إحراج أثناء تبديل الثياب
كنتُ مبتلًّا حتى النخاع، وبينما خرج بيتر ليبحث لنا عن عشاء، ذهبت إلى غرفتي لأبدل ثيابي. دلكتُ جسدي بالمنشفة بعد تجفيفه، ثم ارتديتُ منامتي لأمارس بعض تمارين رفع الأثقال بواسطة كرسيَّين؛ لأنَّ تلك الرحلة الطويلة تحت الأمطار قد أصابتني بتصلُّب في عضلات ذراعي وكتفي. كانت البيجاما رديئة، وكانت من سترة وبنطال، بلون أزرق بسيط نهبها بلنكيرون من خزانة ثيابي في لندن. أمَّا عندما كنتُ متنكرًا في شخصية كورنيليس براندت، فكنت أرتدي رداءَ نومٍ من قماش الفلانيل.
كانت غرفة نومي مفتوحةً على غرفة الجلوس، وبينما كنتُ منشغلًا بتماريني الرياضية، سمعتُ الباب يُفتَح. ظننتُه بلنكيرون في البداية، لكنَّ سرعة الخطوات كانت مختلفةً عن مشية بلنكيرون البطيئة المتأنِّية. كنتُ تاركًا الضوء مُنارًا هناك، وشعرتُ بأنَّ الزائر، أيًّا كانت هويته، قد تعامل كأنَّهُ في منزله. لذا سرعان ما ارتديتُ مِبذلًا أخضر أعارني بلنكيرون إياه، وانطلقتُ لأتحقق من المسألة.
كان صديقي راستا واقفًا بجوار المنضدة بعدما وضع عليها ظرفًا. التفت عند دخولي وألقى التحية.
قال: «جئتُ من عند وزير الحرب يا سيدي، وأحضرت إليك جوازات سفركم من أجل غد. ستسافر ﺑ…» عندئذٍ تلاشى صوته، وضاقت عيناه السوداوان بشدة. فقد رأى شيئًا أفقَده صوابه.
في تلك اللحظة رأيتُ أنا أيضًا ما رآه. كانت توجَد مرآة على الحائط الواقع خلفه، ولأنني كنتُ مواجهًا له، رأيت انعكاس صورتي فيها. كانت صورةً طبق الأصل لمنظر مهندس باخرة الدانوب؛ بنفس البنطال الجينز الأزرق والعباءة الخضراء المصنوعة من صوف اللودن، وكل شيء. وتلك المصادفة السيئة اللعينة المتجسدة في ثيابي قد فضَحَت له هويةً كانت ستبقى مدفونةً في قاع البوسفور إلى الأبد لولا ذلك.
لا بد أن أعترف بأنَّ راستا كان رجلًا سريع التصرُّف. ففي لمح البصر وجدتُه التفَّ مسرعًا إلى الجانب الآخر من المنضدة ليَحُول بيني وبين الباب؛ حيث وقف يرمقني بنظراتٍ شريرة.
بحلول هذا الوقت كنتُ عند المنضدة ومددتُ يدي لآخُذ الظرف. كان أملي الوحيد في اللامبالاة.
قلت: «اجلس يا سيدي، وتناول شرابًا. فتلك ليلة موحلة ليست مناسبة للتجوُّل بالخارج.»
قال: «لا يا سيد براندت، شكرًا لك. يُمكنك أن تحرق جوازات السفر هذه لأنها لن تُستخدَم.»
صحتُ قائلًا: «ما خطبك بحق السماء؟ لقد أخطأت العنوان يا صاح. اسمي هاناو — ريتشارد هاناو — وشريكي السيد جون إس بلنكيرون. سيكون هنا حالًا. لم أعرف أي شخصٍ باسم براندت قط، باستثناء بائع تبغ في مدينة دنفر.»
قال بسخرية: «ألم تذهب إلى روسجق من قبل؟»
«لا على حدِّ علمي. لكن اسمح لي يا سيد بأن أسألك عن اسمِك وسبب وجودك هنا. فأنا لم أعتد بتاتًا أن يُناديني أحد باسمٍ هولندي أو يُشكك في صدق كلمةٍ من كلامي. في بلدي نعتبر هذا تصرفًا غير مُهذب بين الرجال المُحترمين.»
رأيت أن حيلتي بدأت تؤثر فيه. فقد بدأت نظرته الثابتة ترتعش، وعندما تكلم كانت نبرتُه أكثر تأدبًا.
قال: «أستميحك عذرًا لو كنت مخطئًا يا سيدي، لكنك نسخة طبق الأصل من رجل كان في روسجق قبل أسبوع، رجل تسعى الحكومة الإمبراطورية حثيثًا إلى القبض عليه.»
«قبل أسبوع كنتُ أترنَّح في قاربٍ صغير قذر قادم من كونستانتسا. لم أَزُر بلدة روسجق قطُّ إلا لو اعتبرناها موجودة وسط البحر الأسود. أظن أنك أخطأت القصد. آه بالمناسبة، كنتُ أنتظر جوازات سفر. هل أتيتَ من طرفِ الداماد أنور؟»
قال: «أتشرف بهذا.»
