كانت دقة القدر أو دقة الحظ، عندما طُرِقَ الباب فأيقظ الزميلين
القاعدين في شبه نعاس، ليدخل عليهما ذلك الزبون الذي لم يكن يخطر لهما
في الأحلام؛ الوجيه الثري منير عاطف بقَضِّه وقَضِيضه، ليعرض عليهما
الاشتراك في تأسيس البنك وينثر عليهما الجنيهات، ويمهد لهما سبيل
الانتقال من حال إلى حال … كان أول ما فعلاه وقد صار في حوزتهما خمسون
جنيهًا — مبلغ لم يحدث أن اجتمع لواحد منهما دفعة واحدة! — أن فكرا أول
ما فكرا في أكلة محترمة … وفي الحال نزلا معًا إلى شارع محمد علي، وجعلا
يستعرضان المطاعم بأنفة وكبرياء! … هذا مطعم فول وطعمية … أعوذ
بالله! وهذا مسمط كوارع وكرشة ولحمة راس … اخص! … وهذا محل سندوتشات
… يغور! … وهذا مطعم السمك قشر البياض … يعني! … كل هذه أكلات قد
تناسب من في جيبه خمسون قرشًا لا خمسون جنيهًا!
وخرجا من هذا الشارع إلى شارع عصري به مطعم أنيق، وهمَّا بالدخول،
وإذا بأدهم يتردد قليلًا، إنه يخشى التهور، والنقود التي في أيديهما
مقصود بها التأسيس؛ أي المظهر اللائق للوضع الجديد. وأدرك شعبان معنى
تردده فدفعه دفعًا إلى داخل المطعم وهو يقنعه أن هذه الأكلة اللائقة
تدخل أيضًا في باب التأسيس … وجلسا إلى أول مائدة صادفتهما قرب المدخل
وانتظرا الخدمة، وطال الانتظار، وأصبحا كالأيتام في مأدبة اللئام، فخدم
المطعم كانوا يحملون الصحاف إلى بقية الزباين ويمرون بهما مر القطارات
السريعة بمحطات الأرياف. وفطن أدهم إلى الخطأ الذي ارتكباه، كان عليهما
قبل أن يطآ أعتاب مثل هذه المطاعم، بما هما عليه من رثاثة، أن يدخلا
أولًا حانوت ملابس ودكان حلاق. وصفق شعبان تصفيق الغاضب المتحدي،
محدثًا ضجيجًا لفت النظر، فجاءه خادم يجري وبيده قائمة الطعام، فما إن
وقعت عينه على كلمة دجاجة حتى وضع إصبعه عليها، لقد مضى عليه حين من
الدهر كان يعتقد فيه أن الحيوانات المنقرضة هي الدينوصور والدجاج.
وتذكر أدهم صورة الدجاجة التي رآها يومًا في ذلك الملهى الليلي أمام
ذلك الرجل تاجر المواشي، وكيف أنه كان يلتهمها معه، لكن بعينيه لا
بأسنانه، الآن جاءت فرصة الانتقام! … وانطلقا يأكلان كل ما كانا
يشتهيان، وخرجا فاشتريا قمصانًا وبنطلونات، وحَلَقَا، وابتاعا سجاير من أفخر
صنف. وحاول شعبان أن يعثر على إعلاناته الملصقة فوجد بعضها قد تطاير
واختفى، والبعض في مكانه قد لطخته أيدي الصبية والعابثين، ولم يعد ذلك
يعنيهما الآن، فوسائلهما الإعلانية ستكون منذ اليوم قائمة على أساس متين
حقيقي بفضل الشريك الجديد. لكن ما الذي حدا بهذا الوجيه أن يدخل معهما
في مثل هذه اللعبة؟! إنها أعجبته، هكذا يقول، وليس ببعيد أن يكون قد شم
فيها رائحة مشروع رابح، كل هذا سوف ينجلي عندما يدخل الأمر مرحلة الجد.
