أفراد المهمة الأربعة يرَون ضوءًا في مهمتهم
شعرتُ بذهني يموج بمشاعر مُتلاحقة من عدم التصديق والارتياح الهائل وتلك البهجة الشديدة التي تنتاب المرء نتيجةً لوقتٍ عصيب مرَّ به سابقًا. فقد خرجتُ فجأة من أعماق مياهٍ حالكة السواد إلى سكون لا يُصدَّق. ارتميتُ على أقرب كرسي وحاولت أن أفكَّ طلاسم شيءٍ أصعب من أن تصِفه كلمات.
قلت حالَما التقطتُ أنفاسي: «ساندي، أنت شيطان متجسِّد في شكل إنسان. لقد أذقْتني أنا وبيتر رُعبًا لم نرَه في حياتنا.»
قال: «كانت هذه هي الطريقة الوحيدة يا ديك. لو لم أَسِر في أعقابكما نابحًا كالكلب أمس، لكان راستا قد أمسك بكما قبل وقتٍ طويل من وصولكما إلى فندقكما. لقد جعلتماني أعيش وقتًا عصيبًا من القلق عليكما، وبذلتُ جهدًا مُضنيًا لأحضركما إلى هنا سالِمين. لكن كل ذلك انتهى الآن. خذا راحتكما كأنكما في منزلكما يا أطفالي.»
صرختُ قائلًا غيرَ مُصدِّق: «انتهى!» فقد كان عقلي لا يزال ذاهلًا. وقلت: «ما هذا المكان؟»
«يُمكنك أن تُسميه بيتي المتواضع»، كان المتحدث هو بلنكيرون بصوته الدمث الناعم. وأضاف: «كنا نستعدُّ لك يا حضرة الميجور، لكني لم أسمع بصديقك إلَّا أمس فقط.»
عرَّفتُه ببيتر.
قال بلنكيرون: «سُررت بلقائك يا سيد بينار. حسنًا، كما كنت أقول، أنتما آمِنان تمامًا هنا، لكنكما أفلتُّما بأعجوبة. فقد كان من المقرر رسميًّا اعتقالُ رجلٍ هولندي اسمه براندت بعد ظُهر اليوم، وتسليمه إلى السلطات الألمانية. وعندما تبدأ ألمانيا الاهتمام بذلك الهولندي، ستجد صعوبةً في الحصول على جسده، لكنَّ هذا هو البطء العقيم المُعتاد من نظام مُستبدٍّ شرقي. وإلى أن يحين ذلك الوقت، لن يعود الهولندي موجودًا. سيكون قد انتهى عند منتصف الليل بلا ألَم، كما يقول شاعركم.»
قلت متلعثمًا: «لكني لا أفهم. من اعتقلنا؟»
قال ساندي: «رجالي. لدَينا هنا القليل من نفوذ كسبناه بطُرُق غير شرعية، ولم يكن من الصعب تدبُّر المسألة. سيعكف مولندورف العجوز على التحري عن الأمر غدًا، لكنه سيجد اللُّغز أصعب من أن يستطيع فهمه. هذه ميزة حكومةٍ تُديرها عصبة من المغامرين. ولكن ربَّاه، لم يكن لدينا أي مُتسع من الوقت يا ديك. لو كان راستا قد أمسك بك، أو لو كان الألمان كُلِّفوا باختطافك، لباءت مساعيك بالفشل التام. لقد عشتُ ساعاتٍ من القلق صباح اليوم.»
كانت المسألة أصعب من أن أفهمها. نظرت إلى بلنكيرون وهو يخلط أوراق اللعب خاصته بابتسامته الناعسة المألوفة، وساندي بملابسه التي كانت كملابس قاطع طريقٍ في مسرحية ميلودرامية، ووجهه الممشوق البُنيِّ كثمرة الجوز، وذراعَيه العاريتَين الموشومتَين بالكامل بحلقاتٍ قرمزية، وجِلد الثعلب المشدود بإحكام على جبينِه وأُذنيه. كان العالم من حولي لا يزال ككابوس، ولكن الحلم كان يزداد بهجةً مع الوقت. لم ينطق بيتر بكلمة واحدة، ولكني رأيتُ عينَيه مثقلتَين من كثرة الأفكار التي تلوح فيهما.
