كانت الفيلَّا التي تقطنها مرفت وخالتها في الدقي مكدسة بالرياش، ليس
فقط لأن مرفت في زواجها الأخير أضافت أثاثًا إلى أثاث، ولكن لأنها هي
نفسها من رواد المزادات، ما من مزاد مشهور إلا وتوجد فيه، مع صاحبات
لها ممن يبحثن مثلها عن التظاهر، وعما يضيعن فيه فراغ فترة الصباح، وإن
لم تجد أحدًا يرافقها ألحت على خالتها فتذهب معها مرغمة، إما إلى مزاد
أو سينما أو ملهًى من ملاهي الليل أو مباراة من مباريات كرة القدم، لكن
هذا لا يحدث إلا نادرًا، فهي قلَّما تَعدِم معارف من طرازها يلازمونها في
أكثر الأوقات.
في ذلك الصباح كانت مترددة بين الذَّهاب إلى النادي تجلس مع شلة
الدردشة، وبين اللف على الدكاكين، وأمسكت بسماعة التليفون كالعادة تسأل
صاحباتها السؤال الروتيني: «إيه البرجرام النهار ده؟» كل ذلك وعين
خالتها الجالسة في الركن ترمقها من فوق صفحة كتاب في يدها، وتسائل
نفسها عن مدى مسئوليتها في دفع مرفت إلى هذا النوع من الحياة؟ إنها لا
يمكن أن تكون مسئولة عن فشلها في الزواج، فهي لم تختر لها الأزواج،
مرفت نفسها كانت هي التي تختار في كل مرة، كانت تقول إنها استلطفت
وأحبت ولا بد لها من الاقتران بمن أرادت، وبنفس الطريقة تقول بعد ذلك
إنها أخطأت وزهدت ولا بد لها من الانفصال عمن تزوجت! … أيكون التدليل
هو المسئول؟ لكن هل كان في استطاعتها ألَّا تدللها؟ هناك في أعماق نفسها
أسباب كثيرة تدعوها إلى تدليل مرفت، لو كانت الأم هي التي تولت تنشئتها
أما كان من الممكن أن تصبح خيرًا من ذلك؟ ربما … لو كانت الأم في حالة
تسمح لها بتولي أمر ابنتها، إن ستارًا كثيفًا بينهما كان لا بد أن يقوم
على أية حال.
لكن هل التنشئة هي وحدها المسئولة، أو أن شيئًا ما أثر في أعصاب هذه
البنت منذ تلك الليلة المشئومة؟! ومع ذلك فلا توجد أي أعراض تدعو إلى
استشارة طبيب، ولا ينبغي فتح هذا الباب حتى لا يكون هناك اضطرار إلى
الكشف عن أسرار يجب أن تظل دائمًا في طي الكتمان. ربما كان المطَمْئن في
الأمر أن مرفت نفسها لا تشعر بأي شيء غير طبيعي في حياتها أو شخصها أو
سلوكها، وإن كان هناك قلق فهو قلق الخالة، إنها تقرأ وتفكر وتلاحظ هذه
الحياة الضائعة التي تجهل مرفت نفسها أنها ضائعة، ولطالما فكرت في أن
زواجًا ثالثًا قد يصلحها، لكن مرفت مصرة على غلق باب الزواج نهائيًّا،
حتى باب الحب. لقد عرفت الحب، كما تقول، بما فيه الكفاية، هذا لا يمنع من
أنها تصادق من حين إلى حين من تستلطفه وتنشئ معه علاقة ثم تتركه إلى
غيره وهكذا … لكن هذا لم يعد يعني من ناحيتها أي ارتباط، لم يعد شيء
يربطها بشيء، وهذا هو ما يخيف خالتها، وإن كان يعزيها قليلًا أن مرفت
ليست الوحيدة، فهي واحدة من ضمن فئة تعيش نفس هذه الحياة … غاية
اهتماماتها آخر نكتة وآخر إشاعة وآخر موضة! حاولت الخالة مرات أن تثبِّت
قدمي مرفت على أرض صُلبة، لكن الجواب كان هز الكتفين، كانت تغريها
أحيانًا بالتشبه بأمها، وتشير لها إلى صورة الأم في إطارها المذهَّب
بالجدار: «كان لأمك مثل أعلى.» هذه الكلمة تبدو الآن غريبة في مجتمع
هش، ليس بداخله إيمان حقيقي بشيء أكثر من اقتناص المغانم!
وهذه الخالة وإن كانت تعيش الآن في نعمة، فإنها ما زالت تذكر الطبقة
البسيطة التي خرجت منها هي وأختها الكبرى. كان والدهما معاون إدارة
المركز، لا يتجاوز مرتبه خمسة عشر جنيهًا، إلا أنه عُنِيَ بتربيتهما في
المدارس، كانتا مواظبتين على الدراسة، دون أن تقعدا عن الكد الذي نشأتا
عليه في شئون المنزل، كل شيء كانتا تقومان به بيديهما، شغل البيت كله
من طهو وكنس وغسل وكَيٍّ في أوقات الفراغ، لإراحة أمهما المريضة دائمًا،
ثم تفصيل الثياب التي تذهبان بها إلى المدرسة، كدح مستمر لم ينقذهما
منه إلا المصادفة التي تحدث في الحواديت. لمح عادل بك أختها الكبرى وهي
في السابعة عشرة بقرب المركز في انتظار أبيها، راقت في عينه، وأرادها
زوجة له رغم القيامة التي قامت في أسرته، صمم وانتصر، وبهذا انتقلت
الأخت الكبرى إلى حياة جديدة، ولحقت بها أختها فاطمة عندما ماتت أمهما
المريضة وتبعها الوالد المتقاعد. منذ ذلك اليوم تم التحول الخطير في
مصير فاطمة.