ومرت أيامٌ أنفق فيها الزميلان كل ما في حوزتهما من نقود، ارتكانًا
على عودة الشريك الممول، لكن ما من حسٍّ ولا خبر، وأقلقهما انتظاره الذي
طال وامتد. وخامرتهما فكرة اختفائه، كحلمٍ سعيد، سيعقبه استيقاظ على
حقيقة خاوية … لكنهما عادا فاستبعدا هذه الفكرة السوداء. لا يمكن أن
يكون هذا الرجل مجنونًا ليأتي ويعطيهما خمسين جنيهًا ويمضي هكذا بلا
عودة! … وصدَق حكمهما، فلم يمضِ يوم آخر حتى طُرِقَ عليهما الباب، وظهر
منير عاطف، وزف إليهما خبر المقر الجديد في شبرا، ووصف لهما العنوان،
وأعطاهما مفاتيح الشقة بعمارته، وقدم إليهما عقد إيجار باسميهما، طلب
إليهما التوقيع عليه وسلمهما إيصالًا باستلامه الإيجار منهما مقدمًا عن
سنةٍ كاملة. وفي هذا، كما قال لهما، منتهى الضمان والاطمئنان، وما عليهما
الآن إلا الانتقال إلى مقر عملهما في البنك ابتداءً من اليوم التالي …
كل هذا حدث وهما يكادان لا يصدقان ما يجري، أيمكن أن يكون هذا كله
حقيقة؟! لو أنه كان مزاحًا لكان أقرب إلى المعقول.
وذهبا في اليوم التالي حسب العنوان، فوجدا عمارة كبيرة في شارع شبرا
الواسع المزدحم … فدخلا وسألا البواب فقادهما إلى شقتهما في الدور
الأول، لا حاجة لهما باستعمال المصعد الموجود، ففتح نوافذها وأضاءها
فإذا هما في مكان نظيف يشرح الصدر، مدخلٌ رَحْب به مقاعد عديدة ومشاية
بساط أحمر، ومرآة فوق شماعة كبيرة، ثم ثلاث حجرات حسنة الرِّياش، كل حجرة
بها مكتب عليه أدوات كتابة جديدة، وسَجادة وخوان عليه طقطوقة سجاير
وحوله مقعدان من الجلد، فأيقنا أن لكلٍّ منهما حجرته الخاصة، أما الحجرة
الثالثة فكانت مثل الحجرتين، وإن كانت في أثاثها أفخم، وعلى مكتبها
يوجد جهاز تليفون وجهاز تسجيل «ركوردر». ويحيط بالحجرات الثلاث شرفة
ممتدة تزينها أصص زرع وأزهار، ما هذا العز كله؟! وتركهما البواب
متمنيًا لهما طيب الإقامة، وأخبرهما أن البك صاحب العمارة سيمر بهما.
وما إن خلا لهما المكان حتى قاما يرقصان، ثم جلسا فوق المكاتب يجربان
الوضع الجديد، ثم جعلا يدخلان كل حجرة ويخرجان مبهورَين، ثم عادا إلى
المكاتب وانتفخا فوقها وانتفشا، ثم ارتميا في المقاعد الجلد وانجعصا،
ثم أطلا من الشرفة على شارع شبرا الواسع بضجيجه وزحامه ومقاهيه. وأرسل
أدهم بصره إلى الناس وهي في الشارع تموج … رجال ونساء وأطفال وشباب
وشيوخ … ما كل هذا الخَلق؟ وكأنه لم ير من قبل شارعًا مزدحمًا بالناس،
كل شيء يبدو الآن في عينه جديدًا، حتى الزحام في الطريق اتخذ في مخيلته
صورة جديدة.
وسرح بفكره سرحة، وحسب حسبة، وقال في سره: بعد ثمانين عامًا لن يكون
أحد من كل هؤلاء المزدحمين في الشارع موجودًا، لا في هذا الشارع ولا في
أي شارع آخر في العالم كله، سيكون الموجودون أناسًا آخرين، جيل آخر
كامل من الناس هم الذين سوف يزحمون هذا الشارع وغيره من شوارع الدنيا،
إذن كل ثمانين عامًا أو تسعين تحدث عملية تفريغ كامل، وتجديد شامل في
كافة الشوارع! … ومع ذلك فالعالم لا يتغير بهذه السرعة … لماذا؟!
