لم يترك شعبان رأس زميله بخير لحظة واحدة، طول الطريق وهما سائران لم
يكف عن تصديع رأسه بالحديث عن مرفت التي في حسن القمر، وأدهم يسد أذنيه
ويفهمه أن الوصول إليها بقمر صناعي ينطلق من صاروخ لا يؤدي أيضًا إلى
نتيجة، فهو سوف يتحطم فوق رمال مجدبة. ودخلا الجحر العامر بدرب الطبالي
بشارع محمد علي، فقد تم الاتفاق على أن تكون مواعيد العمل في البنك من
الرابعة مساءً حتى العاشرة، لأن فترة الصباح قد يكون الناس فيها
مشغولين بأعمالهم. وضمانًا للمحافظة على المواعيد رأي الزميلان أن
يقطنا معًا، حتى يكون كل منهما منبهًا ومشجعًا للآخر، فترك شعبان
غرفته بالسطح، وقرر مساكنة أدهم بصفة مستديمة، فالشقة وإن كانت جحرًا
فهي تسمى شقة، وما دام معهما الآن نقود ففي الإمكان تنظيفها وتحسينها.
وأول ما ينبغي عمله هو شراء سرير جديد ومرتبة نظيفة جديدة لشعبان، وأن
تخصص له حجرة مستقلة، هي حجرة المكتب، وأن يباع هذا المكتب لتاجر
الربابيكيا، فلا حاجة إلى مكتب هنا، ما دام مقر العمل هناك بعمارة
شبرا على المكاتب الفاخرة. وما دام تاجر الربابيكيا سيشرِّف فليأخذ
بالمرة سرير أدهم القديم ومرتبته المرصعة بالبق، ونقوده في جيبه لشراء
سرير جديد هو الآخر … كان منير عاطف قد منح كلًّا منهما مرتب شهر
مقدمًا، حتى يستطيعا الانتظام في المعيشة، كل شيء إذن سائر على ما
يرام، وما كان كل ذلك ليخطر لهما إلا في الأحلام.
لكن صورة مرفت لا تريد أن تترك شعبان، أما لو ظفر بها … كانت هذه
الأمنية ترعب أدهم ويحسب لها حسابًا، إن الكنز الذي فُتِحَ لهما بابه قد
يسده شعبان بحماقته، وحاول أن يثنيه عن هذا المطلب الشائك، فالنساء
كثيرات، وإذا شاء اللعب فليلعب بعيدًا عن الشغل. امتثل شعبان على رغمه،
وإن كان لم يكفَّ عن اللف والدوران حول سيرة مرفت … هل هي حرة؟ هل هي
متزوجة؟ لا يمكن أن تكون فتاة لم تتزوج بعد، وهي الآن تقترب من
الثلاثين، جميلة ثرية … إذن هي متزوجة، ومن هو زوجها؟ وأين هو؟ … ثم
خالتها فاطمة هانم هذه بوجهها المكتئب وملامحها الصارمة وذبول المرأة
التي جاوزت الخامسة والأربعين؟ … إنها فيما يبدو ذات سلطان كبير على
الشابة الحسناء، فهي عندما أمرتها بالانصراف انصاعت في الحال. وهذا
العم منير بك الذي يصرِّف شئونهما المالية فيما ظهر، كان قد قال إن شقيقه
عادل عاطف قد توفي، لكن والدتها؟ أين هي؟ وهنا تذكر شعبان أنه عندما
جاء ذكرها على لسانه لفظت مرفت، بشيء من الاضطراب، كلمة «والدتي»، وعندئذ
أسرعت خالتها بقطع الحديث وأمرتها بالانصراف السريع!
