كان جرس الباب الذي يرن من حين إلى حين مخيبًا للآمال، ففي أكثر
الأحيان كان رن الجرس بسبب خطأ في الشقة، وعلى الرغم من اللوحة
النحاسية فوق الباب، فإن كثيرين كانوا يظنون أنها عيادة طبيب أو مكتب
محام أو محاسب ولا يكلفون عيونهم مشقة قراءة اللوحة، وكانت مهمة شعبان
المضنية أن يضع أصابعهم على اللوحة قائلًا: «هنا بنك … بنك.» فإذا
قرءوا كلمة «القلق» استغربوا وسألوا وابتسموا وانصرفوا … ومضت أيام لم
يقصدهما زبون … وبدأ يلعب في عبهما الشك وبوادر اليأس، لولا نشاط منير
عاطف المملوء بالتفاؤل، فقد جاء بكهربائي مد سلكًا بين جهاز التسجيل
الذي في حجرته رقم ثلاثة إلى الحجرة الأولى والحجرة الثانية، حتى
يستطيع وهو في حجرته أن يستمع إلى ما يقوله الزبون الموجود عندهما، كما
قام بوضع توصيلة تليفون داخلية على مكاتب أدهم وشعبان، حتى يستطيع
الاتصال بهما وهو جالس إلى مكتبه. لماذا كل هذه التركيبات والترتيبات،
إلا أن يكون هذا الممول الشجاع واثقًا كل الثقة من حضور زبائن.
وبدأ يعود إليهما الاطمئنان عندما ظهر خبر طريف عن «بنك القلق» في
الجريدة التي بها متولي سعد، لا شك أنه نُشِرَ بإيعاز من منير عاطف أو
بماله، فعلى الرغم من صداقة أدهم وزمالته لهذا الصحفي فإنه ما كان يجرؤ
على نشر سطر واحد عن مشروع كهذا لو أنه بقي في حيِّزه الأول المضحك بتلك
الشقة الحقيرة في درب الطبالي، لكن هنا في هذا المكان الجاد بين عيادات
الأطباء ومكاتب المحامين والمحاسبين ومحال الخياطات والموضات، كل شيء
يصبح جديرًا بالالتفات. وكان من الطبيعي أن يأتي متولي لزيارة المكان
الجديد ويرى ما صارا إليه من نعمة، ومر بالحجرات الثلاث متفقدًا، كان
ذلك في غيبة منير بك، ثم جلس يخرج لهما مما في جرابه الصحفي من أخبار
ومعلومات. إنه من طراز أولئك المخبرين الصحفيين الذين يتنقلون بين
الأخبار كالنحلة بين الأزهار، أزهار البرتقال أو البرسيم، لا يلتصق
بمبدأ بالذات أو بمذهب … ولا يخالط صنفًا واحدًا من الناس، فهو مع كل
من يمده بخبر، وعند كل من يجد عنده إشاعة أو كأسًا من الويسكي، وحينما
جاء ذكر منير بك قال إنه كان يسهر عنده من ليلتين، في شقته بالزمالك،
شقة فخمة بها بار أمريكاني عامر بالويسكي الجيد والمزة الطيبة، يقيم
فيها مع خليلته، امرأة رومية كانت عاملة مانيكور عند حلاقه، وهي معه من
سنوات بعد أن توفيت زوجته بنت أحد أعيان الريف وأم ولديه، وهو لا يرى
الآن ولديه، فأحدهما معيد بكلية هندسة عين شمس وموفد في بعثة إلى
ألمانيا، والآخر كان محاميًا شابًّا واعتقل بتهمة الشيوعية قبل ثورة
١٩٥٢ وهو الآن موظف بشركة شل ومقره الإسكندرية.
