مغامرات رَجُليَن هولندِيَّين طليقَين
كان الألمان، كما قال بيتر، شعبًا يقظًا. استقبلَنا رجلٌ ألماني على رصيف الميناء في روتردام. وكنت أشعر ببعض الخوف من أن يكون شيءٌ ما قد ظهر في لشبونة وفَضَح كذبنا، وأن يكون صاحبنا القصير قد حذَّر أصدقاءه منَّا ببرقيةٍ. ولكن بدا أنَّ كلَّ شيءٍ كان هادئًا تمامًا.
كنتُ أنا وبيتر قد نسجنا خططنا بإحكام شديد أثناء الرحلة. فلم نكن نتحدث إلَّا بالهولندية، وظللنا نتظاهر فيما بيننا بأننا فردان من كتيبة ماريتس؛ لأنَّ بيتر قال إنَّ هذه هي الطريقة الوحيدة لنتقمص الدور تمامًا. وأُقسمُ إنني، قبل أن نصل إلى هولندا، كدتُ أنسى ماضيَّ الحقيقي بالفعل من شدة انهماكي في تقمُّص هويتي الجديدة. بل كنت أخشى أن يَضمُر الجزء الآخر من عقلي، الذي ينبغي أن يكون منشغلًا بالمسألة الكبرى، وأن يُصبح تفكيري بالفعل كتفكيرِ أيِّ وغدٍ قروي عادي في جنوب أفريقيا.
كنا قد اتفقنا على أنه من الأفضل أن نصل إلى ألمانيا حالًا، وعندما أخبرَنا العميلُ الذي الْتقانا عند الرصيف بوجود قطار سيتَّجِه إلى هناك في منتصف النهار، قررنا أن نستقله.
عاودَني الإحساس بالخوف مجددًا قبل أن نتجاوز الحدود. فقد رأيتُ في المحطة رجلًا من مبعوثي الملك كنتُ قد رأيتُه في فرنسا من قبل، ومراسلًا حربيًّا كان يتحرك هنا وهناك بخفَّة وسرعة في الجانب الذي كنا متمركزَين فيه من الجبهة قبل معركة لوس. وسمعتُ امرأة تتحدَّث بلغةٍ إنجليزية واضحة جدًّا، وكانت لكنتها، وسط الهَذرمة الهولندية الجشَّاء، تبدو كعصفورٍ جميل وسط غِربان. ووجدتُ نُسخًا مطروحةً للبيع من صحف إنجليزية، وطبعاتٍ رخيصة من كتب ومجلات إنجليزية. شعرتُ بالندم والاستياء من المهمة كلها، وتساءلتُ عمَّا إذا كنتُ سأرى هذه المشاهد المألوفة المُرتبطة بالوطن مجددًا أم لا.
لكنَّ ذاك الشعور تلاشى حين انطلق القطار. كان يومًا عاصفًا صافيًا، وبينما كنا نسير ببطءٍ عبر مراعي هولندا المستوية، أمضيتُ وقتي في الإجابة عن أسئلة بيتر. لم يكن قد ذهب إلى أوروبا من قبل، وأخذ انطباعًا جيدًا عن الزراعة هناك. قال إنه يُقدِّر أنَّ أرضًا كهذه قد تحمِل أربعة أغنام في كل فدانَين. وهكذا كنَّا مُنهمكَين في الحديث حين وصلنا إلى المحطة الحدودية، وارتجَّ بنا القطار فوق جسرِ قناةٍ وهو يدخل ألمانيا.
كنت أتوقع رؤية حاجزٍ كبير منصوب بأسلاكٍ شائكة وتحصينات. ولكن لم يكن يوجَد على الجانب الألماني سوى ستة حراس مُرتدِين الزي العسكري الرمادي الداكن الذي كنتُ أستهدفه في معركة لوس. أتى ضابطٌ مساعد يحمل الزر الأسود والذهبي الخاص بقوات الاحتياط، وأخرجَنا بحدةٍ من القطار، واقتادنا كلنا كالقطيع إلى غرفة انتظار كبيرة خالية، فيها مَوقد كبير مُتقد. ثم أخذونا اثنَين اثنَين إلى غرفة داخلية لتفتيشنا. كنتُ قد شرحتُ لبيتر كل شيء عن هذا الإجراء الشكلي المعتاد، لكني كنتُ سعيدًا بأننا دخلنا معًا؛ لأنَّهم جعلونا نتجرد تمامًا من كلِّ ثيابنا، واضطُررتُ إلى سبِّه بكلِّ جدِّية لأبقيه ساكتًا. كان الرجال الذين فتشونا مُهذبين إلى حدٍّ كبير، لكنهم أدَّوا وظيفتهم على أكمل وجه. دوَّنوا قائمة بكل ما كنَّا نحمِله في جيوبنا وحقائبنا، وكل التفاصيل الواردة في جوازَي السفر اللذَين أعطانا إيَّاهما العميل الذي الْتقانا في روتردام.
وبينما كنا نُعاود ارتداء ثيابنا، جاء رجل يرتدي زيَّ مُلازمٍ حاملًا ورقةً في يده. كان شابًّا نَضِر الوجه، في العشرين من عمره تقريبًا، وكان يرتدي نظارةً على عينَيه المصابتَين بقصر النظر.
صاح قائلًا: «السيد براندت.»
فأومأت بالإيجاب.