«حسنًا، أنور صديق مُقرب جدًّا لي. إنه أنبغ مواطن صادفتُه في هذا الجانب من المُحيط الأطلسي.»
كان الرجل يهدأ، وكانت شكوكه ستزول في غضون دقيقة. ولكن في تلك اللحظة، ولسوء حظي اللعين، دخل بيتر بصينيةِ أطباق. لم يلاحظ راستا، وسار مباشرة إلى المنضدة وهوى بحملِه عليها. كان التركي قد تنحى جانبًا عند دخول بيتر، ورأيتُ من نظرة عينَيه أن شكوكه قد تأكدت. فقد بدا مظهر بيتر، الذي كان مجردًا من ثيابه باستثناء قميصه وبنطال ركوب الخيل، بدا مُطابقًا تمامًا لرفيقي القصير الرثِّ الذي حضر معي لقاء روسجق.
لطالما كنتُ متيقنًا من شجاعة راستا. فقد قفز إلى الباب، وفي لمح البصر أخرج مسدسًا وصوَّبه إلى رأسي.
صاح قائلًا: «يا للحظ السعيد. العصفوران بحجرٍ واحد.» كانت يده على مزلاج الباب، وكان فمُه مفتوحًا ليصرخ. لذا خمنتُ أنَّ معه جنديًّا مُساعدًا ينتظِره على الدَّرج.
كان لدَيه ما يُسمَّى بالأفضلية الاستراتيجية؛ لأنه كان عند الباب، في حين كنتُ أنا عند الطرف الآخر من المنضدة، وكان بيتر عند جانبها بعيدًا عنه بياردتَين على الأقل. كان الطريق خاليًا أمامه، ولم يكن أيٌّ منا مُسلحًا. خطوتُ خطوة يائسة إلى الأمام وأنا لا أحمل في بالي أيَّ مقصدٍ معين؛ لأنني لم أكن أرى أي بصيصٍ من الأمل. لكن بيتر سبقني.
كان لا يزال مُمسكًا بالصينية، وفي تلك اللحظة، رمى الصينية بمحتوياتها نحو رأس راستا، كما يرمي الصبي حجرًا في بِركةٍ فينزلق على سطحها. كان الرجل يفتح الباب بإحدى يدَيه، في حين كان يصوب المسدس إليَّ بالأخرى، وأصابته الصينية في وجهه بدقة. انطلقت طلقة من المسدس، واخترقت الرصاصة الصينية، لكن صوت تحطم الأكواب الزجاجية والأواني الفخارية طغى على ضجيج الرصاصة. وفي الثانية التالية وجدتُ بيتر قد انتزع المُسدس من يد راستا وقبض على حلقومه بيده.
إنَّ شابًّا تركيًّا مُتغندرًا، نشأ في باريس وصُقِل في برلين، قد يكون شجاعًا كالأسد، لكنه لا يستطيع الصمود في شجارٍ عشوائي أمام صيادٍ من سهوب جنوب أفريقيا النائية، حتى وإن كان أكبر من ضِعف عمره. لم يكن بيتر بحاجةٍ إلى مساعدتي. فقد كانت لديه طريقته الخاصة، التي تعلَّمها في مدرسة الحياة البرية، لضربِ خصمه حتى يُفقِده الوعي. كمَّمه ببراعةٍ وإتقان، وكتَّفه بحزامه الشخصي، وحزامَين من صندوق في غرفة نومي.
قال كما لو كان ما فعله عاديًّا تمامًا: «هذا الرجل أخطر من أن نتركه يرحل. سيظلُّ ساكتًا الآن ريثما يتسنى لنا بعض الوقت لندبر خطة.»
في تلك اللحظة طُرق الباب. كان هذا مُشابهًا لما يحدث في المسرحيات الميلودرامية، فور انتهاء الشرير من ارتكاب جريمته بإتقان. المعتاد عندئذٍ أن يشحب بشدة، ويُحدق حوله بنظراتٍ مفعمة بتأنيب الضمير. لكن هذا لم يكن دأب بيتر.
قال بهدوء: «من الأفضل أن نُرتب المكان تحسبًا لاستقبال ضيوف.»
كانت في الغرفة واحدةٌ من تلك الخزانات الألمانية الكبيرة المصنوعة من خشب البلوط مسنودةً إلى الحائط، ولا بد أنهم أدخلوها الغرفة على أجزاء لأنها ما كانت لتمرَّ عبر الباب كاملةً. كانت في تلك اللحظة فارغة إلَّا من صندوق قبعات بلنكيرون. وجدتُ بيتر يضع فيها راستا الغائب عن الوعي، ثم أوصدها بالمفتاح. وقال: «توجَد في الأعلى فتحاتُ تهويةٍ كافية لمنع اختناقه.» ثم فتح باب الغرفة. وجدتُ في الخارج قوَّاسًا ضخمًا مهيبًا يرتدي ثوبًا ملونًا بالأزرق والفضي. ألقى التحية وقدَّم لي بطاقة مكتوبًا عليها بالقلم الرصاص «هيلدا فون آينم».
