ذو العباءة الخضراء
لم يرفع بيتر عينيه عن فطوره تقريبًا.
قال: «أنا على أتم استعدادٍ يا ديك. لكن لا تطلب مني أن أصاحب شتوم. فذاك الشخص يُصيبني بقعشريرة باردة في أمعائي.»
كانت تلك أول مرة لا يُناديني فيها باسم «كورنيليس» المستعار. فقد انتهت مرحلة التظاهُر بهويات زائفة بالنسبة إلينا جميعًا.
قلت: «لن تُصاحبه، بل ستحطمه هو وكل أمثاله.»
فقال بيتر بابتهاج: «إذن أنا مُستعد. ما المهمة؟»
بسطتُ الخريطتَين على الأريكة. لم يكن في المكان أي مصدر ضوء سوى مشعل بلنكيرون الكهربائي؛ لأن حسين قد أطفأ المشكاة. شرع بيتر في استكشافهما فورًا؛ لأن عمله الاستخباراتي في حرب البوير جعله بارعًا في استخدام الخرائط. وأدرك أهمية الخريطة التي سرقتُها دون أن يحتاج إلى شرح كثير منِّي.
«هذه المعلومة تساوي ملايين الجنيهات»، قالها وهو يعقد حاجبيه وحكَّ طرف أذنه اليسرى بلطف. فقد كان هذا دأبه دائمًا حين يكون مذهولًا.
سألته: «كيف لنا أن نُوصلها إلى أصدقائنا؟»
فكَّر بيتر مليًّا. ثم قال: «ليس أمامنا سوى طريقةٍ واحدة. يجب أن يوصلها رجلٌ بنفسه إليهم. أتذكَّرُ أننا، ذات يومٍ حين كنا نُحارب قبيلة ماتابيلي، كنا بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى معرفة ما إذا كان الزعيم ماكابان حيًّا أم لا. فالبعض قال إنه مات، والبعض الآخر قال إنه عبَر الحدود البرتغالية، لكني كنت موقنًا بأنه ما زال حيًّا. لم يستطع أيٌّ من أهل القبيلة إخبارنا بالحقيقة؛ ولأن قريته كانت مُحصنة بشدة؛ كان يستحيل أن يدخلها أي مرسال عادي. لذا تحتَّم إرسال رجلٍ لتقصِّي الحقيقة.»
رفع بيتر رأسه وضحك. «عثر الرجل على الزعيم ماكابان. كان حيًّا وبأتمِّ عافية، وكان يطلق النيران ببراعة من بندقية. لكن الرجل أخرج الزعيم ماكابان من قريته وسلَّمه إلى شرطة الخيالة. هل تتذكر الكابتن أركول يا ديك، جيم أركول؟ حسنًا، ضحك جيم بشدة لدرجة أنَّ جرحًا قديمًا في رأسه قد انفتح، واحتاج إلى طبيب.»
قلت له: «كنتَ أنت ذلك الرجل يا بيتر.»
قال: «أجل. كنتُ أنا ذلك الرجل. فالتسلُّل إلى القرى أسهل من منع الناس من دخولها.»
«هل ستغتنم هذه الفرصة؟»
«بالتأكيد يا ديك. فقد بدأ جسدي يتيبَّس من البقاء عاطلًا هكذا، وإذا ظللت حبيس المنازل أكثر من ذلك، فستُصيبني الشيخوخة. لقد راهنني رجلٌ على السفينة بخمسة جنيهات على أنني لا أستطيع اجتياز خندقٍ في جبهة القتال، ولو كان يُوجَد خندق قريب منِّي آنذاك، لكنتُ كسبت الرهان. سأكون سعيدًا جدًّا بهذه المهمة يا ديك، لكني لا أجزم بأنني سأنجح. فهذا بلد جديدٌ عليَّ، وسأكون متعجلًا، وفي العجلة الندامة.»