رفع بلنكيرون نفسه عن الأريكة، ومشى متهاديًا نحو خزانة.
قال: «لا بد أنكما جائعان يا أولاد. ما زالت أمعائي تُتعبني بشدة كالمعتاد، ولا آكل أكثر مما يأكله السنجاب. لكني خزَّنت كمياتٍ من الطعام؛ لأنني خمنتُ أنكما سترغبان في الْتهام بعض الأكل بعد أسفاركما.»
أخرجَ من الخزانة بضعًا من فطائر ستراسبورج، وجبنًا، ودجاجة باردة، ورغيفًا من الخبز، وثلاث زجاجات من الشمبانيا.
قال ساندي بانتشاء: «شمبانيا. وخالية من السكر، ومن نوع «هايدسيك» أيضًا! نحن محظوظان يا ديك يا صديقي.»
لم أستقبل وجبةً في حياتي بترحابٍ أشدَّ ممَّا استقبلتُ به هذه؛ فقد كنا نتضوَّر جوعًا في ذلك الفندق القذر قبل مجيئنا. ولكن كان الشعور بأنني طريد ما زال يُراودني، وسألتُ عمَّا إذا كان الباب مؤمَّنًا.
قال ساندي: «اطمئن. رجالي مُنتشرون على الدَّرَج وعند البوابة. وما دام زمام الأمور بحوزة جماعةٍ أخوية تركية، فيُمكنك أن تراهن على أنَّ الآخرين سيتحاشَون الاقتراب. لقد مُحِي ماضيك، وتلاشى تمامًا، وستبدأ صباح غدٍ بصفحة جديدة. بلنكيرون هو الرجل الذي يستحق الشكر على ذلك. كان مُتيقنًا تمامًا من أنك ستصل إلى هنا، لكنه أيضًا كان مُتيقنًا من أنك ستصِل متعجِّلًا ومن خلفك الكثير ممَّن يُلاحقونك. لذا اتخِذ التدابير اللازمة لتتملَّص منهم خلسةً وتبدأ بهوية جديدة.»
قال بلنكيرون: «اسمُك الآن هو ريتشارد هاناو، وُلدتَ في مدينة كليفلاند بولاية أوهايو، لأبوَين ألمانِيَّين. أحد ألمع مهندسي التعدين، وقُرَّة عين جوجنهايم. وصلتَ بعد ظُهر اليوم من كونستانتسا والتقيتك عند مرسى سفينة البريد والركاب والشحن. ستجد الملابس الخاصة بهذه الشخصية التنكُّرية في غرفة نومك المجاورة. لكني أظنُّ أنَّ كل هذا يُمكن أن ينتظر؛ لأنني مُتلهف للتطرُّق إلى مهمتنا. فلسنا هنا في رحلةٍ ترفيهية يا سيادة الميجور؛ لذا أرى أن نتجاهل المغامرات الشائقة التي تُشبه حكايات الروايات الرخيصة. صحيح أنني أتحرَّق شوقًا لسماعها، ولكن يُمكن تأجيلها. أريد أن أعرف ما أسفرت عنه تحرياتنا المشتركة.»
أعطاني أنا وبيتر سيجارين، وجلسنا على كرسِيَّين بمساند أمام نيران المدفأة. جلس ساندي القرفصاء عاقدًا ساقَيه على سجادة المدفأة، وأشعل غليونًا خشبيًّا قديمًا كريه الرائحة بعدما أخرجَه من جِرابٍ ما وسط الثياب الجلدية التي كانت تكسوه. وهكذا بدأت المحادثة التي لم تُفارق بالي طوال أربعة أسابيع محمومة.
قال بلنكيرون: «إذا كان لي أن أتجرأ وأبدأ، فهذا لأنني أظن أنَّ قصتي هي الأقصر. يجب أن أعترف لكم أيها السادة بأنني قد فشلت.»