كنت سألتمس بعض الوقت لأُغير ثيابي، لكن السيدة كانت خلفه. رأيتُ الطرحة السوداء وفرو السمور الغالي. اختفى بيتر في غرفة نومي وتركني لأستقبل ضيفتي في غرفة مليئة بقطع الزجاج المكسور ورجل فاقد الوعي في الخزانة.
أحيانًا ما يصادف المرء مواقف جنونية تفوق قدراته بشدة إلى حدِّ أنها تشحذ همته لمواجهتها. كدتُ أضحك عندما خطَت تلك السيدة الراقية المهيبة فوق عتبتي.
قلتُ بانحناءةٍ أبرَزَت مِبذلي القديم المُخجِل ومنامتي الشنيعة: «سيدتي. تجدينني الآن في وضع غير مُواتٍ. فقد عدتُ إلى المنزل مبتلًّا بشدة من رحلتي بالحصان، وكنتُ أُغيِّر ثيابي. أسقط خادمي للتو صينيةً من الأواني الفخارية، ويؤسِفني أنَّ هذه الغرفة ليست مكانًا ملائمًا لسيدة راقية. اسمحي لي بثلاث دقائق لأهندم نفسي.»
أمالت رأسها بجدية وجلست على كرسي بجوار النار. دخلتُ غرفة نومي، وكما توقعت، وجدتُ بيتر مختبئًا عند الباب الآخر. أمرته بنبرة مُهتاجة بأن يُخرِج مساعد راستا من المكان بأيِّ حجة، ويُخبره بأنَّ سيدَه سيعود لاحقًا. ثم ارتديت ثيابًا لائقة بسرعة، وخرجتُ لأجد ضيفتي شاردةً في تفكير عميق.
استفاقت مفزوعةً من شرودها عند دخولي، ووقفَت على سجادة المدفأة، في حين انزلق رداؤها الطويل المصنوع من الفرو عن جسدِها الرشيق.
قالت: «أنحن وحدنا؟ ألن يُقاطعنا أحد؟»
ثم جاءني إلهام. تذكرتُ أنَّ السيدة فون آينم، وفقًا لما قاله بلنكيرون، لم تكن على وفاقٍ مع «الشبان الأتراك»، وأخبرني حدسٌ غريب بأنَّها يستحيل أن تستسيغ شخصًا مثل راستا. لذا قلت الحقيقة.
«يجب أن أُخبرك بوجود ضيفٍ آخر هنا الليلة. أعتقد أنه لا يشعر بالراحة إطلاقًا. فهو الآن مُقيد على رفٍّ في تلك الخزانة.»
لم تكلف نفسها عناء الالتفات إلى الخزانة.
سألتني بهدوء: «أهو ميت؟»
قلت: «إطلاقًا، لكنه مُقيد بإحكام؛ لذا لا يستطيع الكلام، وأظن أنه لا يستطيع سماع الكثير.»
سألتني وهي تشير إلى الظرف الموضوع على الطاولة، والمَمهور بالطابع الأزرق الكبير الخاص بوزارة الحرب: «أهو الرجل الذي أحضر إليك هذا؟»
قلت: «هو نفسه. لستُ متيقنًا تمامًا من اسمه، لكني أظن أنهم يدعونه راستا.»
لم تبتسِم إطلاقًا، لكن راودني شعور بأنَّ هذا الخبر قد أسعدها.
سألتني: «هل ضايقك؟»
«نعم. ضايقني بعض الشيء. إنه مُتعجرف قليلًا، وأرى أنَّ قضاء بضع ساعات على الرفِّ سيُلقِّنه درسًا مفيدًا.»
قالت: «إنه رجل قوي نافذ، أحد أوغاد أنور الأشقياء. لقد جلبتَ لنفسك عدوًّا خطِرًا.»
قلت: «لا أُقيِّمه في سوق الرجال حتى بِسنتٍ واحد»، برغم شعوري الموحش بأنَّ قيمته ربما تُكلفني حياتي.
قالت بنظراتٍ جادة: «ربما تكون مُحقًّا. ففي تلك الأيام لا يوجَد عدو خطر على رجلٍ جريء. لقد أتيتُ الليلة يا سيد هاناو لأُحادثك في عمل، كما يقولون في بلدك. سمعتُ عنك خيرًا، واليوم رأيتك. ربما أحتاج إليك، وبالتأكيد ستحتاج إليَّ …»
سكتت فجأة، ووقعت عيناها الغريبتان القويتان على وجهي مجددًا. كانتا كضوءٍ كاشف متَّقد يُظهِر كل خبايا الروح وصدوعها. شعرتُ بأنني سأجد صعوبةً بالغة في تقمُّص أي دورٍ تحت تلك النظرة الثابتة الجبارة. صحيح أنها لم تستطع تنويمي مغناطيسيًّا، لكنها جردتني من ثوبي التنكُّري، وخلعَت عني قناعي.