أطلعته على المكان الذي ارتأيتُ أنه الأرجح، حيث كان يقع في نتوءات جبال بالاندوكن. كان لبيتر أسلوب فريد من نوعه في إنجاز المهام. كشطَ بعض التراب والجص عن أحد الأركان وجلس ليصنع بهما مجسمًا مصغرًا لتضاريس المنطقة على الطاولة، مستعينًا بالخطوط الكنتورية المرسومة في الخريطة. فعل ذلك بدقة استثنائية؛ لأنه، ككل الصيادين البارعِين، كان ماهرًا كطائر الحباك. ظل يتأمل المجسم مليًّا، وتفحص الخريطة حتى حفظها حتمًا عن ظهر قلب. ثم أخذ منظاره الميداني، وكان منظارًا مُمتازًا أحادي العدسة من طراز «زايس»، كان إحدى الغنائم التي ظفرنا بها من سيارة راستا، وقال إنه سيحذو حذوي ويصعد إلى سطح المبنى. وسرعان ما اختفت ساقاه خلال نافذة السقف، وتُركنا أنا وبلنكيرون لتأمُّلاتنا.
لا بد أن بيتر وجد شيئًا استثنائيًّا مثيرًا للاهتمام؛ لأنه بقي على السطح جُل النهار. كانت تلك مهمة مُملة لنا؛ لأن الغرفة كانت بلا ضوء، ولم يستطع بلنكيرون حتى أن يُسلي نفسه بلعب الورق. لكنه مع ذلك كان في حالةٍ معنوية جيدة؛ لأنه لم يشعر بعسر الهضم منذ أن غادرنا القسطنطينية، وقال إنه يعتقد أنه انتصر أخيرًا على ألَم أمعائه اللعين هذا. أما أنا، فلم يهدأ لي بال؛ لأنني لم أستطع تصوُّر السبب الذي يؤخِّر ساندي. كان من الواضح لي أن وجودنا لا بد أن يبقى سرًّا عن هيلدا فون آينم؛ لأنها كانت صديقة لشتوم، ولأنه حتمًا قد فضح أمرنا أنا وبيتر لها. سألت نفسي إلى متى يمكن أن تدوم هذه السرية. فلم يعُد لدينا أي مصدر حماية في تلك الجماعة كلها. كان راستا والأتراك مُتعطشين لدمائنا، وكذلك شتوم والألمان، وحالما تكتشف السيدة أنَّنا كنا نخدعها، ستكون الأشد تعطشًا لدمائنا. كان أملنا الوحيد هو ساندي، ولم تظهر أي علامة على وجوده. بدأت أخشى أن يكون مكروه قد أصابه هو أيضًا.
لكني في الحقيقة لم أكن مُحبَطًا، بل جزعًا فقط. لم أتمكن قط من العودة إلى حالة الركود البغيضة التي ظللتُ فيها طوال أسبوع القسطنطينية ذاك. أبقتني المدافع متفائلًا. كان هناك قصفٌ رهيب تواصل طوال النهار، والتفكير في أنَّ حلفاءنا كانوا يطلقون نيران مدافعهم المدوية من هناك، على بُعد ستة أميال فقط، منحني أملًا حالمًا ليس له أي أساس ملموس. قلت لنفسي إنهم إذا اخترقوا الجبهة الدفاعية، فستغرق هيلدا فون آينم ونبيها وكل أعدائنا في الطوفان. وكانت تلك الفرصة المباركة تعتمد بشدة على بيتر العزيز، الذي كان في تلك اللحظة راقدًا على أسطح المباني كالحمام.
لم يظهر حسين مرة أخرى إلا في وقتٍ متأخر من عصر ذلك اليوم. لم يلاحظ غياب بيتر، لكنه أشعل مشكاةً ووضعها على الطاولة. ثم اتجه إلى الباب وانتظر. بعدها بقليل سمعنا وَقع خطوة خفيفة على الدرج، فتراجع حسين ليسمح لأحدٍ بالدخول. ثم غادر فورًا وسمعت صوت المفتاح يدور في القفل مغلقًا الباب من خلفه.
رأينا ساندي واقفًا هناك، لكنه جاء في شكل آخر جديد جعلني أنا وبلنكيرون نهبُّ واقفَين. لم يكن مرتديًا ثيابه الجلدية ولا قلنسوته الجلدية، بل كان مكتسيًا بسترة كتانية طويلة مشدودة على خصره بحزام عريض. رأيت رأسه مزينًا بعمامة خضراء غريبة، وحين خلعها، وجدته قد صار حليق الرأس. بدا كأنه شمَّاسٌ، لكنه شماس مُنهَك؛ لأن مشيته كانت خالية من أي نشاط، وكان جسده خائر القوى. ارتمى على الأريكة خدِرًا ووضع رأسه بين يدَيه. أظهرت المكشاة عينَيه المنهكتَين تُحيط بهما هالتان داكنتان.