جعل شعبان يثرثر هكذا، وأدهم يصغي أحيانًا ولا يصغي، لكن الموضوع
دعاه، بدون أن يشعر، إلى استرجاع الذاكرة. مرت برأسه أطياف بعيدة لأفراد
تلك الأسرة، عندما كانوا يمرون بالجرن وقت دراس الأرز، وهو صبي صغير فوق
النورج، كان البك الكبير الأنيق عادل يَرِفُّ أحيانًا في عباءة من الحرير
الأبيض أو من الصوف الأسود الخفيف، كان وقتئذ في نحو الأربعين، وكانت
تسير إلى جواره زوجته وهي يومئذ في الثالثة والثلاثين، كل ما يذكر منها
تلك الغلالة البنفسجية حول رقبتها وشعرها، وخلفها أختها الصغرى فاطمة،
كانت في نحو العشرين، هيفاء بارزة النهدين، تُرَى دائمًا وفي يدها كتاب،
لم تكن قد انقطعت عن مواصلة دراستها. تلك هي هذه الخالة، يا للزمن! كيف
يغير الأجسام والملامح! أما منير هذا فلا يذكر أنه رآه من قبل، كانت
أرضه في الناحية على بعد خمسة كيلومترات، وكان مقيمًا فيها، وربما كان
يتم التزاور بين الشقيقين في فترات لم يكن ليلاحظها صبي في سن أدهم،
ولم يكن لزوجة عادل أرض هناك، فقد كان يقال في الناحية إن الثروة ثروة
عادل بك عاطف وأسرة عاطف … تلك هي كل معلومات أدهم التي استخرجها من
بين غبار ذاكرته. لكن شعبان يريد الاستزادة، ولا تهمه أي تفصيلات بعيدة
عن شخص مرفت، ولم يأخذ أدهم صديقه مأخذ الجد، فهو يعرف أن أمثاله من
أزيار النساء لا ينفذ فيهم الحب الحقيقي إلى أعماق دفينة، إنما هو نهم
طارئ أمام كل صنف جديد من أصناف النساء، ثم إنه فرصة لموضوع حديث يحب
أن يصول ويجول فيه أمثالهم، فليتركه إذن يمضي في ثرثرته، فالكلام لا
خطر فيه، وتظاهر بالاستماع إليه وهو مستلقٍ على سريره، لقد رفض شعبان
الاقتراب من هذا السرير، وآثر النوم واقفًا أو جالسًا على كرسي
الخيزران المثقوب.
وفي صباح اليوم التالي بادرا إلى تنفيذ ما اتفقا عليه من تجديد
الشقة، ثم ذهبا لتناول الغداء في مطعم نظيف معتدل، لم يسرفا في الطلب
هذه المرة، فأمامهما شهر كامل عليهما تدبير المعيشة فيه تدبيرًا
محكمًا؛ لأن النقود إذا نفدت خلاله فلن يجرؤا على طلب سلفة من هذا
الممول الكريم، وهما لم يقوما بعد بأي إنتاج أو نشاط. وما إن وافت
الساعة الرابعة حتى كانا في مقر العمل، المحافظة على المواعيد في
البداية أمر ضروري، وعند الدخول فوجئا على باب الشقة المحترمة بلوحة
نحاسية مكتوب عليها «بنك القلق». وقال لهما البواب إن منير بك كان قد
أمر بإعداد هذه اللوحة، كما أمر أيضًا بتركيب لافتة خشبية كبيرة على
جدار الشرفة من الخارج، ليراها المارة في الشارع، ولم يكن الزميلان قد
خطر لهما ذلك، فلم يرفعا البصر إلى الشرفة وهما داخلان، فهبطا إلى
الشارع مرة أخرى ونظرا إليها بزهو، ثم عادا وصعِدا وجلسا، كل إلى مكتبه
بوقار كتمثال.
المنظر الخامس
(في مكتب أدهم، وقد دخل عليه شعبان.)
أدهم
:
لماذا تركت مكتبك وجئت؟
شعبان
:
جئت أنظر إليك وأنت جالس هكذا بوقار!
أدهم
:
ولماذا لا تجلس أنت أيضًا على مكتبك بوقار؟!
شعبان
:
جلست، ولكني مللت.
أدهم
:
وأنا أيضًا.
شعبان
:
الجلوس على المكاتب هكذا شيء ممل!
أدهم
:
جدًّا.
شعبان
:
إذا كنا نساء كنا جئنا معنا بخيط تريكو وقعدنا نسلي
أنفسنا بشغل الإبرة!
أدهم
:
هنا ليست مكاتب حكومة … هنا بنك.
شعبان
:
وإذا لم يحضر زبون لهذا البنك؟!
أدهم
:
صبرك يا أخي … الصبر … الصبر.