سألني بالهولندية: «وهذا السيد بينار؟»
حيَّانا بتحيةٍ عسكرية. وقال: «أعتذر أيها السيدان. تأخرتُ بسبب بطء سيارة حضرة القائد. لو كنتُ أتيت في الوقت المناسب، لما اضطُررتما إلى المرور بهذه الإجراءات. لقد أُخطِرنا بقدومكما، وتلقيتُ تعليمات بأن أصحبكما في رحلتكما. القطار المُتجه إلى برلين سيغادر في غضون نصف ساعة. أرجو أن تُشرفاني بمشاركتي كأسًا من الجعة الألمانية.»
ابتعَدْنا عن حشد الركاب العاديين بمشيةٍ مُتشامخة وشعور بالتميُّز، وتَبعْنا الملازمَ إلى مطعم المحطة. سرعان ما انخرط في محادثةٍ معنا، وكان يتحدَّث باللغة الهولندية الدارجة في هولندا، ووجد بيتر بعض الصعوبة في فهمها لأنه كان ناسيًا ما تعلَّمه في المدرسة. لم يكن الملازم لائقًا للخدمة الميدانية القتالية، بسبب قصر نظره وضعف قلبه، لكنه أظهر عقليةً عدوانية مُستميتة في ذاك المطعم الخانق. فمن وجهة نظره، كانت ألمانيا تستطيع الْتهام الفرنسيين والروس وقتما تشاء، لكنها كانت تسعى إلى إحكام قبضتِها على الشرق الأوسط كله أولًا، لكي تخرج منتصرةً وهي تُسيطر على نصف العالم فعليًّا.
قال بابتسامةٍ عريضة: «أصدقاؤكما الإنجليز سيَحين دورهم أخيرًا. بعدما نُجوِّعهم ونُدمِّر تجارتهم بغواصاتنا، سنُريهم ما يُمكن أن يفعله أسطولنا البحري. لقد ظلُّوا يُهدرون وقتهم في التباهي والسياسة طَوال عام كامل، بينا كنا نبني سفنًا عظيمة، أوه، لقد بنَينا الكثير جدًّا منها! ابن عمي في كييل …» وهنا سكت ونظر من فوق كتفه.
لكننا لم نعرف قصة ابن عمِّه هذا قط. فقد جاء رجل قصير مسفوع من الشمس، فنهض صاحبنا بسرعةٍ وحيَّاه تحية عسكرية وهو يضرب عَقِبَيْ حذائه بعضهما ببعض بصوتٍ حادٍّ كأنه يضم طرفَي مِلقَط.
قال: «هذان هما الهولنديان الآتيان من جنوب أفريقيا يا حضرة القائد.»
نظر إلينا الوافد الجديد بعينَين لامعتَين متبصرتَين، وبدأ يستجوب بيتر باللغة الأفريقانية. كان من حُسن حظنا أننا قد بذلنا جهدًا مُضنيًا في اختلاق قصة محبوكة، والتدرُّب على حفظ تفاصيلها؛ لأنَّ هذا الرجل كان قد قضى سنواتٍ في جنوب غرب أفريقيا الألمانية، وكان يعرف كل مِيل من الحدود. كان اسمه زورن، وشعرتُ أنا وبيتر بأننا نتذكَّر أننا سمِعنا البعض يتحدث عنه من قبل.
يُسعدني القول إنَّ كلَينا قد أبلى بلاء حسنًا جدًّا. فقد حكى بيتر قصته بحبكةٍ مُتقنة، دون مبالغة، وكان يطلب منِّي بين الحين والآخر أن أُساعده في تذكُّر اسمٍ ما أو أؤكد له تفصيلة مُعينة. وبدا الكابتن زورن مقتنعًا.
قال: «يبدو أنكما من نوعية الرجال المُناسبين.» ثم أضاف وهو يُقطِّب حاجبَيه متوعدًا: «لكن تذكَّرا، نحن لا نتهاون مع المكر في هذه الأرض. إذا كنتما صادقَين، فستنالان مكافأة، ولكن إذا تجرأتما على أن تلعبا على الحبلَين، فستُقتلان رميًا بالرصاص كالكلاب. فعِرقكما قد أنجب الكثير من الخونة، وأنا أكره ذلك.»
قلت بصرامة: «لا أطلب مكافأة. لسنا ألمانًا ولا عبيدًا لألمانيا. ولكن ما دامت ألمانيا تُحارب إنجلترا، فسنُقاتل في صفوفها.»
قال: «كلام جريء، ولكن عليكما أن تَحنِيا رقبتَيْكما العنيدتَين للانضباط أولًا. فعدم الانضباط هو نقطة ضعفكم أيها البويريون، وقد عانيتُم بسبب ذلك. لم تعودوا أمَّة. أمَّا في ألمانيا، فنضع الانضباط أولًا وأخيرًا؛ ولذا سنغزو العالم. انصرِفا الآن. سيغادر قطاركما في غضون ثلاثِ دقائق. سنرى ماذا سيقول فون شتوم عنكما.»
أعطاني ذاك الرجل أفضل «انطباع» من بين كل الألمان الذين قابلتُهم حتى الآن. فقد كان رجلًا مُحترمًا، وكان من الممكن أن أعمل معه. أعجبني ذقنه الصلب وعيناه الزرقاوان الهادئتان.