سألتني: «ما غرضك من المجيء إلى هنا؟ لستَ كالأمريكي البدين بلنكيرون؛ مُحبًّا للسُّلطة الرخيصة، عابدًا للعلم العقيم. وجهك يحمل شيئًا أكبر من ذلك. صحيح أنك منحاز إلى صفِّنا، لكنك لستَ واحدًا من الألمان بتعطُّشهم لتشييد إمبراطورية على الطراز الروكوكي. بل أتيتَ من أمريكا، أرض الحماقات المُغلَّفة بورعٍ زائف، حيث يعبد الرجال الذهب والكلام. لذا أسألك، ما غرضُك من المجيء إلى هنا؟»
أثناء حديثها تخيلتُ أمامي كائنًا أشبهَ بأحد تلك الآلهة القديمة التي تنظر إلى الطبيعة البشرية من ارتفاعٍ شاهق، كائنًا مفعمًا بالاحتقار وجمود المشاعر، لكن له عَظَمته الخاصة. أشعل ذلك مخيلتي، وأجبتُ بالكلام الذي فكرتُ فيه مليًّا من قبل حين كنت أحاول أن أشرح لنفسي كيف يُمكن تفنيد قضية «دول الحلفاء».
قلت: «سأُخبرك يا سيدتي. أنا رجلٌ سلكتُ دربًا من دروب العلم، لكن ذلك الدرب كان مليئًا بالمغامرة، وقد خُضتُ غِماره، وتغيَّرت نظرتي للحياة. لقد صار العالم، من وجهة نظري، أكثر تهاونًا واسترخاءً ممَّا ينبغي. نسي الرجال رجولتهم في الكلام الناعم، وتخيلوا أنَّ قواعد حضارتهم المتعجرفة تحكم الكون كله. لكن هذا مخالف لتعاليم العلم وتعاليم الحياة. لقد نسِينا الفضائل العظمى، وبدأنا نتحوَّل إلى أفَّاكين فاقدي الرجولة يعبدون نقائصهم. ثم جاءت الحرب، وصارت الأجواء صافية. وجدتُ ألمانيا، رغم أخطائها وفظاظتها، تُقدِّم نفسها بوصفها السوط الذي يجلد النفاق. كان لدَيها من الشجاعة ما يكفي لتتحرَّر من قيود الدجل والنفاق وتهزأ بأصنام القطيع. لذا فأنا منحاز إلى ألمانيا. لكني أتيتُ إلى هنا لسببٍ آخر. لا أعرف شيئًا عن الشرق، ولكن لأنني قرأتُ في التاريخ، أعرف أن التطهير آتٍ من الصحراء. عندما تختنق البشرية بالزيف والعِبارات الرنَّانة والأصنام المَطلية المزخرفة، تهبُّ ريح من البرية لتُطهِّر الحياة وتُعيد إليها بساطتها. العالم يحتاج إلى براح وهواء نقي. فالحضارة التي نتباهى بها ليست سوى مرتعٍ للتفاهة والسطحية والتخبط، وأنا أتوق إلى الريف المفتوح.»
لاقى هذا الهراء اللعين استحسانها. كانت عيناها الشاحبتان تشعَّان بالضوء البارد الذي تبثُّه عيون المتعصِّبين. بدَت بشعرها الفاتح ووجهها البيضاوي الطويل الرائع كعاصفةِ غضبٍ مدمرة من أحد آلهة الأساطير النوردية. أظن أنني في تلك اللحظة شعرتُ بخوفٍ حقيقي منها لأول مرة؛ فقبل ذلك كانت مشاعري نحوَها مزيجًا من الكره والإعجاب. وحمدًا للرب أنها في خضمِّ انهماكها لم تلاحِظ أنني قد نسيتُ التحدُّث بلكنةِ مدينة كليفلاند الأمريكية.
قالت: «أنت من أهل الإيمان. قريبًا ستتعلَّم الكثير؛ لأنَّ الإيمان يقود إلى النصر. أمَّا الآن، فلديَّ كلمة لك. أنت ورفيقك ستسافران شرقًا.»
قلت: «نحن ذاهبان إلى بلاد الرافدَين. أعتقد أنَّ هذه جوازات سفرنا»، وأشرتُ إلى الظرف.
فوجدتها تُمسِكه وتفتحه، ثم مزقته ورمته في النار.
قالت: «تلك الأوامر أُلغيَت. أنا بحاجة إليكما وستذهبان معي. ليس إلى سهول دجلة، بل إلى التلال الكبرى. غدًا ستتلقَّيان جوازات سفر جديدة.»
مدَّت لي يدها واستدارت لترحل. ثم توقفت عند العتبة ونظرت إلى الخزانة المصنوعة من خشب البلوط. وقالت: «غدًا سأُخلِّصك من سجينك. سيكون أكثر أمنًا بين يديَّ.»
تركتني في حالةٍ من الحيرة التامة. فقد صار مقررًا لنا أن نُربَط بعجلات عربة تلك المرأة الشرسة ونخوض مهمة أصعب وأشد جنونًا من مُحاربة أصدقائنا في الكوت. ومن ناحية أخرى، فقد كشفني راستا، وأصبح مبعوثُ أكثر الرجال نفوذًا في القسطنطينية محبوسًا لديَّ في خزانة. كان علينا إبقاء راستا مُحتجزًا بأي ثمن، لكني كنت عازمًا بشدة على عدم تسليمِه إلى السيدة. فقد خمنتُ أنها تنوي حل المشكلة بأن تقتُله بدمٍ بارد، وما كنتُ لأشارك في جريمةٍ كهذه. كان الوضع معقدًا جدًّا، لكني في تلك اللحظة كنتُ في حاجة ماسَّة إلى تناوُل الطعام؛ لأنني لم آكل شيئًا منذ تسع ساعات. لذا ذهبت أبحث عن بيتر.