صحتُ قائلًا: «رباه، هل مرضتَ يا صاح؟»
قال بصوت أجش: «لستُ مريضًا. جسدي مُعافًى تمامًا، لكني كنت أعيش في جحيم طوال الأيام القليلة الماضية.»
أومأ بلنكيرون إيماءة متعاطفة. فقد كان يشاطره الرأي في وصفه لصُحبة السيدة الألمانية بالجحيم.
اتجهتُ نحوَه وأمسكت بكِلا معصمَيه.
قلت له: «انظر إليَّ في عيني.»
كانت عيناه كعيون السائرين نيامًا؛ ذاهلة لا ترمش حتى. فقلت له: «رباه، أنت مُخدَّر يا رجل!»
صاح قائلًا بضحكة منهكة: «مُخدَّر. نعم، لقد خُدِّرت، ولكن ليس بمادة مخدرة. لم يَدس لي أحدٌ شيئًا في الطعام. لكن لا يمكن أن تخوض أهوال الجحيم دون أن تلفح النارُ عينيك.»
ظللتُ قابضًا على معصمَيه. وقلت: «خذ وقتك يا صاح، واحكِ لنا ما حدث. فأنا وبلنكيرون هنا، وبيتر العزيز على السطح ليس ببعيد. سنعتني بك.»
قال: «يسعدني سماع صوتك يا ديك. فهو يذكِّرني بالأشياء الطاهرة الصادقة.»
«كل هذه الأشياء ستعود، لا تخَف أبدًا. صرنا على مشارف النهاية. جولة أخرى من الجهد وينتهي كل شيء. عليك أن تُخبرني ما هي العقبة الجديدة. أهي تلك المرأة؟»
ارتجف كمُهر مذعور. وصاح قائلًا: «امرأة! هل يمكن لامرأة أن تجر رجلًا عبر باب الجحيم؟ إنها شيطانة. أوه، ليست مشكلتها الجنون. فهي عاقلة مثلك ورابطة الجأش مثل بلنكيرون. لكن حياتها لعبة شطرنج جهنمية، وتلعب بالأرواح كأنها بيادق. إنها شريرة شرًّا مطلقًا.» ودفن رأسه بين يديه مرة أخرى.
كان بلنكيرون هو مَن أضفى الهدوء العقلاني على هذا الجو المحموم. فنبرته البطيئة الأثيرة كانت كمُهدِّئ للأعصاب.
قال: «اسمعني يا فتى، إنني أتفق معك تمامًا فيما تقوله عن السيدة. لكن مُهمتنا ليست الحُكم على شخصيتها. فخالقها حتمًا سيتكفل بذلك ويحكم عليها بما تستحقُّه يومًا ما. علينا أن نكتشف كيف نتحايل عليها ونُحبط مخططاتها؛ ولذا عليك أن تُخبرنا بما حدث بالضبط منذ أن افترقنا.»
تمالك ساندي نفسه بصعوبة بالِغة.
«لقد مات ذو العباءة الخضراء في تلك الليلة التي رأيتكم فيها. دفنَّاه سرًّا في حديقة الفيلا بأمرٍ منها. ثم طرأت معضلة بشأن تعيين خليفته … فالوزراء الأربعة ما كانوا ليقبلوا بالمشاركة في عملية احتيال. لقد كانوا رجالًا شرفاء، وعقدوا العزم على بناء قبرٍ لسيدهم وتكريس بقية أيامِهم للصلاة في ضريحه. كانوا راسخين ككتلةٍ من الجرانيت، وكانت السيدة تعرف ذلك … ثم ماتوا هم أيضًا.»