وليته كان مجرد تحول، لكنه انتهى إلى مأساة، ليست فقط المأساة التي
جعلت منها عانسًا، لكنها المأساة التي أشعلت هذا البيت كله، ولم تكن
مرفت ليلة المأساة قد جاوزت السادسة، وهي لا يمكن أن تحيط منها إلا
بظاهرٍ عابر لا يمَس الصميم، وقد أُخْفِيَتْ عنها الحقائق بإحكام، عنها وعن
الناس جميعًا، حرصًا على مستقبلها، وهي الآن قد قاربت الثلاثين، ولا
تعرف شيئًا عما حدث أكثر مما أُرِيدَ لها أن تعرف. كل شيء يسير في نظرها
طبيعيًّا، لكن خالتها قلقة، وقلقها يشتد يومًا بعد يوم، إلى أن كان يوم
خطر لها خاطر، وهي في طريقها إلى الخَيَّاطة، وقد وقع نظرها على اللافتة
«بنك القلق»، إنها هي الأخرى لم تكن تنظر إليها أول الأمر بعين الجد،
وعندما ذهبت مع مرفت إلى الشقة في المرة الأولى لمقابلة منير بك، لم
تحفِل بأدهم وشعبان، وهما يُقدَّمان إليها على أنهما شريكان أو مساعدان
لمنير في مشروع من مشاريعه، لكن ما معنى هذا المشروع المقترن بكلمة
«القلق»؟ وأي نوع من القلق؟ … وهل يمكن أن يكون له نفع في حالة مثل
حالتها؟
المنظر السابع
(أدهم في مكتبه … والباب يدفع.)
(يظهر شعبان في حركة سريعة.)
شعبان
:
أنت الذي حولت عليَّ فاطمة هانم؟
أدهم
:
طبعًا.
شعبان
:
طبعًا طبعًا، لو كانت مرفت كنت استبقيتها لنفسك، لكن على
رأي المثل «لو كان فيها خير ما
كان رماها الطير»!
أدهم
:
دعك من هذه الأفكار السخيفة، أنا حولتها عليك لأني لا
أريد أن أدخل في مسائل خاصة بهذه الأسرة، ولو كانت هي مرفت
ذاتها كنت حولتها عليك كذلك.
شعبان
:
حقيقي؟
أدهم
:
ثق من ذلك، والأيام بيننا.
شعبان
:
فهمت، أنت تتحاشى هذه الأسرة باعتبار أنهم من بلدكم
و…
أدهم
:
افهمها كما تفهمها، المهم ابعدني عن هذا النوع من
الزباين، وعلى فكرة … ما هو الذي تريد أن تعرضه
عليك؟
شعبان
:
لم أسألها بعد، أنا تركتها الآن في حجرتي، وأردت أطلب
لها قهوة ولكنها رفضت، واستأذنت منها لحظة وجئت إليك، وأنت
بالطبع لم تسألها.
أدهم
:
لا … بمجرد أن قالت إن عندها مشكلة خاصة تقلقها لم أجعلها
تفتح الموضوع، وقلت لها إنك أنت المختص بالمشكلات الخاصة،
ومدحت لها طبعًا في كفاءتك المزعومة!
شعبان
:
المزعومة! على كل حال تُشكر … وربنا يوفقني أكون عند حسن
ظنك.
أدهم
:
وحسن ظنها هي.
شعبان
:
بالطبع، هذا هو الأهم … تعرف أنك في الحقيقة
خدمتني!
أدهم
:
خدمتك؟!
شعبان
:
بتحويل هذه الست إليَّ أنا … إنها هي المفتاح.
أدهم
:
المفتاح؟
شعبان
:
إلى الأخرى … ألا تذكر قولي لك إن في جعبتي مفاتيح لهذه
الأمور؟ اسمع كلام مجرب! عندما تكون أمام امرأتين
متلازمتين، إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة، وتريد الوصول إلى
الصغيرة، ابدأ بالكبيرة!
أدهم
:
تريد أن تقول …
شعبان
:
ولا كلمة الآن … هذا سر المهنة! … أتركك الآن لأباشر
مهام أعمالي الناجحة بإذن الله … إلى اللقاء!
أدهم
:
تصرف بعقل … أرجوك!
شعبان
:
لا تخف … أخوك في منتهى حسن التصرف!
(يخرج سريعًا.)
أدهم
:
ربنا يهديك!
(يظهر على الباب زبون رابع.)
الزبون ٤
:
ممكن أدخل؟
أدهم
:
تفضل … أهلًا وسهلًا!
الزبون ٤
:
أنا …
أدهم
:
أفندم … في الخدمة!
الزبون ٤
:
ضروري أقدم نفسي؟
أدهم
:
لا أبدًا … هذا غير ضروري، نحن لا نطالب بأي بيانات
شخصية، احتفظ باسمك، قدم لنا فقط الموضوع، موضوع القلق
الذي عندك؟
الزبون ٤
:
أنا … بعضهم نصحني باستشارة طبيب نفساني … والبعض أكد
لي أني لست مريضًا … الحكاية كلها أني متحمس زيادة عن
اللزوم.