شعبان
:
نصبر … لكن يعني … أنت متأكد؟
أدهم
:
متأكد من ماذا؟
شعبان
:
من أنه سيدخل عندنا زبون؟
أدهم
:
بعد هذه الشقة المحترمة … في هذه العمارة الفخمة … في
شارع شبرا المزدحم … وهذه اللافتة الكبيرة على الشرفة …
وهذه اللوحة النحاسية على الباب … وهذا البواب القائم على
العتبة … قلم استعلامات للداخل والخارج، كل هذا ولا يحضر
زباين؟!
شعبان
:
افرض … افرض … ماذا يكون موقفنا؟
أدهم
:
موقفنا مضمون لمدة سنة، أنسيت أن عقد إيجار هذه الشقة
لمدة سنة قبض المالك القيمة منا مقدمًا، ومعنا
الإيصال؟
شعبان
:
وماذا نصنع بالشقة! المهم المرتب، هل يستمر يدفع لنا
المرتبات مع عدم حضور زباين؟
أدهم
:
هذا احتمال لا بد أنه فكر فيه وعمل حسابه.
شعبان
:
عمل حسابه على طردنا وقفل البنك، هذا بالنسبة له أسهل
حل.
أدهم
:
من فضلك لا تكركب بطني!
شعبان
:
نغش أنفسنا؟! الموضوع كله من أوله لآخره لا يدخل العقل،
إلا إذا كان هذا الرجل مصابًا بلوثة في عقله!
أدهم
:
وهل كنا نحن مصابين بلوثة في عقولنا عندما خطرت لنا هذه
الفكرة؟!
شعبان
:
نحن شيء آخر.
أدهم
:
تريد أن تقول إننا مجانين أصلًا؟!
شعبان
:
أريد أن أقول إن جنوننا معقول، لكن عندما تدفعنا الفكرة
إلى أن نأتي بناس نتنازل لهم عن شقق فخمة، ونعطيهم عقود
إيجار، ونسلم لهم إيصالات ونجلسهم على مكاتب، وندفع لهم
مرتبات!
أدهم
:
يا أخي نحن لسنا مسئولين عن عقول الغير!
شعبان
:
وهو كذلك.
أدهم
:
تفاءل … تفاءل!
(جرس الباب يرن.)
شعبان
:
الجرس … زبون!
أدهم
:
اذهب حالًا وافتح!
شعبان
:
أنا الذي أذهب وأفتح؟! صراف الخزينة؟!
أدهم
:
وهل الذي يذهب المدير؟!
شعبان
:
أمري إلى الله! (ويذهب ويفتح
ويصيح) أهلًا وسهلًا! يا ألف مرحب … الشقة نورت
… الدنيا كلها أنوار.
مرفت
(داخلة بسرعة)
:
عمي هنا؟
شعبان
(خلفها)
:
سيحضر حالًا … تفضلي استريحي.
أدهم
(ينهض ويقدم لها المقعد)
:
تفضلي يا هانم.
مرفت
(تجلس)
:
مِرسي! … أنا في الحقيقة مندهشة من هذه اللافتة وهذه
اللوحة على الباب! … ما معنى بنك القلق هذا؟! أنا وخالتي
كنا نتساءل الآن عن ذلك، ونحن نصعد إلى الخياطة في الشقة
المقابلة … تركتها هناك تجري بروفة على فستان، وحضرت أسأل
عمي.
شعبان
:
تحت أمرك … نحن نستطيع أن نجيب.
مرفت
:
قولوا لي إذن! … ما هي حكاية هذا البنك؟!
شعبان
:
حكايته طويلة تحتاج لشرح … إذا سمحتِ ننتقل إلى مكتبي في
الحجرة الثانية.
مرفت
:
وما هو الداعي؟!
أدهم
:
حقًّا ما هو الداعي يا أخي؟ أليس هنا أيضًا مكتب؟
مرفت
:
فهموني الحكاية باختصار … لأني لا أستطيع أن أمكث هنا
أكثر من خمس دقايق.
شعبان
:
خمس دقايق فقط؟! هذا لا يكفي للشرح.
مرفت
(تنظر إلى الساعة في معصمها)
:
عشر دقايق.