شهقتُ قائلًا: «قُتلوا؟»
«قُتلوا … الأربعة كلهم في صباح واحد. لا أعرف كيف، لكني ساعدت في دفنهم. أوه، لقد كلَّفَت ألمانًا وأكرادًا بإنجاز المهمة القذرة نيابةً عنها، لكن أياديهم كانت نظيفة مقارنةً بيدَيها. أرجو أن تُشفق عليَّ يا ديك، لأنني شاهدتُ الصدق والفضيلة يُذبحان، وشاركت في الجريمة عندما تمَّت. سيظل هذا يُطاردني حتى مماتي.»
لم أتوقف لأواسيه؛ إذ كان ذهني مُتقدًا كالجمر من وقع الخبر الذي ذكره.
صحتُ قائلًا: «إذن، فقد مات النبي، وانتهى المُخطط الخادع.»
فقال: «النبي ما زال حيًّا. لقد وجدَتْ خليفة له.»
وقف بسترته الكتانية.
وقال: «لماذا أرتدي هذه الثياب برأيك؟ لأنني ذو العباءة الخضراء. أنا كعبة الحرية للإسلام كلِّه. وبعد ثلاثة أيام سأكشف عن نفسي لأتباعي، وألبس على صدري مئزر النبي الأخضر.»
ثم انفجر في ضحك هستيري. وقال: «أتعرف، لن أفعل ذلك. أفضِّل أن أنحر عنقي على أن أفعل ذلك.»
قال بلنكيرون بنبرة مُهدئة: «هون عليك! سنجد طريقةً ألطف من هذه.»
قال: «لا تُوجَد طريقة، لا طريقة سوى الموت. لقد أصبحنا في عداد الموتى، كلنا. صحيح أن حسين أنقذكم من بين براثن شتوم، لكن الخطر يُحدق بكم في كل لحظة. وعلى أحسن تقدير، لن تعيشوا سوى ثلاثة أيام أخرى، وبعدها ستصبحون أمواتًا أنتم أيضًا.»
لم تسعفني الكلمات للردِّ على حديثه. فقد كنتُ مصدومًا من هذا التحول الذي طرأ على ساندي الجريء الذي لا يُزعزعه شيء.
واصل قائلًا: «لقد جعلَتني شريكًا لها في جريمتها. كان يجب أن أقتُلها على قبور هؤلاء الرجال الأبرياء. لكني بدلًا من ذلك نفَّذت كل ما طلبته وانضممتُ إلى لُعبتها … كانت صريحة جدًّا … إنها لا تكترث بدين الإسلام مثلها مثل أنور. بل يمكن أن تهزأ به. لكنها تحمل طموحاتها الخاصة، وهي مهووسة بها كهوسِ القديسين بالورع والتعبد. لقد أخبرتني بها، وإذا كان اليوم الذي قضيتُه في الحديقة جحيمًا، فإن الأيام التي تلَته أشعرتني بأنني قابع في الدرك الأسفل من الجحيم. أظن — وإن كان من الشنيع أن أقول هذا — أنها تكنُّ لي إعجابًا جنونيًّا. فحين يأتي اليوم الذي نستعيد فيه الشرق، تُريدني أن أكون بجانبها وهي تدخل القدس بحصانها الأبيض كالحليب … وقد مرَّت عليَّ لحظات — أقسم بالربِّ أنها لحظات عابرة ليس إلَّا — تأثرتُ فيها أنا نفسي بنيران جنونها …»
بدت هيئة ساندي تتقلص وصارت نبرتُه حادة ومهتاجة. كان ما قاله أشدَّ ممَّا يستطيع بلنكيرون تحمُّله. فتفوَّه بوابلٍ من الألفاظ النابية التي أعتقد أنه لم يتفوَّه بمثلها من قبل.
قال: «سحقًا، لا أطيق الاستماع إلى هذا الكلام الملعون. هذا لا يليق. افعل شيئًا يا حضرة الميجور وأعِد صديقك المكلوم إلى رشده.»
بدأتُ أفهم ما حدث. كان ساندي رجلًا عبقريًّا — لا يقلُّ عن أي عبقري صادفته في حياتي — لكنه كان مشوبًا بعيوبِ تلك النفوس الحساسة الحالمة. فهو مقدام مُستعد لخوض أخطر المجازفات، ولا يخشى أي إرهابٍ عادي. لكن إذا تشوش ضميره الحي وانحرف عن استقامته، ووجد نفسه في موقفٍ رأى أنه يمسُّ شرفه؛ فقد يُجن جنونه. لقد استطاعت المرأة، التي لم تُثِر في داخلي أنا وبلنكيرون سوى الكراهية، أن تستحوذ على مخيلته وتُثير فيه تجاوبًا معها رغمًا عنه، ولو للحظةٍ عابرة فقط. وبعدها اجتاحه هذا الندم المَرَضي المرير حتى هيمن عليه اليأس.