أنزَل طرفَيْ فمِه عابسًا حتى بدا أشبَهَ بمزيجٍ بين فنانٍ كوميدي في قاعة موسيقية وطفلٍ مريض.
قال: «إذا كنتَ تبحث عن شيءٍ ما في قعر سياج شجري، فلن تُمشِّط الطريق راكبًا سيارةً سريعة. بل ولن تحتاج إطلاقًا إلى إلقاء نظرة علوية من طائرة. هذا المَثَل ينطبق على حالتي. لقد كنتُ محلقًا وسط السُّحُب، وكنت أمضي بأقصى سرعة على الطُّرُق السريعة، لكن ما كنتُ أريده كان قابعًا في مزراب الطريق طول الوقت، ولم أُلاحظه بطبيعة الحال … لقد اتبعتُ النهج الخاطئ يا سيادة الميجور. كنتُ أعلى وأرقى ممَّا ينبغي. كنت أطوف أوروبا بطريقةٍ استعراضية كأنني أحد أفراد سيرك بارانوم، وأُعايش جنرالات وأشخاصًا ذوي نفوذ ومكانة عالية. صحيح أنَّني جمعتُ كثيرًا من المعلومات، واكتشفت بعض الأشياء العابرة الشائقة للغاية بخصوص السياسة العُليا. لكنَّ ما كنتُ أبحث عنه لم يكن موجودًا في نطاقي؛ لأنَّ أولئك الذين كانوا يعرفونه ما كانوا ليُفصحوا عنه. ففي مثل هذا المجتمع، لا يسكرون ويثرثرون بعد كأسهم العاشرة. لذا أظن أنني لا أستطيع تقديم أي شيءٍ يُسهِم في إراحة بال السير والتر بوليفانت، باستثناء الجزم بأنه مُحقٌّ تمامًا في ظنونه. أجل يا سيد، لقد أصاب كبد الحقيقة. ثمة اقتراحٌ إعجازي هائل يُتداول في تلك المناطق، لكنَّ المُروِّجين له يتكتمون عليه فيما بينهم. لا يضمُّون أحدًا إليهم منذ البداية إلَّا للضرورة القصوى.»
سكت بلنكيرون ليُشعل سيجارًا جديدًا. كان أنحفَ ممَّا كان حين غادر لندن، وصارت لدَيه انتفاخاتٌ أسفل عينَيه. أتصور أنَّ رحلته لم تكن مُرفهة بقدرِ ما ادَّعى. أضاف: اكتشفت شيئًا واحدًا؛ أنَّ آخرَ حلمٍ ستتخلَّى عنه ألمانيا هو حلم السيطرة على الشرق الأدنى. وهذا ما لا يأخذه رجال دولتِكم في حسبانهم بالقدْر الكافي. إنها مُستعدة للتخلِّي عن بلجيكا وإقليم الألزاس واللورين وبولندا، ولكن ربَّاه! لن تتخلى أبدًا عن الطريق المؤدي إلى بلاد الرافدَين إلَّا إذا أمسكتموها من حلقومِها وجعلتموها تُفلِته رغمًا عنها. السير والتر مواطن ذو بصيرة قوية جدًّا، ويرى حقيقة الموقف بوضوحٍ تام. في أسوأ الأحوال، سيتخلَّى القيصر عن الكثير من المناطق التي يسيطر عليها في أوروبا، وسيبدو ذلك كأنه انتصار كبير للحلفاء، لكنه لن يُهزَم إذا حافَظ على الطريق المؤدي إلى الشرق آمِنًا في قبضته. ألمانيا كالعقرب؛ تلدغ بذيلها، وذلك الذيل يمتدُّ بعيدًا في أعماق آسيا.