أدهم
:
متحمس؟! يا ساتر … خير؟
الزبون ٤
:
هو حقيقة تحمس عنيف!
أدهم
:
في … سياسة؟!
الزبون ٤
:
لا … لا … في الكرة … أنا زملكاوي، أقصد من حزب
الزمالك.
أدهم
:
آه … الحمد لله! حزب الزمالك! … أحزاب أهون من
أحزاب!
الزبون ٤
:
ستقول لي وماذا في ذلك؟
أدهم
:
فعلًا … ماذا في ذلك؟
الزبون ٤
:
أقول لحضرتك … ما من مرة حضرت فيها مباراة بين الزمالك
والأهلي إلا وأحدثت كارثة!
أدهم
:
كارثة؟ من أي نوع؟
الزبون ٤
:
أشرح لك، وكل هذا والله رغم عني، لأن المكتوم في نفسي
انفجر! حصل مرة أن الزمالك كاد في الشوط الأخير يصيب
الهدف، لولا اصطدام الكرة بخشبة المرمى، لم أطق، ولم أشعر
بنفسي، وإذا يدي التقطت شيئًا، لم أفطن إذا كانت عمامة أو
كاسكيت، فوق رأس الشخص الذي بجواري، وقذفت بها في الهواء
وسط الملعب … وبالطبع حدث هياج حولي وخناقة، خصوصًا وقد
اتضح أن صاحب غطاء الرأس هذا الذي طار في الهواء هو حيوان
أهلاوي.
أدهم
:
بسيطة على كل حال.
الزبون ٤
:
وفي مرة أخرى تحمست لهدف عظيم أحرزه الزمالك، فلم أشعر
إلا ويدي قد تناولت طفلًا صغيرًا من حجر أمه الجالسة
بجواري ورفعته في الهواء و…
أدهم
:
وقذفت به في الملعب؟!
الزبون ٤
:
لا، من حسن الحظ أدركوني … ولكنهم أشبعوني لطمًا وشتمًا
… وأنا أصرخ … هذا شيء غصب عني يا ناس!
أدهم
:
بالطبع.
الزبون ٤
:
وأخيرًا كدت أقتل رجلًا!
أدهم
:
تقتل؟!
الزبون ٤
:
أهلاوي مغفل … جعل يناقشني ويتحداني ويستفزني ويقول إن
الأهلي هو الأصل وإن الدهن في العتاقي … وكلام فارغ من
هذا القبيل … كان في جيبي وقتها مطواة كبيرة، ما أشعر إلا
وقد أخرجتها وفتحت سلاحها وهجمت به عليه.
أدهم
:
وطعنته؟
الزبون ٤
:
توسط بيننا أولاد الحلال، ونصحوني أن أعرض نفسي على
طبيب. لكن بصرف النظر عن كل شيء … هذا الوغد الأهلاوي أما
كان يستحق؟
أدهم
:
يستحق لكن …
الزبون ٤
:
لا تؤاخذني … سُهِي عليَّ أسألك: أنت من أي حزب؟ هل أنت
زملكاوي أو أهلاوي؟
أدهم
(بسرعة)
:
زملكاوي طبعًا.
الزبون ٤
:
إذن أنا شخص طبيعي؟
أدهم
:
بكل تأكيد، كل الناس يتحمسون للكرة … وما من أحد قال
إنهم مرضى، كل ما في الأمر أنك تنفعل قليلًا، وأن هذا
الانفعال يضعك أحيانًا في مواقف محرجة.
الزبون ٤
:
أنا بغير هذا الانفعال أشعر أن حياتي راكدة، أنا لا أريد
الذَّهاب إلى طبيب، حتى لا يعطيني مهدئات لأن هذا هو ما
سيفعله، تذهب إلى الطبيب فيقول لك: توتر أعصاب، ويكتب لك
المهدئ. أنا يا سيدي متحمس، ويجب أن أتحمس لوجهة نظري،
لمبدئي، لعقيدتي، لماذا تريد إطفاء حماسي؟
أدهم
:
لا يجوز.
الزبون ٤
:
قل لي: مُتْ أحسن! لأن هذا موت … أن أكتم تحمسي! أنا طاقة
يا سيدي … طاقة … أريد أن أقف وسط الملعب وأصيح بملء فمي.
أدهم
:
هذا من حقك.
الزبون ٤
:
ومن حق جميع المشاهدين، وأنت أيضًا ولا شك تصيح في كل
المباريات.
أدهم
:
أنا لا أذهب كثيرًا إلى المباريات، لي زميل هنا أجدر مني
بالخوض معك في هذا الموضوع، لكنه الآن مشغول.
الزبون ٤
:
ولماذا لا تذهب ما دمت تقول إنك زملكاوي؟
أدهم
:
مشاغلي.
الزبون ٤
:
لكن المباريات دائمًا يوم العطلة الأسبوعية.
أدهم
:
أنا شخصيًّا لا يناسبني الانفعال الشديد.
الزبون ٤
:
حالتك الصحية؟
أدهم
:
شيء كهذا، ولأسباب أخرى!
الزبون ٤
:
إذن أنت لا تتحمس لشيء؟
أدهم
:
التحمس الشديد فيه خطورة.