وقفز بذهنه إلى صورة أخرى بعيدة، صورة نوح وسفينته، لقد حدثت مرة
حالة تفريغ وتجديد، سريعين هائلين، جاء الطوفان فجرف الناس جميعًا دفعة
واحدة، وبقي من اختاره نوح في السفينة، كانت عملية انتخابٍ دقيقة، تخير
من كل نوع أنقاه وأرقاه، ولا يدري أحد أي نظام أُقِيمَ على ظهر السفينة،
أهو النظام الفاشستي أم الديمقراطي أم الشيوعي؟ … مهما يكن من أمر فلا
خلاف في أن نظام نوح كان غاية في دقته وصلاحيته؛ إذ استطاع أن يبقي كل
هذه الجماعات المختلفة في حالة نظام تام، بعيدة عن الفوضى والمجاعة.
وغاض الماء وانحسر، وطهرت الأرض من أدرانها، وقُذِفَ بجيل جديد مصفًّى إلى
حياة جديدة … فما الذي حدث؟ طبعًا ما حدث معروف؛ لأن التاريخ موجود،
يشهد أن كل شيء عاد إلى ما كان عليه … لماذا؟ هنا المشكلة! بعد ثمانين
عامًا سوف يكون السائرون في شارع شبرا هذا أناسًا آخرين، وربما يلبسون
ثيابًا أخرى، لكن ما تحت الثياب وداخل الصدور؟ … لماذا لا تمتد إليه
بحسم وسرعة يد التغيير؟!
واستمر أدهم يسرح ويشطح هكذا وهو ينظر إلى الشارع المائج بالناس، إلى
أن نبهه شعبان بصيحاته المزهوة وقوله له، وهو يشير إلى الشارع الكبير
تحتهما، إنهما الآن فعلًا على سطح الدنيا، هنا حقًّا يمكن أن يشعر
بوجودهما الناس، ويمكن أن يأتي إليهما زباين، وكان الهواء والنور يملآن
الشقة كلها، فتنفس شعبان بملء رئتيه، وتذكر الجحر الذي خرجا منه،
والفراش الذي عشش فيه البق، ونظر إلى النظافة حوله وقال: «أظن المبيت
هنا غير مسموح به.» ولم يتلقَّ ردًّا، فردَّ هو على نفسه: «طبعًا لا،
الشقة كلها مكاتب، معنى ذلك بالمحسوس أن هنا محل عمل فقط لا
غير.»
ودق جرس الباب، فأسرعا معًا وفتحاه، وظهر منير عاطف وخلفه البواب،
وأشار بيده إلى البواب لينصرف، ودخل هو توًّا إلى الحجرة الثالثة، وجلس
إلى المكتب بجوار التليفون، ونظر إليهما لحظة وهما واقفان أمامه
ينتظران أن يبدأ بالكلام، لكنه انصرف عنهما، وأمسك بالسماعة وأدار
القرص وخاطب شخصًا بكلام لم يفهما مضمونه، ثم أنهى المكالمة، ونهض
متجهًا إلى الحجرة الأولى وهما يتبعانه صاغرَين، وأشار إلى أدهم ليجلس
إلى المكتب، فجلس دون أن ينبس بكلمة.
المنظر الرابع
(منير عاطف ينظر إلى أدهم وهو على مكتبه الجديد.)
منير
:
يعجبك هذا المكتب؟
أدهم
:
عظيم، والشقة كلها عظيمة!
منير
(يلتفت إلى شعبان)
:
وأنت يا أستاذ شعبان … مكتبك طبعًا في الحجرة
الثانية.
شعبان
:
ربنا يخليك ويطيل لنا عمرك!
منير
:
هذه الشقة كانت في الحقيقة مكتبي الخاص، أحضر فيها من
وقت لآخر لمباشرة شئون العمارة وتصريف أعمالي الأخرى،
وجدت أني أقدر أتنازل لكم عنها، طبعًا إذا سمحتم أنا محتفظ
لنفسي بالحجرة الثالثة، التي فيها التليفون، لكن في
إمكانكم استعمال التليفون … في حضوري وأثناء غيابي … في
أي وقت … تحت أمركم.