لم أكد أبدأ وجبتي، التي طال تأجيلها، حتى دخل ساندي. أتى قبل ميعاده، وبدا مُتجهمًا كبومةٍ سقيمة. أمسكتُ به كما يتعلق الغريق بقشة.
سمع قصتي عن راستا بوجهٍ يزداد تجهمًا.
قال: «هذا سيئ. تقول إنه كشفك، وتصرفاتك اللاحقة لن تُغير قناعته بالطبع. تلك ورطة شنيعة، ولكن يوجَد مَخرجٌ واحد منها. يجب أن أودعه في عهدة رجالي. سيُبقونه سالمًا إلى حين الحاجة إليه. لكن يجب ألا يراني.» وخرج مسرعًا.
أخرجتُ راستا من سجنه. كان قد استعاد وعيه في ذلك الوقت، واستلقى يرمقني بنظراتٍ جامدة مفعمة بالغل.
قلت: «أعتذر بشدة عما حدث يا سيدي. لكنك لم تترك لي خيارًا آخر. لديَّ مهمة كبيرة على عاتقي، ويستحيل أن أسمح بتعرضها لأي معوقات منك أو من أي شخصٍ آخر. أنت تدفع ثمن طبيعتك الشكَّاكة. عندما تعرف الحقيقة، سترغب في الاعتذار لي. سأحرصُ على أن تبقى ساكتًا ومرتاحًا بضعة أيام. لا داعيَ إلى القلق لأنك لن تتأذَّى. أضمن لك هذا بشرفي بصفتي مواطنًا أمريكيًّا.»
دخل اثنان من أشقياء ساندي وحملا راستا إلى الخارج، وسرعان ما عاد ساندي نفسه بعدئذٍ. وعندما سألته إلى أين سيأخُذانه، قال ساندي إنه لا يعرف. «لقد تلقَّيا أوامرهما وسيُنفذانها حرفيًّا. يوجَد في القسطنطينية كثير من الأماكن المجهولة المناسِبة لإخفاء رجل، لا يدخلها أفراد قوات الخُفية أبدًا.»
ثم ارتمى على كرسي وأشعل غليونه القديم.
قال: «ديك، هذه المهمة تزداد صعوبة وغموضًا. لكني عرفتُ مزيدًا من المعلومات في الأيام القليلة الماضية. اكتشفتُ معنى الكلمة الثانية التي خربشها هاري بوليفانت.»
سألته: «كلمة «سرطان»؟»
«نعم. إنها لا تعني أكثر من معناها الحرفي. فذو العباءة الخضراء يُحتضر، يُحتضر من شهور. أحضروا طبيبًا ألمانيًّا بعد ظهر اليوم ليفحصه، وقال الرجل إنه لن يعيش أكثر من بضع ساعات. ربما يكون ميتًا الآن.»
نزل الخبر عليَّ كالصاعقة. ظننتُ لوهلةٍ أنَّ الأمور قد حُسمت بذلك. قلت: «إذن، فهذا يفسد الحملة المُرتقبة. فلا يُمكن شن حرب دينية من دون نبي.»
«ليت الأمر كان كذلك. إنها نهاية مرحلة، لكنها بداية مرحلة جديدة أحلك. هل تظن أن تلك المرأة سترتدِع بشيءٍ تافه كموتِ نبيِّها؟ ستجد بديلًا، سواء أحد الوزراء الأربعة أو أي شخصٍ آخر. إنها شيطانة متجسِّدة، لكن لدَيها روح نابليونية. الخطر الأعظم بدأ للتو.»
ثم حكى لي ما فعله مؤخرًا. قال إنه اكتشف منزل السيدة فون آينم دون عناء يُذكَر، وعزف مقطوعة موسيقية مع صعاليكه في سَكَن الخدم. ذكر أنَّ النبي كان مُحاطًا بحاشية كبيرة، وأنَّ شهرة عازفي ساندي المتجولين وصلت سريعًا إلى مسامع «القديسين»؛ لأنَّ «رفاق الأوقات الوردية» كانوا يحظَون بصيتٍ واسع في أرض الإسلام. ولأنَّ ساندي زعيم في تلك العصبة المُتشددة جدًّا؛ فقد اشتهر ووصلت أخباره إلى الوزراء الأربعة. وأصبح هو وخدمه الستة من نزلاء الفيلا، وبفضل معرفة ساندي بمعتقدات الإسلام التقليدية المتوارثة، وورعه الظاهر المُبهر، نال ثقة أهل البيت. تقبلته فون آينم حليفًا لها بكل ترحاب؛ لأنَّ «الرفاق» كانوا أخلَصَ المروِّجين للوحي الجديد.
