مغامرات أخرى للرجُلَين نفسيهما
كان صباح اليوم التالي مُمتزجًا بلمسةِ صقيع طفيفة، وكان الهواء فيه لذعة برد أثارت دمائي وشحذت معنوياتي. نسيت وضعي المحفوف بالأخطار، والطريق الطويل الذي ما زال عليَّ أن أقطعه. نزلت لأتناول الفطور بهيئةٍ رائعة، لأجد بيتر الهادئ دائمًا متوترًا للغاية. كان قد تذكَّر شتوم أثناء الليل، وكان مستاءً من تلك الذكرى، حسبما قال لي بتمتمةٍ خافتة عندما احتكَّ بعضنا ببعض عند باب قاعة الطعام. لم نحظَ أنا وبيتر بفرصة لنتحدَّث وحدنا. فالمُلازم كان معنا طَوال الوقت، وفي الليل كنَّا محبوسَين في غرفتينا الموصدتَين علينا. اكتشف بيتر ذلك وهو يُحاول الخروج بحثًا عن أعواد ثقاب؛ لأنه كان يُحب التدخين في الفراش، وكان معتادًا تلك العادة السيئة.
أجرى مرشدُنا مكالمةً هاتفية، وأخبرَنا بأننا سنؤخَذ لزيارة معسكرٍ للسجناء. كان مقررًا لي أن أذهب بعد الظهر إلى مكانٍ ما برفقة شتوم، لكنَّ الصباح كان لمشاهدة المعالم. قال لنا: «سترَيان مدى رحمة شعبنا العظيم. ستريان أيضًا بعض الإنجليز البغيضين الذين في قبضتنا. سيُسعدكما ذلك. هم السابقون، وسيلحق بهم كلُّ أفراد أمتِهم الباقين.»
ركبنا سيارة أجرة سارت بنا عبر الضواحي، ثم فوق ريفٍ مُمتد يُشبه حديقة للمزروعات السوقية، ثم إلى رابية غير مرتفعة كثيرًا من تلالٍ شجرية. وبعد رحلةٍ استغرقت ساعة، دخلنا بوابة مبنًى كان أشبَهَ بإصلاحيةٍ كبيرة أو مستشفًى كبير. أعتقد أنه كان مأوًى للأطفال المحرومِين والمعدمين في الماضي. كان عند البوابة حُراسٌ ولَفاتٌ دائرية ضخمة مُتتابعة من الأسلاك الشائكة، مَررْنا خلالها تحت قوسٍ يُنزَل إلى أسفلَ عند حلول الليل على غرار الأبواب الشبكية الحديدية المنزلقة في القلاع والحصون. أظهر الملازم تصريحه، وأوقفنا السيارة في ساحة مرصوفة بالطوب، ثم مشَينا عبر الكثير من الحرَّاس إلى مكتب القائد.
كان القائد خارج البلاد؛ لذا استقبلَنا نائبُه، وكان شابًّا شاحبًا شبهَ أصلع. سمعنا تعارُفات باللغة الألمانية ترجمَها مُرشدنا إلى الهولندية، والكثير من الخطب المُنمقة عن ألمانيا، وكيف أنها في صدارة الدول التي تتحلَّى بالإنسانية، وكذلك البسالة العسكرية. ثم وضعوا لنا شطائر وجِعَة، واصطحبونا في موكبٍ لنُجري جولة تفقُّدية. كان معنا طبيبان يبدوان ودِيعَين يرتديان نظارات، وبضعة سجَّانين، كانوا ضبَّاط صفٍّ من نوعية الضباط الأعزاء الضخام الباطشين الذين كنتُ أعرفهم جيدًا. كان هؤلاء بمثابة الأسمنت الذي يُحافظ على تماسُك جيش ألمانيا. فأغلب رجالِها لم يكونوا مدعاةً إلى التباهي، ولا ضباطها، حتى في الفيالق الممتازة، كفيلق الحرس وكتيبة براندنبورج، ولكن كان يبدو أنَّ لديهم كمًّا لا ينفد من ضبَّاط الصف الأكْفاء.
تمشَّينا في أرجاء المكان وتفقَّدنا المغاسل، وساحة الترفيه، والمطابخ والمستشفى، الذي لم يكن فيه سوى رجل مصاب ﺑ «الإنفلونزا». لم تكن حالة السجن العامة تبدو سيئة. كان كله مُخصصًا للضباط فقط، وأتوقَّع أنه كان مقصدًا للسياح يُؤخَذ إليه الزوَّار الأمريكيون عند مجيئهم إلى ألمانيا. فمِن المؤكد، إذا صحَّت نصف القصص التي كنَّا نسمعها، أنَّ ألمانيا فيها سجون أخرى مروعة بعيدًا في جنوبها وشرقها.