شعبان
:
يا سلام يا سعادة البك، الشقة كلها شقتك على كل
حال.
منير
:
لا أبدًا، الشقة مؤجرة لكم وباسمكم، وما أنا هنا إلا
مجرد ضيف عابر.
أدهم
:
عابر؟! لا يا منير بك … أنت الكل في الكل.
منير
:
أنتم أمام الناس والقانون أصحاب البيت، المسئولون
عنه.
شعبان
:
لكن سعادتك أنت المؤسس لهذا البنك.
منير
:
هذا كلام بيننا وبين بعض.
أدهم
:
والشركة الموجودة؟
شعبان
:
سعادتك أهم شريك.
منير
:
أنا شريك بالمال، يعني أقدم لكم المساعدات بصفةٍ أخوية.
والآن ندخل في العمل، قبل كل شيء أحب أعرف مواردكم
المعيشية، هل لكم إيراد أو دخل ثابت؟
أدهم
:
الواقع أننا …
شعبان
:
فعلًا إننا …
منير
:
مفهوم … كنتم إذن معتمدين على هذا المشروع.
أدهم
:
مضبوط.
منير
:
في هذه الحالة يحسن أن أنظم لكم أمور معيشتكم … حتى
تستطيعوا التفرغ لعملكم بمنتهى خلو البال، خصوصًا وأن
مركزكم هنا في الشقة يقتضي ظهوركم بمستوى معين من … من
حيث المظهر … ما رأيكم لو خصصت لكل واحد منكما مرتبًا
ثابتًا خمسة وعشرين جنيهًا في الشهر؟
أدهم
:
خمسة وعشرين جنيهًا في الشهر؟!
منير
:
قليل؟
شعبان
:
نعمة من الله!
أدهم
:
لكن … هل سيأتي هذا المشروع بأرباح تساوي؟ … نفرض أنه
لم يأتِ بأرباح تذكر … أو أتى بخسارة؟
منير
:
مسألة الأرباح والخسائر هذه نتركها على جنب، لا نفكر
فيها إلا آخر السنة.
أدهم
:
وإذا اتضح أنك أنفقت علينا أكثر من الدخل؟
منير
:
لن أطالبكم بردِّ شيء طبعًا.
أدهم
:
تتحمل كل هذه الخسارة؟
منير
:
هذا شأني، لا تشغل بالك الآن بهذه الأمور.
شعبان
:
فعلًا لا تشغل بالك الآن يا أخي! … بشِّر ولا تنفِّر،
تفاءل يا أخي تفاءل! … واترك سعادة البك يتصرف!
منير
:
نعم … اتركوني أتصرف … اتفقنا؟
أدهم
:
اتفقنا.
شعبان
:
الاتفاق مقبول طبعًا يا سعادة البك، لكن طبعًا في حالة
الأرباح الزائدة عن المنصرف …
منير
:
تقصد الزائد عما أنفقته عليكم؟ … بدون شك، إذا فرض
وتحققت أرباح، يكون لكم نصيبكم.
شعبان
:
يعني لنا مرتب ثابت ونصيب في الأرباح؟
منير
:
بالضبط، إذا فرض وكان هناك أرباح!
أدهم
:
بعد خصم المصاريف طبعًا بما فيها مرتباتنا.
منير
:
طبيعي … أرجوكم … اتركوا التفكير الآن في مسألة
الأرباح والخسائر هذه … وأحب أن أنبهكم من الآن إلى عدم
المغالاة في تقدير أتعاب، أو مطالبة الزباين بأجور … أنا
أفضل عدم إرهاق الزباين.
شعبان
:
يعني لا نطالب بأتعاب؟
منير
:
أفضِّل أن تتركوا الزبون حرًّا يدفع أو لا يدفع.
شعبان
:
بالنسبة إلى أتعابنا وأتعابه؟
منير
:
جميع الأتعاب على السواء، لا تهتموا كثيرًا بهذا الجانب
المادي.
شعبان
:
عجيبة! في هذه الحالة المشروع سيأتي حتمًا
بخسارة.
منير
:
أنا وحدي المتحمل لكل خسارة.