الزبون ٤
:
على صحتك، مفهوم لكن … حياتك بهذه الطريقة تصبح على
وتيرة واحدة، أنت طاقة يا سيدي … ماذا تفعل بهذه
الطاقة؟
أدهم
:
والله في الواقع إنها … إنها أسلم طريقة … وأنا معك …
أنت نبهتني إلى مسألة حيوية، منذ اليوم ستجدني معك في كل
المباريات … ومع استبعاد المطاوي والسكاكين ورمي العمم
والأطفال سأكون إلى جوارك أهتف وأصيح بأعلى صوتي … هات
يدك … اتفقنا؟
الزبون ٤
(يصافحه)
:
اتفقنا.
أدهم
:
أنت أقنعتني بمسألة الطاقة هذه.
الزبون ٤
:
ألم أقل لك؟ أنت طاقة مكبوتة يا سيدي.
أدهم
:
الحمد لله إنك عالجتني أحسن علاج.
الزبون ٤
:
يظهر أني حضرت في الوقت المناسب.
أدهم
:
فعلًا، وكان الواجب أعطيك أتعابك.
الزبون ٤
:
أتعابي؟
أدهم
:
بالطبع، ما دمت عالجتني فأنت مستحق لأتعاب، لكن مع الأسف
العلاج هنا أصبح مجانًا بالنسبة للطرفين.
الزبون ٤
:
أنا لم يخطر ببالي أي أتعاب، ولا حتى أني سأقدم لك أي
خدمة.
أدهم
:
أنت قدمت لي خدمة جليلة، فعلًا أستطيع إخراج الطاقة التي
عندي بهذه الطريقة المأمونة … شكرًا يا سيدي شكرًا.
الزبون ٤
:
العفو … أنا سعيد بهذه النتيجة … وأشعر براحة تغمر
نفسي، داوم يا سيدي على حضور المباريات.
أدهم
:
سأنفذ نصيحتك بالحرف … وسأهتف وأصيح.
الزبون ٤
:
نهتف معًا ونصيح.
أدهم
:
بملء الأفواه والحناجر.
الزبون ٤
:
إلى اللقاء في الملعب.
أدهم
:
إلى اللقاء!
(يشيعه إلى الباب … ويعود إلى مكتبه.)
أدهم
(لنفسه)
:
زملكاوي … أهلاوي … زملكاوي … أهلاوي.
شعبان
(يدخل)
:
قل لي يا أدهم …
أدهم
:
قل لي أنت أولًا … أنت زملكاوي أو أهلاوي؟
شعبان
:
ما هي المناسبة؟
أدهم
:
أجبني أولًا … زملكاوي أو أهلاوي؟
شعبان
:
أهلاوي طبعًا.
أدهم
:
يا خبر! … أهلاوي؟! الحمد لله خلصت بجلدك!
شعبان
:
ماذا تقول؟
أدهم
:
كان هنا الآن زبون … لو سمعك لكانت مصيبتك
ثقيلة!
شعبان
:
دعنا من هذا ولندخل في الجد … فاطمة هانم التي عندي …
أدهم
:
ما لها؟
شعبان
:
المسألة خاصة بمرفت، وطبعًا هذا شيء يسرني … وبودي أطلب
منها أن تجمعني بمرفت، ولكني متردد، لأول مرة أتردد، خفت
أثير شكوكها، ما رأيك أنت؟ هل أسير في خطتي الأولى وأقَوِّي
صلتي بفاطمة هانم أولًا … أو أنتهز الفرصة وأتصل بمرفت
مباشرة.
أدهم
:
رأيي أن تسير في خطتك الأولى وتقوي صلتك بالخالة … هذا
أضمن، لأنك لن تملك عواطفك، وعندئذ ينكشف أمرك بسرعة،
وتخسر كل شيء.
شعبان
:
لك حق، يجب السير خطوة خطوة … بحذر شديد، على كل حال
عمل علاقة مع فاطمة هانم فيها مكاسب مؤكدة!
أدهم
:
مع التمسك بالحكمة!
شعبان
:
إن شاء الله.
(يخرج
مسرعًا.)
(يظهر بالباب زبون خامس في سن الكهولة.)
أدهم
:
تفضل! … أهلًا وسهلًا!
الزبون ٥
:
أنا في الواقع … قرأت اللافتة …
أدهم
(يشير إلى مقعد)
:
تفضل! … استرح!
الزبون ٥
:
وقبل ذلك كنت قرأت خبرًا طريفًا في إحدى الجرائد …
وبالطبع كلمة «القلق» لفتت نظري … أنا وإخواني على القهوة
… وخصوصًا كلمة «بنك» … قلت إن الناس أدركوا أخيرًا أن
القلق عملة جارية الآن يلزم لها بنك!
أدهم
:
بدون شك.
الزبون ٥
:
أنا يا سيدي الفاضل مثل كل الناس أقرأ الصحف وأسمع
الإذاعات، وأصبح رأسي الآن تطير فيه الصواريخ العابرة
للقارات، وتلف فيه الأقمار الصناعية، وتقوم الثورات وتدور
المعارك، والبيض يضطهدون السود، والرأسمالية تدمغ جبين كل
من أراد التحرر من استغلالها بختم الشيوعية، والكرة
الأرضية كلها تنطلق بنا في الفضاء حول الشمس وفي جوفها
قنبلة زمنية، وكلنا نعيش يومنا ولا نعرف ماذا سيكون غدنا.