أكثر ما أتذكَّره عن رحلتنا إلى برلين هو طابعها العادي. غلب النعاس المُلازمَ ذا النظارة، وكانت العربة لنا وحدَنا معظم الوقت. كان يدخلها بين الحين والآخر جنديٌّ ما عائد إلى برلين في إجازة، وكان معظم هؤلاء الجنود رجالًا مُتعَبِين أثقل النعاسُ أجفانهم. ولا عجب في ذلك؛ إذ كان هؤلاء البؤساء المساكين عائدِين إمَّا من ثغرة إيزر وإما من ثغرة ساحة إيبر. كنتُ أريد التحدُّث إليهم، لكني بالطبع كنتُ متظاهرًا بأنني لا أعرف الألمانية، والمحادثة التي سمعتها فيما بينهم مصادفةً لم تكن مهمةً كثيرًا. كان أغلبُها عن تفاصيل أفواجِهم العسكرية، وإن كان أحد الرجال، الذي كان أكثر تفاؤلًا من البقية، قد قال إنَّ هذا هو آخِر عيد ميلاد مجيد سيعيشونه في بؤس، وإنهم في العام المقبل سيقضون العطلة في ديارهم بجيوبٍ ملأى. وافقه الآخرون، لكن دون كثيرٍ من الاقتناع.
كان نهار الشتاء قصيرًا، وقضَينا معظم الرحلة في الظلام. استطعت أن أرى من النافذة أضواء قرًى صغيرة، ولهبَ بعض مصانع الحديد وورش الحدادة بين الحِين والآخر. توقَّفنا في إحدى البلدات لتناول العشاء، حيث كان رصيف القطار مكتظًّا بمجموعاتٍ من المجنَّدين مُنتظِرين السفر غربًا. لم نرَ أي علاماتٍ على نقص الغذاء، كالتي كتبَت عنها الصحف الإنجليزية. فقد تناولنا عشاء ممتازًا في مطعم المحطة، مع زجاجة من النبيذ الأبيض، مقابل ثلاثة شلنات فقط لكل فرد. صحيح أنَّ الخبز كان رديئًا، لكني أستطيع تحمُّل عدم وجود خُبز إذا حصلت على شريحة لحم غضَّة لذيذة وخضراوات شهية كتلك التي تُقدَّم في فندق سافوي.
كنت خائفًا بعض الشيءِ من أن ننام ونهذي بكلامٍ يفضح حقيقتنا أثناء نومِنا، ولكن لم يكن يوجد داعٍ إلى الخوف؛ لأنَّ مُرافقنا كان نائمًا كخنزير، فاغرًا فمَه عن آخرِه. وبينما كان القطار يمضي بنا بهديره الصاخب وسط الظلام، ظللتُ أقرص نفسي لأبقى متيقظًا ومُدركًا أنني في أرض العدو أؤدِّي مهمةً خطرة. بدأ المطر يهطل، ومررنا ببلداتٍ تقطر ماءً من شدة المطر فيها، في حين كانت الأضواء ساطعة من شوارعها المُبللة. وبينما كنَّا نتجه شرقًا، بدا أنَّ الإضاءة تزداد سطوعًا. كنتُ معتادًا ضباب لندن وظلامها، لذا شعرتُ باستغرابٍ وأنا أنساب بسرعةٍ هكذا عبر محطاتٍ متوهجة بمائة مصباح قوسيٍّ ساطع، وأرى صفوفًا طويلة من القناديل مُمتدة إلى الأفق. غلب النعاس بيتر مبكرًا، لكني ظللتُ مستيقظًا حتى منتصف الليل، محاولًا استجماع أفكاري التي كانت تتفلَّت منِّي باستمرار. ثم غفوت أنا أيضًا ولم أستيقظ حتى نحو الخامسة صباحًا، عندما دخلنا محطةً كبيرة مزدحمة وساطعة الإضاءة كما لو كنَّا في وسط النهار. كانت تلك أسهل الرحلات التي خضتُها في حياتي، بل وأقلَّها إثارة للشبهات.
تمطَّى المُلازم وسوَّى زيَّه المجعَّد. حملنا أمتعتنا الضئيلة إلى عربةٍ بحصان؛ لأنَّ المحطة لم يكن فيها حَمَّالون حسبما بدا. سلَّم مرافقنا إلى سائق العربة عنوان أحد الفنادق، وخرجَت بنا العربة مُصلصلةً إلى الشوارع الخاوية ذات الإضاءة الباهرة.
قال بيتر: «بلدة رائعة. الحقيقة أنَّ الألمان شعب عظيم.»
فأومأ المُلازم بودٍّ مرح.
وقال: «أعظم شعب على وجه الأرض، وسيشهدُ أعداؤهم بذلك قريبًا.»
كنتُ راغبًا بشدَّة في الاستحمام، لكني ارتأيتُ أنَّ ذلك لن يكون متماشيًا مع دوري الذي كنتُ أتقمَّصه، وبيتر لم يكن من المؤمِنين بالاستحمام. لكنَّنا تناولنا فطورًا لذيذًا جدًّا من القهوة والبيض، ثم أجرى المُلازم مكالمةً هاتفية. بدأ المكالمة بأسلوبٍ مُتسلِّط، ثم بدا أنَّ مُحادِثه قد أوصَلَه بشخصٍ ذي سُلطة أعلى؛ لأنه صار أكثر تأدبًا، وأصبح مُتذللًا بعض الشيء في النهاية. اتخذ بعض الترتيبات؛ لأنَّه أخبرَنا بأننا بعد الظُّهر سنُقابل رجلًا لم يستطع ترجمة لقبه إلى الهولندية. استنتجتُ أنه رجل ذو مكانة عالية جدًّا؛ لأنَّ صوت الملازم غلب عليه نبرةُ توقير وإجلال عند ذكره.