لم يكن لدينا وقت للملاطفة والمهادنة. صحتُ قائلًا: «ساندي يا صديقي الأحمق، كن مُمتنًّا لأن لديك أصدقاء يمنعونك من الانزلاق إلى أي حماقة. لقد أنقذت حياتي في لوس، وبالتأكيد سأساعدك للخروج من هذا المأزق. أنا قائد المجموعة الآن، وبالرغم من كل أساليبك اللعينة التي تُشبه أساليب الأنبياء، عليك أن تتلقَّى أوامرك منِّي. لن تكشف عن نفسك لأتباعك، ولن تنحر عنقك. سينتقِم ذو العباءة الخضراء لمقتل وزرائه، وسيجعل تلك المرأة المُختلة تندم على مجيئها إلى الدنيا. سنرحل من هنا سالِمين، وفي غضون أسبوع واحد، سنكون جالسين بصُحبة الدوق الأكبر نيقولا نحتسي معه الشاي.»
لم أكن أوهِمه أو أضلِّله. صحيح أنني لم أكن أعرف سبيلًا إلى تحقيق ما قلته، لكني كنت لا أزال مفعمًا بتلك الثقة العمياء في أننا سننتصِر. وبينما كنتُ أتكلم، تدلَّت ساقان من خلال نافذة السقف، ونزل بيتر وسطنا يُغطيه التراب ويرمش بعينَيه.
أخذت منه الخرائط وبسطتُها على الطاولة.
قلت: «أولًا، يجب أن تعلم أنَّ الحظ قد حالفنا بقوة لا تُصدَّق. ففي الليلة الماضية أخذَنا حسينٌ في نزهةٍ على أسطح أرضروم، وبمباركة العناية الإلهية، دخلتُ غرفة شتوم، وأخذت خريطة قيادة الأركان الخاصة به … انظر هناك … هل ترى ملاحظاته؟ هذا هو الموضع غير الحصين في جبهتهِم الدفاعية كلها. حالما يظفر الروس بذلك الحصن، كارا جوبك، سيكونون قد طوَّقوا المعقل الرئيسي. والظفر به ممكن بالفعل، وشتوم يعرف ذلك؛ لأن هذَين التلَّين المُتجاورين غير مُحصَّنَين … تبدو مغامرة جنونية على الورق، لكن شتوم يعلم أنها مُمكنة جدًّا. والسؤال هو: هل سيُخمن الروس ذلك؟ لا أظن هذا، إلا إذا أخبرهم أحد. لذا علينا أن نوصل هذه المعلومات إليهم، بأي طريقةٍ مهما كانت.»
بدأ الاهتمام بالواقع يراود ساندي من جديد. فتفحص الخريطة وبدأ يقيس المسافات.
«سيحاول بيتر القيام بذلك. يرى أنَّ فرص نجاحه واردة. وإذا فعلها — إذا سلَّم هذه الخريطة إلى ضباط أركان الدوق الأكبر — فسيفشل مخطط شتوم حتمًا. وفي غضون ثلاثة أيام، سيكون القوزاق في شوارع أرضروم.»
سألني ساندي: «ما احتمالية نجاحه؟»
رمقت بيتر بنظرة خاطفة. وقلت: «نحن أناس صقَلَتنا الصعاب والشدائد، ونستطيع مواجهة الحقيقة. أظن أن احتمالية النجاح عشرون في المائة.»
قال بيتر بتواضع: «بل سبعون في المائة. على أسوأ تقدير. لا أظن أنك توفيني حقي يا ديك يا صديقي العزيز.»
نظرت إلى جسمه الرشيق المشدود ووجهه اللطيف الحازم، وغيرت رأيي. قلت: «فلتتنزل عليَّ صاعقة لو قلتُ إنني أستطيع تحديد أي احتمالات. لو كان من سيفعلها أي شخصٍ آخر، لاحتاج إلى معجزة، ولكن ما دام بيتر هو من سيحاول، فأرى أنَّ الاحتمالية خمسون في المائة.»
