رفاق الأوقات الوردية
ناضلنا حتى أوَينا إلى ركنٍ عند نتوءٍ بارز من أحد المباني إلى الشارع. كانت فرصتنا الوحيدة لنحمي ظهرَينا أن نقف بحيث يكون ذاك النتوء الحجري حائلًا بيننا وبينهم. لم يستغرق ذلك سوى ثوانٍ معدودة. ففي لحظةٍ كنا نتحسَّس طريقنا وحدَنا في الظلام، وفي اللحظة التالية كنا مُلتصقَين بجدارٍ وسط حشد من الغوغاء تصدر منهم أصوات غليظة تتدفَّق من حولنا.
استغرقتُ لحظةً أو اثنتَين لأُدرك أننا كنا نتعرض لهجوم. فكل رجل لديه في مؤخرة رأسه هاجس مُرعب خاص به، ودائمًا ما كان هاجسي أن يُطاردني حشدٌ غاضب. كنت أكره تلك الفكرة، بكلِّ ما تحمله من فوضى، وشجار أعمى، وإحساس بانفعالات جامحة مختلفة عن تلك التي تصدر من وغدٍ واحد فقط. كان عالمًا مُظلمًا بالنسبة إليَّ، وأنا لا أحب الظلام. لكني في كوابيسي لم أتخيل شيئًا كهذا من قبل. الشارع النتن الضيق، والرياح الثلجية التي كانت تُثير القاذورات في الهواء، ولُغتهم غير المفهومة، وغمغمتهم الجشَّاء المتوحشة، وجهلي التام بأسباب كلِّ هذا؛ كلها أشياء أشعرتني بألَمٍ في بطني من شدة الخوف.
قلتُ لبيتر، الذي كان قد أخرج المسدس الذي أعطاه إيَّاه القائد في روسجق: «لقد وقعنا في مأزق شديد هذه المرة يا صديقي.» كان هذان المسدسان سلاحنا الوحيد. صحيح أنَّ الرجال المُحتشدين رأَوهما وتراجعوا، ولكن لو قرروا الانقضاض علينا، فلن ينفعنا المُسدسان في التصدي لهم.
كان صوت راستا قد توقف. فقد أدى دوره، وتنحَّى جانبًا. كان الحشد يصيح ويُردد كلمتَي «أوليمان» و«خُفية» باستمرار. لم أكن أعرف معناهما آنذاك؛ لأنهم كانوا يقولونهما بالعثمانية، لكني صرتُ أعرف الآن أنهم كانوا يُطاردوننا لأننا ألمان وجواسيس. فرعاع القسطنطينية كانوا لا يُحبون أسيادهم الجدد. بدت مفارقةً غريبة لنا أنا وبيتر أن نُقتَل لأننا ألمان. وكان من المُرجَّح أننا سنُقتَل. فقد سمعتُ من قبل أنَّ الشرق مكان مُناسب لقتل الآخرين بكل سهولة؛ إذ لم تكن هناك صحف فضولية ولا شُرطة شريفة نزيهة.
تمنيتُ من الرب لو كنتُ أعرف ولو كلمة تركية واحدة. لكني أسمعتهم صوتي ثواني عندما سكتَ الضجيج لحظيًّا، وصحتُ قائلًا إننا بحاران ألمانيان أحضرا مدافع كبيرة إلى تركيا، عائدان إلى وطننا في اليوم التالي. سألتهم ما الجُرم الذي يظنون أننا فعلناه بحق السماء؟ لا أعرف ما إذا كان فيهم أي أحدٍ قد فهم الألمانية، وعلى أي حال، لم يُسفِر كلامي إلَّا عن جلبةٍ من الصيحات سادت فيها كلمة «خفية» المشئومة تلك.
حينئذٍ أطلق بيتر النار فوق رءوسهم. كان مضطرًّا إلى ذلك؛ لأنَّ أحدهم كان قابضًا بأظافره على حلقومه. فأتانا الرد بصلصلةِ وابلٍ من الرصاص على الحائط من فوقنا. بدا كأنهم يريدون أخذنا أحياء، وكنتُ مقتنعًا تمامًا بأنَّ هذا ينبغي ألا يحدث. فقد كنت أفضِّل أن تنتهي حياتي نهايةً دموية في شجار بالشارع على أن أُصبح تحت رحمة ذلك القاتل المأجور الأجوف.
لا أعرف إطلاقًا ماذا حدث بعدئذٍ. اندفعت مجموعة منهم نحوي، فأطلقتُ النار. ولوَلَ أحدهم وصرخ بأعلى صوته، وشعرتُ في اللحظة التالية بأنني أُخنَق. ثم توقف الشجار فجأة، ورأيت بصيصًا متذبذبًا من الضوء في تلك الحفرة المعتمة.