أخذَنا الملازم للتمشية في صباح ذاك اليوم بعدما ارتدَينا ثيابنا وهندمنا مَظهرنا. كنا نبدو وغدَين غريبين، لكنَّ مظهرنا كان يوحي بأننا من جنوب أفريقيا كأشجارها الأصلية الكثيفة. كان كِلانا يرتدي حُلة جاهزة من التويد، وقميصًا رماديًّا من الفلانيل وياقة من الفلانيل أيضًا، وقبعة من اللبَّاد ذات حوافٍ أعرض ممَّا يُحبذون في أوروبا. كنتُ أنتعل حذاء بُنيًّا طويل العنق ذا موطئ مُثبَّت بإحكام، فيما كان بيتر ينتعل واحدًا من تلك الأحذية البشعة الملونة بلون الخردل التي يرتديها البرتغاليون، والذي جعله كسيدةٍ صينية عرجاء. كان يرتدي ربطة عنق قرمزية من الساتان، وكانت تُصدِر صوتًا يُمكن للمرء سماعُه على بُعد ميل. كانت لحيتي قد نمت بصورة كبيرة بعض الشيء، وشذَّبتُها على غرار لحية الجنرال سماتس. أمَّا لحية بيتر، فكانت طليقةً طويلة متأرجِحة كاللُّحى التي يُحبذها رجال الغابات النائية في جنوب أفريقيا، التي لا تُحلَق أبدًا تقريبًا، ونادرًا ما تُمشَّط. يجب أن أقول إننا كنَّا بالفعل نبدو زوجًا حقيقيًّا جدًّا من جنوب أفريقيا. فأيُّ جنوب أفريقي كان سيظُنني رجلًا بويريًّا من الأرياف اشترى طقمًا كاملًا من الثياب من أقرب متجر، ومعه ابن عمِّه الذي وُلد في قريةٍ صغيرة تافهة، لكنه الْتحق بالمدرسة فظنَّ نفسه رجلًا استثنائيًّا. كانت تفوح منَّا رائحة شبه القارة السمراء، كما تُسميها الصحف.
كان صباحًا صافيًا جميلًا بعد المطر، وتجولنا في الشوارع ساعتَين. كانت مزدحمة جدًّا، وكانت المحلات تبدو فاخرة وزاهية ببضائع عيد الميلاد المجيد، وكان أحد المتاجر الكبيرة، الذي ذهبتُ إليه لأشتري مطواة، مُكتظًّا بالزبائن. لم أرَ كثيرًا من الشبان، وكان معظم النساء يرتدِين ملابس حداد. كان الزيُّ العسكري منتشرًا في كل مكان، ولكن بدا أنَّ أغلب مُرتديه كانوا ضباطًا متقاعِدين أُعيدوا إلى الخدمة، أو أفرادًا مَكتبيِّين. لمحْنا المبنى المنخفض العريض الذي كان يضمُّ هيئة الأركان، وخلعنا قبعاتنا تحيةً له. ثم حدَّقنا في مكتب الشئون البحرية الإمبراطورية، وتساءلنا عن ماهية المؤامرات التي تُحاك هناك خلف سوالف فون تيربيتز العجوز. كانت العاصمة تُعطي المرء انطباعًا بالنظافة القبيحة والسَّمت العملي الرتيب. ومع ذلك وجدتُها كئيبة، بل أشد كآبة من لندن. لا أعرف كيف أصوغ قصدي، لكن المكان ككلٍّ بدا بلا روح، بدا كمصنعٍ كبير لا مدينة. فالمرء لن يجعل من المصنع منزلًا، حتى وإن زيَّن واجهته، وزرع شُجيرات من الورود حوله. لقد أصابني المكان بالكآبة، لكنه أبهجني. فهو، بطريقةٍ ما، قد جعل الشعبَ الألمانيَّ يبدو أكثر ضآلة في نظري.
عند الساعة الثالثة، أخذَنا المُلازم إلى مبنًى أبيض بسيط خالٍ من أي زخرفة في شارع جانبي حيث كان بابُه محاطًا بحُراس. قابلَنا ضابطٌ شابٌّ من ضباط الأركان، وجعلَنا ننتظر خمس دقائق في غرفة انتظار صغيرة. ثم دخلنا غرفةً كبيرة ذات أرضية مصقولة كاد بيتر أن يجلس عليها. كان في الغرفة مدفأة تحوي حطبًا مشتعلًا، وطاولة كان يجلس إليها رجل ضئيل الحجم ذو نظارة وشعرٍ مُصفَّف إلى الوراء كعازف كمان شهير. كان ذلك هو رئيس الملازم؛ لأنه حيَّاه تحية عسكرية وأخبره باسمَينا. ثم اختفى الملازم، وأشار لنا الرجل الجالس إلى الطاولة بأن نجلس على كرسِيَّين أمامه.