كل هذا في رأسي، وأشرب في اليوم عشرين فنجان قهوة، لأضع
بها فرامل في دماغي الطائر، لكن بدون جدوى، بماذا تشير
عليَّ في هذه الحالة يا سيدي؟
أدهم
:
سيادتك تشكو إذن من قلق عام؟
الزبون ٥
:
أيوجد الآن قلق عام وقلق خاص؟ لقد اختلط هذا بذاك، وأصبح
الواحد منا يتخبط اليوم في بحر واحد من قلق شامل لا يطاق،
ألا توافقني على ذلك؟
أدهم
:
طبعًا أوافقك، أنا نفسي مثلك تمامًا، ورأسي هو الآخر
انقلب إلى طبق طائر!
الزبون ٥
:
وآخرة هذا الحال؟
أدهم
:
هذا يتوقف على نوع عملك … ما هو عملك في الحياة؟
الزبون ٥
:
أنا لا عمل لي … عندي منزل موروث، عبارة عن ثلاثة
طوابق، أسكن في طابق، وأؤجر الطابقين بأربعين جنيهًا بعد
التخفيض، تكفيني أنا وزوجتي المدبرة، وليس لنا
أولاد.
أدهم
:
أليست لك هواية؟ … الكرة مثلًا؟
الزبون ٥
:
الطاولة وقراءة الصحف في القهوة، وخبط حجر الطاولة في
الدماغ مثل خبط الأخبار المزعجة سواء بسواء.
أدهم
:
من رأيي أن تكثر من خبط الطاولة وتقلل من خبط
الأخبار!
الزبون ٥
:
أهذا هو الحل؟
أدهم
:
هذا على كل حال هو الحل عند الشباب اليوم، أغرقوا أنفسهم
في كل بلاد العالم في خبط الجاز والروك آند رول والخنافس
وما شابه ذلك من ألوان الضجيج والحركة العنيفة والأصوات
المزعجة! … ليواجهوا خبط الكبار في ضجيج الحرب والقمع
والمؤامرات والمخابرات! صخب عام في حانة كبرى، ضمت الكبار
والصغار، وإن اختلفت أدوات الزياط وألوان الخمر!
الزبون ٥
:
حانة الكرة الأرضية السكرانة!
أدهم
:
ربما كان سبب قلقك أيضًا ناحية خاصة قليلًا … هو هذا
المنزل الذي هو عماد حياتك المعيشية … ربما خطر بفكرك
مثلًا أنه لو زلزلت الأرض من تحته لأي سبب من الأسباب …
الزبون ٥
:
صدقت، هذا صحيح.
أدهم
:
أنا أيضًا مثلك، طالما شعرت بالأرض تزلزل تحت
قدمي!
الزبون ٥
:
هل عندك منزل؟
أدهم
:
لا … الزلزال عندي من نوع آخر.
الزبون ٥
:
عندك إذن أطيان؟
أدهم
:
ليس عندي إلا هذا البنك القلق!
الزبون ٥
:
وكم يدر من الإيراد؟
أدهم
:
ولا مليم!
الزبون ٥
:
وكيف تعيش إذن؟
أدهم
:
بالمصادفات.
الزبون ٥
:
حياتك إذن غير مستقرة؟
أدهم
:
لا يمكن أن تستقر.
الزبون ٥
:
أنت إذن في حالة قلق مستمر؟
أدهم
:
بدون شك.
الزبون ٥
:
لهذا إذن فتحت هذا البنك.
أدهم
:
نعم، لأتعالج … بسماع متاعب الآخرين.
الزبون ٥
:
حقًّا … قد يكون في هذا بعض الراحة لك.
أدهم
:
أليست حالتي أشد من حالات غيري؟
الزبون ٥
:
الواقع أنك … معذور.
أدهم
:
أنا على كل حال صابر وصامد، المهم عندي أن أجد وسيلة
أخفف بها عن نفسي.
الزبون ٥
:
أليست لك هواية؟
أدهم
:
لا، مع الأسف.
الزبون ٥
:
خسارة! من رأيي أن تشغل نفسك بهواية … إنها خير وسيلة
للتخفيف عن النفس.
أدهم
:
وأين أجد الهواية؟
الزبون ٥
:
هذا سهل جدًّا … تعلم لعب الطاولة!
أدهم
:
ومن يعلمني؟
الزبون ٥
:
أنا مستعد أعلمك!
أدهم
:
متى؟
الزبون ٥
:
في أي وقت يعجبك … مر علينا بالقهوة … قهوة البودجا
تجدني هناك دائمًا … صباحًا ومساء.
أدهم
:
وهو كذلك … اتفقنا.
الزبون ٥
:
اتفقنا … أنا في انتظارك … إلى اللقاء …
(ينهض ويخرج.)
أدهم
:
إلى اللقاء … قريبًا جدًّا إن شاء الله …
(يشيعه إلى الباب.)
أدهم
(يعود إلى مكانه مترنمًا)
:
شيش جهار … شيش بيش!
(يظهر بالباب زبون سادس رجل في زي العمال.)
أدهم
:
تفضل … أهلًا وسهلًا!
الزبون ٦
:
أنا … أقدر أتكلم مع حضرتك.
أدهم
:
طبعًا … تفضل … استرح.
(يشير
إلى المقعد.)
الزبون ٦
:
أنا عندي حالة قلق من أسبوع … بسبب ظرف أحب أقول لحضرتك
عنه … وأستشيركم.
أدهم
:
أنا في الخدمة … تفضل!