لم أمر بلحظات أسوأ من هذه طول حياتي. صحيح أنني كنتُ عالقًا في غموضٍ شديد حين كنت مطارَدًا في الأسابيع الماضية، لكني لم أكن أواجه خطرًا وشيكًا كهذا. وحتى عندما كنتُ أواجه خطرًا ماديًّا مُلحًّا حقيقيًّا، كما حدث في لوس، كان الخطر واضحًا على أيِّ حال. كان المرء يُدرك ما هو مقبل عليه. لكني هنا كنت أمام تهديدٍ لم أستطع تسميتَه، ولم يكن مُستقبليًّا، بل كان مُلحًّا يخنق رقابنا بالفعل.
لكني لم أشعر إطلاقًا بأنه كان حقيقيًّا تمامًا. فطقطقة اصطدام طلقات المسدس بالجدار، كأنها مُفرقعات نارية كثيرة، والوجوه التي كانت محسوسةً دون أن تكون مرئية في الظلام الدامس، والضجيج الذي كان مجرد هراء غير مفهوم، كلها أشياء كانت تحمِل طابع الجنون الذي تتَّسِم به الكوابيس. وحده بيتر، الذي لم يتوقف عن السباب بالهولندية بجواري، هو الذي كان حقيقيًّا. ثم جاء الضوء وجعل المشهد أشد غرابة!
كان مُنبعثًا من بضعة مشاعل يحملها رجال بربريون ذَوو هراوات طويلة، شقوا طريقهم وسط هؤلاء الرعاع عَنوة. اصطدم وهَجُه المرتعش بالجدران المُنحدرة فأنشأ ظلالًا مُخيفة عليها. وكانت الرياح تؤرجح ألسنة اللهب فتحوِّلها إلى شرائط طويلة تتلاشى في صورة شررٍ متناثر كالمروحة.
وعندئذٍ سُمعَت كلمة جديدة في الحشد. فقد صرخ أحدهم قائلًا: «الغجر»، لكن ليس غضبًا، بل خوفًا.
لم أستطع رؤية الوافدين الجُدد في البداية. فقد كانوا مُستترين في الظلام الدامس تحت مظلةٍ من النور؛ لأنهم كانوا يحملون مشاعلهم عاليًا عند أقصى امتداد لأذرعهم. كانوا هم أيضًا يصرخون صرخات بربرية حادة يختتمونها أحيانًا بفيضٍ من الكلام السريع. كان يبدو أنَّ كلامهم ليس موجهًا إلينا، بل إلى الحشد المحيط بنا. راودني أمل مفاجئ؛ إذ شعرت بأنهم كانوا في صفِّنا لسبب لا أعرفه.
لم يَعُد الحشد متكالبًا علينا. كان ينفضُّ بسرعة، وسمعت صوت الاشتباك أثناء هروب الرجال إلى شوارع جانبية. خطر ببالي في البداية أنَّ هؤلاء من الشرطة التركية. لكن تغير رأيي عندما ظهر قائدهم في بقعةٍ من الضوء. لم يكن يحمِل أي مشعل، بل مجرد هراوة طويلة كان يهوي بها مرارًا على رءوس من لم يستطيعوا الهرب بسبب شدة تزاحمهم.
كان ذلك أغرب ظهور يُمكن تصوره، بل كان أشبه بظهور الأشباح. رجل طويل القامة، مُكتسٍ بثيابٍ من الجلد، عاري الساقَين، مُنتعلٌ صندلًا. كانت لدَيه جديلةٌ من قماش قرمزي اللون معلقة بكتفَيه، وكان رأسه مُغطًّى من أعلاه إلى ما فوق عينَيه بقلنسوة ضيقة من جِلد أحد الحيوانات، ولها ذيلٌ يتأرجح خلفها. كان يتحرك بخطواتٍ وثَّابة كحيوان بري، مواصلًا التحدُّث بنبرةٍ رتيبة عالية غريبة بثَّت رعبًا شديدًا في نفسي.
أدركت فجأة أنَّ الحشد قد انفضَّ تمامًا. لم يكن أمامنا سوى هذا الشخص ورفاقه الستة الذين كان بعضهم يحمل مشاعل، وكانوا كلهم يرتدون ثيابًا من الجلد. لكنَّ الشخص الذي بدا قائدهم هو فقط الذي كان يعتمر القلنسوة الضيقة، أمَّا البقية، فكانوا حسيري الرءوس، وكان لهم شعر طويل مُتشابك.
كان الرجل يصرخ في وجهي بكلامٍ غير مفهوم. كانت عيناه زجاجيتَين، كمن يُدخِّن القنب، ولم تكن ساقاه تتوقفان عن الحركة أبدًا ولو ثانية واحدة. ربما تظنون للوهلة الأولى أنَّ شخصًا كهذا مجرد دجال أو مشعوذ، ولكن لم يكن فيه أي شيء هزلي. بل كان به شيء مُخيف وشرير وغير طبيعي، ولم أكن أشعر إطلاقًا بأيِّ رغبةٍ في الضحك.
ظلَّ أثناء صراخِه يشير بهراوته نحو أعلى الشارع الذي كان يمتد صعودًا إلى جانب التلة.
قال بيتر: «إنه يقصد أن نتحرك. من أجل الرب دعنا نبتعِد عن هذا الطبيب المشعوذ.»