وبدا هذا غريبًا أن يكون لأسرة عاطف، التي تملك نحو ألف فدان في كفر
عنبة منوفية، ابن شيوعي! … ربما كان ذلك لتكملة الصورة، فقد كان
المرحوم عاطف باشا الجَد يرى لذة الهوى والمصلحة في التنقل بين الأحزاب
… إلى أن استقر في حزب الملك فؤاد، أما ابنه منير فانضم إلى حزب
الوفد، في حين أن الابن الآخر عادل كان مع حزب الأحرار. وهذا التوزيع
نفسه شمل بالطبع تابعيهم من الفلاحين، فكان لا بد للشيخ عبد الصمد أن
يكون صوته حرًّا دستوريًّا ويعطيه لعادل بك، كما لا بد لزوج بنته وهو
من فلاحي منير بك أن يكون صوته وفديًّا ويعطيه لمتبوعه. وبعد أن وزعت
الثورة الأراضي على الفلاحين، ولم يبق لمنير غير مائة فدان، ظهر بمظهر
الراضي المحبذ لهذا الإجراء، المتغني بعدالة الإصلاح الزراعي، وجعل
يتحكك بالحزب الواحد الموجود؛ الاتحاد الاشتراكي. ولما وجد أن انضمامه
إليه رسميًّا أمر متعذر بحكم القانون، اعتبر نفسه منضمًّا بالعقيدة
والرغبة في التعاون، وسعى إلى عقد الصلات مع أمناء الاتحاد والمديرين
والمحافظين وكل من له سلطة في القرية.
وقد قربوه بالفعل، وأصبح بيته هناك مفتوحًا للجميع، إنه رجل بحبوح.
قال متولي سعد إنه عندما أراد أن يُجري تحقيقه الصحفي عن الاتحاد
الاشتراكي نزل عنده هناك في بيته الريفي فأكرمه كل الإكرام، وحضر
مجلسًا له مع بعض الفلاحين المستأجِرين لأرضه، فوجده يشيد لهم بمآثر
الثورة، ويقول لواحد منهم: اسمع يا عبد المقصود، أنا مع الثورة وأحب
الثورة، أنا اشتراكي، وكل ما فعلته الثورة خير وعدل وإصلاح … لكن يعني
بذمتك، والشهادة لله، كانت أيامنا سيئة؟! ألم نكن نوزع عليكم الكساوي في
المواسم، ونذبح الذبائح في الأعياد، ونجعل الخير عليكم يعم؟ ثم يلتفت إلى
متولي ويهمس في أذنه: «إن الثورة المباركة تنفخ في قربة مقطوعة، لأن
الفلاحين غير قديرين على الإنتاج، وإن الإنتاج الزراعي ساء حاله اليوم
وتدهور.» ثم لا يلبث أن يأتي من يُبلغه بأرقام المحاصيل عند المستأجرين
لديه تلك السنة، فإذا هي مرتفعة، فيلتفت هامسًا: «تصور أن هذا الفلاح
الماكر كان على أيامنا يتكاسل ويتغافل، والآن عندما أصبح المحصول له
يَكِد ويعمل بيديه وأسنانه!» ثم يفطن إلى نفسه فيعود حالًا إلى الترنم
بأمجاد الثورة … لكنه رجل بحبوح، ليس ثقيل الظل، والويسكي عنده جيد
والمزة طيبة.
وأراد شعبان أن يجر الكلام إلى مرفت، فهذا الصحفي المنتشر لا يمكن أن
تخفى عليه خافية، لكن كل ما كان يعلمه متولي عنها لا يعدو ما سبق
لشعبان أن عرفه: والدها تُوفي وكذلك والدتها بعده بقليل، وأنها تقيم مع
خالتها العانس وحدهما في منزلها بالدقي؛ فيلَّا بناها والدها وكتبها
وأهداها لوالدتها، وقد ورثت عن والدها عمارة في مصر الجديدة، علاوة على
ما آل إليها من أرض في كفر عنبة. ووالدها ووالدتها ماتا وهي في السادسة
فتولت خالتها تربيتها وتزويجها، تزوجت فعلًا مرتين وطلقت، المرة الأولى
أحد رجال السلك السياسي ذهبت معه إلى باريس، فلما نقل إلى شيلي تركته
يذهب وحده وطلبت الانفصال عنه … وهنا عقب شعبان بقوله: «لها حق، أمثل
هذه تذهب إلى شيلي؟!» فردَّ عليه أدهم قائلًا: «طبعًا لا … إنما تذهب
إلى درب الطبالي!» واستطرد متولي يتحدث عن زواجها الثاني من طبيب جراح
شاب ناجح، لكنها لم تطق استيقاظه مبكرًا ليجري عملياته في الثامنة
صباحًا. وأعطاها شعبان الحق على طول الخط … فالثامنة صباحًا هي بداية
النوم اللذيذ عند أصحاب الذوق السليم! ولكن الظاهر أن خالتها فاطمة
هانم دللتها كثيرًا على الرغم من صرامة هذه الخالة وقسوتها في حق
نفسها، فهي لم تفكر في الزواج، مكرسة حياتها لرعاية بنت أختها اليتيمة،
وشغلت فراغها بالقراءة، تلك هوايتها، على عكس مرفت. لكن لماذا ضحت هذه
الخالة بحياتها هذه التضحية من أجل بنت أختها؟ قال شعبان: يبدو أن في
الأمر سرًّا لا بد أن يجد له مفتاحًا.