الزبون ٦
:
الأمر وما فيه أني عامل في مصنع نسيج بشبرا، لي زميل في
العمل طبعه الإهمال والكلفتة … فتلة غزل تتعقد يتركها …
نصحته ولكنه يقول لي: «اسكت ولا يهمك.» وأخيرًا لمحته وهو
يكسر سرًّا أحد أسنان المشط الذي يمر فيه الغزل حتى تنفذ
منه العقد التي يتركها … وهنا لم يستطع ضميري السكوت
فهددته بكشف أمره فاتهمني بالوشاية، ماذا أفعل؟ … أسكت
ويظل الإنتاج ينخفض مستواه، أو أشكوه فأكون قد وشيت
بزميل؟
أدهم
:
وزميلك هذا فاقد الذمة في العمل إلى هذا الحد؟!
الزبون ٦
:
إنه يقول إن عقدة أو عقدتين لا تهم.
أدهم
:
وأنت؟ لماذا لم تفعل مثله؟
الزبون ٦
:
لا أستطيع، العمل عندي لا بد يأخذ حقه … والدي المريض في
البيت — أنا الآن الذي أعوله — كان صانع كراسي، وكان يتعب
في الكرسي ويقول لي وأنا صغير: إتقان العمل متعة وفريضة،
متعة لنفسك وفريضة أمرنا بها ربنا، والنبي — عليه الصلاة
والسلام — قال: «إن العبد إذا عمل عملًا أحب الله أن
يتقنه.»
أدهم
:
هذا كلام جميل.
الزبون ٦
:
تمام، ولو عملنا به كلنا لما كان هذا حالنا، وهو لا
يكلفنا شيئًا كثيرًا.
أدهم
:
قل لزميلك!
الزبون ٦
:
قلت له، ولكنه كان يدير لي ظهره وينغمس مع زملاء آخرين
يتناقشون.
أدهم
:
يتناقشون في ماذا؟
الزبون ٦
:
في الأرباح.
أدهم
:
الأرباح؟
الزبون ٦
:
نعم، مواعيد صرفها والأنصبة التي ستوزع والنسب، وكلام من
هذا القبيل.
أدهم
:
وهل الكل سيحصل على نفس الأرباح؟ … المتقن
والمفسد؟
الزبون ٦
:
من الصعب في كل الأحوال إمكان فرز هذا من ذاك، لكن كل
واحد وضميره.
أدهم
:
ضميره؟! وإذا كان الضمير مصنوعًا من المطاط؟
الزبون ٦
:
المطاط؟!
أدهم
:
مادة خام متوفرة عندنا ولله الحمد!
الزبون ٦
:
في هذه الحالة ماذا يكون موقفي؟ … أسكت؟!
أدهم
:
تسألني أنا؟ … اذهب واكشف أمره!
الزبون ٦
:
وأتعرض للإشاعة أني من الوشاة؟! لا أحب أن أوصف بالواشي
الخسيس الذي لا يقدر الزمالة والروح الاشتراكية، هكذا
سيقال عني … شخص غير اشتراكي!
أدهم
:
اسمع … أنت رجل منتج … وتفهم في الإنتاج ومستوى
الإنتاج أكثر مني … أنا شخصيًّا ليس لي أي قيمة إنتاجية،
أنا أقرب إلى أن أكون من العاطلين … من الكسالى … من
الطفيليات.
الزبون ٦
:
أنت يا سيدي؟!
أدهم
:
نعم أنا … ولا يغرك أني جالس إلى مكتب وأمامي تليفون!
الزبون ٦
:
لا تقل هذا!
أدهم
:
هذا هو الواقع … ما أنا إلا واحد من ستين في المائة من
السكان لا يفعلون شيئًا، أو على الأقل لا ينتجون إنتاجًا
حقيقيًّا، ويعيشون على جيب الأربعين في المائة الأخرى، ومن
هذه الأربعين في المائة خمسة في المائة معهم نقود ولا عمل
لهم إطلاقًا، يتبقى خمسة وثلاثون في المائة يعملون
وينتجون، منهم خمسة وعشرون في المائة ينتجون بغير إتقان،
يكون الباقي أخيرًا بعد كل ذلك عشرة في المائة فقط من
السكان هي التي تعمل وتنتج بإتقان.
الزبون ٦
:
عشرة في المائة فقط؟
أدهم
:
فقط، عشرة في المائة هي التي ينطبق عليها الحديث الشريف
الذي ذكرته أنت الآن: «إن العبد إذا عمل عملًا أحب الله أن
يتقنه.»
الزبون ٦
:
هذا غير مصدَّق!
أدهم
:
طبعًا أنت لا تصدق، لكن خذ عندك مثلًا هذه الشقة التي
نحن فيها، إنها تحتوي على ثلاث حجرات فيها ثلاثة أشخاص
يمكن أن تقول إن إنتاجهم للبلد صفر في المائة، فإذا مررت
على كل شقق هذه العمارة وتحريت عن سكانها ما وجدت أكثر من
عشرة في المائة ينتجون بإخلاص وإتقان، والباقي عالة عليهم،
أو يعملون أعمالًا تافهة، غير منتجة، أو على قدر المزاج،
حتى بواب العمارة تراه يعمل ساعة ويزوغ ساعتين إلى المقهى
المجاور يشرب الشاي ويدردش كلمتين!
الزبون ٦
:
لكن … هذه النسبة يجب أن ترفع.
أدهم
:
إذا رفعت هذه النسبة … ولو عشرة في المائة أخرى … فإن
بلادنا تتغير … تغيرًا حقيقيًّا … لا يمكن تصور مداه ولا
مستواه!
الزبون ٦
:
أزمتنا إذن أزمة إتقان.