«أدركت ذلك بوضوح، واكتشفت أيضًا أنَّ الحفاظ على سلامة هذا الذيل لن يكون سهلًا عليها. تركيا تؤرِّقها قليلًا، كما ستكتشفون قريبًا. لكنَّ ألمانيا تظن أنها تستطيع تدبُّر أمر تركيا، ولن أقول إنها لا تستطيع ذلك. هذا مرهون بالأوراق التي تُمسكها، وهي تظنُّها رابحة. حاولتُ أن أعرف ماهية هذه الأوراق، لكنهم لم يُعطوني شيئًا سوى هراء مُضلل. اضطُررتُ إلى التظاهر بأنني مُقتنع؛ لأنَّ وضع جون إس لم يكن قويًّا إلى حدٍّ يسمح له بتخطِّي حدود الأدب واللياقة. حين كنتُ أسأل أحد المسئولين، كان يبدو حكيمًا ويتحدث عن قوة الأسلحة الألمانية والتنظيم الألماني وعمل الأركان العسكرية الألمانية. اعتدتُ أن أهزَّ رأسي بالموافقة وأُبدي حماسي لهذه الاستعراضات المُثيرة، لكنَّ هذا كلَّه كان مجرد مداهنة. إن لدَيهم حيلة في جعبتهم، هذا ما أعرفه يقينًا، لكني لا أستطيع إطلاقًا أن أعرف ماهية هذه الحيلة بالضبط. أدعو الربَّ أن يكون ذكاؤكم قد فاق ذكائي يا أولاد.»
كانت نبرته حزينة للغاية، وكنتُ من الوضاعة بما جعلني أشعر بشيء من السعادة. فقد كان هو المحترف الأوفر حظًّا. ارتأيتُ أنها ستكون مزحةً مضحكة إذا اتضح أنَّ الهاوِيَ قد نجح فيما فشل فيه الخبير.
نظرت إلى ساندي. ملأ غليونه مرةً أخرى، وشدَّ قلنسوته الجِلدية إلى الوراء كاشفًا عن حاجبَيه. ولأنَّ شعره كان طويلًا أشعث، ووجهه كان عالِيَ العظم الوجني، وحاجبَيه كانا مصبوغَين؛ فقد بدا أشبَهَ بمُلَّا مجنون.
قال: ذهبت مباشرة إلى سميرنا. لم يكن الأمر صعبًا لأنني، كما تعرف، قد أقمتُ علاقات كثيرة مع عدة أشخاص في رحلاتي السابقة. وصلت إلى اليونان على أنني مُرابٍ من الفيوم، ولكن كان لديَّ هناك أصدقاء يُعتمد عليهم، وفي مساء اليوم نفسِه كنتُ غجريًّا تركيًّا، عضوًا في أشهر أخويةٍ في غرب آسيا. كنت عضوًا سابقًا فيها منذ وقت طويل، وأنا وزعيمها إخوة بالدم؛ لذا تقمَّصت الدور فورًا بكل سهولة. لكني اكتشفتُ أنَّ أخوية «رفاق الأوقات الوردية» لم تعُد كما كنت أعرفها في عام ١٩١٠. فآنذاك كانت مؤيدة تمامًا لحركة «الشباب الأتراك» والإصلاح، لكنها صارت تتوق إلى النظام القديم، وأصبحت الأمل الأخير للمذهب التقليدي المُحافظ. لم تعُد تؤيد أنور وأصدقاءه، وليست مسرورةً بجمال الألمان الفاتن. وجدتُها تدافع عن الإسلام والتقاليد القديمة، ويُمكن وصفُها بأنها تجمُّع قومي مُحافِظ. لكنها تحظى بنفوذ استثنائي في الولايات التركية، ولا يجرؤ أنور ولا طلعت على التدخُّل في شئونها. الشيء الخطير فيها أنها لم تكن تقول أو تفعل شيئًا حسبما يبدو. بل كانت تكتفي بتحيُّن لحظتها المناسبة ومُراقبة الوضع.