سألَنا وهو ينظر إلينا من فوق نظارته: «السيد براندت والسيد بينار؟»
لكنَّ الرجل الآخر هو من لَفَت انتباهي. كان واقفًا مُوليًا ظهره للنيران، مُتكئًا بمرفقَيه على رف المدفأة. كان رجلًا ضخم البنيان تمامًا كالجبل؛ إذ كان طوله يبلغ ست أقدام ونصف قدم بكل تأكيد، وكانت كتفاه العريضتان تجعلانه كثورٍ من سلالة شورتهورن. كان يرتدي زيًّا عسكريًّا، وكان الشريط الأبيض والأسود الخاص بالصليب الحديدي ظاهرًا عند إحدى عرواته. كانت سُترته كلها مجعدة ومشدودة بإحكامٍ كما لو كانت تحوي صدره الضخم بالكاد، وكانت يداه الضخمتان مُتشابكتَين فوق بطنه. قلت لنفسي إنَّ ذراعَي ذلك الرجل طويلتان كذراعَي الغوريلا حتمًا. كان ذا وجهٍ كبير خامل مُتبسم، وذقنٍ مشقوق مُربع بارزٍ عن بقية وجهه. كانت جبهته غائصة، وكانت مؤخرة رأسه القصيرة السميكة مُمتدة إلى الأمام لتلاقيها، في حين كانت رقبته بارزةً من فوق ياقته. كان شكل رأسه تمامًا كثمرة كمثرى ذات قمة مُدببة.
كان يُحدق بي بعينَيه الصغيرتَين اللامعتَين، وبادلتُه النظرة المُحدقة. عندئذٍ وجدت شيئًا لطالما كنتُ أبحث عنه، ولم أكن متيقنًا من وجوده حتى تلك اللحظة. كان أمامي هنا الرجل الألماني الذي يظهر في الرسوم الكاريكاتورية، الرجل الألماني الحقيقي، ذاك الذي كنَّا نواجهه في الحرب. كان قبيحَ الشكل كفرس النهر، لكنه كان باهرًا مَهيبًا. بل كانت كل شُعيرة منتصبة على رأسه الغريب باهرة مَهيبة.
كان الرجل الجالس إلى الطاولة يتحدث. خمَّنتُ أنه مسئول مدني ما ذو شأن وسط المُحيطين به، ربما وكيل وزارة. كانت لُغته الهولندية بطيئة وحذرة، لكنها كانت مُتقَنة، متقنة جدًّا لدرجة أنها استعصت على فهم بيتر. كانت أمامه ورقة، وكان يطرح علينا أسئلة منها. لم تكن صعبة؛ إذ كانت مجرد تكرارٍ لتلك التي طرحها علينا زورن عند الحدود. أجبتُ بطلاقةٍ لأنني كنتُ حافظًا كلَّ أكاذيبنا عن ظهر قلب.
ثم قاطعَه الرجل الواقف على سجادة المدفأة. قال بالألمانية: «سأتحدث أنا إليهما يا صاحب المعالي. فأسلوب سيادتك غير عملي تمامًا، ولا ينفع مع هذَين الخنزيرَين الأجنبِيَّين.»
بدأ كلامه باللغة الأفريقانية بتلك اللهجة الجشَّاء الغليظة التي يسمعها المرء في جنوب غرب أفريقيا الألمانية. قال: «لا بد أنكما سمعتما عني. أنا الكولونيل فون شتوم الذي حارب الهيريرو.»
أطرق بيتر بأُذنيه مُصغيًا باهتمام. وقال: «أجل أيها القائد، لقد قطعتَ رأس زعيمِهم القرد، وأرسلته في وعاء من الخلِّ ليطوفوا به كل أنحاء البلاد. رأيت ذلك.»
ضحك الرجل الضخم. وقال لصديقه: «أرأيت، أنا لا أنسى»، ثم الْتفت إلينا قائلًا: «هذا ما أفعله بأعدائي، وهذا ما ستفعله ألمانيا بأعدائها. بل وبكما أنتما أيضًا، إذا خذلتماني بأي قدْر مهما كان بسيطًا.» وعلَت ضحكاته مُجددًا.
كان هذا الضحك الصاخب بشعًا. وأخذ بيتر يُشاهده من أسفل جفنَيه مثلما رأيته من قبل يشاهد أسدًا على وشك الانقضاض.
ارتمى على كرسي، ووضع مرفقَيه على الطاولة، ومد وجهه إلى الأمام.
وقال: «لقد أتيتما من حربٍ فوضوية لعينة. لو كان ماريتس تحت إمرتي، لأمرتُ بجَلده مربوطًا في مؤخرة عربة. يا لهم من حمقى وكلاب وخنازير، كان الزمام بين أيديهم، ورمَوه. كان بإمكاننا أن نشعل ثورة تُجبر الإنجليز على الفرار إلى عرض البحر، وبسبب نقص الحماس تركوا لهيب الثورة يخمد. ثم ها هم يُحاولون تأجيجها بعدما برد الرماد.»
لفَّ كُريَّة صغيرة من الورق ونفضها بإصبعه فطارت في الهواء. ثم أضاف: «هذا رأيي في جنرالكما الأحمق، وفيكم جميعًا أيها الهولنديون. بطيئون كسيدةٍ أفريقانية سمينة، وجشِعون كنَسر أفريقي.»
بدَونا مُتجهِّمَين ومُستاءَين جدًّا.