شعبان
:
وما هي المصلحة؟
منير
:
المصلحة المعنوية، الجانب المعنوي هو الأهم.
أدهم
:
الجانب المعنوي؟
منير
:
بالتأكيد … ترك الناس تتكلم … أقصد إتاحة الفرصة
للزبون يفضي بكل ما في صدره … يكشف عن بواطن نفسه … عن أسباب قلقه.
أدهم
:
هذا كلام جميل، لكن يعني …
شعبان
:
لكن يعني … ماذا بعد ذلك؟
منير
:
لا شيء، هذا هو كل ما عليكم أن تفعلوه.
أدهم
:
لكن فكرة البنك هي أن نعالج الزبون ويعالجنا.
منير
:
دعكم الآن من حكاية العلاج هذه.
أدهم
:
لكن …
منير
:
مجرد استخراج ما في بطن الزبون هو نفسه علاج.
(البواب يظهر.)
البواب
:
لا مؤاخذة يا بك … الست مرفت هانم والست خالتها.
منير
:
آه … لا بد كانت عند الخياطة.
مرفت
(داخلة بسرعة وخلفها خالتها)
:
فعلًا كنا عند خياطتي في العمارة، وقلنا نمر عليك يا عمي
كالمعتاد.
منير
:
أهلًا … انتظروني في حجرتي هناك … أنا غيرت الحجرة … لأن بقية الشقة الآن
مشغولة، تنازلت عنها لحضراتهم. (يقدم أدهم وشعبان) الأستاذ أدهم والأستاذ شعبان
… عندهم مشروع مهم … ربما نتحدث فيه كلنا فيما بعد … (يقدم السيدتين) ومرفت بنت
شقيقي، والست خالتها فاطمة هانم.
أدهم
(لمرفت)
:
أنا سبق أن رأيت مرفت هانم وهي طفلة في الرابعة من عمرها.
مرفت
:
رأيتني وأنا طفلة؟
شعبان
(مبهورًا بجمالها)
:
رأيتها وهي طفلة؟! أنت بختك من السما!
أدهم
(لمرفت)
:
وكنت تبكين لتركبي حصان البك الوالد.
منير
:
الأستاذ أدهم من كفر عنبة … يبقى ابن الشيخ عبد
الصمد.
مرفت
:
لا أذكر أني رأيتك.
أدهم
:
طبعًا ولا يمكن أن تتذكري، أنت كنت صغيرة، أما أنا فكنت
يومئذ طفلًا في العاشرة، وكنا كلنا أطفال القرية ننظر إليك
عن بعد وأنت فوق الحصان.
مرفت
:
حتى حكاية الحصان هذه لا أذكرها جيدًا.
أدهم
:
كان حصانًا أبيض فيما أذكر، وله بقعة سوداء في
جبينه. وكانت يومئذ الست الهانم والدتك …
مرفت
(في لهفة)
:
والدتي؟!
فاطمة
(تجذب يد مرفت بشدة خارجة بها)
:
تعالي يا مرفت … كفاية … تأخرنا … نمر عليك في وقت
آخر يا منير بك!
منير
:
وهو كذلك، أنا على كل حال عارف الغرض من الحضور، ما دامت
كانت عند الخياطة … سأجهز المطلوب.
(يشيعهما إلى الباب.)
شعبان
(هامسًا)
:
يا سلام على الجمال!
أدهم
(يغمزه)
:
هس … بس! … اسكت!
منير
(يعود إلى مكانه)
:
الخياطة وحسابها … شيء يطول شرحه!
شعبان
:
اللهم صل على النبي! مرفت هانم تستحق أعظم خياطة في
الدنيا، هي التي تزين الفستان وليس الفستان هو الذي
يزينها!
أدهم
(يهمس)
:
اسكت يا شعبان!
شعبان
:
ألا يحق لي أن أمدح الظُّرف واللطف والجمال … الله جميل
ويحب الجمال يا أخي!
أدهم
:
يا شعبان ليس هذا وقته.
شعبان
:
هذا هو وقته، أنا أتكلم بمناسبة الخياطة … وكلام منير
بك … واستنكاره حسابها، وقوله إنه شيء يطول شرحه!