لم أستطع فهم مقصده، ولكن شيئًا واحدًا كان واضحًا لي. أنَّ هؤلاء المجانين أنقذونا مؤقتًا من راستا وأصدقائه.
ثم فعلت شيئًا في غاية السخافة. أخرجتُ جنيهًا ذهبيًّا إنجليزيًّا ومددتُ يدي به إلى القائد. خطر ببالي أن أُعبِّر عن امتناني له، ولأنَّ الكلمات لم تُسعفني؛ اضطُررت إلى التعبير عنه بالفعل.
أنزل عصاه على معصمي، فسقطتِ العملة وظلَّت تلفُّ في مزراب الشارع. اتَّقد الشرر في عينَيه وجعل هراوته تُدندن حول رأسي. شتمني، ومع أنني كنتُ بارعًا في التلفظ بالشتائم، لم أفهم أي كلمةٍ من سُبابه، ثم صاح في أتباعه فجعلوا يَسبونني هم أيضًا. اتضح لي عندئذٍ أنني أهنته إهانةً قاتلة، وأثرتُ عشَّ زنابير أسوأ من عصابة راستا.
وجدتُ نفسي أنا وبيتر نركض فورًا بدافعٍ تلقائيٍّ مشترك بيننا. فنحن لم نكن نسعى إلى إثارة أي مشكلاتٍ ضد هؤلاء الرجال المَمسوسين من الشيطان. ركضنا نحو أعلى الزقاق الضيق الشديد الانحدار وفي أعقابنا هذا الحشد من المُختلِّين. كان يبدو أنَّ المشاعل قد انطفأت؛ لأنَّ المكان كان حالك السواد كالقار، وظلِلْنا نتعثر في أكوامٍ من الفضلات، ونتخبط في مياه المصارف الجارية. كان الرجال من خلفنا على مسافةٍ قريبة، وشعرتُ أكثر من مرة بعصًا على كتفي. لكنَّ الخوف أعطانا أجنحة، وفجأة وجدنا أمامنا وهجًا من الضوء، ورأينا شارعنا ينفتح على طريقٍ رئيسي. وقد رأى الآخرون ذلك أيضًا لأنهم تباطئوا. وقُبيل أن نصل إلى الضوء بقليل، توقفنا ونظرنا حولنا. لم نسمع صوتًا ولم نرَ شيئًا خلفنا في الزقاق المظلم الذي كان منحدرًا إلى الأسفل نحو المرفأ.
قال بيتر وهو يتحسَّس أطرافه بحثًا عن أي كدمات: «هذا بلد غريب يا كورنيليس. أشياء كثيرة جدًّا تحدُث في وقتٍ قصير جدًّا. لقد انقطعت أنفاسي.»
كان يبدو أنَّ الشارع الكبير الذي صادفناه مُمتد على طول قمة التل. كان فيه مصابيح وعربات أجرة بطيئة ومحلات بدت متحضرة الشكل كثيرًا. سرعان ما وجدنا الفندق الذي أرشدَنا إليه كوبراسو؛ كان مبنًى كبيرًا يقع في باحةٍ، وله رواقٌ متهالك جدًّا، وشيش أخضر كان يصلصل برتابةٍ كئيبة في رياح الشتاء. تبيَّن لي، كما كنت أخشى، أنه مكتظٌّ للغاية، وكان أغلب روَّاده من الضباط الألمان. واستطعتُ بعد مشقةٍ أن أُقابل المالك، الذي كان يونانيًّا كالمعتاد، وأخبرته بأن السيد كوبراسو أرسلنا إلى هناك. لم يتأثر بذلك إطلاقًا، وكنا سنُلقَى في الشارع لولا أنني تذكرت تصريح المرور الذي أعطاني إياه شتوم.
وهكذا شرحت له أننا قد أتينا من ألمانيا بشحنة ذخائر، ونريد غرفتَين لليلة واحدة فقط. أريته التصريح وتبجَّحت بشدة حتى صار مهذبًا، وقال إنه سيفعل أفضل ما بوسعه من أجلنا.
لكنَّ هذا الأفضل كان أسوأ ما يكون. فقد تشاركنا أنا وبيتر غرفة صغيرة لا تحوي إلَّا سريرَيْ تخييم، وقليلًا من قطع الأثاث، ونوافذ مكسورة تتسرَّب من خلالها رياح صافرة. تناولنا عشاء بائسًا من لحم ضأنٍ قاسِي الألياف، مسلوق مع الخضراوات، وجبن أبيض ذي رائحة قوية بما يكفي لإحياء الموتى في قبورهم. لكني حصلت على زجاجة ويسكي مقابل جنيهٍ ذهبي إنجليزي، وتمكنَّا من إشعال الموقد في غرفتنا، وإغلاق شيش النوافذ بإحكام، ودفَّأنا قلوبنا بشراب مُخمَّر من الويسكي والسُّكَّر. ثم خلدنا إلى فراشَينا، ونمنا هامدَين بلا حراكٍ كجذوع الشجر اثنتي عشرة ساعة. فطول رحلتنا من روسجق كان نومُنا متقطعًا مُضطربًا.