لك أن تتخيَّل أنَّ مثل هذه المجموعة بالذات كانت الأنسب لغرضي. فقد كنتُ على درايةٍ قديمة بحِيَلها وعاداتها المألوفة؛ لأنها رغم كل تمسُّكها بالتعاليم الدينية المحافظة كانت تُمارس السحر كثيرًا، وتدين بنصفِ قوتها للجوِّ الغامض الخارق المُحيط بها. فهؤلاء «الرفاق» كانوا يستطيعون انتزاع قلوب الأتراك العادِيِّين برقصاتهم. وقد رأيتَ بنفسك قليلًا من إحدى رقصاتنا بعد ظُهر اليوم يا ديك، كانت رائعة، أليس كذلك؟ كانوا يستطيعون الذهاب إلى أيِّ مكانٍ دون أن تُوجَّه إليهم أي أسئلة. كانوا يعرفون ما يُفكِّر فيه الرجل العادي؛ لأنهم كانوا أفضل شُعبة استخباراتية في الإمبراطورية العثمانية، أفضل بكثيرٍ من أفراد «خُفية» أنور. وكانوا محبوبين أيضًا؛ لأنهم لم يركعوا قط أمام النمسا، أي: الألمان الذين يمتصُّون دماء الإمبراطورية العثمانية من أجل أهدافهم الخاصة. كان من الممكن أن يدفع أعضاء اللجنة أو أسيادهم الألمان حياتهم ثمنًا لمحاولة المِساس بنا؛ لأننا كنَّا مُلتصقين بعضنا ببعض كالعلقيَّات، ولم نكن مُعتادين التهاون في أي تهديدٍ يوجَّه إلينا مهما كان تافهًا.
حسنًا، لك أن تتخيَّل أنني كنت أذهب إلى حيث أريد بكل سهولة. فثيابي وكلمة المرور السرية كانت تسمح لي بدخول أي مكان. سافرتُ من سميرنا بخط السكة الحديدية الجديد إلى باندرمة الواقعة على ساحل بحر مرمرة، ووصلتُ إلى هناك قبل عيد الميلاد مباشرة. كان ذلك بعد إخلاء منطقتَي أنزاك وسوفلا، لكنني سمعتُ أنَّ القصف المدفعي يشتد في رأس سد البحر. شرعتُ في العبور من باندرمة إلى تراقيا في باخرةٍ ساحلية. وعندئذٍ حدث شيء مُضحك غير عادي، حين هوجمت بطوربيد.
لا بد أنَّ هذه تقريبًا كانت آخِر محاولة لغواصة بريطانية في تلك المياه. لكنها أصابتنا بمنتهى الدقة. أمهلتنا عشر دقائق لنلجأ إلى القوارب، ثم أغرقت الباخرة القديمة المنكوبة وعلى متنِها حمولة قيِّمة من قذائف عيار ست بوصات في قاع المياه. لم يكن على متنها الكثير من الركاب؛ لذا كان من السهل أن نصل إلى البر في قوارب السفينة. بقيت الغواصة على السطح تُراقبنا ونحن نولول ونندب بالطريقة الشرقية الأصلية، ورأيتُ الربان من مسافةٍ قريبة جدًّا في برج قيادة الغواصة. خمِّن، تُرى مَن كان؟ تومي إليوت، جاري الذي يسكن على جانب التلَّة المقابل لي في موطننا.
فاجأتُ تومي أشدَّ مفاجأة في حياته. فبينما كنا نمرُّ جواره باحتكاكٍ بسيط مع غواصته، بدأت أعزف لحن «فلاورز أوف ذا فورست» — النسخة القديمة منها — على الآلة الوترية العتيقة التي كنتُ أحمِلها، وغنيتُ كلماتها بكل وضوح. جحظت عينا تومي، وصَرَخ فيَّ بالإنجليزية ليعرف مَن أنا بحقِّ السماء. أجبتُه بأقوى لهجة اسكتلندية كانت عصيةً تمامًا على فهمِ أي شخصٍ في الغواصة أو في قاربنا. صحتُ قائلًا: «يا سيد تومي، لماذا ترمي سمكريًّا متجولًا محترمًا في بحرٍ بارد؟ سأعطيك جزاءك المُستحَق على هذه الفعلة الوضيعة حين ألتقيك على قمة تلةِ كيردون في المرة القادمة.»