منير
:
أنا لا أستكثر … أنا فقط أقرر ملاحظة عامة … الخياطة
والكوافير في عصرنا الحاضر لهما قوانين نافذة على العالم
كله … شرقًا وغربًا … هل يوجد من يستطيع مخالفة هذه
القوانين؟ في أي بلد من البلاد؟!
أدهم
:
صدقت … حكومة عالمية.
شعبان
:
حكومة رعاياها النسوان لا بد تمشي كالساعة، وما على
الرجل غير الطاعة!
منير
:
هذا صحيح.
أدهم
:
فعلًا … لو استطاع مذهب سياسي واحد أن يظفر بمثل هذا
النفوذ على كل العالم.
منير
:
على فكرة يا أستاذ أدهم … نسيت أسألك … لا تؤاخذني …
أنا سمعت أنك كنت في الاعتقال.
أدهم
:
متولي سعد قال لك؟
منير
:
طبعًا، لكن مجرد إشارة عابرة لم يذكر لي تفصيلات.
أدهم
:
على كل حال لم يكن ذلك بسبب سرقة ولا نصب ولا خيانة
أمانة … لا شيء مما يخدش الذمة والشرف والكرامة.
منير
:
مفهوم، مسائل سياسية.
أدهم
:
مجرد آراء.
شعبان
:
آراء سخيفة وحياتك يا بك!
أدهم
:
أنا آرائي سخيفة يا شعبان؟
شعبان
:
أقصد أنها ليست خطيرة حتى لا ينزعج البك يا أخي …
افهم!
منير
:
ومن قال إني أنزعج؟! بالعكس أنا يهمني أعرف كل شيء على
حقيقته.
شعبان
:
حقيقة الأمر أن أدهم رجل طيب ابن حلال، وأن اعتقاله كان
من باب السهو والغلط، وأفرج عنه حالًا في أمان الله.
منير
:
هذا شيء يسر … لكن يبقى بعد ذلك سؤال أحب أن أسأله بدون
إلحاح، سؤال غير مهم، ولك يا أستاذ أدهم أن ترفض الإجابة.
أدهم
:
تفضل … تفضل … أنا يهمني أن أجيب على أي سؤال.
منير
:
ما هو موقفك السياسي؟
أدهم
:
موقفي السياسي؟ أنا … أنا في الواقع لم أحدده بعد.
منير
:
أهذا ممكن؟ رجل مثلك كان في الاعتقال بسبب آرائه، كما
تقول أنت نفسك.
أدهم
:
فعلا بسبب آرائي.
منير
:
إذن لك موقف سياسي محدد.
أدهم
:
ليس من الضروري.
منير
:
لا داعي للف والدوران … قل لي بصراحة يا أستاذ أدهم …
هل أنت مع النظام؟
أدهم
:
وأنت؟
منير
:
أنا … أنا طبعًا مع النظام.
أدهم
:
وأنا مثلك.
منير
:
صاحبك متولي سعد قال لي إنك يساري متطرف.
أدهم
:
وهل هذا … شيء يخيفك؟!
منير
:
لا أبدًا … أنا سيان عندي.
أدهم
:
ما دام الأمر كذلك فلماذا التحري عن موقفي؟
منير
:
لمجرد العلم بالشيء، ليس إلا … ما دمنا سنعمل معًا، من
الطبيعي إذن أن يعرف كل منا موقف الآخر.
أدهم
:
وهل نحن تحرينا عن موقفك؟
منير
:
موقفي أنا واضح.
أدهم
:
وضح لنا أكثر، إذا سمحت.
منير
:
أنا طبعًا … اشتراكي.
أدهم
:
اشتراكي برجوازي.
منير
:
بالضبط.
أدهم
:
أو برجوازي اشتراكي.
منير
:
تمام.
أدهم
:
أو يميني يساري … اشْتِرَأسِمالي!
منير
:
ماذا تقول؟
شعبان
:
أرجوكم … أرجوكم … هل هذه التحريات والأوصاف
والتعريفات لازمة لعملنا هنا؟ لها دخل بشغلنا؟!
