موسم عيد الميلاد
كان كل شيءٍ مرهونًا بأن يكون الخادم موجودًا في الردهة. فقد أفقدتُ شتوم وعيَه مؤقتًا، لكني لم أستطع أن أخدع نفسي وأقنعها بأنه سيظل ساكنًا هكذا طويلًا، وحين يستعيدُ وعيَه، سيركل الباب ويُحطمه إلى شظايا. لذا كان يجب أن أخرج من المنزل فورًا دون أي تأخير، وإذا كان الباب موصدًا والرجل العجوز نائمًا، فأنا هالك لا محالة.
لقيتُه عند أسفل الدَّرج، حيث كان حاملًا شمعة.
«سيدك يُريدني أن أبعث ببرقيةٍ مهمة. أين أقرب مكتب للتلغراف؟ يُوجَد واحد في القرية، أليس كذلك؟» تحدثتُ هنا بأفضل لغةٍ ألمانية أعرفها، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أتحدث فيها بهذه اللغة منذ أن عبرتُ الحدود.
قال: «القرية تقع على بُعد خمس دقائق عند آخِر الطريق. هل ستتأخر يا سيدي؟»
قلت: «سأعود في غضون رُبع ساعة. لا توصِد الأبواب حتى أعود.»
ارتديتُ معطفي الفضفاض وخرجتُ إلى الشارع حيث كانت ليلةً صافية مليئة بالنجوم. تركتُ حقيبتي على دكةٍ خشبية في الردهة. صحيح أنها لم تكن تحوي أي شيء قد يُعرِّضني للخطر، لكني كنتُ أتمنى أن آخُذ منها فرشاة أسنان وبعض التبغ.
وهكذا بدأتُ واحدة من أشد المغامرات جنونًا يُمكنكم تخيُّلها. لم أستطع الكفَّ عن التفكير في مُستقبلي، ولكن كان عليَّ أن أتعامَل مع المسألة خطوةً خطوة. ركضتُ إلى آخر الشارع، ووقْع أقدامي يُقرقع على الثلج الصلب، وأخذتُ أعتصرُ دماغي محاولًا وضع خطةٍ لما سأفعله في الساعة التالية.
وجدتُ القرية؛ كانت عبارة عن ستة منازل مع مبنًى كبير بعض الشيء يُشبه النُّزُل. كان القمر بازغًا، وبينما كنتُ أقترب، رأيتُ مكانًا شبيهًا بمتجر. كانت توجَد أمام بابه سيارة صغيرة مضحكة ذات مقعدَين ومُحرِّك يُخرخر، وخمنتُ أنَّ هذا هو نفسه مكتب التلغراف.
دخلتُ وحكيتُ قصتي لامرأةٍ بدينة كانت ترتدي نظارة متدلية على أنفها وتتحدَّث إلى شاب.
هزَّت رأسها بالنفي، وقالت: «فات الأوان. السيد حاكم القلعة يعرف هذا جيدًا. لا يُمكن إجراء اتصالٍ من هنا بعد الساعة الثامنة. إذا كانت المسألة عاجلة، فعليك الذهاب إلى شفاندورف.»
فسألتها وأنا أبحث عن حُجة للخروج من المحل بطريقةٍ لائقة: «كم تبعُد هذه؟»
قالت: «سبعة أميال، ولكن معنا هنا فرانز وعربة البريد. فرانز، هلَّا تتكرَّم وتُقِل الرجل المحترم بجانبك في السيارة.»
ردَّ الشاب ذو المظهر الخجول بتمتمةٍ بدَت لي أنها موافَقة، وأنهى كأسًا من الجعة. كان يبدو من عينَيه وسلوكه أنه شِبه ثمل.
شكرتُ المرأة وخرجت إلى السيارة؛ لأنني كنتُ متلهفًا لاستغلال هذا الحظ السعيد غير المتوقَّع. ثم سمعت مديرة المكتب تأمر فرانز بألَّا يتركني منتظرًا، وسرعان ما خرج وارتمى متثاقلًا على مقعد السائق. بدأنا السير بسلسلةٍ من المُنحنيات يمينًا ويسارًا كمنحنيات أجساد النساء المُثيرات، حتى اعتادت عيناه الظلام.