لم أستحسِن تلك الجولة إطلاقًا. فدائمًا ما كنت أرى أنَّ أسوأ شيء يُمكن أن يحدُث لرجل هو أن يُسجَن. كان منظر الأسرى الألمان عادة ما يُشعِرني بشعور سيئ، في حين أنَّ منظر جُثث الجنود الألمان لم يكن يُشعرني إلَّا بالارتياح والرضا. وفوق ذلك، كان احتمال أن تُعرَف هويتي الحقيقية ضئيلًا. لذا كنتُ أبقى متواريًا عن الأنظار قدر الإمكان كلما مررْنا بأيِّ شخصٍ في ممرَّات السجن. والقلَّة الذين قابلناهم مرُّوا بنا دون اكتراث. كان يُحيُّون نائب القائد بالتحية العسكرية، لكنهم لا يرمقوننا ولو بنظرةٍ واحدة. لا شكَّ أنهم حسبونا ألمانيين فضولِيِّين جئنا لنشمت بهم. كانوا يَبدون بحالةٍ صحية جيدة إلى حدٍّ كبير، باستثناء تورُّمٍ طفيف حول عيونهم، كرجال لا يمارسون قدرًا كافيًا من التمارين. وبدَوا نحفاء أيضًا. أظن أن الطعام، برغم كلِّ كلام القائد، لم يكن مدعاةً إلى الفخر. رأينا في إحدى الغُرَف رجالًا يكتبون رسائل. كانت غرفة كبيرة، ولم يكن فيها إلا موقد صغير جدًّا ليدفئها، في حين كانت النوافذ موصَدة؛ لذا كان الجو فيها باردًا نتن الرائحة. وفي غرفة أخرى، كان أحد الرجال يُلقي محاضرة عن شيء ما لمجموعة من المُستمِعين، ويرسم أشكالًا على سبورة سوداء. كان بعضهم يرتدي الزيَّ العسكري الإنجليزي العادي، فيما كان البعض الآخر يرتدي أي شيء قديم استطاعوا الحصول عليه، وكان مُعظمهم يرتدي المعاطف العسكرية السميكة. فالشعور بالبرد يشتدُّ على المرء حين لا يفعل شيئًا سوى تَمنِّي المُستحيل والتفكير في أحبائه والأيام الخوالي.
وبينما كنتُ أواصل التحرُّك، مُستمعًا بأذنٍ واحدة إلى ثرثرة الملازم والتفسيرات الصاخبة التي يُردِّدها نائب القائد، تعثَّرتُ بمصادفةٍ كان من المُمكن أن تُنهِي مهمتي تمامًا. كنَّا نسير في أرجاء غرفةٍ كانت بمنزلة غرفة نقاهة، حيث كان بعض الأشخاص جالِسين بعد خروجهم من المشفى. كانت غرفةً فسيحة، أدفأ قليلًا من بقية أجزاء المبنى، لكنها كانت سيئة التهوية هي أيضًا. كان فيها نحو ستة رجال يقرءون ويلعبون ألعابًا. نظروا إلينا لحظةً بعيونٍ فاترة، ثم عاوَدوا ما كانوا يفعلونه. وأفترض أنهم، لمَّا كانوا في فترة نقاهة، لم يكن مُنتظَرًا منهم النهوض وتأدية التحية.
عاوَدوا جميعًا ما كانوا يفعلونه باستثناء شخصٍ واحد كان يلعب إحدى ألعاب الورق على طاولةٍ صغيرة مررْنا بها. كنتُ مستاءً جدًّا من هذا الوضع؛ لأنني كرهتُ أن أرى هؤلاء الرجال الصالِحين محبوسين في هذا الجُحر الألماني اللَّعين، في حين كان من المُمكن أن يكونوا على الجبهة في ذلك الوقت يُعاقِبون الجنود الألمان شرَّ عقاب. كان القائد يتقدَّم الموكِب مع بيتر، الذي كان مهتمًّا جدًّا بمسألة السجون. ثم تبعهما المُلازم المُصاحب لنا وأحد الطبيبَين، ثم بضعة سجَّانين، ثم الطبيب الثاني وأنا. كنتُ شارد الذهن آنذاك، وكنت آخر واحد في طابور الموكب.
وفجأة نظر اللاعب بالورق إلى أعلى ورأيت وجهه. سحقًا لي لو لم يكن هذا هو دوللي ريدل، الذي كان ضابطًا بفيلق المدافع الرشاشة في لوائنا في معركة لوس. كنت قد سمعتُ أنَّ الألمان قد أسروه حين فجَّروا لغمًا في «المحاجر».
كان عليَّ أن أتصرف بسرعةٍ حين وجدته فغَر فمه من الذهول، ورأيت أنه على وشك التحدث. كان الطبيب أمامي على بُعد ياردة واحدة.
تعثرتُ وأوقعت أوراق اللعب على الأرض. ثم جثوتُ على رُكبتي لأُلملِمها وأمسكتُ ركبتَه. حنى رأسه ليُساعدني، وهمست له بصوتٍ خافت في أذنه.
«أجل أنا هاناي. من أجل الربِّ لا ترمش بعينك حتى. فأنا هنا في مهمةٍ سرية.»
كان الطبيب قد استدار ليرى ما الخطب. لكنِّي تمكنتُ من أن أهمس له ببضع كلماتٍ أخرى. قلت: «هوِّن عليك وتفاءل يا صاحبي العزيز. فالنصر حليفنا بلا شك.»
ثم بدأت أتحدَّث بلهجةٍ هولندية مُنفعلة وانتهيتُ من تجميع أوراق اللعب. كان دوللي يمثِّل دوره ببراعة؛ إذ ابتسم كما لو كان يتسلَّى بقردٍ يصدر حركاتٍ عجيبة. كان الآخرون يعودون آنذاك، وكان نائب القائد عائدًا بشرارة غاضبة في عينَيه البليدتَين. صاح قائلًا: «التحدُّث إلى السجناء ممنوع.»