كان الوضع غريبًا، حسبما وصفه. فذو العباءة الخضراء كان يُحتضر ويعاني ألمًا بليغًا في أغلب الأحيان، لكنه كان يبذل كل ما بوسعه لتلبية مَطالب حاميته. كان الوزراء الأربعة، من وجهة نظر ساندي، زاهدِين في الدنيا، على حين كان النبي نفسه قديسًا، وإن كان قديسًا عمليًّا ذا درايةٍ سياسية، لكنَّ السيدة كانت هي العقل المُهيمن والإرادة المسيطرة. بدا أنَّ ساندي نال حظوته، بل ومحبَّته أيضًا. كان يتحدَّث عنه بنوعٍ من الشفقة اليائسة.
لم أرَ رجلًا كهذا قط. إنه أعظم رجل محترم يُمكنك تخيُّله، له هيبة كجبل شاهق. إنه حالم وشاعر أيضًا، بل وعبقري إن كان لي أن أحكم على مثل هذه السمات. أظن أنني أستطيع تقييمه كما ينبغي؛ لأنني أعرف روح الشرق بعض الشيء، لكن الوقت الآن لا يتسع لذلك. الغرب لا يعرفون شيئًا عن الرجل الشرقي الحقيقي. فهم يتصوَّرونه منغمسًا في ألوان صارخة وكسلٍ وترفٍ وأحلام جميلة. لكن هذا خاطئ تمامًا. فالكمال الذي يتوق إليه يتسم بالتقشُّف. وتقشف الشرق هو مكمَن جماله ورُعبه … إنَّ رغباته الكامنة في قرارة عقله لا تتغير أبدًا. لقد جاء الأتراك والعرب من براحٍ شاسع، ولديهم اشتياقٌ إليه حتى النخاع. فعندما يستقرون ويغرقون في الركود، تتردى طبيعتهم بمرور الوقت وتفسد أهواؤهم إلى أن يُهيمن عليها ذاك الخبث المرعب. ثم يأتي وحي جديد ونفحة عظيمة تُعيد إلى الحياة بساطتها. إنهم يُريدون أن يعيشوا وجهًا لوجه مع الله دون حاجزٍ من الطقوس والصور وممارسات رجال الدين. يريدون تقليم الحياة من زوائدها الغبية، والعودة إلى عراء الصحراء النبيل. تذكر أنَّ التعويذة التي تسحرهم دائمًا ما تكمُن في الصحراء الخاوية والسماء الفارغة، بالإضافة إلى أشعة الشمس الساخنة القوية المُطهرة التي تحرق كل العفن والنتن. لا تحسبنَّ هذا غير إنساني. إنها إنسانيةُ جزءٍ من الجنس البشري. صحيح أنها ليست كإنسانيتنا، وليست جيدة مثلها، لكنها جيدة جدًّا مع ذلك. أحيانًا ما تستحوذ عليَّ بشدة إلى حدِّ أنني أميل إلى التخلِّي عن دين آبائي!
«حسنًا، ذو العباءة الخضراء هو نبي تلك الرسالة العظيمة الداعية إلى البساطة. كلامه يمسُّ صميم الإسلام مباشرة، ورسالته نبيلة. ولكنْ عقابًا لنا على خطايانا، فقد شُوِّهت رسالته وصارت جزءًا من تلك الدعاية الألمانية اللعينة. استغلوا زهده لممارسة لعبة سياسية خبيثة، واستغلوا إيمانه بالبراح والبساطة لتعزيز أبشع صور الانحطاط البشري. ربَّاه يا ديك، كأنني أرى القديس فرنسيس تقوده ميسالينا.»
قلت: «السيدة كانت هنا الليلة. سألتني عن قناعاتي، فاختلقتُ هراء لعينًا نال استحسانها. لكني أرى شيئًا واحدًا. ربما تسعى هي ونبيُّها إلى غايتَين مختلفتَين، لكنهما يسلكان الدرب نفسه.»
انتفض ساندي مفزوعًا. صاح قائلًا: «كانت هنا! أخبِرني يا ديك، ما رأيك فيها؟»
«أرى أنَّ الطابع الغالِب عليها هو الجنون، لكنَّ جزءًا منها يتَّسِم بشيءٍ استثنائي أقرب إلى تأثيرٍ مُلهِم.»
فقال: «يكاد يكون هذا صحيحًا. لقد أخطأتُ في تشبيهها بميسالينا. إنها شيء أشدُّ تعقيدًا بكثير. تقود النبي لمجرد أنها تُشاركه قناعته. لكنَّ نيَّة النبي حكيمة وحسنة، ونيَّتها مجنونة وشنيعة. سأخبرك بشيء، ألمانيا أيضًا تُريد تبسيط الحياة.»
قلت: «أعرف. قلت لها ذلك قبل ساعة، عندما تحدثتُ بمعدَّل هائل من الهراء لم يبلُغه أي رجل عادي من قبل. سيقضُّ هذا مضجعي بقية حياتي.»
