إليكم مبلغ خمسين جنيهًا … أرجوكم أن تقتسموها …
مصروفات أولية … لوازم ملبوسات لكم ونحو ذلك.
أدهم
:
لا يا منير بك … لا … نحن لا نقبل الصدقة
والإحسان.
الوجيه
:
أستغفر الله! … أنا لم أقصد ذلك أبدًا … أنا مجرد ممول
في مشروع، وأنتم أصحاب الفكرة، والفكرة ستنفذ على نطاق
أوسع … وطبعًا ستتخذ شكلًا آخر أكثر جدية … وأنا شريك
صاحب مصلحة مثلكم في النتائج … من اختصاصي إذن بصفتي
الممول المسئول عن التأسيس أن أقدم ما يلزم من نفقات أولى
ضرورية ومنها نفقاتكم الخاصة.
شعبان
:
تقصد حضرتك أن مظهرنا الخاص يدخل في التأسيس؟
الوجيه
:
بدون شك، لأن وجودكم في الشقة الجديدة يستوجب
ذلك.
شعبان
:
إذا كان الأمر كذلك لا بأس.
(يتناول منه النقود.)
الوجيه
:
اتفقنا إذن؟
أدهم
:
اتفقنا.
الوجيه
:
على خيرة الله! اسمحوا لي أنا الآن بالانصراف … وسأتصل
بكم قريبًا لأدعوكم للانتقال إلى الشقة الجديدة … وسأكون
قد اتخذت التدابير اللازمة لإنجاح المشروع … وبالطبع
سنرتب معًا بقية التفصيلات عند اجتماعنا القادم إن شاء
الله … إلى اللقاء!
أدهم
:
إلى اللقاء يا أفندم … إلى اللقاء وشكرًا.
شعبان
:
شكرًا … شكرًا.
(يشيعانه معًا إلى الباب بكل احترام
ويعودان كالمجانين من الفرح.)
أدهم
:
الفكرة يظهر ستكبر وتنقلب إلى جد بحق وحقيق!
شعبان
(يلقي بالجنيهات في الهواء
ويتلقفها)
:
السماء فتحت علينا وأمطرت نقودًا … فلوسًا … جنيهات …
جنيهات!