استيقظتُ في صباح اليوم التالي ونظرتُ من النافذة المكسورة فوجدتُ الثلج يتساقط. استطعتُ بعد جهدٍ مُضنٍ أن أعثر على خادم، وجعلته يُحضر إلينا بعضًا من القهوة التركية الشبيهة بالعسل الأسود. كان كِلانا مكتئبًا جدًّا. قال بيتر: «أوروبا مكان بارد وضيع، ولا تستحق القتال من أجلِها. توجَد أرض واحدة فقط صالحة للرجل الأبيض، وهي جنوب أفريقيا.» كنتُ في ذلك الوقت أوافقه الرأي بشدة.
أتذكر أنني جلستُ على حافة فراشي أُقيِّمُ موقفنا. لم يكن الوضع باعثًا على التفاؤل. فقد بدا أننا كنا نجلب على أنفسنا عداوات متتالية بسرعةٍ جنونية. فبادئ ذي بدء، كنا مُطارَدين من راستا، الذي أهنتُه إهانة لن ينساها سريعًا. كان لديه حشد من الرعاع الأتراك، وحتمًا سيصل إلينا عاجلًا أو آجلًا. ثم هناك ذلك المخبول ذو القلنسوة الجلدية. لم يكن يُحب راستا، وخمَّنتُ أنه وأصدقاءه غريبي الأطوار مُنتمون إلى حزبٍ ما مُعادٍ للأتراك الشبان. لكنه على الجانب الآخر لم يكن يُحبنا نحن أيضًا، وارتأيتُ أننا سنقع في ورطة كبيرة إذا التقيناه مجددًا. وأخيرًا، كنا مُلاحَقين من شتوم والحكومة الألمانية. قد لا تمر سويعات، في أحسن الأحوال، قبل أن يجعل سُلطات روسجق تتعقبنا. سيكون من السهل عليهم تتبُّع طريقنا من جتالجة، وحالما يصلون إلينا، سنَهلِك لا محالة. كنا نواجه قائمة سوداء كبيرة من الأعداء، وكان يبدو أنَّ التغلب عليهم مستحيل وإن حالفَنا حظُّ الدنيا كله.
كان واضحًا تمامًا لي أننا إذا لم نستطع العثور على ملاذٍ آمن، والتخلُّص من كل مُطاردينا المُختلفين خلال هذا اليوم، فسينتهي أمرنا إلى الأبد. ولكن أين كان يُمكن أن نجد ملاذًا بحقِّ السماء؟ فكِلانا لم يكن يعرف ولو كلمة من لغة البلد، ولم أرَ أي طريقة ممكنة للتنكُّر في شخصياتٍ جديدة. لذا كنا نحتاج إلى أصدقاء ومساعدة، وفكرتُ مليًّا، لكني لم أتوصَّل إلى أيِّ مكانٍ قد أجد فيه مَن يُساعدني. كنت متيقنًا من وجود بلنكيرون في مكانٍ ما، ولكن أنَّى كان لي أن أتَّصِل به؟ أمَّا ساندي، فكنتُ فاقدًا الأمل تمامًا في نجاحه أصلًا. فمنذ البداية كنتُ أرى أنَّ خطته هي الأكثر جنونًا بين خططنا كلنا، وأنها ستفشل حتمًا. من المُرجَّح أنه كان في مكانٍ ما في آسيا الصغرى، وسيصل بعد شهرٍ أو اثنَين إلى القسطنطينية، ويسمع في إحدى الحانات حكاية الرجلين الهولندِيَّين البائسَين اللذَين اختفيا سريعًا جدًّا بلا أي أثر.
ارتأيتُ أنَّ ذلك اللقاء المُرتقَب في مقهى كوبراسو لن يكون مفيدًا. كان يُمكن أن يكون على أحسن ما يُرام لو كنَّا قد جئنا إلى هنا دون أن يعرف أحد بوجودنا، ولو كان بإمكاننا أن نواصل التردُّد عليه في هدوء ريثما يجدنا بلنكيرون. لكنَّ ذلك كان يستلزم أن نحظى بمُتسعٍ من الوقت وبعض السرِّية، في حين كنَّا مُطارَدين من قطيع من كلاب الصيد. كان المكان في غاية الخطورة بالفعل. فلو أظهرنا أنفسنا هناك فسنقع في قبضة راستا، أو الشرطة العسكرية الألمانية، أو المجنون ذي القلنسوة الجِلدية. كان من رابع المستحيلات أن نبقى منتظرين هكذا ريثما نقابل بلنكيرون، وهو ما كان احتمالًا مُستبعدًا.