ولاحظ الصحفي الخبيث اهتمام شعبان، فنظر إليه نظرة ماكرة، فهمها أدهم
وأسرع يغطي الموقف بقوله إن كل ما يعنيهما من الأمر هو محاولة فهم هذه
الطبقة، ما هو موضعها الحقيقي في هذا المجتمع المتغير؟ … وهل المجتمع
يتغير حقًّا؟ وفي نظر من يتغير؟ وإلى أي مدًى هذا التغير؟ وهل هو حقًّا
تغير حقيقي من الداخل؟ أو مجرد مظاهر خارجية؟! … وهز متولي سعد رأسه
واكتفى بذلك، وبدا عليه التعب فجأة، فكل ما يخرج عن دائرة الخبر المجرد
يجعله يتثاءب … حتى التعليق أو التحليل لخبر من الأخبار يراه شيئًا
مملًّا لا طاقة له به، وسرعان ما يحول مجرى الحديث بنكتة أو قفشة وينهض
منصرفًا، وهكذا نهض سريعًا لينصرف، وترك الزميلين وهو يقول إنه سيعود
في وقت آخر ليعرف ما يستجد من أخبار البنك.
وجلسا هما ينتظران كالعادة ظهور الزبون، وامتد بهما الانتظار، حتى
فقد الانتظار نفسه معناه، وكادا ينسيان أنهما ينتظران أحدًا أو شيئًا.
وإذا بجرس الباب يرن … فلم يلتفتا إليه، أو التفتا ولم
يصدقا … ولكنه يرن حقًّا.
المنظر السادس
(أدهم جالس إلى مكتبه جامدًا وأمامه شعبان،
وجرس الباب يرن.)
شعبان
:
أهو يرن حقًّا؟
أدهم
:
أوَتظن أننا نحلم؟
شعبان
:
وهل هو زبون حقًّا؟
أدهم
:
هذا ما سنعرفه عندما تفتح الباب.
شعبان
:
وهل أنا الذي سيفتح الباب؟
أدهم
:
طبعًا، ومن غيرك؟
شعبان
:
ولماذا لا تفتح أنت؟
أدهم
:
لأني أنا المدير.
شعبان
:
وأنا الصراف.
أدهم
:
لا يوجد الآن صراف، أُلغيتْ هذه الوظيفة، لأن البك الممول
هو الذي يتولى كل الشئون المالية.
شعبان
:
إذن لا يوجد أيضًا وظيفة مدير.
أدهم
:
كيف ذلك؟
شعبان
:
لأن البك الممول هو الذي يتولى أيضًا الإدارة العامة،
وما أنت إلا موظف هنا، مقرك الحجرة رقم واحد.
أدهم
:
وأنت كذلك على هذا الاعتبار مجرد موظف آخر مقرك الحجرة
رقم اثنين.
شعبان
:
تمام، أي لا فرق بيني وبينك، ولذلك عندما يرن الجرس واحد
منا يفتح.
أدهم
:
أنت، لأنك رقم اثنين، وأنا رقم واحد، ورقم واحد مفضل على
رقم اثنين.
شعبان
:
الرن سكت، يظهر أن الزبون انصرف.