شعبان
:
نحن في غاية السعادة بهذه الدقايق، ونسأل الله أن يمد في
طولها وعمرها!
مرفت
:
ادخلوا في الموضوع أرجوكم … عمي مشترك معكم؟
شعبان
:
طبعًا … يعني …
مرفت
:
يعني؟
شعبان
:
يعني بكرمه وفضله وتشجيعه و…
مرفت
:
المهم ما هي فكرة هذا البنك باختصار؟
شعبان
:
هي في الواقع فكرة …
أدهم
:
أنا أقول لك يا هانم … باختصار لاحظنا أن كل إنسان عنده
شيء يقلق باله … في ناحية من النواحي.
مرفت
:
طبيعي.
أدهم
:
وكل مصاب بالقلق في حاجة إلى علاج.
مرفت
:
آه … طب نفساني؟
أدهم
:
لا أبدًا … نحن لسنا أطباء، نحن أيضًا مرضى، ومهمتنا أن
يفتح الناس صدورهم لنا ونفتح صدورنا لهم، علاج متبادل.
شعبان
:
وهذا هو الفرق بيننا وبين الطبيب النفساني … الطبيب
النفساني يعتقد أنه هو السليم وأن الناس هم المرضى!
مرفت
:
تقصدون أن تبادل الشكوى فيها راحة أكثر.
شعبان
:
تمام يا هانم.
أدهم
:
لأن المريض عندما يجد طبيبه أكثر منه مرضًا يخف ألمه
ويشعر براحة.
شعبان
:
وعندئذ ينقلب الطبيب إلى مريض والمريض إلى طبيب وبالعكس.
مرفت
:
شيء غريب!
شعبان
:
هذه هي كل الفكرة باختصار.
مرفت
:
لكن … ما علاقة ذلك بالبنك؟!
شعبان
:
العلاقة موجودة … البنك يقرض ويقترض في نفس الوقت …
أليس كذلك؟
مرفت
:
أظن.
شعبان
:
نحن أيضًا كذلك.
مرفت
:
ماذا؟ تقرضون وتقترضون؟
أدهم
:
لا … نعالج ونتعالج … هذا هو أساس التشابه.
مرفت
:
إذن أنتم مرضى باستمرار؟!
شعبان
:
طبعًا، ما دام الزبون مريضًا فنحن لا بد أن نكون مثله
وأكثر منه!
مرفت
:
لكن … عندما يحضر إليكم مريض … لا بد طبعًا من أن يكشف
لكم عن سبب قلقه … أحيانًا يكون السبب شخصيًّا جدًّا …
كيف يضمن حفظ السر؟
شعبان
:
الأسرار هنا يا هانم في الحفظ والصون.
أدهم
:
نحن لا نطالب أحدًا بالكشف عن أسراره الخاصة … يكفي أن
يتكلم كلامًا عامًّا بشكل يريحه.
مرفت
(تنهض للانصراف)
:
مرسي! … أنا أخذت فكرة عن الموضوع.
شعبان
:
العشر دقايق لم تنته بعد.
مرفت
:
يجب أن أنصرف … خالتي منتظرة.
شعبان
:
لكنك … لم تخبرينا عن رأيك؟
مرفت
:
رأيي في ماذا؟!
شعبان
:
في هذا البنك؟
مرفت
:
لا أدري … هل حضر إليكم أحد؟
شعبان
:
نحن لم نفتتحه بعدُ بصفة رسمية … لماذا لا تكونين أنت
أول من يفتتحه لنا؟
مرفت
:
أنا؟!
شعبان
:
إنها لسعادة كبرى لنا أن تكوني أنت أول زبون.
مرفت
:
ولكني أنا لست مريضة.
شعبان
:
لا نقصد المرض … لا سمح الله … لكن لا بد عندك بالطبع
مثل كل الناس ما … ما يقلق بالك.
مرفت
:
ليس عندي قلق … ولكن ربما بعض المضايقات.
شعبان
:
ونحن في الخدمة … اطرحي علينا هذه المضايقات!
مرفت
:
لا.
شعبان
:
وما هو المانع؟
مرفت
:
المانع هو أنكم لستم من الطراز الذي يفهم ذلك.
شعبان
:
نحاول أن نفهم.
مرفت
:
أقول لك إذن عن مسألة ضايقتني بشكل فظيع.