نظرتُ إليه ببلاهةٍ حتى ترجم المُلازم كلامه.
قال دوللي للطبيب بالإنجليزية: «مَن هذا الرجل بحق السماء؟ يُفسد عليَّ لعبتي ثم يهذر بلغة هولندية مُتعالية.»
كان من المفترَض أنني أعرف الإنجليزية، وقد أعطاني كلام دوللي هذا فرصتي لأُظهر ذلك. تظاهرتُ بالغضب الشديد من ذلك الإنجليزي اللعين، وخرجتُ من الغرفة بالقرب من نائب القائد، مُتبرمًا كثعلب مريض. بعد ذلك اضطُررتُ إلى التمثيل قليلًا. كان آخِر مكان مررْنا به هو قسم الحبس المُشدَّد الذي يُحتجز فيه السجناء عقابًا على خرق القواعد. كانوا يبدون بائسين جدًّا، لكني تظاهرتُ بالشماتة بمنظرهم، وقلتُ هذا للملازم، الذي نقلَه بدوره إلى الآخرين. قلَّما شعرتُ في حياتي بأنني نذلٌ هكذا.
في طريق العودة إلى الفندق، أسهب المُلازم في الحديث عن السجناء ومعسكرات الاعتقال؛ لأنه خَدَم سابقًا في معسكر رولبن. وكان بيتر، الذي سُجِن أكثر من مرةٍ من قبل، مهتمًّا جدًّا بكلامه وظل يسأله. أخبرَنا الملازم بعدة أشياء من بينها أنهم غالبًا ما يدسُّون سجناء زائفين وسط البقيَّة كجواسيس. وإذا وجد أولئك الجواسيس أي مؤامرةٍ تُحاك للهرب، كانوا ينضمُّون إليها ويُشجعونها. كانوا لا يعترضونها قطُّ إلَّا عند محاولة تنفيذها بالفعل، وعندئذٍ كانوا يُحكِمون قبضتَهم تمامًا على السجناء المتآمِرين. فلا شيء أحبُّ إلى العسكري الألماني من حُجةٍ للزَّجِّ بإنسانٍ مسكين في «الحبس الانفرادي».
افترقنا أنا وبيتر بعد ظُهر ذلك اليوم. فقد تُرِك مع الملازم، في حين أرسلوني إلى المحطة مع حقيبتي بصُحبة رقيبٍ من قوات الاحتياط. كان بيتر غاضبًا جدًّا، وأنا أيضًا لم يُعجبني الوضع العام، لكنَّ أساريري انفرجت حين سمعتُ أنني ذاهب إلى مكانٍ ما مع شتوم. فإذا كان يريد لقائي مُجددًا، فلا بد أنه كان يرى فائدة ممكنة منِّي، وإذا كان سيستعيَّن بي، فمن المؤكد أنه سيشركني في لعبته السرية. كنتُ أكره شتوم بقدْرِ ما يكره الكلبُ العقربَ، لكني كنتُ مشتاقًا إلى رفقته.
عند رصيف المحطة، حيث وفَّرت عليَّ شارة قوات الاحتياط كل العناء المتعلِّق بشراء التذاكر، لم أستطع رؤية رفيقي. وقفتُ منتظرًا، في حين كان حشد كبير، معظمه من الجنود، يتجاوزني جيئةً وذهابًا ويملأ كلَّ العربات الأمامية. تحدَّث إليَّ أحد الضباط بفظاظةٍ وأمرَني بأن أقف جانبًا خلف سياجٍ خشبي. فأطعتُه، وفجأة وجدت شتوم فوق رأسي يُحدِّق بي.
سألني بحدة: «هل تعرف الألمانية؟»
فقلت بلامبالاة: «بضع كلمات قليلة. فقد زرتُ ويندهوك من قبل، وتعلَّمت كلمات كافية لأستطيع طلب عشائي بنفسي. بيتر — صديقي — يتحدثها قليلًا.»
قال شتوم: «هكذا إذن. حسنًا، اصعد إلى العربة. ليست تلك! بل هذه أيها الغبي!»
فعلتُ ما أمرَني به، ثم تبعني، وأُغلقَ باب العربة خلفنا. لم يكن يوجَد داعٍ إلى هذه الحيطة؛ لأنَّ رؤية جانب وجه شتوم وحدَها، ولو من آخرِ رصيف المحطة، كانت كفيلة بأن تردع حتى أجرأ الرجال عن الاقتراب من العربة. تساءلتُ في قرارة نفسي عمَّا إذا كنتُ قد أيقظتُ شكوكه. لذا كان عليَّ أن أكون مُتيقظًا تمامًا لئلَّا أُظهِر أي علاماتٍ على الفهم إذا اختبر معرفتي باللغة الألمانية فجأة، وهذا لن يكون سهلًا؛ لأنني كنتُ أعرفها جيدًا بقدرِ ما أعرف الهولندية.