فكرت بشيءٍ من الحسرة في أنَّ اليوم كان السابع عشر من يناير؛ يوم لقائنا المرتقب. كانت لديَّ آمال عريضة طول الطريق عبر نهر الدانوب في أنني سألتقي بلنكيرون — لأنِّي كنت أعرف أنَّه سيكون موجودًا في الموعد المُحدد — وأنني سأُعطيه المعلومات التي حالفني الحظ في جمعها، وأضمها إلى ما اكتشفه هو، فنُكوِّن الصورة الكاملة التي كان السير والتر متلهفًا لمعرفتها. ورأيت أنَّنا بعدئذٍ لن نجد صعوبةً في الهرب عن طريق رومانيا والعودة إلى وطننا عبر روسيا. كان لديَّ أمل في أنني سأعاود الانضمام إلى كتيبتي في فبراير بعدما أكون قد أديتُ مهمةً بطولية لا تقل عمَّا يفعله أي شخصٍ آخر في ميدان المعركة. ولكن بدا أنَّ معلوماتي ستموت معي، إلَّا إذا استطعتُ العثور على بلنكيرون قبل المساء.
ناقشتُ الأمر مع بيتر، واتفق معي في أنَّنا في ورطةٍ كبيرة. قررنا أن نذهب إلى مقهى كوبراسو بعد ظُهر ذلك اليوم، ونترك البقية للحظ. ما كنا لنستفيد شيئًا من التسكُّع في الشوارع؛ لذا لزمنا غرفتنا طوال الصباح، وظللنا نتبادل حكاياتٍ قديمة عن مغامراتنا في الصيد لنُشتت أذهاننا عن التفكير في الحاضر البغيض. تناولنا بعض الطعام في منتصف النهار؛ إذ أكلنا لحم ضأن باردًا ونفس الجُبن، وأنهينا زجاجة الويسكي. ثم دفعت الفاتورة لأنني لم أكن أجرؤ على البقاء هناك ليلةً أخرى. وقُرابة الساعة الثالثة والنصف نزلنا إلى الشارع، دون أدنى فكرة عن مأوانا التالي.
كان الثلج يتساقط بغزارة، وكان هذا من حُسن حظنا. لم يكن بيتر المسكين لدَيه معطف ثقيل؛ لذا ذهبنا إلى متجر يهودي واشترينا معطفًا جاهزًا رديئًا جدًّا بدا كأنه مُصمَّم لرجلٍ مُنشقٍّ عن الكنيسة. لم يكن ثمة جدوى من توفير أموالي في الوقت الذي بدا فيه المستقبل حالك السواد. جعل الثلج الشوارع خاوية، وانعطفنا نحو أسفل الزقاق الطويل المؤدي إلى عبَّارة راتشيك، فوجدناه هادئًا تمامًا. أظن أننا لم نقابل أي إنسان حتى وصلنا إلى محل كوبراسو.
مشينا مباشرة عبر المقهى الذي كان فارغًا، وسِرنا عبر الردهة المُظلمة حتى أوقف بابُ الحديقة مسيرنا. طرَقتُه ففُتح متأرجحًا على مفصلِه. وجدنا الفناء القاتم، الذي كان آنذاك موحِلًا من بِرَك الثلج الذائب، ورأينا وهجًا من الضوء عند مقصورة الاستراحة عند الجانب الآخر. وكذلك سمِعنا مداعبةً لأوتار بعض آلات الكمان، وصوت كلام بشري. دفعنا مالًا للزنجي الواقف عند الباب، وانتقلنا من هواء النهار القارس إلى داخل صالةٍ متوهجة مبهرجة.
كان هناك أربعون أو خمسون شخصًا يشربون القهوة والشراب السكري، ويملئون الهواء بأدخنة تبغ اللاذقية. كان معظمهم أتراكًا يرتدون ثيابًا أوروبية وطرابيش، ولكن كان بينهم بعض الضباط الألمان، وأناسٌ بدَوا مدنِيين ألمانًا، يُحتمَل أنهم كانوا موظفين مدنيين في فيلق سلاح الخدمات، وميكانيكيين من الترسانة. وجدنا امرأة مُرتدية حُليًّا مبهرجة رخيصة تُمرر أصابعها بعزفٍ بشِع على البيانو، ورأينا عدة نساء صاخبات برفقة الضباط. جلستُ أنا وبيتر بتواضُع في أقرب ركن، حيث رآنا كوبراسو العجوز وأرسل إلينا قهوة. جاءت إلينا فتاة تبدو يهودية وتحدَّثت بالفرنسية، لكني هززتُ رأسي بالرفض، فابتعدَت عنَّا مجددًا.
بعد قليل صعدَت فتاة إلى خشبة المسرح ورقصت، لكنها كانت رقصة سخيفة خالية تمامًا من أي تناغُم بين صوت الدفوف والْتواءات جسدها. لقد رأيتُ نساء مَحلِّيات يؤدين الرقصة نفسها بأداءٍ أفضل في قرية بموزمبيق. غنَّت فتاة أخرى أغنية ألمانية بسيطة عاطفية عن الشعر الذهبي وأقواس قزح، وصفَّق لها الألمان الحاضرون. كان المكان مزدانًا بكثيرٍ من الشرائط المبهرجة اللامعة، ومبتذلًا جدًّا لدرجة أنه جعلني ضجرًا؛ إذ كنتُ آتيًا إليه بعد أسابيع من السفر الشاق. نسيتُ أنَّ ذلك المكان، في حين قد يكون للآخرين مجرد قاعة رقص صغيرة سوقية، كان لنا محفوفًا بالأخطار كوَكرٍ لقُطاع الطرق.