أدهم
:
طبعًا، ما دمنا أضعنا الوقت في زحلقة الشغل، كل منا على
الآخر، ابتدأنا نعمل شغل موظفي الحكومة.
شعبان
:
الحق عليك أنت يا أخي، اسمع الكلام الجد، تعال نوزع
الاختصاص بيننا بالعدل.
أدهم
:
وهو كذلك، مسألة الباب … الذي يسمع الرن أولًا يذهب
ويفتح.
شعبان
:
لا … يفتح الله … أنت من الآن لن تسمع شيئًا … ستكون
دائمًا أطرش!
أدهم
:
ولماذا لا يكون أنت الذي ستدعي دائمًا الصمم
والطرش؟!
شعبان
:
أحسن طريقة نترك الباب مفتوحًا … وهذا هو المعقول،
أيوجد بنك يغلق بابه في أوقات العمل؟
أدهم
:
صدقت، نترك الباب مفتوحًا هذا فعلًا من شيمة
البنوك.
شعبان
:
مسألة الباب حُلَّتْ، ندخل في اختصاص العمل.
أدهم
:
اختصاص العمل نتركه لظروفه، فمثلًا إذا دخل عندي زبون في
موضوع عويص لا أسلك فيه أحوله عليك.
شعبان
:
ومن جهتي نفس الشيء طبعًا.
أدهم
:
طبعًا، على شرط الذمة والأمانة والنية السليمة.
شعبان
:
بالنسبة للطرفين.
أدهم
:
اتفقنا.
(جرس الباب يرن.)
شعبان
:
الجرس! … أنا متبرع بالفتح هذه المرة لأثبت لك النية
السليمة وسأترك الباب مفتوحًا حسب الاتفاق.
أدهم
:
شكرًا.
(يذهب شعبان لفتح الباب … ثم يعود برجل في
نحو الخمسين يخطو بتردد.)
الزبون
:
مساء الخير!
أدهم
(ينهض مستقبِلًا)
:
أهلًا وسهلًا … تفضل … (يقدم له المقعد) شرَّفْت …
سيجارة؟ سجاير يا شعبان!
شعبان
(في نبرة احتجاج)
:
نعم؟! رجعنا؟! (يخرج في
الحال).
الزبون
:
لا، متشكر … أنا لا أدخن.
أدهم
:
قهوة؟
الزبون
:
لا … أرجوك لا لزوم … أنا … في الواقع كنت مارًّا في
الشارع وقرأت اللافتة «بنك القلق» … ترددت في الدخول،
وفعلًا بعد أن صعِدت وضربت الجرس رجعت ونزلت، ثم فكرت
قليلًا واستخرت الله، وصعدت مرة أخرى إليكم.
أدهم
:
خيرًا.
الزبون
:
الأمر وما فيه يا سيدي … هل أستطيع أن أتكلم عما
يقلقني؟
أدهم
:
طبعًا، تفضل، هذا عملنا.
الزبون
:
ربما وجدت عندكم المشورة … لن أطيل … بكل اختصار أنا
لي ابن في الثامنة عشرة من عمره، كان مثال الطالب المجتهد،
نجح بتفوق وامتياز في الإعدادية وكان من العشرة الأوائل
للقطر كله، وفي هذا العام تقدم إلى الشهادة الثانوية
العامة، لكن مع الأسف وقع في حب فتاة … بنت الجيران،
وتعلق بها إلى درجة التدله، بل إلى حد الذهول عن نفسه وعن
مستقبله، وبالفعل رسب رسوبًا شنيعًا، هو الذي لم يعرف
الرسوب قط … وهو الآن يعيد السنة، لكن ما يقلقني هو أنه
يعيدها ويعيد معها نفس المأساة، وقد نصحته كثيرًا، لكن ما
به أقوى من النصح، وهو نفسه مقتنع تمامًا بكل ما أنصح به،
وهو أعلم مني بسوء حاله، وأشد شعورًا بأنه يضيع نفسه،
ولكنه مستمر، لأنه غير قادر على التخلص مما هو فيه.
أدهم
:
إذن أي كلام معه لا ينفع.