قطعنا في البداية شوطًا طويلًا على الطريق السريع المُستقيم الواسع الذي كان مُحاطًا من أحد جانبَيه بأشجار، ومن الجانب الآخر بحقول ثلجية تذوب وسط الضباب. ثم بدأ يتكلَّم، وتباطأ أثناء كلامه. لم يكن ذلك مُلائمًا لي إطلاقًا، وفكرتُ بجدية في أن أرمِيَه من السيارة وأتولى قيادتها. كان واضحًا أنه رجل ضعيف البنيان، ومُعفًى من التجنيد الإجباري، وكنتُ أستطيع فعل ذلك بيدٍ واحدة. ولكن من حُسن حظي أنني تركتُه وشأنه.
قال: «قبعتك هذه جميلة يا سيدي.» وخلع قبعته الزرقاء ذات الحافة الأمامية البارزة، التي أفترضُ أنها كانت جزءًا من الزي الرسمي الموحَّد لسائقي عربات البريد، ووضعها على ركبتِه. فنفش الهواء كتلةً كثيفةً من شعره الأصفر الشاحب.
ثم أخذ قُبعتي بهدوء، ووضعها بقوة على رأسه مُعتمرًا إيَّاها.
قال: «بذلك سأكون سيدًا نبيلًا.»
لم أقل شيئًا، لكني اعتمرتُ قبعتَه وانتظرت.
واصل قائلًا: «هذا معطف فاخر يا سيدي. يُلائم القبعة. هذه هي نوعية الثياب التي طالما تمنيتُ اقتناءها. سيحل عيد الميلاد المقدس بعد يومَين، وعندئذٍ ستُمنَح الهدايا. أرجو من الرب الكريم أن يُرسِل إليَّ معطفًا كمعطفك!»
قلت بطريقةٍ ودودة: «يُمكنك أن تُجربه لترى كيف يبدو عليك.»
أوقف السيارة باهتزازة وخلع عنه معطفه الأزرق. وسرعان ما أجرينا التبادل. كان في مثل طولي تقريبًا، وكان معطفي ملائمًا لجسده إلى حدٍّ كبير. ارتديتُ معطفه الذي كان ذا ياقةٍ كبيرة تُقفَل بأزرار حول الرقبة.
ظل الأبله يُهندِم نفسه كفتاة. كان الشراب والخُيَلاء قد هيَّآه لارتكابِ أي حماقة. فقاد السيارة باستهتار بعض الوقت لدرجة أنه كاد يُوقعنا في مصرفٍ مائي على جانب الطريق. مررنا بعدة أكواخ إلى أن تباطأ عند الكوخ الأخير.
قال: «لي صديقة تعيش هنا. ستُحب جيرترود رؤيتي بهذه الثياب الجميلة التي أعطاني إياها السيد الودود. انتظرني، لن أتأخَّر.» وخرج من السيارة مسرعًا ودخل حديقة الكوخ الصغيرة متمايلًا.
أخذتُ مكانه وتحركتُ بمنتهى البطء إلى الأمام. ثم سمعت الباب يُفتَح، وصوت ضحكاتٍ وأصوات أشخاص عالية. ثم أغلق الباب فنظرت إلى الوراء ورأيت أنَّ الأبلهَ قد غاص تمامًا في مسكن صديقته جيرترود تلك. وعندئذٍ لم أُطِلِ الانتظار أكثر من ذلك، وانطلقت قُدمًا بالسيارة بأقصى سرعة.
لم تكد تمضي خمس دقائق حتى بدأَت تلك السيارة اللعينة تُتعبني؛ إذ انفكَّت صامولة في نظام توجيهها العتيق. نزعتُ مصباحًا من خُطَّافه، وتفحصت نظام التوجيه، وأصلحت العُطل، لكنَّ ذلك استغرق مني رُبع ساعة. كان الطريق السريع عندئذٍ مُمتدًّا وسط غابة كثيفة، وكنتُ ألاحظ بين الحين والآخر مساراتٍ فرعية مؤدِّية إلى اليمين. وبينما كنتُ أفكر في الانعطاف إلى أحدها — لأنني لم أكن أرغب في الذهاب إلى شفاندورف — سمعتُ ورائي صوت سيارةٍ كبيرة يقودها سائقها بشراسة.