أدهم
:
أنت طبعًا أدرى.
الزبون ٦
:
وأزمة أخلاق.
أدهم
:
هذا يؤدي إلى ذاك.
الزبون ٦
:
صحيح، أزمة الإتقان مرجعها إلى أزمة الأخلاق.
أدهم
:
نعم، مرجعها ما في الداخل، ما في داخلنا … وأخيرًا …
ماذا نويت؟
الزبون ٦
:
أنا جئت أستشيرك؟
أدهم
:
أظنك أدركت أني لا أستطيع أن أشير عليك … أنت قلتها…
المسألة مسألة أخلاق … وأنا أخلاقي كما قلت لك ليست كما
يجب … تصرف أنت إذن حسب ما ترضى عنه أخلاقك!
الزبون ٦
(ينهض)
:
وهو كذلك … شكرًا!
(يصافح أدهم ويخرج.)
شعبان
(يدخل هاتفًا)
:
يا للنسوان! المرأة هي المرأة في كل سن وكل زمان!
أدهم
:
ماذا حصل؟
شعبان
:
فاطمة هانم.
أدهم
:
نجحت معها؟
شعبان
:
وأي نجاح!
أدهم
:
تكلم بدون مبالغة ولا مغالاة ولا فشر ولا معر! … قل ما
حصل بموضوعية تامة!
شعبان
:
بموضوعية تامة أقول لك إني أفهمتها أن أمر مرفت غير
مقلق، لأنها واجهت حظها مرتين ووضعها طبيعي، لكن القلق
الحقيقي يجب أن يكون عليها هي، وأن الإصرار على حياتها هذه
القاسية الصارمة، مع أنها لم تزل فيها حيوية ونضارة، هو
الذي يجب التفكير فيه.
أدهم
:
واقتنعت؟
شعبان
:
هي تركتني وهي مشغولة البال بكلامي، ووعدت بالاتصال بي
مرة أخرى، عندما طلبت إليها ذلك.
أدهم
:
وهل هذا هو كل النجاح؟
شعبان
:
طبعًا، لا تنتظر من سيدة في مركزها أن تهتز بسرعة … يكفي
أن ألاحظ، وأنا الخبير في هذه المسائل، أن شيئًا من
الاحمرار قد دب في وجنتيها.
أدهم
:
على كل حال المهم أن تصرفاتك تكون على مستوى
رفيع؟
شعبان
:
مستوى رفيع؟
أدهم
:
أنا عارفك وعارف أساليبك، وهي في ظروفنا الحاضرة تحتاج
إلى شيء من التهذيب.
شعبان
:
اسمع يا أدهم …
أدهم
:
اصبر حتى أوضح لك.
شعبان
:
أنا لا أصبر على كلامك الفارغ، أنا حر في أسلوب عملي.
وأنت حر في أسلوب عملك، لا تتدخل في شغلي ولا أتدخل في
شغلك!
أدهم
:
شغلي وشغلك؟! أهذا الذي تفعله وأفعله اسمه شغل؟!
شعبان
:
وما اسمه إذن؟!
أدهم
:
بيني وبينك … بذمتك وضميرك … من أنت ومن أنا؟
شعبان
:
يعني إيه؟!
أدهم
:
يعني … ماذا نساوي؟
شعبان
:
نساوي؟! أصحاب بنك يا أخي!
أدهم
:
بنك القلق! … قل لي يا شعبان … بصراحة … أنت تعرف
القلق؟
شعبان
:
وهل هذا سؤال؟! شيء نشتغل فيه ولا أعرفه؟!
أدهم
:
دعك من حكاية الشغل هذه … أنا أسألك باعتبارك إنسانًا
ومواطنًا … يعني بصفتك بني آدم … هل سبق لك أن شعرت
حقًّا بالقلق؟
شعبان
:
طبعًا يا أخي … وإلا ما كنت فكرت في إنشاء بنك بأكمله
من أجله!
أدهم
:
أنت لم تفكر في ذلك، أنا صاحب الفكرة.
شعبان
:
وأنا شريكك، شريك مؤسس.
أدهم
:
فليكن … هل تعتبر أن هذا عمل حقيقي؟
شعبان
:
بكل تأكيد.
أدهم
:
اسمح لي أشك.
شعبان
:
ما هذا التخريف؟ تشك الآن بعد أن أصبح حقيقة واقعة … له
مكاتب وتليفونات وشقة مؤجرة باسمنا، وزباين يدخلون
ويخرجون؟
أدهم
:
يدخلون ويخرجون!
شعبان
:
بدأ النشاط يدب في البنك … ماذا تريد أكثر من ذلك؟ ألم
تكن هذه هي أحلامنا؟ … ها هي الأحلام تحققت.
أدهم
:
بودي أن أصيح صيحة في هذا البنك … يسمعها كل من في
الشارع.
شعبان
:
لا … أرجوك … اعقل!
(يظهر بالباب زبون سابع أنيق في فمه بيبة.)
الزبون ٧
:
تسمح؟
أدهم
(ناهضًا)
:
تفضل … تفضل أهلًا وسهلًا!
شعبان
:
أذهب أنا إلى حجرتي.
(ينسحب
خارجًا.)
أدهم
(يقدم المقعد للزبون)
:
أهلًا وسهلًا!
الزبون ٧
:
اسم طريف «بنك القلق» وإن كنت لا أعرف تمامًا ما يرمي
إليه … ولذلك جئت أستعلم.