الزبون
:
لا … لا ينفع مطلقًا … تعبنا من الكلام، قولوا لي ماذا
أفعل؟
أدهم
:
هون عليك! … أنا أيضًا في صباي كنت مثل ابنك هذا
بالضبط، حدث لي نفس ما حدث له … بالحرف.
الزبون
:
وكيف كانت النتيجة؟
أدهم
:
كما ترى.
الزبون
:
أرى على الأقل أنك تحمل شهادة عليا.
أدهم
:
لا أبدًا مع الأسف، لم أفلح في الدراسة.
الزبون
:
هذا شيء غير مطمئن؟
أدهم
:
ترى أن حالتي غير مطمئنة؟
الزبون
:
العفو … أنا لا أقصدك … أنا أقصد ابني.
أدهم
:
ابنك فاجأه الحب في وقت غير مناسب، كالبهلوان الذي
تفاجئه عطسة الزكام وهو سائر على الحبل!
الزبون
:
والعمل؟
أدهم
:
أمره لله! … وليرحمه المولى عز وجل!
الزبون
:
ألا يوجد حل؟!
أدهم
:
لعنة الله على الحب وسيرة الحب! هذا في الحقيقة ليس من
اختصاصي، اذهب إلى الحجرة رقم اثنين!
الزبون
:
الحجرة رقم اثنين؟
أدهم
:
نعم … صنف الحب ومشتقاته هناك، عند زميلي في الحجرة
الثانية … تفضل عنده!
الزبون
(ينهض)
:
شكرًا!
(يخرج … ولا تمضي لحظة حتى يظهر زبون ثانٍ
في الخامسة والثلاثين نشيط الحركات.)
الزبون ٢
:
تسمح؟
أدهم
:
تفضل.
الزبون ٢
:
أنا كنت في الحجرة الثانية والأستاذ هناك حولني على
حضرتك هنا.
أدهم
:
أهلًا وسهلًا.
الزبون ٢
:
الموضوع باختصار أني قرأت …
أدهم
:
اللافتة التي على الشارع.
الزبون ٢
:
بل الخبر المنشور في إحدى الجرائد، وأعجبني أن تُوجَد جهة
مختصة بالقلق، الواقع أنا في غاية القلق، لا بسبب حالة
خاصة … بل للحالة العامة التي نعيشها، هذه الرجعية التي
حولي، هذا المجتمع الرجعي الذي أتنفس فيه … تصور سيادتك
… ولا بد أنك لاحظت … أبسط شيء … برامج الإذاعة والتليفزيون
مثلًا … تصطبح فيها على شيخ مطمطِم وتمسي فيها على شيخ
مطمطِم … ونسمع ونشاهد بين كل فقرة وفقرة ندوات وموضوعات
ومناقشات دينية أكل عليها الدهر وشرب.
أدهم
:
ولكن الدين ضروري لهذا المجتمع.
الزبون ٢
:
التقدم أيضًا ضروري، وما يقلقني هو أني أشعر أني لا أعيش
في مجتمع تقدمي بالمعنى الحقيقي.
أدهم
:
هذا شعورك؟!
الزبون ٢
:
وأنت سيادتك ألا تشعر نفس الشعور؟
أدهم
:
أحيانًا، لكن على كل حال المسألة لا تدعو إلى القلق، لكن
اسمح لي أولًا أسألك لماذا حولتك الحجرة رقم اثنين إلى
هنا؟!
الزبون ٢
:
قال لي الأستاذ هناك إن الزندقة بكافة أنواعها من اختصاص
سيادتك.
أدهم
:
الزندقة؟! قال لك هذا؟!
الزبون ٢
:
بالحرف الواحد.
أدهم
:
وهل أنت زنديق؟
الزبون ٢
:
وأرحب بهذا الوصف.
أدهم
:
لكني أنا … لا أرحب أن يقال عني … ولا تؤاخذني …
الزبون ٢
:
هل أنت مع التقدمية أو الرجعية؟
أدهم
:
اسمح لي من فضلك … ما هو الذي تريده بالضبط؟
الزبون ٢
:
أريد القضاء على كل تفكير متخلف … أريد عملًا حاسمًا
عنيفًا يفسح الطريق أمام كل فكرٍ تحرري تقدمي … إن مستقبل
العالم هو في هذا الاتجاه … ويجب أن ينقلب مجتمعنا ونصبغه
صبغة جديدة حقيقية، فهمت قصدي؟
أدهم
:
لكن كيف؟ … بأي الوسائل؟
الزبون ٢
:
بكافة الوسائل … المهم قبل كل شيء هو إجراء عملية إيقاظ
لعقل المجتمع.