أصرَّ بيتر قائلًا: «بل سبعون في المائة. لو كانت خمسين في المائة، لما أثارت المسألة اهتمامي.»
صاح ساندي قائلًا: «دعوني أنا أذهب. فأنا أتحدث لُغتهم، وأستطيع إيهامهم بأنني تُركي، وفرصتي في النجاح أكبر بمليون مرة. من أجل الرب يا ديك، دعني أنا أذهب.»
«لا يمكن أن تذهب أنت. فأنا أحتاج إليك هنا. وإذا اختفيت، فستفسد المهمة كلها قبل الأوان، وسنُعلَّق نحن الثلاثة الباقون هنا في المشانق قبل طلوع الصباح … لا يا بُني. ستهرب، لكنك ستهرب بصحبتي أنا وبلنكيرون. علينا اجتثاث مسألة ذي العباءة الخضراء برُمَّتها من جذورها لئلَّا يبقى منها شيء يُعاود الظهور مجددًا … أخبِرني أولًا، كم من رجالك سيبقى معك؟ أعني من «رفاق الأوقات الوردية».»
«الستة كلهم. إنهم في غاية القلق بالفعل مما حدث. لقد جعلَتني أجس نبضهم في حضورها، وأعلنوا استعدادهم التام لقبولي خليفةً لذي العباءة الخضراء. لكن لدَيهم شكوك بخصوص ما حدث في الفيلا، وليس لديهم أي مَحبة تجاه المرأة … سيخوضون معي أهوال جهنم إذا أمرتَهم بذلك، لكنهم يُفضِّلون أن أكون أنا قائدهم ولا أحد سواي.»
صحتُ قائلًا: «عظيم جدًّا. هذا هو الشيء الوحيد الذي كان يؤرقني. والآن، لاحِظ هذه الخريطة. أرضروم ليست مُحاطة من جميع الجهات إطلاقًا. فالروس مُتركزون حولها في شكل هلالٍ عريض. وهذا يعني أن الجهات الغربية والجنوبية الغربية والشمالية الغربية كلها مفتوحة وغير مَحميَّة بخنادق دفاعية. يوجَد جناحان بعيدان من قوات العدو متركزان شمالًا وجنوبًا في التلال، ولكن يمكن الالتفاف من حولهما، وحالما نلتفُّ من حول أحد هذَين الجناحَين، لن يحول شيء بيننا وبين أصدقائنا … لقد حددتُ طريقنا»، ومرَّرتُ إصبعي على الخريطة لأُرِيهم إيَّاه. ثم أضفت: «إذا استطعنا أن نسلك هذا الطريق الملتفَّ الطويل إلى الغرب، وتخطَّينا هذا الممرَّ من دون أن يلاحظنا أحد، فسنلقى حتمًا مجموعةً من القوات الروسية في اليوم التالي. سيكون الطريق وعرًا، لكني أظنُّ أننا جميعًا قد طرقنا في الماضي دروبًا وطرقًا وعرةً تضاهيه صعوبةً. لكن لا بد أن يكون لدينا شيء واحد، وهو الخيول. هل نستطيع نحن وأشقياؤك الستة أن نرحل خلسةً في الظلام على ظَهر أفضل الأحصنة في هذه البلدة؟ إذا استطعتَ تدبُّر ذلك، فسنبلغ مُرادنا.»
جلس ساندي وأخذ يفكر مليًّا. والحمد للرب أنه كان يفكر حينئذٍ في تصرُّفٍ فعلي وليس في ضميره.
ثم قال أخيرًا: «يجب فعل ذلك، لكنه لن يكون سهلًا. حسين رجل بارع، ولكن كما تعلم جيدًا يا ديك، ليس من السهل الحصول على خيول بالقُرب من جبهة المعركة. غدًا عليَّ أن ألتزم بصيامٍ لعين عن الطعام والشراب، وفي اليوم التالي ستُدرِّبني تلك المرأة على دوري الذي سأؤدِّيه. سيتحتَّم علينا أن نمنح حسين وقتًا كافيًا … ليتنا كنا نستطيع فعلها الليلة.» وعاود الصمت مرةً أخرى قليلًا، ثم قال: «أعتقد أن أفضل وقتٍ سيكون هو الليلة الثالثة، عشية الكشف عن نبوءتي. فهي حتمًا ستترُكني وحدي في تلك الليلة.»