اتجهت إلى الجانب الأيمن — وحمدًا للرب أنني تذكرتُ قاعدة الطريق — وواصلتُ القيادة بأسلوبٍ مُلتزم، متسائلًا عمَّا سيحدث. سمعتُ صوت الضغط على مكابح السيارة القادمة من خلفي، ثم تباطُئها. وفجأة رأيتُ غطاء مُحركها الرمادي الكبير يتجاوزني، فالتفتُّ، وعندئذٍ سمعتُ صوتًا مألوفًا.
كان المُتحدث هو شتوم، وبدا كأنه شيء مدهوس. وجدتُ فكَّه معلَّقًا بضمادةٍ داعمة؛ لذا تساءلتُ عمَّا إذا كنتُ قد كسرته، وكانت عيناه مُتورمتَين بشكلٍ جميل وشبه مقفولتَين من شدة التورُّم. وهذا هو الذي أنقذني، هذا وغضبه العارم. كانت ياقة معطف ساعي البريد تُحيط بذقني، فكانت تُخبِّئ لحيتي، وكانت قبعته مُستقرة على جبيني بإحكام. تذكرتُ ما قاله بلنكيرون عن أنَّ الطريقة الوحيدة للتعامل مع الألمان هي الخداع المجرد الصريح. وقد كان خداعي مجردًا وصريحًا للغاية؛ لأنه كان كلَّ ما تبقَّى لديَّ.
زأر قائلًا بقدرِ ما سمح له فكُّه: «أين الرجل الذي أقللتَه من أندرسباخ؟»
تظاهرتُ بأنني ميتٌ من الخوف، وتحدثتُ وأنا أُحاول بقدر المستطاع أن أقلِّد نبرة ساعي البريد العالية المُتقطعة.
قلت بصوتٍ مرتعش: «لقد ترجَّل من السيارة قبل ميل يا سيدي حاكم القلعة. كان رجلًا وقحًا أراد أن يذهب إلى شفاندورف، ثم غيَّر رأيه.»
«أين أيها الأحمق؟ قُل لي أين نزل بالضبط وإلَّا سأكسر رقبتك.»
«في الغابة على هذا الجانب الذي يقع فيه كوخ جيرترود … على اليسار. تركته يركض وسط الأشجار.» وضعتُ في صوتي كل الرُّعب الذي أعرفه، ولم يكن كله مجرد تمثيل.
قال السائق: «إنه يقصد كوخ هنريكس، يا سيدي الكولونيل. هذا الرجل يتودَّد إلى ابنته.»
أصدر شتوم أمرًا، فرجعتِ السيارة الكبيرة إلى الوراء، وحين التفتُّ، رأيتها تستدير. ثم تسارعَتْ وسارت بسرعة إلى الأمام، وسرعان ما ذابت وسط الظلال. وبذلك تجاوزت العقبة الأولى.
ولكن لم يكن لديَّ وقتٌ لأُضيعه. فشتوم سيقابل ساعي البريد ويعرف منه الحقيقة، وسوف يهرع ورائي لمُطاردتي في أي لحظة. سلكتُ المنعطف الأول، وانطلقت بأقصى سرعة على طريقٍ ضيق وسط الغابة. ارتأيتُ أنَّ الأرض الصُّلبة لن تُظهِر إلَّا قدرًا ضئيلًا جدًّا من آثار سيري، ورجوتُ بذلك أن يظن مُطاردي أنني ذهبت إلى شفاندورف. لكنَّ المخاطرة بذلك لن تكون آمِنة، وعقدتُ العزم على أن أُخرِج السيارة من الطريق في أقرب وقتٍ وأتركها وألجأ إلى الغابة. أخرجتُ ساعتي، وقدَّرتُ بحسبةٍ بسيطة أنني يُمكن أن أمنح نفسي عشر دقائق.