شعبان
:
ما هي؟ … تفضلي قولي … أنا خدامك!
مرفت
:
تصور أن سكاندال دي سوار غير موجود على الإطلاق!
شعبان
:
ماذا؟!
مرفت
:
سكاندال دي سوار … ألا تعرف ما هو سكاندال دي سوار؟
شعبان
:
والله أنا …
مرفت
:
بالكلام العربي يعني فضيحة المساء … غير موجود على
الإطلاق في السوق!
شعبان
:
فضيحة المساء؟! غير موجودة في السوق؟! إن كان على
الفضايح فهي تملأ الأسواق!
مرفت
:
أي فضايح؟ … أتعرف ماذا أقصد؟
شعبان
:
لا والله.
مرفت
:
فضيحة المساء هذا اسم عطر جديد ظهر في باريس … آخر موضة
في العطور عند كارفن … محل كارفن … فاهم؟ ظهر من
أسبوعين!
شعبان
:
آه … لا مؤاخذة!
مرفت
:
عندما تعلم أنه ظهر من أسبوعين … ولا تستطيع
الحصول عليه، ماذا يكون شعورك؟ ألا ترى أن هذا شيء مقلق
للراحة … مقلق للبال؟
شعبان
:
طبعًا، شيء مقلق جدًّا!
مرفت
:
والأدهى والأمرُّ إذا عرفت أن واحدة صديقتي وصلها هذا
العطر من باريس … وأنها تتيه وتتدلل وتفاخر به علينا …
وتغيظنا وتفرسنا وتكيدنا في كل مكان … شيء يجنن ويطير
العقل أم لا؟
شعبان
:
طبعًا شيء يجنن ويطير العقل!
مرفت
:
ومع ذلك … أنا ولا يهمني!
شعبان
:
ولا يهمك؟!
مرفت
:
هذه عادتي، كل ما يضايقني أدوسه تحت قدمي … ولذلك أنا
التي أكيد وأغيظ كل صديقاتي بعدم المبالاة.
شعبان
:
يا بختك!
مرفت
:
أنا لا أحب أن أعلن شكواي من أي شيء!
شعبان
:
ما دمت أنت كذلك فاسمحي لي أنا أن أشكو … أنا مريض …
وأحتاج للمعالجة.
أدهم
:
اسكت يا شعبان … ليس هذا وقته.
شعبان
:
أنا أتكلم بجد … إذا كان الزبون ليس مريضًا ولا يشكو أي
شيء فله أن يعالجنا نحن، أليس هذا هو مبدأ البنك؟ أنا مريض
… والست تستطيع أن تشفيني.
أدهم
:
أنا فاهمك … ابعد!
مرفت
(تحاول الانصراف)
:
اسمحوا لي.
أدهم
:
أنا متأسف … زميلي يحب المزاح.
مرفت
:
ظاهر عليه.
شعبان
:
أنا غلطت يا هانم؟ سامحيني!
مرفت
:
لا أبدًا … لم يحدث شيء … أنا مضطرة أنصرف … لو كان
عندي وقت كنت قعدت أكثر … ربما في فرصة أخرى.
شعبان
:
وهل نطمع في فرصة أخرى؟
مرفت
:
ربما.
شعبان
:
كنت تسألين عن عمك، إنه حتمًا سيحضر هنا بين لحظة وأخرى،
لو مكثت معنا خمس دقائق أخرى.
مرفت
:
لا أريد ترك خالتي تنتظر طويلًا عند الخياطة.
شعبان
:
أنت دائمًا مع خالتك … يظهر أنك تحبين خالتك
كثيرًا.
مرفت
:
طبعًا.
شعبان
:
وطبعًا أولادك …
مرفت
:
أولادي؟! ليس عندي أولاد.
شعبان
:
وزوجك؟
مرفت
:
ليس عندي زوج.
شعبان
:
لم تتزوجي بعد؟!
مرفت
:
تزوجت مرتين.
شعبان
:
مرتين؟ وماذا حصل؟
مرفت
:
طلاق.
أدهم
:
كفاية يا شعبان … كفاية … هذا لا يصح بالمرة!