قلت: «حسنًا. صحيح أن الجلوس في هذا القبر البارد لن يكون مُمتعًا، ولكن علينا أن نحافظ على رباطة جأشنا، وألا نتعجل فنُعرِّض المهمة للفشل. وفوق ذلك، إذا نجح بيتر، فسيكون الأتراك مشغولين بحلول بعد غد.»
سمِعنا المفتاح يدور داخل قفل الباب، ودخل حسين متسللًا في صمتٍ كالظل. وكان دخوله بمنزلة إشارةٍ لساندي بالرحيل.
قال ساندي: «لقد منحتموني قبلة الحياة أيها الرفاق. فالآن لديَّ خطة، وأستطيع الآن أن أشحذ هِمتي وأعقد العزم وأنفذها.»
تقدم نحو بيتر وقبض على يده. قال له: «بالتوفيق. أنت أشجع من قابلتُهم في حياتي وهم قِلة.» ثم استدار فجأة وخرج، وقال بلنكيرون من ورائه: «اعكف على إحضار الخيول.»
ثم شرعنا في تجهيز بيتر لغزوته. وكان ذلك سهلًا؛ لأن متاعنا كان قليلًا أصلًا. لم تكن هيئته، بمعطفه السميك ذي الياقة المصنوعة من الفرو، مختلفة عن هيئة أي ضابطٍ تركي عادي في الضوء الخافت. لكن بيتر لم يكن ينوي التظاهُر بأنه تركي، بل لم يكن يعتزم إعطاء أي شخصٍ فرصة ليراه أصلًا، وكان تركيزه منصبًّا على التماهي مع المشهد من حوله لئلَّا يلفت الأنظار. لذا خلع معطفه السميك وارتدى كنزتي الرمادية فوق سُترته، واعتمر خوذة صوفية بنفس اللون. لم يكن بحاجة إلى الخريطة؛ لأنه قد حفظ مساره عن ظهر قلب منذ وقتٍ طويل، وما يثبت في ذلك الدماغ مرة يظلُّ عالقًا فيه كالشمع، لكنني جعلته يأخذ خطة شتوم والورقة التي كتبَها، وخبأهما أسفل قميصه. ارتأيت أن الصعوبة الكبرى ستكمن في الوصول إلى الروس دون إطلاق الرصاص عليه، بافتراض أنه سيجتاز الخنادق التركية. كان أمله الوحيد أن يصادف شخصًا ذا دراية، ولو ضئيلة، باللغة الإنجليزية أو الألمانية. صعد إلى السطح مرتين وعاد مبتهجًا؛ لأن الشواهد كانت تنذر بطقس عاصف.
أحضر حسين عشاءنا، وأعدَّ بيتر صرةً من الطعام ليأخذها معه. كان لدَينا أنا وبلنكيرون قنينتان صغيرتان من البراندي، فأعطيت بيتر قنينتي.
ثم مدَّ يدَه مودِّعًا إيَّانا بكل بساطة، كأنه طفل مطيع ذاهب إلى فراشه. لم يتحمَّل بلنكيرون ذلك. فانهمرتِ الدموعُ بغزارة على وجنتَيه، ووعد بيتر بأنه، إذا تخطينا كلنا هذا المأزق، سيضعه في أطرى فراش يمكن شراؤه. لكني لا أظن أن بيتر قد فهِمه؛ لأنَّ عينَيه لاح فيهما ذلك الانهماك الشارد الذي يستحوذ على الصياد حين يجد صيدًا. كان تفكيره منصبًّا على مهمته فقط.
صعد إلى أعلى واختفت ساقاه وحذاؤه المُهترئ للغاية عبر نافذة السقف، وفجأة شعرتُ بوحدةٍ وحزن شديدَين. بدأَت المدافع تدوي مرة أخرى في الشرق، وبين كلِّ دويٍّ وآخر كنتُ أسمع صفير العاصفة الآخِذة في الاشتداد.