لم يكن بيتر يشاركني حالتي المزاجية. كان مهتمًّا جدًّا بالمكان، مثلما كان يهتم بكل شيءٍ جديد. كان عبقريًّا في الاستمتاع باللحظة.
أتذكر أنني رأيتُ هناك ستارًا مسرحيًّا يحمل رسمةً غير مُتقَنة لبحيرة زرقاء، ومعها تلال بعيدة شديدة الخُضرة. ومع اشتداد كثافة دخان التبغ، واستمرار الصرير الصادر من آلات الكمان، بدأَت هذه الصورة المبهرجة تأسر لُبي. بدا كأنني أنظر من نافذة إلى منظر صيفي جميل خالٍ من أي حروب أو أخطار. بدا كأنني كنت أشعر بدفء الشمس، وأشم أريج أزهار من الجُزُر. ثم أدركتُ أنَّ رائحة غريبة قد تسللت إلى الجو.
كان يُوجَد عند طرفَي القاعة مجامر متقدة لتدفئتها، وكانت رائحة الدخان الضئيل المنبعث منها تُشبه رائحة البخور. كان أحدهم يضع مسحوقًا في اللهب منذ بعض الوقت؛ لأنَّ المكان أصبح هادئًا تمامًا فجأة. ظلَّت أصوات الكمان مستمرة، لكنها كانت بعيدة جدًّا كأنها مجرد صدًى. انطفأت الأنوار كلها باستثناء بقعةٍ من الضوء على خشبة المسرح، وفوجئتُ بعدوِّي ذي القلنسوة الجلدية يخطو إلى تلك البقعة.
كان معه ثلاثة آخرون. سمعتُ من خلفي همسًا بالكلمات نفسها التي كان كوبراسو قد قالها في اليوم السابق. كان هؤلاء المخبولون يُدعَون «رفاق الأوقات الوردية»، وكان كوبراسو قد وعدنا بأنهم سيُقدمون رقصًا رائعًا.
تمنيتُ من الرب ألَّا يرَونا؛ لأنهم أرعبوني في الليلة الماضية. كان بيتر يشاركني الشعور نفسه، وانكمشنا على أنفسنا بشدة في ذلك الركن المظلم. لكن الوافدين الجدد لم يلاحظونا.
وفي غمضة عين تحولت مقصورة الاستراحة من مجرد صالون مبتذل، كالذي قد يراه المرء في شيكاغو أو باريس، إلى مكان يسوده الغموض، أجل، والجمال أيضًا. تحول حقًّا إلى كوخ حديقة سليمان الأحمر، مع أننا لم نكن نعرف هوية ذاك الرجل الرائع الذي كان المكان يحمل اسمه. كان ساندي قال لنا إنَّ أطراف الأرض تتلاقى هنا في هذا المكان، وكان مُحقًّا. لم أعُد واعيًا إطلاقًا بأيٍّ من جيراني الجالسين بالقرب مني — الألماني البدين، والتركي ذي المعطف الطويل، واليهودية الرثة الشعثاء — ولم أعد أرى سوى أجساد غريبة تقفز في دائرة من الضوء، أجساد خرجت من أعمق ظلام لتأتي بسحرٍ عظيم.
رمى قائدهم شيئًا ما في المجمرة، فاندلعت شرارة مروحية كبيرة من ضوء أزرق. كان يتراقص مكوِّنًا دوائر بجسده، وكان يغني شيئًا عاليًا حادًّا، في حين كان رفاقه يُشكِّلون جوقةً بنبرتهم الرتيبة العميقة. لا أعرف اسم تلك الرقصة. كنت قد رأيت الباليه الروسي قُبيل الحرب مباشرة، وذكَّرني أحد الرجال المُشاركين فيه بهذا الرجل. لكنَّ الرقصة نفسها لم تكن مهمَّة إطلاقًا على أي حال. لم تكن الأصوات ولا الحركة ولا الرائحة هي التي ألقت بتعويذةٍ ساحرة على الحاضرين، بل شيء أقوى تأثيرًا بكثير. ففي لحظةٍ واحدة، وجدتُ نفسي قد انتُشِلتُ من الحاضر بأخطاره المُملة، وأصبحت أمام عالَمٍ ينضح بالحيوية والنضارة والجمال. لم تعُد الستارة المسرحية المُبهرجة موجودة. بل صارت نافذة أنظر منها، وأُحدق إلى أجمل منظر طبيعي على وجه الأرض، مُضاء بنورِ الصباح الصافي النقي.