مضى القطار بنا إلى الريف، لكن النوافذ كانت مغبَّشة بسبب الصقيع، ولم أرَ شيئًا من المنظر الطبيعي. كان شتوم منشغلًا بقراءة بعض الأوراق وتركني وشأني. قرأتُ على لافتة أنَّ التدخين ممنوع؛ لذا، ولأُظهِر جهلي بالألمانية، أخرجت غليوني. رفع شتوم رأسه ورأى ما كنتُ أفعله، فأمرَني بفظاظةٍ بأن أعيد الغليون إلى مكانه، كأنه سيدة عجوز تكرَه رائحة التبغ.
لم يكد ينقضي نصف ساعة حتى شعرتُ بالملل الشديد؛ إذ لم أكن أحمل شيئًا لأقرأه، ومُنِعت من تدخين غليوني. كان بعض الأشخاص يمرُّون بين الحين والآخر في ممرات القطار، ولكن لم يُبدِ أيٌّ منهم نيةً لدخول العربة. من المؤكد أنهم رأَوا الجسد الضخم مرتديًا الزي العسكري، وخمَّنوا أنه قائد عالي الرتبة من هيئة الأركان يريد البقاء وحده. فكرتُ في أن أتمشَّى قليلًا في الممر لأمدد ساقيَّ، وبينما كنت أنهض لأفعل ذلك، إذا بشخص ما يفتح الباب، حاجبًا الضوء بقامته الضخمة.
كان يرتدي معطفًا طويلًا فضفاضًا ثقيلًا، وقبعة خضراء من اللباد. حيَّا شتوم، الذي رفع نظره إليه غاضبًا، وابتسم لنا نحن الاثنَين بدماثة.
قال: «أيها السيدان، هل لديكما مُتسع هنا لشخص ضئيل؟ لقد أُجبرتُ على مغادرة عربتي لأنني كدتُ أختنق من تدخين جنودكما البواسل. فمعدتي حساسة …»
نهض شتوم بجبينٍ منعقد يستشيط غضبًا، وبدا وكأنه سيرمي ذاك المُتطفل من القطار. ثم بدا أنه توقَّف واستعاد هدوءه، واكتسى وجه الرجل الآخر بابتسامةٍ عريضة ودودة.
صاح قائلًا: «عجبًا، إنه الكولونيل شتوم. أنا سعيد جدًّا بلقائك مُجددًا أيها الكولونيل. لقد شرفتُ بمعرفتك سابقًا في سفارتنا. أعتقد أنَّ السفير جيرارد لم يكن مُعجبًا بمُحادثتنا في تلك الليلة.» ثم ارتمى الوافد الجديد على مقعدٍ في الزاوية المقابلة لي.
كنتُ مُتيقنًا تمامًا من أنني سأصادف بلنكيرون في مكانٍ ما في ألمانيا، لكنِّي لم أكن أتصوَّر أنَّ ذلك سيحدُث بهذه السرعة. جلس هناك ناظرًا إليَّ بعينَيه المحدقتَين الذاهلتَين، في حين كان يسترسل في كلامٍ تافه إلى شتوم، الذي كاد ينفجر وهو يحاول البقاء مهذبًا. بدَوتُ نَكِدَ المزاج مرتابًا، وهو ما اعتبرتُه التصرف الصحيح في موقف كهذا.
قال السيد بلنكيرون على سبيل استهلال محادثة: «الوضع يخمد قليلًا في سالونيك.»
فأشار شتوم إلى لافتة تحذِّر الضباط من الكلام عن عملياتٍ عسكرية مع رفقةٍ مُختلطة من الأشخاص في عربة قطار.
قال بلنكيرون: «معذرة، لا أستطيع قراءة لُغتكم هذه التي تُشبه طلاسم شواهد القبور. لكنِّي أظن أنَّ هذه اللافتة مُخصَّصة للمتطفِّلين، وأيًّا كان مضمونها، فهي لا تنطبق عليك أو عليَّ. وأفترضُ أنَّ هذا السيد المحترم رفيقٌ لك.»
جلستُ وعبست، مُحدقًا في الأمريكي بنظراتٍ مرتابة.
قال شتوم: «إنه هولندي، هولندي من جنوب أفريقيا، وهو ليس سعيدًا؛ لأنه لا يُحب سماع اللغة الإنجليزية.»
فقال بلنكيرون بنبرة ودودة: «أتفق معه في هذا. لكن من قال إنني أتحدَّث الإنجليزية؟ إنني أتحدث لغةً أمريكية جيدة. هوِّن عليك يا صاح، فليست اللهجة هي ما يُحدِّد ماهية الرجل، كما يقولون في الغرب في بلادي. فكراهيتي لجون بُل أشد من كراهيتي للأفعى السامة ذات الجرس. ويستطيع الكولونيل أن يؤكد لك ذلك.»
يُمكنني القول إنه كان سيؤكد ذلك بالفعل، لكنَّ القطار في تلك اللحظة تباطأ بنا عند إحدى المحطات، ونهض شتوم ليُغادر. صاح قائلًا من فوق كتفِه: «طاب يومُك يا سيد بلنكيرون. إذا لم تكن تريد المتاعب، فلا تتحدَّث بالإنجليزية مع مُسافرين غرباء. فهُم لا يُفرقون بين اللهجات المختلفة.»
تبِعتُه في عجالة، لكنَّ بلنكيرون استدعاني.
صرخ قائلًا: «نسيتَ حقيبتك يا صديقي»، وناولَني حقيبتي من رف الأمتعة. لكنه لم يُبدِ أي علامةٍ تدل على أنه يعرف هويتي، وآخِر ما رأيته منه أنه كان غائصًا في مقعدٍ في زاوية، مسندًا رأسَه على صدره كما لو كان سينام. كان رجلًا يلتزِم بأداء دوره بإتقان.