مرفت
:
دعه يسأل … يظهر أن عنده حب استطلاع شديد … لننظر إلى
أين يريد أن ينتهي … اسأل!
شعبان
:
وتعيشين الآن بمفردك؟
مرفت
:
مع خالتي … في منزلنا بالدقي والمنزل به حديقة،
والحديقة بها زهر ياسمين على السور … وهذا الياسمين أبيض
اللون … عندك أسئلة أخرى؟
شعبان
:
والست والدتك؟
مرفت
(تضطرب)
:
والدتي! … أرجوكم … عن إذنكم … أورفوار!
(تنصرف سريعًا.)
شعبان
:
أنا قلت كلمة غلط؟!
أدهم
:
أنت زدتها … وكنت في غاية السماجة والجليطة!
شعبان
:
انصرفت مضطربة عند سؤالها عن والدتها … ما له السؤال عن
أمها؟!
أدهم
:
وأنت لماذا تسأل يا أخي؟!
شعبان
:
كلها أسئلة بريئة … عادية، ألا تذكر في المرة السابقة
عندما جاء ذكر أمها … كاد يحدث نفس الشيء، لولا سحبتها
خالتها.
أدهم
:
يظهر أنها نقطة حساسة عندها!
شعبان
:
الأم؟ لماذا؟
أدهم
:
من يدري؟ هنا فعلًا شيء من الغموض!
شعبان
:
هي كلها غامضة، وهذا يزيدها سحرًا!
أدهم
:
دعك من سحرها! ولا تكرر ذلك، وإلا عرضتنا لمشاكل ربما
هددت شغلنا … التفت أنت إلى شيء نافع!
شعبان
:
وهل هناك أنفع من دخول الجنة … هذه المرأة هي
الجنة!
أدهم
:
جنة أسوارها شوك!
شعبان
:
أنا لا أدخل الجنة من فوق الأسوار … أنا أدخلها من
الأبواب … عندي جملة مفاتيح!
أدهم
:
مفاتيح مزيفة طبعًا.
شعبان
:
مفاتيح والسلام! … ومجربة على كل قفل … تراهن؟
أدهم
:
أنا لا أراهن ولا أوافق على هذه الحماقة، وأحذرك يا
شعبان، اترك هذه المرأة، نحن لسنا من طراز هذه
الفئة!
شعبان
:
أهذه امرأة تترك؟! بذمتك … ألا يتمناها أي واحد؟ وأنت
يا أدهم … لماذا لا تجرب حظك؟
أدهم
:
أنا؟! أنا لا أستطيع أن أعقد صلة بامرأة أشعر أنه لا
تربطني بها وحدة تفكير.
شعبان
:
تفكير؟! ولماذا تريد عقد صلة تفكير بين رجل
وامرأة؟!
أدهم
:
وأي صلة تريد عقدها بين رجل وامرأة؟!
شعبان
:
الصلة الطبيعية يا أخي! أنت تعقد الأمور بدون لازمة! ومع
ذلك ما هي صلة التفكير التي تربط مثلًا … بيني وبينك؟ أو
بيننا وبين منير بك؟!
أدهم
:
ما يربطنا بمنير بك أنت عارفه، تمويل مشروعنا … لا أكثر
ولا أقل … أما ما يربطني بك أنت، فأنت أيضًا
عارفه.
شعبان
:
لا، أنا غير عارفه.
أدهم
:
ألا تعرف ما يربطنا من تفكير؟
شعبان
:
لا، قل لي ما هو تفكيرنا؟
أدهم
:
أتجهل ما هو تفكيرك؟
شعبان
:
أنا أسألك عن تفكيرك أنت؟
أدهم
:
هذا شيء يحتاج إلى شرح طويل.
شعبان
:
اشرح لي … أهو التفكير الذي أدخلك السجن؟
أدهم
:
ليس الآن وقت الكلام في ذلك … نحن هنا في مكان عمل، ومن
واجبك التركيز في هذا العمل وحده … إلا إذا كنت تريد فشل
المشروع، وتشردنا من جديد!
شعبان
:
لا … لا … أعوذ بالله! أنا ذاهب إلى مكتبي! إلى العمل!
… فليحيَ العمل!
(يخرج سريعًا … ويترك أدهم على مكتبه في
انتظار العمل.)