صرخ قائلًا: «كلبان أخرسان. لو كنَّا أرسلنا ألف فردٍ من كتيبة براندنبورج، لفازوا بالمعركة في أسبوعَين. سايتس لم يكن لدَيه الكثير من المقاتِلين الذين يُمكن التباهي بهم؛ إذ كان معظمهم من الكَتَبة والمزارِعين ومُختلطي الأعراق، ولم يكن معهم أي جندي حقيقي ليقودهم، لكنه لم يسقط إلَّا بتحالُف بوتا وسماتس ودزينة من الجنرالات عليه. أمَّا ماريتس!» وعبَّر عن ازدرائه بنفخةٍ قوية كعصفة ريح.
قال بيتر بعُبوس: «لقد قاتل ماريتس بكل بسالةٍ حتى آخر لحظة. لم يكن خائفًا إطلاقًا من منظر الزيِّ العسكري الإنجليزي كجماعتكما.»
قال الرجل الضخم بنبرة هادئة كهديل الحمام: «ربما يكون هذا صحيحًا، لكنه ربما لم يكن خائفًا لأسبابٍ خاصة به. فأنتم أيها الهولنديون دائمًا ما تجدون فراشًا من الريش يُنقذكم حين تسقطون. يُمكنكم دائمًا أن تُصبحوا خونة. لقد صار ماريتس يُسمي نفسه روبنسون، ويحصل على معاش تقاعُدي من صديقه بوتا.»
قال بيتر: «تلك كذبة حقيرة.»
قال شتوم بتأدُّبٍ مفاجئ: «كنتُ أسأل عن معلومة. لكن كل هذا صار ماضيًا وانتهى. لم يعُد ماريتس مهمًّا، شأنه شأن آل كرونجي وآل كروجر القدامى عندكم. لقد انتهت المعركة، والآن تبحث عن الأمان. أو ربما عن سيد جديد؟ ولكن اسمعني يا رجل، بمَ يُمكن أن تنفعني؟ ماذا يُمكنك أن تُقدِّم لي؟ فأنت وقومك الهولنديون منبطحون في التراب، والنِّير حول أعناقكم. لقد أقنعكم مُحامو بريتوريا بتغيير قناعتكم وتقبُّل هذا الوضع. انظر إلى تلك الخريطة»، وأشار إلى خريطة كبيرة على الحائط. وأضاف: «جنوب أفريقيا ملونة باللون الأخضر. ليس بالأحمر الذي يرمز إلى الإنجليز، ولا بالأصفر الذي يرمز إلى الألمان. صحيح أنها ستُصبح باللون الأصفر يومًا ما، لكنها ستظل وقتًا قصيرًا باللون الأخضر، لون مَن لا لون لهم، لون التافِهين، لون الأولاد الصغار، والفتيات، والجبناء.»
ظللتُ أتساءل عمَّا يرمي إليه.
ثم ثبَّت ناظرَيه على بيتر. وسأله: «لماذا جئتَ إلى هنا؟ لقد انتهت اللعبة في بلدك. فماذا يُمكن أن تُقدِّم لنا نحن الألمان؟ حتى إذا أعطَيناك عشرة ملايين مارك وأعدناك إلى هناك، لا تستطيع فعل أي شيء. ربما تُثير اضطرابًا في قريةٍ ما، وتطلق النار على شرطي. لقد خرجَت جنوب أفريقيا من حسابات هذه الحرب. بوتا رجل ذكي بعض الشيء، وقد هزمكم أيها المُتمردون كالجديان الساذجة. هل تستطيع إنكار ذلك؟»
لم يستطع بيتر الإنكار. لقد كان صريحًا للغاية في بعض الأشياء، وكان يُوافقه الرأي بالتأكيد.
قال: «لا، هذا صحيح أيها القائد.»
فصرخ شتوم قائلًا: «إذن ماذا يُمكنك أن تفعل بحقِّ الرب؟»
تمتم بيتر بكلامٍ أحمق عن استمالة أنجولا بِحِيَل ملتوية لإقناعها بالانحياز إلى ألمانيا، وإضرام ثورة بين السكان الأصليين. فرفع شتوم ذراعَيه فجأة وأطلق سبابًا، وضحك وكيل الوزارة.
كان هذا هو الوقت المناسب لأتدخَّل. فقد بدأتُ أدرك طبيعة شتوم ذاك، وبينما كان يتكلَّم، تذكرتُ مُهمتي الأصلية، التي كان ماضيَّ البويري الزائف قد غشاها. بدا لي أنَّ شتوم هذا ربما ينفعني.
قلت له: «دعني أتحدَّث. صديقي صياد عظيم، لكنه لا يجيد الكلام بقدْر ما يجيد القتال. فهو ليس سياسيًّا. أنت مُحق فيما تقول. لقد صارت جنوب أفريقيا بابًا مُغلقًا في الوقت الحالي، ومفتاحه موجود في مكانٍ آخر. هنا في أوروبا، وفي الشرق، وفي أجزاء أخرى من أفريقيا. لقد جئنا لنُساعدك في العثور على المفتاح.»
كان شتوم يُنصت. قال لي: «هيا قُل ما عندك يا صغيري البويري. سيكون شيئًا جديدًا أن نسمع أفريقانيًّا قرويًّا ساذجًا يدلي برأيه في السياسة العالمية.»