كان يبدو جزءًا من سهول أفريقيا، لكن لم يكن كأي سهلٍ رأيته في حياتي. كان أوسع وأكثر طبيعيةً وجاذبية. في الحقيقة كنتُ أنظر إلى أيام شبابي الأولى. كنتُ أشعر بنوعٍ من راحة البال الخالدة التي لا يعرفها إلا صبي في فجرِ صباه. لم أعد أشعر بأي خوفٍ من هؤلاء السَّحَرة. كانوا سحرة لطفاء جلَبوني إلى عالمٍ من الخيال.
ثم تساقطت قطراتٌ من الموسيقى رويدًا من الصمت المُطبق هناك. كان وقعُها كمياهٍ تتساقط داخل كوبٍ من ارتفاع عالٍ، وكان كلٌّ منها يحمل الطابع الأصلي لنقاء الصوت. لقد نسينا سحر النغمات المُفرَدة بسبب تناغمات موسيقانا المعقدة. السكان الأفارقة المحليون يعرفون ذلك، وأتذكَّر رجلًا مثقفًا أخبرني ذات مرة بأنَّ اليونانيين لدَيهم هذا الفن نفسه. بدت لي تلك النغمات أجراسًا فضيةً انطلقت من فضاء بلا حدود، وكانت فاتنة ومثالية جدًّا بما يفوق قُدرة أي كلمات دنيوية على أن تليق بها. أتوقَّع أنَّ تلك كانت الموسيقى التي تصدح بها نجوم الصباح حين تُغني معًا.
ثم تغيَّر كل ذلك ببطءٍ شديد جدًّا. تحول الوهج الأزرق إلى أرجواني، ثم إلى أحمر قانٍ غاضب. وتناسجت النغمات معًا رويدًا رويدًا حتى شكَّلت تناغمًا؛ تناغمًا شرسًا هائجًا. واستفقتُ مجددًا على الراقِصين المُتَّشحين بالجلد وهم يلوحون من دائرتهم للمتفرجين.
صار مَغزى الرقصة واضحًا تمامًا آنذاك. تلاشى كل الطابع الشبابي المتأنق، وصار في الهواء شغف يعصف به؛ شغف وحشي شنيع لا ينتمي إلى النهار ولا الليل، ولا إلى الحياة ولا الموت، بل إلى العالم الواقع في المنتصف بينهما. شعرت فجأة بالراقصين وقد تحولوا إلى مخلوقاتٍ شنيعة شيطانية متوحشة لا صِلة لها بالبشر. بدا أنَّ الروائح القوية المتصاعدة من المجمرة تحمِل نفحةً من دماء مُهرَقة حديثًا. انطلقَت صرخات من المُستمعين؛ صرخات غضب وشهوة ورُعب. سمعتُ امرأةً تنشج باكية، ووجدت بيتر يتشبَّث بذراعي بقوة، مع أنه كان أشد صلابةً من أيِّ إنسان.
أدركتُ آنذاك أنَّ «رفاق الأوقات الوردية» هؤلاء هم الشيء الوحيد الذي يستحقُّ أن نخاف منه في الدنيا. بدا لي راستا وشتوم مجرد شخصَين ساذجَين ضعيفَين مُقارنةً بهم. تحولت النافذة التخيُّلية، التي كنت أنظر منها، إلى جدار سجن، وصرتُ أرى هذا الجدار بكل تفاصيله، حتى الملاط بين كُتَلِه الحجرية الضخمة. يستطيع هؤلاء الشياطين في غضون ثانيةٍ واحدة أن يتشمَّموا رائحة أعدائهم ويعثروا عليهم كالدجَّالين البغيضين. شعرتُ بأنَّ عينَيْ قائدهم المُتقدتَين تبحثان عني في الظلام. كان بيتر يدعو الرب بجواري بصوتٍ مسموع، وكدتُ أن أخنقه ليصمت. فثرثرتُه اللعينة كانت ستفضحنا؛ إذ بدا لي أنَّ المكان لم يعُد فيه سوانا نحن وأولئك السحرة.
ثم انكسرت التعويذة فجأة. فُتح الباب بقوة واندفعت عصفة شديدة من رياح جليدية عبر القاعة، وأثارت معها سُحبًا من رماد المجامر. سمعتُ أصواتًا عالية في الخارج، واندلعَت ضجة في الداخل. ساد المكانَ ظلمةٌ حالكة للحظة، ثم أضاء أحدهم واحدًا من المصابيح ذات الشعلة بالقُرب من خشبة المسرح. لم يكشف الضوء إلَّا عن القذارة العادية التي يتَّسِم بها صالون وضيع؛ فلم أرَ سوى وجوه بيضاء وعيون ناعسة ورءوس شعثاء. وكان الستار المسرحي هناك بكلِّ بهرجته.
كان رفاق الأوقات الوردية قد رحلوا. لكني رأيتُ عند الباب رجالًا واقفين في ثيابٍ عسكرية، وسمعتُ ألمانيًّا يُتمتم من مسافةٍ بعيدة قائلًا: «حراس أنور الشخصيُّون»، وقد سمعته بوضوح لأنَّ سمعي كان حادًّا للغاية، مع أنني لم أكن أرى بوضوح. غالبًا ما يكون هذا هو الحال حين يستفيق المرء فجأة من نوبة فقدان للوعي.