«بساطة ألمانيا نابعةٌ من العصابية وليست بساطة بدائية. إنها مدفوعة بجنون العظمة والأنانية والغرور، كالرجل الذي ورد عنه في الإنجيل أنه سَمِن ورَفَس. لكن النتائج واحدة. إنها تريد التدمير والتبسيط، لكن ليس بساطة الزهاد الروحانية، بل بساطة المجانين التي تسحق كل ابتكارات الحضارة وتحوِّلها إلى نمطٍ موحَّد بلا ملامح. النبي يريد تخليص أرواح قومه، وألمانيا تريد أن تحكم جثةَ العالَم الهامدة. ولكن يمكنك وصف الاثنين بالألفاظ نفسها. وهكذا ستجدُ الشراكةَ بين القديس فرانسيس وميسالينا. أخبرني يا ديك، هل سمعتَ عن شيء يُدعى «الرجل الخارق»؟»
أجبته قائلًا: «في وقتٍ ما لم تكن الصحف تتحدَّث إلَّا عن ذلك. أظنُّ أنه من ابتكار رجلٍ رائع يُدعى نيتشه.»
قال ساندي: «ربما. فنيتشه العزيز يُلام على ترهاتٍ كثيرة كان سيُفضِّل الموت على أن يُقر بأنه صاحبها. لكني أقصد بهذا هوسًا رائجًا في ألمانيا الحديثة المُسمَّنة. إنه نوع خيالي لا يمكن أن يتحقق في الواقع أبدًا، شأنه شأن «الرجل الاقتصادي» الذي يتحدث عنه الساسة. فالجنس البشري لديه حسٌّ فكاهي يتوقف عند حدٍّ معين من العبث. لم، ولن، يشهد الكون وجود رجلٍ خارق حقيقي أبدًا … ولكن ربما توجَد امرأة خارقة.»
قلت له: «ستجلب لنفسك المتاعب يا صديقي بهذا الحديث.»
«لكنه صحيح. فالنساء لديهن منطقٌ خَطِر لم يكن لدَينا مثله قط، وبعضُ أفضلهن لا يرى هزل الحياة كما يراه الرجل العادي. يُمكنهن أن يُصبحن أعظم بكثير من الرجال؛ لأنهن يستطعنَ الولوج إلى صميم الأشياء مباشرة. فما من رجلٍ قط وصل إلى منزلةٍ مقرَّبة من الرب كالتي بلغتها القديسة جان دارك. لكني أرى أيضًا أنهنَّ قد يُصبحنَ أبغض عند الربِّ من أيِّ ذَكَر شهده الكون؛ لأنهنَّ لا يتوقفنَ بين الحين والآخر ويضحكنَ على أنفسهن … لا يوجَد رجل خارق. والحمقى المساكين الذين يحسبون أنفسهم كذلك إمَّا أساتذة مخابيل لا يستطيعون أن يحكموا فصلًا مدرسيًّا واحدًا في مدرسة دينية، وإما جنود غاضبون صغيرو الرءوس مُعتدُّون بأنفسهم، يظنون أنَّ إعدام دوق إنجين بالرصاص هو الذي صنع نابليون. ولكن توجَد امرأة خارقة، واسمها هيلدا فون آينم.»
تأوهتُ مُتحسرًا، وقلت: «كنت أظن أن مهمتنا كادت تنتهي، والآن تبدو كأنها لم تبدأ كما ينبغي أصلًا. لقد قال بوليفانت إنَّ كل ما علينا القيام به هو معرفة الحقيقة.»
«بوليفانت لم يكن يعرف. لا أحد يعرف سوانا أنا وأنت. صدقني، تلك المرأة لديها قوة هائلة. لقد ائتمنَها الألمان على ورقتهم الرابحة، وستلعب بها بكلِّ ما تملكه. لا جريمة ستعترض طريقها. لقد أطلقَت السهم من القوس بالفعل، وإذا لزم الأمر، ستنحر كل أنبيائها وتدير الحملة بنفسها … لا أعرف ماهية مهمتك؛ لأنني بصراحةٍ لا أستطيع إطلاقًا أن أفهم ما ستفعله أنت وبلنكيرون. لكني أفهم مهمتي بوضوح تام. لقد أشركَتني في المسألة، ولن أُبارحها لعلِّي أجد فرصة لإفسادها … سنسافر شرقًا غدًا، مع نبيٍّ جديدٍ إذا مات القديم.»
سألته: «إلى أين ستذهب؟»
«لا أعرف. لكنني أخمِّن أنها ستكون رحلة طويلة، بناء على التحضيرات. ولا بد أنها ستكون في بلدٍ بارد، بناء على الثياب التي أعطَوني إياها.»
«حسنًا، أيًّا كانت الوجهة، فنحن ذاهبان معك. فأنت لم تسمع تكملة قصتنا. اندمجتُ أنا وبلنكيرون في أرقى الأوساط باعتبارنا مهندسَين أمريكيَّين بارعَين سنُلحق أضرارًا جسيمة بالبريطانيين على نهر دجلة. وأصبحتُ الآن من أصدقاء أنور، وقد عرض عليَّ الحماية. أحضر راستا المأسوفُ عليه جوازاتِ سفرنا لنرحل إلى بلاد الرافدين غدًا، لكن سيدتك مزقتها وألقتها في النيران منذ ساعة. نحن ذاهبان معها، وقد تكرَّمَت بإخباري بأن رحلتنا ستكون صوب التلال الكبرى.»