كانت في انتظارنا سيارة — من نوعية السيارات العسكرية الرمادية — وانطلقت بنا بسرعةٍ مروِّعة على طرقٍ وعرة وسط الغابات. كان شتوم قد وضع أوراقه في حقيبة، ورماني ببضع جمل قاسية أثناء الرحلة.
صرَّح قائلًا: «لم أحسم رأيي فيك يا براندت. قد تكون أحمق أو مُحتالًا أو رجلًا صالحًا. إذا كنتَ محتالًا، سنُرديك قتيلًا بالرصاص.»
فسألته: «وإذا كنتُ أحمق؟»
«سنُرسِلك إلى جبهة نهر إيزر أو نهر دفينا. ستكون كَبشًا معتبرًا نُضحِّي به في وجه المدافع.»
قلت: «لا يُمكنكم فعل ذلك إلَّا بموافقتي.»
قال بابتسامةٍ خبيثة: «حقًّا؟ تذكر أنك بلا وطنٍ تحتمي به. نظريًّا أنت مُتمرد، والبريطانيون سيَشنقونك إذا ذهبتَ إليهم، بافتراض أنَّ لدَيهم أيَّ ذرةٍ من التفكير المنطقي. أنت في قبضتنا يا صديقي، ونستطيع أن نفعل بك ما نشاء حرفيًّا.»
سكت لحظة، ثم قال وهو مُنهمِك في تفكير عميق:
«لكني لا أظنُّك أحمق. قد تكون نذلًا. وبعض أنواع الأنذال مفيد جدًّا. والبعض الآخر يكون مَصيره الشنق. سيتَّضح ذلك لنا قريبًا.»
«وإذا كنتُ رجلًا صالحًا؟»
«ستُمنَح فرصةً لخدمة ألمانيا، وهذا أعظم امتيازٍ مُشرِّف يُمكن أن يناله إنسان.» قال الرجل الغريب هذه العبارة بنبرةٍ مفعمة بصدقٍ رنَّان أبهرَني.
انعطفت السيارة خارج الأشجار إلى حديقة محاطة بشتلات مصطفَّة على جانبيها، ورأيت أمامي في الغسق منزلًا كبيرًا بعض الشيء يُشبه كوخًا سويسريًّا مكسوًّا بعشبٍ كثيف غير مُشذَّب. كان يوجَد عنده مدخلٌ مقوَّس نوعًا ما ذو بابٍ شبكي حديدي صوري مُعلَّق أعلاه، وشرفة محاطة بأسوار مُفرَّجة تبدو كأنها مصنوعة من زخارف جصِّية. توقَّفنا عند بابٍ أمامي مُصمَّم على الطراز القوطي، حيث كان في انتظارنا رجل نحيف في منتصف العمر يرتدي سترة صيد.
وبينما كنَّا نتَّجِهُ إلى الصالة المُضاءة، ألقيتُ نظرة فاحصة على مُضيفنا. كان نحيلًا جدًّا، بُنيَّ البشرة، وكانت كتفاه مُصابتَين بالانحناءة التي تصيب المرء من المداومة على ركوب الخيل. كان ذا شعرٍ أشيب غير مُرتَّب، ولحية شعثاء، وعينَين جذابتَين مُصابتَين بقصر النظر.
قال: «أهلًا بك سيدي الكولونيل. أهذا هو الصديق الذي تحدثتَ عنه؟»
قال شتوم: «هذا هو الهولندي. اسمه براندت. براندت، أقدِّم لك السيد جاوديان.»
كنت أعرف الاسم بالطبع، بل إنَّ معظم المشتغلين بمهنتي كانوا يعرفونه. فقد كان أحد أكبر مهندسي السكك الحديدية في العالم، والرجل الذي أنشأ السكك الحديدية في بغداد وسوريا، والخطوط الجديدة في شرق ألمانيا. أظن أنه كان يُعتبر أعظم مَرجعٍ حيٍّ في مجال الإنشاءات في المناطق الاستوائية. كان يعرف المشرق وكان يعرف أفريقيا، ومن الواضح أنهم قد أحضروني إليه ليمتحِن قدراتي.
أخذتني خادمة شقراء إلى غرفتي، التي كانت ذات أرضيةٍ مصقولة خالية من أي سجَّاد، وتحوي موقدًا، ونوافذ بدت مُصمَّمة لتُفتَح، على عكس معظم النوافذ الألمانية التي جربتُها من قبل. عندما اغتسلت، نزلتُ إلى الصالة التي كانت جدرانها مُزينة بتشكيلة منوعة من غنائم السفر، كجبب الدراويش ودروع الماساي وبضعةٍ من رءوس الجاموس الجيدة. دق الجرس بعد قليل. وعندئذٍ ظهر شتوم مع مُضيفه، ودخلنا لنتناول العشاء.