قلت: «أنتم تقاتلون في شرق أفريقيا، وقد تُقاتلون في مصر قريبًا. ستكون ساحة معركتكم ممتدةً عبر الساحل الشرقي شمال نهر الزمبيزي. الإنجليز ينتشرون في مختلف أنحاء العالم بحملاتٍ عسكرية صغيرة. لا أعرف أماكن تلك الحملات، وإن كنتُ قد قرأت عنها في الصحف. لكني أعرف أفريقيا موطني. تُريدون أن تهزموهم هنا في أوروبا وفي الخارج أيضًا. لذا تسعَون، كجنرالات حكماء، إلى تفريقِهم وتشتيت شملِهم في كل أنحاء العالم، في حين تبقَون أنتم في وطنكم. هذه خطتكم، أليس كذلك؟»
قال شتوم ضاحكًا: «نحن أمام نسخةٍ ثانية من فون فالكانهاين.»
أضفت: «حسنًا، إنجلترا لن تترك شرق أفريقيا من يدَيها. إنها تخاف على مصر، وتخاف على الهند أيضًا. وإذا ضيَّقتُم الخناق عليها هناك، فستظل إنجلترا ترسِل جيوشًا ومزيدًا من الجيوش إلى أن تُصبح ضعيفة جدًّا في أوروبا بحيث يستطيع طفلٌ صغير أن يسحقَها. هذا هو دأب إنجلترا. إمبراطوريتها أهم عندها ممَّا قد يحدث لحلفائها. لذا أوصيكم بأن تُضيقوا عليها الخناق وتظلُّوا تُضيقونه هناك، كأن تُدمروا خطوط السكك الحديدية المؤدية إلى «البحيرات»، وتحرقوا عاصمتها، وتجمعوا كل الإنجليز وتحبسوهم في جزيرة مُومباسا. فقيمة هذا لكم في الوقت الحالي تساوي قيمة ألفٍ من مستعمرة دامارالاند.»
كان الرجل مُهتمًّا حقًّا، وكان وكيل الوزارة أيضًا يُصغي باهتمام.
قال الأول: «نستطيع الحفاظ على أراضينا، ولكن بخصوص تضييق الخناق، فكيف نُضيقه بحق الجحيم؟ إن هؤلاء الإنجليز الملاعين يُحكِمون قبضتهم على البحر. لا نستطيع نقل رجالٍ أو أسلحة إلى هناك عن طريق البحر. والجنوب تحت سيطرة البرتغاليين، والغرب تحت سيطرة البلجيكيين. لا يُمكنك أن تُحرِّك كتلةً ما دون رافعة.»
قلت: «الرافعة موجودة، وجاهزة لتستخدموها.»
صاح قائلًا: «فلتُرِني إيَّاها من أجل الرب.»
نظرتُ إلى الباب لأتيقَّن من أنه مُوصَد، كما لو كان ما سأقوله سريًّا للغاية.
«أنتم بحاجة إلى رجال، والرجال مُنتظرون. إنهم سود، لكنهم مُحاربون بارعون بالفطرة. ففي جميع أنحاء حدودكم، لديكم بقايا قبائل مُقاتِلة كبيرة؛ الأنجوني والماساي والمانيومويزي، وفوق كل ذلك صوماليُّو الشمال، وسكان أعالي النيل. البريطانيون يُجنِّدون كتائبهم السوداء هناك، وأنتم أيضًا. لكن الحصول على مُجنَّدين لا يكفي. يجب أن تجعلوا أممًا بأكملها تتحرك، مثلما تحرَّكت قبائل الزولو تحت قيادة شاكا لتجتاح جنوب أفريقيا.»
قال وكيل الوزارة: «لا يُمكن تحقيق ذلك.»
فقلت بهدوء: «بل يُمكن. ونحن الاثنان هنا لتحقيقه.»
كان هذا النوع من الحديث صعبًا عليَّ للغاية، وخصوصًا بسبب التعليقات الجانبية التي كان شتوم يقولها بالألمانية للمسئول الآخر. فقد كان عليَّ في المقام الأول أن أجعلهما يُصدِّقان أنني لا أفهم الألمانية إطلاقًا، وإذا كنتَ تفهم لغةً ما جيدًا، فليس من السهل عليك، حين تُقاطَع، أن تتظاهر بأنك لا تعرفها؛ لأنَّ لسانك قد يزِلُّ إما بالرد مباشرة على تلك المقاطعة، أو بالإشارة إليها بعدئذٍ فيما ستقوله لاحقًا. كان عليَّ أن أكون مُتيقظًا دائمًا، ولكن كان عليَّ أيضًا أن أكون مُقنعًا جدًّا، وأقنع هذَين الرجلَين بأنني سأكون نافعًا لهما. كان عليَّ أن أنال ثقتهما بأيِّ طريقة مُمكنة.
«لقد أمضيتُ سنواتٍ أطوف مختلف أنحاء أفريقيا؛ من أوغندا والكونغو إلى أعالي النيل. أعرف أساليب الزنوج كما لا يعرفها أي إنجليزي. فنحن الأفريقانيين نفهم خبايا نَفس الرجل الأسود، ومع أنه ربما يكرهنا، فإنه يُنفِّذ إرادتنا. وأنتم الألمان كالإنجليز، أي: إنكم قومٌ أعظم من أن تفهموا الرجال البسطاء العادِيِّين. تُنادون بالتحضُّر. ويُنادي الإنجليز بالتثقُّف والتعلُّم. صحيح أنَّ الرجل الأسود يُطيع الأوامر ويتخلى عن آلهته، لكنه يظل يعبدهم طَوال الوقت في أعماق روحه. يجب أن نضمَّ آلهته إلى صفِّنا، وعندئذٍ سيُحرِّك الجبال من أجلنا. يجب أن نفعل ما فعله جون لابوتا بقلادة ملكة سبأ.»