أدهم
:
الموضوع خطير.
الزبون ٢
:
طبعًا.
(جرس التليفون يرن.)
أدهم
(يرفع السماعة)
:
آلو … أفندم … سيادتك؟ … آه سيادتك وصلت من الباب
المفتوح … سمعت؟ … آه الركوردر … و… ماذا؟ … آه مفهوم
… تريده حالًا … وهو كذلك، سأرسله فورًا … (يلتفت إلى الزبون ٢)
تسمح.
الزبون ٢
:
نعم.
أدهم
(وهو يضع السماعة)
:
تفضل هناك في الحجرة رقم ٣.
الزبون ٢
:
رقم ثلاثة؟!
أدهم
:
نعم … الحجرة الثالثة … موضوعك يهم رقم ثلاثة.
الزبون ٢
:
شكرًا.
(يخرج … ولا يمضي قليل حتى يظهر زبون ثالث في يده سبحة.)
الزبون ٣
:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
أدهم
:
وعليكم السلام ورحمة الله … تفضل!
الزبون ٣
:
أنا كنت مارًّا في الشارع.
أدهم
:
مفهوم، وقرأت اللافتة المعلقة.
الزبون ٣
:
تمام، هذا ما حصل.
أدهم
:
أفندم؟
الزبون ٣
:
قلت أدخل لأزيح عن نفسي الكابوس الجاثم على صدري.
أدهم
:
الكابوس؟
الزبون ٣
:
نعم هذا الإلحاد المتفشي في البلد … أنا كل يوم أستيقظ
في الفجر، أتوضأ وأصلي وأستغفر الله لهذا المجتمع الملحد،
الذي نعيش فيه، هذا الجو المتحلل الذي نتنفسه حتى استبد بي
القلق على مصير هذه الأمة المؤمنة … تصور يا سيدي الإذاعة
مثلًا … بين كل أغنية وأغنية أغنية … وانظر إلى
التليفزيون تجد كل مذيعة ومذيعة وكل مطربة وراقصة مثل لهطة
القشدة، والعياذ بالله، ما هذه المغريات يا أخي … إلى أين
نحن مساقون؟!
أدهم
:
أنت فيما يظهر رجل شديد التدين.
الزبون ٣
:
جدًّا، وأشعر بمنتهى القلق على مستقبل الدين.
أدهم
:
الدين بخير يا سيدي، اطمئن.
الزبون ٣
:
أطمئن؟! كيف يمكن الاطمئنان والبلد بهذا الحال؟ … لا
بد من عمل حاسم.
أدهم
:
عمل حاسم؟!
الزبون ٣
:
عمل قوي يزيل من على وجه الأرض هذا الضلال، إن نار الله
الموقدة يجب أن تُصَبَّ صبًّا على مجتمع بهذا الفجور والإثم
والكفر المبين.
أدهم
:
يا ساتر!
الزبون ٣
:
هذا القلق الذي عندي وعند كافة المؤمنين … وأنت لا شك
منهم … أليس كذلك؟
أدهم
:
طبعًا، لكن … على كل حال شئون الدين من اختصاص الحجرة
رقم اثنين … تسمح تشرف هناك!
الزبون ٣
:
الحجرة رقم اثنين؟
أدهم
:
نعم، الحجرة المجاورة.
الزبون ٣
:
وهو كذلك (ينهض).
(جرس التليفون يرن.)
أدهم
(يرفع السماعة)
:
آلو … أفندم … آه سمعت؟ … أرسله هو أيضًا … حاضر …
سأرسله حالًا … (يضع السماعة
ويلتفت إلى الزبون ٣) تفضل حضرتك في الحجرة رقم
ثلاثة.
الزبون ٣
:
قلت لي رقم اثنين.