كنت أتضور جوعًا، وكنت سأتناول وجبة كبيرة دسمة لو لم أكن مضطرًّا إلى الحفاظ على ذهني نشطًا ويقظًا. كان الرجلان الآخران يتحدَّثان بالألمانية، وكلَّما كان يُوجَّه إليَّ سؤال، كان شتوم يُترجمه لي. أول ما كان عليَّ فعله أن أتظاهر بعدَم معرفة الألمانية، والنظر بلامبالاة في أرجاء الغرفة أثناء حديثهما. والثاني كان ألَّا أُفوِّت أي كلمة؛ لأنَّ هذا كان مَكمَن فرصتي. أمَّا الثالث، فهو أن أكون مُستعدًّا للإجابة عن الأسئلة في أي لحظة، وأن أُظهِر في إجابتي أنني لم أكن متابعًا مُحادثتهما السابقة. كذلك كان عليَّ أن أُثبت في تلك الإجابات أنني لستُ غبيًّا؛ إذ كان عليَّ إقناعهما بأنني سأُفيدهما. استلزم ذلك مجهودًا مُضنيًا، وشعرت بأنني شاهدٌ في المحكمة يخضع لاستجواب صارم، أو رجل يحاول لعب ثلاثة أدوار شطرنج في وقتٍ واحد.
سمعتُ شتوم يُخبر جاوديان بخلاصة خطتي. هزَّ المهندس رأسه بالرفض.
قال: «فات الأوان. كان ينبغي فعل ذلك في البداية. لقد أهملنا أفريقيا. وأنت تعرف السبب.»
ضحك شتوم. وقال: «السيدة فون آينم! ربما، لكنَّ مفعول سحرها طاغٍ.»
ألقى جاوديان نظرة خاطفة نحوي، في حين كنتُ منشغلًا بتناول طبق من سلطة البرتقال. ثم أضاف قائلًا لشتوم: «لديَّ الكثير لأخبرك به بهذا الشأن. لكنه ليس كلامًا عاجلًا. صديقك مُحقٌّ في شيء واحد. أوغندا بقعة حيوية للإنجليز، وإذا ضُربوا هناك، ستهتز أركانهم كلها. ولكن كيف لنا أن نضربهم؟ فما زالوا مُسيطرِين على الساحل، وإمداداتنا تتناقَص يومًا تلوَ الآخر.»
«صحيح أننا لا نستطيع إرسال تعزيزات، ولكن هل استخدمنا كل الموارد المحلية؟ هذا ما لا أستطيع إقناع نفسي به. يقول زيمرمان إننا قد استهلكناها كلها بالفعل، لكنَّ تريسلر له رأي مختلف، والآن يظهر لنا هذا الرجل من العَدَم بقصةٍ تؤكد شكوكي. يبدو أنه كفء فيما يفعله. فلتُجرِّبه.»
عندئذٍ بدأ جاوديان يستجوبني، وكانت أسئلتُه شاملةً أدق التفاصيل. كنتُ أعرف القدر الكافي فقط، ولم يكن لديَّ المزيد للخوض فيه، لكني أظن أنني قد جعلته يُصدقني. فلديَّ ذاكرة فسيحة، وكنت قد التقيتُ في الماضي بعشرات الصيادين والمُستكشِفين الرواد، واستمعت إلى حكاياتهم؛ لذا استطعت التظاهر بمعرفة مكانٍ ما حتى وإن لم أكن قد زُرته بالفعل. وفوق ذلك، كنتُ ذات مرة على وشك أداء مهمةٍ في مُحيط تنجانيقا، وقد درستُ تلك المنطقة الريفية آنذاك بدقة تامة.
سألني جاوديان أخيرًا: «تقول إنك تستطيع بمساعدتنا أن تُثير متاعب للبريطانيين على الحدود الثلاثة؟»
فقلت: «أستطيع أن أنشر النار إذا أشعلها شخص آخر.»
«ولكن توجَد آلاف القبائل التي ليس بينها أيُّ صلات.»
«كلهم أفارقة. يُمكنك أن تؤكد صِدق كلامي. الشعوب الأفريقية كلها مُتشابهة في وجهٍ واحد؛ أنها يُمكن أن تُصاب بالجنون، وإذا جُن جنون أحدها، تنتقل العدوى إلى البقية. والإنجليز يعرفون هذا جيدًا جدًّا.»
سألني: «أين ستشعلُ الشرارة الأولى؟»
«حيث الوقودُ أشدُّ قابليةً للاشتعال. في الأعلى شمالًا بين الشعوب المُسلمة. لكن يجب أن تُساعدوني هناك. فأنا لا أعرف شيئًا عن الإسلام، وأظن أنكم على درايةٍ به.»
سألني: «لماذا؟»
فأجبته: «بسبب ما فعلتموه بالفعل.»
كان شتوم يترجِم كلامي طَوال هذا الوقت، وقد أوصل مضمونه كما هو إلى حدٍّ كبير. لكنه تصرَّف في إجابتي الأخيرة وغيَّرها من تلقاء نفسه. ترجمَها قائلًا: «لأنَّ الهولندي يظنُّ أننا نملك ورقة رابحة مهمة في التعامُل مع العالم الإسلامي.» ثم خفض صوته ورفع حاجبيه، وقال كلمة ألمانية تشبه كلمة «أونمانتل».
رمقني الآخر بنظرة توجُّس سريعة. وقال لشتوم: «من الأفضل أن نواصل حديثنا على انفراد يا سيدي الكولونيل. إذا سمح لنا السيد براندت، فسنترُكه بعض الوقت ليُضيِّف نفسه.» ودفع صندوق السيجار نحوي، وقام الاثنان وخرجا من الغرفة.