عندئذٍ عرفني تومي في لحظة. ضحك حتى بكى، وبينما كنا نبتعد بالقارب عن غواصته، صَرَخ فيَّ باللهجة نفسها قائلًا: «تسلُّق التلال المنحدرة يحتاج إلى قلبٍ شجاع.» أرجو من الربِّ أن يكون تومي حكيمًا ولا يُخبر والدي، وإلَّا فسيُصاب الرجل العجوز بنوبة قلبية. فهو لم يستحسن ترحالاتي المتسكعة قط، ويعتقد أنني مستقر بأمانٍ في الكتيبة.
حسنًا، اختصارًا لقصة طويلة، وصلتُ إلى القسطنطينية، وسرعان ما تمكنتُ من الاتصال ببلنكيرون. والباقي أنت تعرفه. والآن لنتطرق إلى المهمة. كنتُ محظوظًا نوعًا ما، ولكن ليس أكثر من ذلك؛ لأنني لم أتوصَّل إلى الحقيقة الكاملة إطلاقًا. لكنني حللتُ أول ألغاز هاري بوليفانت. فقد عرفت معنى «قصر الدين».
كان السير والتر مُحقًّا، كما أخبرنا بلنكيرون. ثمة تهييج شديد للمسلمين، شيءٌ ما يتحرك على وجه المياه. لا يُخفون ذلك. فتلك الصحوات الدينية تتكرَّرُ كل فترة زمنية، وقد حان موعد إحداها الآن تقريبًا. وهم واضحون تمامًا بخصوص تفاصيلها. يقولون إنَّ نبيًّا من سلالة النبي مُحمد قد ظهر، وسيُعيد إلى الخلافة أمجادها القديمة، وإلى الإسلام نقاءه القديم. أقواله منتشرة في كل مكانٍ في العالم الإسلامي. وكل المؤمنين الحنفاء المُتشدِّدين يحفظونها عن ظهر قلب. ولهذا السبب يتحملون الفقر المُدقع والضرائب الباهظة غير المعقولة، ولهذا السبب أيضًا يَنضمُّ شبانهم بأعداد غفيرة إلى الجيوش، ويموتون في جاليبولي وجنوب القوقاز دون تذمُّر. يعتقدون أنهم على أعتاب خلاصٍ عظيم.
أول شيء اكتشفتُه أنَّ حركة «الشبان الأتراك» ليس لها علاقة بذلك. فهم غير محبوبين وغير متمسكين بتعاليم الإسلام التقليدية، وليسوا أتراكًا حقيقيين. لكنَّ ألمانيا لها علاقة. لا أعرف كيف، لكني رأيتُ بوضوح شديد أنَّ ثمة تلميحات مستترة إلى أنَّ ألمانيا شريكة في هذه الحركة. وهذا الاعتقاد هو الذي يحافظ على استمرار النظام الحاكم الحالي. فالمواطن التركي العادي يكره اللجنة، لكنه يحمل توقعات عجيبة ضالة تجعله ينتظر خيرًا من ألمانيا. لذا ليس صحيحًا أنَّ أنور والبقية يتحملون مسئولية نفوذ الألمان المكروهين، بل الألمان هم من يتحملون مسئولية نفوذ اللجنة المكروهة. والورقة التي تكتسب بها ألمانيا نفوذها غير الشرعي هي أنَّها شريكة في قدوم المُخلِّص الجديد، لا أكثر.
إنهم يتحدثون عن تلك المسألة بصراحة تامة. وتُسمَّى «كعبة الحرية». أمَّا النبي نفسه، فيُعرَف باسم «زمرد»، ووزراؤه الأربعة أيضًا مُسمَّون بأسماء جواهر كريمة؛ زفير وياقوت ولؤلؤ وتوباز. ستسمعون أسماءهم كثيرًا في الأحاديث المتداولة في المدن والقرى بقدرِ ما تسمعون أسماء الجنرالات في إنجلترا. ولكن لم يكن أحد يعرف مكان زمرد أو متى سيكشف عن نفسه، مع أنَّ رسائله كانت تصِل كل أسبوع إلى المؤمنِين به. كل ما استطعتُ معرفته أنه وأتباعه قادمون من الغرب.