خلا المكان فورًا. سقط أتراك وألمان بعضهم فوق بعض من شدة التدافع، في حين كان كوبراسو يندب وينتحب. بدا أن لا أحد كان يوقفهم، ثم أدركتُ السبب. فهؤلاء الحراس كانوا قادِمين من أجلنا. لا بد أنَّ هذا شتوم قد توصَّل إلينا أخيرًا. لقد تعقبتنا السلطات حتى عثرت علينا، وانتهى أمرنا أنا وبيتر.
إنَّ الاشمئزاز المفاجئ يهوي بمعنويات المرء إلى الحضيض. لذا بدوتُ غير مُبالٍ كثيرًا. لقد هلكنا، وقُضي الأمر. كانت هذه قسمة الرب، على حدِّ قول الأتراك، ولم يكن أمامنا سوى الخضوع لها. لم أُفكر مطلقًا في الهرب أو المقاومة. لقد انتهت اللعبة تمامًا ونهائيًّا.
أشار إلينا رجل بدا يحمِل رتبة رقيب، وقال شيئًا لكوبراسو، الذي أومأ بدوره بالإيجاب. وقفنا على أقدامنا بمشقةٍ ومشينا نحوهم مترنحين. اقتادنا رجلان أحاطا بنا من الجانبَين عبر الفناء، ومشَينا خلال الطرقة المُظلمة والمتجر الفارغ، ثم خرجنا إلى الشارع الجليدي. كانت في انتظارنا عربة مُغلقة، وأشاروا لنا بدخولها. كانت تبدو مثل عربة نقل السجناء بالضبط.
جلس كِلانا ساكنًا بلا حراك واضعًا يدَيه على ركبتيه، كأننا تلميذان مُتغيبان عن المدرسة دون إذن. لم أكن أعرف الوجهة التي سأذهب إليها، ولم أكن مُباليًا. بدا أنَّ العربة كانت تسير بنا مُترجرجة مُدمدِمة نحو أعلى التل، ثم لاحظتُ وهج الشوارع المضاءة.
قلت: «قُضي الأمر يا بيتر.»
ردَّ قائلًا: «أجل يا كورنيليس»، وكان هذا هو كل حديثنا.
وأخيرًا — بعد ساعات حسبما بدا — توقَّفنا. فتح أحدهم الباب وخرجنا، لنجد أنفسنا في ساحةٍ يُحيط بها مبنًى مظلم ضخم. خمَّنت أنَّ ذلك هو السجن، وتساءلتُ عمَّا إذا كانوا سيعطوننا بطانيات؛ لأنَّ البرد كان مهلِكًا.
دخلنا من بابٍ ووجدنا أنفسنا في قاعة حجرية كبيرة. كانت دافئة جدًّا، مما جعلني أكثر تفاؤلًا بشأن زنزاناتنا. أشار رجل يرتدي زيًّا عسكريًّا إلى الدَّرج، فصعدناه بخطواتٍ متثاقلة مُنهَكة. كان ذهني خاويًا تمامًا، حتى إنني عجزتُ عن تكوين انطباعاتٍ واضحة، أو التكهُّن بالمستقبل بأي طريقة. قابلَنا سجانٌ آخر، واقتادنا عبر ردهةٍ حتى توقفنا عند باب. تنحى جانبًا وأشار لنا بالدخول.
خمنت أنَّ هذه غرفة مدير السجن، وأننا سنخضع لاستجوابنا الأول. كان رأسي أغبى من أن أستطيع التفكير، وقررتُ أن ألتزم الصمت التام. أجل، حتى لو حاولوا تعذيبي بكسر أصابعي. لم تكن عندي أي قصة يُمكن أن أحكيها أصلًا، لكني عقدت العزم على عدم الإفصاح عن أي شيء. وبينما كنتُ أدير مقبض الباب، تساءلتُ بلامبالاة عن نوعية التركي الشاحِب أو الألماني ذي الرقبة المنتفخة الذي سنجده في الداخل.
كانت غرفة جميلة ذات أرضية خشبية مصقولة، وكانت فيها جذوة كبيرة من نيران متقدة في المدفأة. كان بجوار النار رجلٌ مُستلقٍ على أريكة، ورأيتُ طاولة صغيرة مسحوبة إلى جانبه. كان على تلك الطاولة كوب صغير من الحليب، وعدد من أوراق اللعب ممدودة في صفوف.
ظللتُ محدقًا ببلاهة إلى المنظر حتى رأيت شخصًا ثانيًا. كان ذلك هو الرجل ذا القلنسوة الجِلدية، قائد المجانين الراقصين. تراجعتُ أنا وبيتر فجأة حين رأيناه، ثم وقفنا ساكنَين بلا حراك.
وذلك لأنَّ الراقص قَطَع الغرفة في خطوتَين واسعتَين، وقبض على كلتا يديَّ بإحكام.
صاح قائلًا: «ديك، يا صديقي، أنا في غاية السعادة بلقائك مجددًا!»