سحبتُ مقعدي إلى الموقد، وكنتُ أتمنى أن أغفو قليلًا. فالتوتر الذي ساد المحادثة التي خُضناها على العشاء أشعرني بالتعب الشديد. لقد قَبِل هذان الرجلان انضمامي إليهما بعدما صدَّقا هويتي المُنتحَلة وكل ادعاءاتي. وصدَّق شتوم أنني هولندي، مع أنه ربما كان يَظنني نذلًا. لكني كنتُ أمشي على خيطٍ رفيع جدًّا. لم أستطع أن أندمج تمامًا في الدور الذي كنتُ أنتحِله؛ لأنني عندئذٍ لن أجني أي نفعٍ من وجودي هناك. كان عليَّ أن أُحافظ على يقظة تفكيري طَوال الوقت، وأن أجمع بين مظهرِ رجلٍ بويري قروي وسلوكه، وعقلية ضابط استخبارات بريطاني. وإذا تضارب هذا الدورُ مع ذاك في أي لحظة، سأثير أشد شكوكهم يقظةً وفتكًا.
لن يرحمني شتوم عندئذٍ. كان ذاك الرجل الضخم قد بدأ يُثير إعجابي، مع أنني كنتُ أكرهه. في حين كان واضحًا أنَّ جاوديان رجل مُحترم كريم الأصل مهذَّب. ولو كنا في ظروفٍ مختلفة، لكان من الممكن أن أعمل معه؛ لأنه كان ينتمي إلى العشيرة التي كنتُ أنتمي إليها. أمَّا ذلك الآخر، فكان تجسيدًا لكلِّ ما يجعل ألمانيا مكروهة، لكنه لم يكن ألمانيًّا عاديًّا على الإطلاق، ولم أستطع منع نفسي من الإعجاب به. فقد لاحظتُ أنه لم يكن يُدخن أو يشرب المشروبات الكحولية. كان يبدو أنَّ ضخامة جسده ليست مرتبطةً بأي انغماسٍ في شهوات جسدية. كانت القسوة هوايته، حسب كلِّ ما سمعتُه عنه في جنوب غرب أفريقيا الألمانية، لكنه كان يتَّسِم بسماتٍ أخرى، بعضها جيد، وكان قلبه مُشتعلًا بتلك الوطنية المجنونة التي أصبحت بمنزلة ديانة. تساءلتُ لماذا لم يتولَّ منصبًا ميدانيًّا قياديًّا رفيعًا، مع أنه كان مشهورًا في الماضي بأنه جنديٌّ كفء. ولكن من المُرجح على أي حال أنه كان رجلًا عظيم الشأن في اختصاصه، أيًّا ما كان؛ لأنَّ وكيل الوزارة كان يتحدث بنبرة متواضعة في حضرته، ولأنَّ رجلًا عظيمًا جدًّا بمكانة جاوديان كان يُعامله باحترام واضح. لا بد أنَّ العقل الكامن في ذاك الرأس الهَرَمي المضحك يُشع ذكاءً.
بينما كنتُ جالسًا بجوار الموقد، كنت أسترجع الأحداث لأتذكر ما إذا كنتُ قد حصلت على أي خيط أسترشد به في مهمتي الحقيقية. وبدا لي أنني لم أحصل على أي شيء بعدُ. كان شتوم قد تحدث عن امرأةٍ تُدعى فون آينم مهتمةٍ بالإدارة التي يعمل فيها، وربما تكون هي المرأة نفسها التي تُدعى هيلدا التي ذكرها لوكيل الوزارة في اليوم السابق. لم أستخلِص من ذلك شيئًا مفيدًا. من المحتمل أن تكون زوجة وزير أو سفير لها نفوذ في السياسة العُليا. ليتني استطعتُ أن أسمع الكلمة التي همس بها شتوم لجاوديان، والتي جعلته ينتفض وينظر لي بارتياب! لكني لم أسمع سوى هذرمةٍ بشيء على غرار «أونمانتل»، ولم أكن أعرف أي كلمة ألمانية كهذه.
دفعتني حرارة الموقد إلى غفوة خفيفة، وبدأتُ أتساءل حالِمًا عمَّا كان الآخرون يفعلونه. إلى أين كان بلنكيرون ذاهبًا بذلك القطار، وماذا كان يفعل في تلك اللحظة؟ لقد خالَط سفراء ومسئولين ذوي نفوذ ومكانة بارزة، أتساءل إن كان اكتشف أي شيء. وماذا كان بيتر يفعل؟ كنتُ أتمنَّى من كل قلبي ألَّا يُسيء التصرف؛ لأنني كنت أظن أنَّه ربما لم يفهم حساسية مهمتنا حقًّا. وأين كان ساندي أيضًا؟ من المُرجَّح أنه يحمل دِلاءً في مخزن الحمولة بسفينةِ بضائع ساحلية يونانية في بحر إيجة. ثم تخيلتُ كتيبتي مرابِطةً عند مكانٍ ما على الخط الفاصل بين هولوتش ولاباسيه، تدكُّ الألمان بغارةٍ تلو الأخرى، في حين كنتُ أنا داخل حدود الألمان بنحو خمسمائة ميل.