«لعلكم تتساءلون الآن، ماذا عن «قصر الدين»؟ لقد وضعني ذلك في حيرةٍ رهيبة لأنني لم أجد أحدًا يستخدم هذا المصطلح. بيت الرب! مصطلح عادي جدًّا، تمامًا كما تجد طائفةً جديدة في إنجلترا تُطلق على نفسها اسم «كنيسة المسيح». ولكن بدا أن لا أحد يستخدمه.»
«لكني بمرور الوقت اكتشفتُ وجود دائرة داخلية ودائرة خارجية في هذا اللغز. فكل عقيدة لها جانب خفي يُحجَب عن عموم الناس. وقد صادفتُ هذا الجانب في القسطنطينية. توجَد مسرحية تركية شهيرة جدًّا تُسمَّى «قصر الدين»؛ واحدة من تلك المسرحيات القديمة التي تسرد معجزات القديسين بأسلوبٍ شبه كوميدي، ولها مغزًى مجازي، ويُطلِقون عليها في تركيا «أورتا أويون» (أي: المسرحيات التي تؤدَّى وسط دائرة من الجمهور)، وتستغرق قراءتها أسبوعًا. تحكي هذه المسرحية عن قدوم نبي، وقد وجدتُ أنَّ النخبة المختارة من المسلمين يتحدثون عن ذلك الوحي الجديد بالمُصطلحات الواردة في المسرحية. العجيب أنَّ النبي في تلك الحكاية يلقى عونًا من إحدى النساء القليلات اللواتي لهن شأن كبير في سِيَر القديسين في الإسلام. هذا هو مغزى الحكاية، وجزء منها يحمل طابعًا فكاهيًّا، لكنها أساسًا لغزٌ ديني. ووجدت أيضًا أنَّ النبي فيها لا يُدعى زمرد.»
قلت: «أعرف. يُدعى «ذا العباءة الخضراء».»
هبَّ ساندي واقفًا من فوره، تاركًا غليونه يسقط في المدفأة.
صاح قائلًا: «كيف عرفت هذا بحقِّ السماء؟»
عندئذٍ حكيتُ لهم عن شتوم وجاوديان والكلمات الهامسة التي كانا يريدان ألَّا أسمعها. كان بلنكيرون يرمقني بنظرةٍ مُحدِّقة، على غير المعتاد من شخص دائمًا ما كان يبدو شارد العينَين، وكان ساندي قد أخذ يذرع الغرفة جيئة وذهابًا.
قال: «ألمانيا في صميم الخطة إذن. كان هذا اعتقادي منذ البداية. إذا أردنا العثور على «كعبة الحرية»، فلا جدوى من التنقيب عنها بين أفراد «اللجنة» أو في الولايات التركية. السِّرُّ في ألمانيا. كان ينبغي ألَّا تعبر الدانوب يا ديك.»
قلت: «هذا ما أخشاه إلى حدٍّ ما. ولكن على الجانب الآخر، من الواضح أنَّ ذلك السِّرَّ آتٍ إلى الشرق حتمًا، عاجلًا لا آجلًا. فأنا أفترض أنهم لا يستطيعون تحمُّل إطالة التأخير قبل تسليم البضاعة. إذا استطعنا البقاء هنا، فلا بد أننا سنجد طرف الخيط … لديَّ دليل آخر. لقد حللتُ لغزَ هاري بوليفانت الثالثَ.»
كانت عينا ساندي تلتمِعان بشدة، ووجدتُ نفسي أمام مستمعين مُتلهِّفين.
قلت: «هل قلت إنَّ حكاية قصر الدين فيها امرأة حليفة للنبي؟»
قال ساندي: «نعم، ماذا في ذلك؟»
«لا شيء، باستثناء أنَّ الأمر نفسه ينطبق على ذي العباءة الخضراء. يُمكنني أن أعطيكم اسمَها.»
أحضرتُ قطعةً من الورق وقلم رصاص من مكتب بلنكيرون وناولتهما إلى ساندي.
«اكتب الكلمة الثالثة التي قالها لنا هاري بوليفانت.»