قال شتوم: «كل هذا مجرد هراء لا قيمة له»، لكنه لم يضحك هذه المرة.
قلت: «بل حِسٌّ منطقي رصين. ولكن يجب أن تبدأ من الطرف الصحيح. ابحث أولًا عن العِرق الذي يخشى كهنته. إنه في انتظاركم؛ مسلمو أرض الصومال والحدود الحبشية والنيل الأزرق والأبيض. سيكونون كالهشيم الذي سيشتعِل فورًا إذا استخدمتم دينَهم لإطلاق الشرارة. انظر إلى حجم المُعاناة التي كابَدها الإنجليز من مُلَّا معتوه كان يحكم اثنتي عشرة قرية فقط. وحالما تنطلق الشرارة، ستلتهم وثنيِّي الغرب والجنوب. هذا هو دأْب أفريقيا. برأيكَ كم ألفًا من رجال جيش المهدي لم يسمعوا بالنبي قطُّ إلَّا حينما رأَوا رايات الأمراء السوداء تدخل المعركة؟»
كان شتوم يبتسِم. الْتفتَ إلى المسئول الآخر وتحدَّث إليه واضعًا يدَه فوق فمه، لكني سمعتُ كلامه. كان يقول له: «هذا هو الرجل المناسِب لهيلدا.» فزمَّ الآخر شفتَيه، وبدا عليه شيء من الخوف.
قرع شتوم جرسًا، فدخل المُلازم وحيَّاه بضربِ عَقبَي حذائه بعضهما بعض. أومأ شتوم برأسه نحو بيتر. وقال: «خذ هذا الرجل معك. لم نعد نحتاج إليه. والرجل الآخر سيتبعك قريبًا.»
خرج بيتر بوجهٍ بدَت عليه الحيرة، والْتفت شتوم نحوي.
قال لي: «أنت حالِم يا براندت. لكني لن أرفضك لهذا السبب. فالأحلام تتحقَّق أحيانًا، حينما يكون وراء الحالم جيشٌ يتبعه. ولكن مَن الذي سيُطلق الشرارة؟»
قلت: «أنتم.»
سألني: «ماذا تقصد بحق الجحيم؟»
«هذا دوركم. أنتم أذكى شعب في العالم. فأنتم تُسيطرون على نصف أراضي المُسلمين بالفعل. أنتم مسئولون عن أن تُرونا كيف نُشعل حربًا مقدسة؛ لأنكم حتمًا تعرفون سِرَّها. واطمئنوا إلى أننا سنُطيع أوامركم دومًا.»
قال باقتضاب: «ليس لدَينا سر»، ونظر نظرة خاطفة إلى المسئول، الذي كان يُحدِّق في الخارج عبر النافذة.
فغَرتُ فمي مذهولًا، وبدَوت مُحبطًا تمامًا. قلتُ له ببطء: «لا أصدقك. أنت تراوِغني. ولم أقطع ستة آلاف ميل لكي يخدعني أحد.»
صاح شتوم قائلًا: «تأدَّب بحقِّ الرب. أنت لا تُكلم واحدًا من كتائب مَغاويرك الشُّعث الخُرق.» وبخطوتَين فقط منه، أصبح فوق رأسي ورفَعَني من مقعدي. كانت يداه الضخمتان قابضتَين بإحكامٍ على كتفَيَّ، وكان إبهاماه يُقَوِّران إبِطيَّ. شعرت وكأنني في قبضة غوريلا ضخمة. ثم هزَّني ببطءٍ شديد حتى بدا أنَّ أسناني قد تقلقلت، وأُصيبَ رأسي بالدوار. أفلتَني أخيرًا، فسقطتُ خائرَ القوى على الكرسي مجددًا.
«والآن انصرف! هيا أيها الكلب! وتذكر أنني سيدُك. أنا، أولريك فون شتوم، من يملكك كما يملك زنجيٌّ كلبَه الهجين. ربما نجد منك فائدة لألمانيا عندما تخشاني أكثر مما تخشى ربَّك يا صديقي.»
بينما كنتُ أنصرف في حالةٍ من الدوار، كان الرجل الضخم يبتسِم بطريقته المروعة، وكان ذاك المسئول الضئيل ينظر إليَّ خلسةً ويبتسِم أيضًا. لقد طرقتُ بلدًا لعينًا غريبًا، غريبًا إلى حدِّ أنني لم أحظَ بمُتَّسَع من الوقت لأُدرك أنَّ تلك هي المرة الأولى التي يعتدي فيها أحدٌ عليَّ ويُرهِبني هكذا دون أن أردَّ الاعتداء بمثله. كدت أختنق غضبًا حين أدركتُ ذلك. لكني شكرتُ الرب على أنني لم أُبدِ أي غضب؛ لأنني تذكرتُ مهمتي الأساسية. بدا لي أن حُسن حظي قد قادني إلى رِفاقٍ سينفعونني في مهمتي.