كانت هذه خاطرة هزلية، هزلية جدًّا لدرجة أنها أيقظتني. حاولتُ بلا جدوى أن أجد طريقةً لأؤجِّج نيران هذا الموقد؛ إذ كانت ليلة باردة، فنهضت وأخذت أتمشى في أرجاء الغرفة. كانت توجَد صور شخصية لرجل وامرأة كبيرَين مُحترمَين، ربما كانت لوالدَي جاوديان. كذلك كانت توجَد صور مُكبَّرة لأعمالٍ هندسية، وصورة جيدة لبسمارك. وبالقُرب من الموقد، كان يوجَد جرابٌ يحوي خرائط ملفوفة على بكرات.
سحبتُ إحداها عشوائيًّا. كانت خريطة جيولوجية لألمانيا، وقد حددتُ موقعي عليها بعد مشقة. كنت بعيدًا جدًّا عن هدفي، والأسوأ أنني كنتُ بعيدًا تمامًا عن الطريق المؤدي إلى الشرق. كان الذهاب إلى هناك يتطلَّب مني أن أذهب إلى بافاريا أولًا، ثم أدخل النمسا. لاحظتُ أنَّ نهر الدانوب يجري شرقًا، وتذكرتُ أنَّ ذلك كان أحد الطرق المؤدية إلى القسطنطينية.
ثم جربتُ خريطة أخرى. كانت هذه الخريطة تغطي مساحة واسعة؛ إذ كانت تغطي أوروبا كلها من نهر الراين حتى بلاد فارس شرقًا. خمنتُ أنها مُصمَّمة لتُوضح مسارات السكك الحديدية في بغداد، والطرق المستقيمة المباشرة من ألمانيا إلى بلاد الرافدين. كانت تحمل علامات، وعندما دققتُ النظر عن قُرب، رأيتُ تواريخ مكتوبة في عجالة بقلم رصاص أزرق، كما لو كانت تُشير إلى مراحل رحلةٍ ما. كانت التواريخ تبدأ في أوروبا، وتستمرُّ مباشرة إلى داخل آسيا الصغرى، ثم جنوبًا إلى سوريا.
وثب قلبي من صدري فرحًا لوهلة؛ لأنني ظننتُ أنني وقعتُ مصادفةً على الخيط الذي كنتُ أريده. لكني لم أتفحَّص تلك الخريطة بإمعان قط. فقد سمعتُ وقْع خطواتٍ في الممر، وتركت الخريطة تتدحرج إلى الأعلى بمنتهى الرفق، واستدرتُ بعيدًا. وعندما فُتح الباب، كنتُ مُنحنيًا فوق الموقد أُحاول إشعال غليوني.
كان جاوديان هو مَن فتح الباب، وجاء ليطلُب منِّي الانضمام إليه هو وشتوم في غرفة مكتبِه.
وفي طريقنا إلى هناك، وضع يدَه على كتفي بلُطف. أظن أنه خمَّن أنَّ شتوم قد أرهبني وأساء مُعاملتي، فأراد أن يُطمئنني بأنه صديق لي، ولم تكن لدَيه لغة أخرى يعبِّر بها عن ذلك سوى تَربيتَةٍ على ظهري.
كان شتوم متخذًا وضعيتَه القديمة؛ إذ كان متكئًا بمرفقَيه على رفِّ المدفأة، وكان فكُّه الكبير الضخم بارزًا.
قال: «أصغِ إليَّ. أنا والسيد جاوديان نميل إلى الاستفادة منك. ربما تكون دجَّالًا يتظاهر بما يفوق قُدراته، وعندئذٍ ستقع في مأزقٍ جهنمي، ولا تلومنَّ إلا نفسك. وإذا كنت وغدًا مخادعًا، فلن تكون لديك فرصة للخداع. سنحرص على ألَّا نترك لك أي فرصةٍ لهذا. وإذا كنت أحمق، فستعاني أشدَّ معاناة. أمَّا إذا كنتَ رجلًا صالحًا، فستحظى بفرصةٍ جيدة، وقد تنجح، وإذا نجحت، فلن ننسى ذلك. غدًا سأعود إلى المنزل، وستأتي معي لتتلقى أوامرك.»
حاولتُ الوقوف منتصبًا كالجنود وأداء التحية العسكرية.
تحدث جاوديان بنبرةٍ دمثة كما لو كان يريد تعويضي عن نبرة شتوم الاستبدادية. قال: «نحن رجال نُحب وطننا ألمانيا يا سيد براندت. صحيح أنك لستَ من أبناء ذلك الوطن، لكنك على الأقل تكره أعداءه. لذا فنحن حلفاء، وبيننا ثقة مُتبادلة كالحلفاء. نصرُنا مُقدَّر بأمرٍ من الرب، ونحن مجرد أدوات في يدَيه.»
ترجم شتوم الكلام في جملةٍ واحدة، وكانت نبرته جادة وصارمة جدًّا. ثم رفع يده اليمنى، وكذلك جاوديان، مثل رجل يحلف يمينًا، أو قسٍّ يبارك جماعة من المُصلين.
عندئذٍ أدركتُ شيئًا من سرِّ قوة ألمانيا. فهي قد أنجبت طيِّبين وخبيثِين، أوغادًا ونبلاء، لكنها استطاعت أن تزرع شيئًا من التعصُّب فيهم جميعًا.