منير
:
لا يا أستاذ شعبان، وأنا سبق قلت إن كل هذا لمجرد العلم
بالشيء، لا أكثر ولا أقل، لمجرد معرفة كلٍّ منا أفكار الآخر،
ونحن كلنا في الواقع متفقون، ومن مبدأ واحد، وموقفنا واحد،
وكل شيء على ما يرام.
شعبان
:
اطمئن يا منير بك من جهتنا … اطمئن!
منير
:
أنا مطمئن، ومن نعم الله أننا نسير على سياسة كل شيء
يمشي مع بعضه ما دام الجميع مع الدولة، ونحن كلنا مع
الدولة والحمد لله.
شعبان
:
أنا أيضًا عندي سؤال … تسمح؟
منير
:
تفضل.
شعبان
:
اشتراكك معنا في هذا العمل … أقصد البنك … وتحملك كل
هذه المصروفات والنفقات … بدون توقع أو نظر إلى أي ربح …
أهو مثلًا من قبيل …
منير
:
من قبيل ماذا؟
شعبان
:
من قبيل الهواية مثلًا … أو شغل الفراغ … أو …
منير
:
لا أبدًا … هي في الحقيقة مجرد رغبة في … في الخدمة
العامة.
شعبان
:
الخدمة العامة؟
منير
:
خدمة إنسانية … ألم يكن هذا هو هدفكم الأصلي من هذا
المشروع؟
شعبان
:
طبعًا، لكن … بصراحة نحن كنا ننتظر من ورائه أيضًا
شيئًا من الكسب، الكسب المشروع … كأي عمل آخر أو حرفة
تعول صاحبها.
منير
:
من هذه الجهة أنا ولله الحمد في غير حاجة إلى
الاحتراف.
شعبان
:
إذن أنت تتبرع بمالك لمجرد الفكرة؟!
منير
:
الفكرة في الحقيقة أعجبتني … وسبق أن قلت لكم ذلك، دخلتْ
مزاجي وسلبتْ لبي … وكل مال في سبيلها يهون.
أدهم
:
يا شعبان … نحن سبق تكلمنا في ذلك … منير بك حر في
ماله، والفكرة تستحق، والمهم أنها وجدت من يتحمس لها … ما
الداعي إذن إلى إعادة فتح باب الكلام في هذا الشأن؟
شعبان
:
لنكرر الشكر لمنير بك … أقل منها يا أخي … رجل يتحمس
لفكرة ويتبرع بماله من أجلها … لا ينتظر من ورائها جزاءً
ولا شكورًا.
أدهم
:
من هذه الجهة فعلًا هو جدير بكل ثناء وتقدير.
منير
:
أستغفر الله … أستغفر الله، أترككم الآن … عندي بعض
أشغال أخرى مستعجلة … إلى اللقاء.
أدهم
:
إلى اللقاء.
شعبان
:
مع ألف سلامة!
(يشيعانه إلى الباب ويعودان يفركان الأيدي
استبشارًا.)
أدهم
:
كل شيء يدل على أننا نجحنا.
شعبان
:
المحير هو أن هذا الرجل متفائل أكثر منا!
أدهم
:
ولماذا هذا محير؟
شعبان
:
لأن تفاؤل هذا الرجل يصل إلى حد الهوس! تفاؤلنا نحن مجرد
صرف كلام، لكن تفاؤله هو مترجم إلى صرف نقود!
أدهم
:
وماذا يهمك من هذا الهوس أو الجنون؟! هذا شيء يحسن ألَّا
نفكر فيه.
شعبان
:
أنا الآن لا أفكر فيه.
أدهم
:
من يدري؟ إن الأفكار الكبرى لا يحققها أحيانًا إلا
المجانين!
شعبان
:
أنا أفكر الآن في شيء آخر.
أدهم
:
ما هو؟
شعبان
:
جمال مرفت هذه.
أدهم
:
لا، ارجع يا شعبان … ارجع! أنا غير مستعد الآن لهذيانك
… سلام عليكم!
شعبان
:
إلى أين؟
أدهم
:
سلام عليكم.
(يتجه إلى الباب منصرفًا.)
شعبان
:
أوَتتركني هنا وحدي … خذني معك!
(يسرع خلفه ويخرجان.)