عندئذٍ أخبرتهم بالاسم الآخر الذي تحدث عنه شتوم وجاوديان. وحكيتُ لهم عن اكتشافي الذي توصلتُ إليه وأنا مُستلقٍ في كوخ الحطاب.
قال ساندي برقَّة: «الرحمة على روح هاري العزيز الطيب. لقد كان شابًّا في غاية الذكاء. هيلدا فون آينم؟ مَن هي وأين مكانها؟ لأننا إذا وجدناها، فقد أنجزنا المهمة.»
عندئذٍ تحدث بلنكيرون. قال: «أظن أنني أستطيع تنويركم بخصوص هذا أيها السادة. فما رأيتها إلا أمس. إنها سيدة فائقة الجمال. وللمصادفة أيضًا، إنها مالكة هذا المنزل.»
بدأنا أنا وساندي نضحك. فقد كان من المُضحك للغاية أننا ارتحلنا مُتخبطين عبر أوروبا، وحططنا الرحال في مقرِّ اللغز الذي انطلقنا لحلِّه تحديدًا، دون أي مكانٍ آخر.
لكن بلنكيرون لم يضحك. كانت ملامحه قد اكتست جدية شديدة عند ذِكر هيلدا فون آينم، وتفاجأت من منظر وجهه، فتوقفتُ عن الضحك.
قال: «لا يُعجبني ذلك أيها السادة. ليتكما ذكرتما أي اسمٍ آخر على أرض الرب. لم أُمضِ وقتًا طويلًا في هذه المدينة، لكنه كان كافيًا لتقييم القادة السياسيين المُختلفين. ليسوا مُبهرين للدرجة. أظن أنهم لن يصمدوا في وجه ما يُمكن أن نُريهم إيَّاه في الولايات المتحدة. لكني التقيتُ السيدة فون آينم، وتلك السيدة مختلفة تمامًا. من يفهمها يحتاج إلى ذكاءٍ خارق بعض الشيء.»
سألته: «مَن هي؟»
«حسنًا، هذا بالتحديد ما لا أستطيع أن أعرفه. كانت مُنقِّبة عظيمة عن الآثار في أطلال البابليِّين والحيثيين، وتزوجت دبلوماسيًّا انتقل إلى الأمجاد السماوية قبل ثلاث سنوات. المهم ليس ماضيها، بل حاضرها، وهي امرأة ذكية للغاية.»
لم يُحبطني إجلال بلنكيرون لها. بل شعرت بأنَّ مهمتنا قد انحصرت أخيرًا في نطاق واضح نوعًا ما؛ لأنني كنتُ قد كرهت التخبط العشوائي في الظلام. سألته أين تعيش.
قال بلنكيرون: «لا أعرف. لن تجد أناسًا مُتلهِّفين لإشباع فضولك الطبيعي بشأن السيدة فون آينم بلا مُبرر.»
قال ساندي: «أستطيع معرفة ذلك. هذه ميزةُ أن يحظى المرء بعصابة كعصابتي. أمَّا الآن، فيجب أن أغادر؛ لأنَّ يومَ عملي لم ينتهِ بعد. ديك، يجب أن تخلد أنت وبيتر إلى الفراش حالًا.»
سألته بدهشة: «لماذا؟» كان ساندي يتحدث بنبرة طبيبٍ ناصح.
«لأنني أريد ثيابكما؛ تلك التي على جسديكما الآن. سآخُذها معي وأنا أُغادر، ولن ترياها مجددًا.»
قلت: «لديك ذوق غريب في التذكارات.»
«بل قل إنها الشرطة التركية. التيار في البوسفور قوي جدًّا، وهذه البقايا المُحزنة التي تبقَّت من رجُلَين هولنديين ضلَّا طريقهما ستجرفها المياه غدًا إلى قُرب سراي بورنو. ففي هذه اللعبة يجب أن يُسدَل الستار بدقةٍ وإحكام بعد نهاية كل مشهد، إذا كنت لا تريد متاعب لاحِقة جراء أي خيوطٍ تُترك بلا إحكام.»