أدهم
:
الفكرة باختصار أننا هنا نتيح لكل من عنده قلق من شيء أن
يفضي به … ربما كان في مجرد الإفضاء راحة لنفسه.
الزبون ٧
:
فكرة طيبة، هل نجحت؟
أدهم
:
لا بأس.
الزبون ٧
:
وهل يمكن أن يفضي الإنسان بكل ما يريد؟
أدهم
:
ولم لا؟
الزبون ٧
:
أعتقد أن هذا متعذر في بعض الأحيان.
أدهم
:
طبعًا، أحيانًا.
الزبون ٧
:
لو كان الإنسان يستطيع أن يطلق صوته ويصيح بما في نفسه
… لكن هذا الآن غير ممكن.
أدهم
:
ما هو المانع؟ سيادتك مثلًا … هل عندك شيء تريد أن تفضي
به؟
الزبون ٧
:
أنا لا أتكلم عن نفسي، أنا أتكلم عمومًا … كل إنسان في
حاجة إلى أن يتكلم وأن يصيح وأن يوافق وأن يعارض.
أدهم
:
إذن خذ راحتك! … أنت مطلق الحرية تتكلم وتصيح وتوافق
وتعارض كما تشاء.
الزبون ٧
:
أين ذلك؟
أدهم
:
هنا في هذه الحجرة.
الزبون ٧
:
آه … لا … أنا لا أقصد هذا … أنا أقصد بصفة عامة …
أنت فاهمني طبعًا.
أدهم
:
طبعًا فاهمك … تريد أن تصيح … أنا أحيانًا أشعر برغبة
ملحة في الصياح.
الزبون ٧
:
حقًّا؟!
أدهم
:
بدون شك، وأشعر برغبة عارمة في أن أعارض أي رأي وأشاكس
أي فكرة وأشاغب أي إنسان … بل إني عندما لا أجد شيئًا
أعارضه، أعارض أفكاري أنا ذاتها.
الزبون ٧
:
طبعًا … مفهوم … الإنسان حيوان ثرثار قارض للأفكار.
أدهم
:
قارض للأفكار؟!
الزبون ٧
:
مثل الفأر … الفأر حيوان قارض … لا بد أن يقرض شيئًا
… أحيانًا قطعة خشب … لمجرد استخدام جهازه القارض، وهو
أسنانه … الإنسان أيضًا لا بد من استخدامه جهازه القارض،
وهو تفكيره، وكما قلت أنت عندما لا يجد شيئًا فإنه يقرض
أفكاره ذاتها … ويجب أن يَسمع لقرضه صوتًا في صورة صياح.
أدهم
:
فعلًا … هذا يحدث أحيانًا.
الزبون ٧
:
هل تعرف حديقة هايد بارك في لندن؟
أدهم
:
سمعت عنها.
الزبون ٧
:
كان يحلو لي دائمًا عندما كنت هناك أن أمشي في هذه
الحديقة وأصغي إلى صيحات الخطباء المنطلقة بلا قيود في
أرجائها.
أدهم
:
حديقة الحيوانات الثرثارة القارضة للأفكار.
الزبون ٧
:
بالضبط … أسبق لك الذهاب إلى هناك؟
أدهم
:
لا.
الزبون ٧
:
لو سمعت ما يقال في هايد بارك لدُهِشْت … واحد يصيح
مطالبًا بفصل أسكتلندة عن إنجلترا، وواحد يطالب بطرد
الأسرة المالكة، وواحد يطالب بتصفية المستعمرات، وواحد
يريد تأميم الممتلكات، وواحد يشيد بالإمبراطورية، وآخر
يريد تدمير الأسلحة الذرية … وهلم جرًّا.
أدهم
:
مثل هذه الحديقة لا يمكن أن توجد إلا في إنجلترا، لأن
الله أنعم على الإنجليز بنعمتين: الأولى البرود الإنجليزي،
والثانية أنهم يقولون ما لا يفعلون!
الزبون ٧
:
ربما … لكن …
أدهم
:
لكن ماذا؟
الزبون ٧
:
لكن اعترف معي أن فكرة إيجاد مكان للتنفيس …
أدهم
:
منطقة حرة للصياح؟
الزبون ٧
:
إذا شئت.
أدهم
:
رئة يخرج منها الزفير الفاسد!
الزبون ٧
:
خير من أن يكتم.
أدهم
:
هذا هو جوهر فكرة هذا البنك.
الزبون ٧
:
نعم، ولكني أقصد … شيئًا على نطاق أوسع.
أدهم
:
تقصد …
الزبون ٧
:
نعم.
أدهم
:
تقصد ماذا؟
الزبون ٧
:
أظنك فهمت.
أدهم
:
أنا! لا، لا، لم أفهم شيئًا.
(جرس التليفون يرن … يرن.)
أدهم
(يسرع إلى رفع السماعة)
:
آلو … نعم … آه … تريد إرساله حالًا … حاضر …
سأرسله في الحال … (يضع السماعة
ويلتفت إلى الزبون السابع) تسمح تمر على الحجرة
رقم ثلاثة!
الزبون ٧
:
الحجرة رقم ثلاثة؟
أدهم
:
نعم، الحجرة الثالثة … موضوعك يظهر أنه يهمهم هناك.
الزبون ٧
(ينهض)
:
شكرًا!
أدهم
:
مع السلامة!
(ويشيعه إلى الباب … ويعود ليضع رأسه بين
كفيه.)