أطلق ساندي صفيرًا طويلًا خفيضًا. وقال: «ما الذي تُريده منك بحق السماء؟ المسألة تزداد تعقيدًا يا ديك … وفوق ذلك أين بلنكيرون؟ فهو الخبير في السياسة العليا.»
وبينما كان ساندي يتكلَّم، دخل بلنكيرون المفقود إلى الغرفة بخطوته البطيئة الهادئة. رأيتُ من مشيتِه أنه، وللمرة الأولى، لم يكن يُعاني عسر الهضم، ومن عينَيه أنه كان متحمسًا.
قال: «اسمعوني يا أولاد، لدي خبر مُهم جدًّا. لقد نشب قتال محتدم على الحدود الشرقية، وتلقى «الأوغاد» ضربة موجعة.»
كانت يداه عامرتَين بأوراق اختار منها خريطةً وبسطها على المنضدة.
«ما زالوا يتكتَّمون على الأمر في العاصمة، لكني كنتُ أُلملم خيوط القصة طول الأيام الماضية، وأظن أنني فهمتها فهمًا صحيحًا. قبل أسبوعين نزل القائد نيقولا من جباله وسحق أعداءه هناك، في قرية كوبريكوي حيث يمر الطريق الرئيسي المتَّجه شرقًا عبر نهر آراس. لم تكن هذه سوى بداية المغامرة الجريئة؛ لأنه واصل تقدُّمه على نطاق جبهةٍ عريضة، والرجل المحترم المدعو كامل، الذي يقود الجيش في تلك المنطقة، لم يكن كفئًا بما يكفي لوقف تقدمه. لقد حُشِر الأوغاد كالأغنام من الشمال والشرق والجنوب، والآن يجلس الروس خارج قلاع أرضروم. يُمكنني أن أُخبركم بأنَّ القيادات العليا يائسة جدًّا من الوضع … أنور يتصبَّب دمًا من أجل إرسال فِرَق جديدة إلى أرضروم من جاليبولي، لكن الطريق طويل ويبدو أنهم لن يلحقوا المعركة … سننطلق غدًا، أنا وأنت يا حضرة الميجور، إلى بلاد الرافدين، وهذا يكاد يكون أسوأ حظٍّ صادفه جون إس على الإطلاق. سنفوِّت فرصة رؤية القتال الأعنف في هذه الحملة.»
أخذتُ الخريطة ووضعتها في جيبي. فالخرائط كانت تخصُّصي، وكنت أبحث عن واحدة.
قلت: «لن نذهب إلى بلاد الرافدين. لقد أُلغيَت الأوامر التي تلقيناها.»
«لكني قابلتُ أنور للتو، وقال إنه أرسل جوازات سفرنا إلى هنا.»
قلت: «إنها في النار. ستصل الجوازات الصحيحة صباح غد.»
قاطعَنا ساندي فجأة بعينَين لامعتَين من شدة الإثارة.
وقال: «التلال الكبرى! … نحن ذاهبون إلى أرضروم … ألا تريان أنَّ الألمان يلعبون ورقتَهم الرابحة؟ إنهم يُرسلون ذا العباءة الخضراء إلى بؤرة الخطر لعل وصوله يستنفر الجيش التركي ويُوحد صفوفه. لقد بدأت المياه الراكدة في التحرك يا صديقي العزيز ديك. لن نشعر بفراغٍ مُمل بعد الآن. سننخرِط في القتال حتى النخاع، وليكُن الرب في عون الرجل الأفضل … عليَّ المغادرة الآن لأن لديَّ أشياء كثيرة عليَّ إنجازها. إلى اللقاء. سنلتقي لاحقًا في التلال.»
ظلَّ بلنكيرون حائرًا حتى أخبرتُه بما حدث في تلك الليلة. وبينما كان يستمع إليَّ، تلاشى كل الارتياح من وجهه، وتسللَت إلى قسماته تلك الحيرة الطفولية المضحكة.
قال: «ليس لي أن أتذمَّر؛ لأنَّ ذلك في صميم مهمتنا، لكني أعتقد أنَّ تلك القافلة ستُواجه معضلةً شديدة. إنها قسمة الرب، وعلينا الإذعان لها. لكني لن أدَّعي أنني لستُ مُرعوبًا مما ينتظرنا.»
قلت: «أوه، وأنا أيضًا. فالمرأة تُصيبني بنوبات هلع. صحيح أننا واقعان في مأزق شديد هذه المرة. لكني سعيد بأنهم سيُشرِكوننا في قلب الأحداث الحقيقي في مدينة كبرى. فأنا لم أُحب فكرة التجوُّل في المقاطعات الصغرى.»
«أظن هذا صحيحًا. لكني أتمنَّى أن يأخذ الربُّ الرحيم تلك السيدة الجميلة إليه. فهي أشدُّ من أن يتحمَّلها رجل هادئ مُسالم في مثل عمري. فحين تدعونا إلى المشاركة في شيء في مكانٍ ما، أشعر برغبة في الهرب بسرعة إلى أبعد مكانٍ ممكن عنه.»