أدهم
:
حصل تعديل، موضوعك يهم رقم ثلاثة.
الزبون ٣
:
وهو كذلك، شكرًا.
(يخرج … ولا يلبث أن يدخل شعبان.)
شعبان
:
ما هذه الأصناف يا أخي؟!
أدهم
:
ما لها؟!
شعبان
:
أصناف تحير.
أدهم
:
أصناف المعاملات! … البنك بدأ أعماله بحق وحقيق …
وأنواع العملة في القلق من كل لون بدأت في الصادر والوارد؟
شعبان
:
لكن أنا بصراحة … محتار ولايص في هذه الشغلة!
أدهم
:
الحال من بعضه!
شعبان
:
أنت أيضًا لا تجد ما تقوله لهؤلاء الناس؟!
أدهم
:
ولا كلمة مفيدة استطاعت أن تخرج من رأسي، يظهر أن
المسألة ليست سهلة كما كنا نتصور!
شعبان
:
بالاختصار نظرية البنك ظهر أنها كلام فارغ!
أدهم
:
بل ظهر أن دماغنا هو الفارغ!
شعبان
:
معنى كلامك أننا نقفل البنك ونعود إلى حالة
التشرد؟!
أدهم
:
وهل في إمكاننا حتى أن نقفله؟ الشقة باسمنا لمدة عام،
ومرتباتنا مدفوعة مقدمًا لمدة شهر، ولم يظهر حتى الآن أن
الممول اشتكى من شيء، بالعكس، يظهر أنه هو بدأ يأخذ الشغل
بجد!
شعبان
:
على رأيك، نعمل إذن ما نقدر عليه والسلام.
أدهم
:
وهل أنت عملت أي شيء حتى الآن؟ كل الحكاية زبون وحولته
عليَّ أنا.
شعبان
:
وأنت؟ ألم تحول عليَّ أنا زبونك؟!
أدهم
:
على كل حال منير بك الممول حمل عنا زبونين … بناء على
طلبه تليفونيًّا، ولا بد أنه طلب منك أنت أيضًا.
شعبان
:
لم يحصل بعد.
أدهم
:
والزبون إياه … القلِق على غرام ابنه؟
شعبان
:
عندي في الحجرة … وأنا متحير في شأنه!
أدهم
:
ألم يطلبه منك منير بك؟
شعبان
:
أبدًا، ولا سأل عنه.
أدهم
:
يظهر أنها حالة لا تثير اهتمامه!
شعبان
:
ماذا أقول لهذا الأب المسكين؟ حب المراهقين هذا لا يقدر
عليه إلا الله!
أدهم
:
اسمع يا شعبان … ألا تذكر أن منير بك كان قد اقترح
تعديل الفكرة؟ … وقال لنا: دعكم من التركيز على مسألة الحل
والعلاج؟! ولا تطالبوا أحدًا بالأتعاب؟
شعبان
:
نعم، قال ذلك.
أدهم
:
إذن المهمة أصبحت بسيطة، ما دام الزبون غير مطالب
بأتعاب، ونحن غير مطالبين بتقديم العلاج … فلنقصر عملنا
على مجرد الاستماع.
شعبان
:
وما الذي يستفيده الزبون؟
أدهم
:
يستفيد أنه وجد جماعة متفرغين لسماعه.
شعبان
:
تظن يعني … أن هذا …
أدهم
:
هذا وحده عمل نافع … أؤكد لك … هناك أحيان كثيرة يضيق
فيها صدر الإنسان لكتمان ما في نفسه، ويريد الكلام بحريته،
ويحتاج إلى مجرد شخص واحد يستمع إليه.
شعبان
:
إذا كان على الاستماع هذا شيء نقدر عليه.
أدهم
:
والآن … هيا إلى العمل … بكل تفاؤل!
شعبان
:
يعني أنا أسكت، والزبون يتكلم … وإذا كان الكلام من فضة
فالسكوت من ذهب، أي إن الفضة من نصيب الزبون والذهب من
نصيبنا!
أدهم
:
وهذا هو بالضبط عمل البنك … كل بنك!
شعبان
:
تمام … تمام … إلى العمل إذن.
(يخرج إلى مكتبه.)