كنتُ أقرب ما أكون من الإمساك بي. وسرعان ما صادفتُ رقعةً من أرضٍ براح وعرة تنحدِر بعيدًا عن الطريق، وتحمل بقعًا سوداء متفرقة خمَّنتُ أنها حفرٌ لاستخراج الرمل. توقفتُ مقابل إحدى تلك الحفر، وأدرتُ السيارة نحو حافة الحفرة، ثم ترجَّلتُ منها، وشغَّلت المحرك مرة أخرى، ورأيتها تسقطُ بمقدمتها في غياهب الحفرة. سمعتُ صوت ارتطام بالماء، ثم ساد صمت مُطبق. مددتُ عنقي إلى الأمام فوق الحفرة، فلم أرَ شيئًا سوى ظلامٍ دامس، وعلامات العجلات في الموضع الذي داسته عند حافة الحفرة. كانوا سيجدون أثر مسار السيارة في ضوء النهار، ولكن كان العثور عليها شِبه مستحيل في هذا الوقت من الليل.
ثم ركضتُ عبر الطريق ودخلت الغابة. فعلتُ ذلك في آخِر لحظة قبل فوات الأوان؛ لأنَّ أصداء صوت الارتطام بالماء لم تكد تتلاشى حتى سمعتُ صوت سيارةٍ أخرى. استلقيتُ ممددًا في مُنخفَض أسفل أجمة متشابكة من شُجيرات العليق المكسوة بثلوج كثيفة، ونظرتُ من بين أشجار الصنوبر إلى الطريق المضاء بنور القمر. كانت تلك سيارة شتوم مرة أخرى، وما أرعبَني أنها توقفت على بُعد مسافة قريبة جدًّا من حفرة الرمل.
رأيتُ مصباحًا كهربائيًّا يدويًّا يومض، وترجَّل شتوم بنفسه من السيارة، وتفحَّص آثار مسار سيارتي على الطريق السريع. والحمد للرب أنَّ الآثار كانت لا تزال موجودة هناك، ولكن لو أنه حاول أن يواصل تفحُّصها لمسافة ستِّ ياردات أخرى، لرآها تتَّجه إلى حفرة الرمل. ولو حدث ذلك، لَمشَّط الغابة المجاورة وعثر عليَّ لا محالة. كان في السيارة رجل ثالث يرتدي قُبعتي ومعطفي. لقد دفع ساعي البريد المسكين ثمنًا باهظًا لخيلائه.
ظلوا وقتًا طويلًا قبل أن يتحركوا بالسيارة مجددًا، وانتابني شعور كبير بالارتياح حين انطلقوا بأقصى سرعة على الطريق بحثًا عنِّي. ركضتُ وتوغلتُ أكثر في الغابة حتى وجدتُ دَربًا، واستنتجتُ من السماء التي رأيتها بوضوح في بقعةٍ خالية من الأشجار أنَّه سيأخذني إلى الغرب مباشرة تقريبًا. لكن لم يكن هذا هو الاتجاه الذي أريده؛ لذا ابتعدتُ عن المكان بزاويةٍ قائمة، وسرعان ما لقيتُ طريقًا آخر، فعبرته بسرعة. بعدئذٍ علِقتُ في مكانٍ لَعِين أشبه بحظيرةٍ مُسيَّجة، واضطُررت إلى أن أتسلَّق سياجًا تلو الآخر من أوتادٍ خشبية خشنة مُتضافرة معًا بأغصان من شجر الصفصاف. ثم لقيتُ بقعة مرتفعة في الأرض، ووجدتُ نفسي على تلة منخفضة من أشجار الصنوبر بدَت ممتدة لأميال. كنت طَوال هذا الوقت أمضي بوتيرة لا بأس بها، وقبل أن أتوقف للراحة، قدَّرتُ أنني أصبحتُ على بُعد ستة أميال من حفرة الرمل.
كان عقلي أنشط قليلًا الآن؛ فطوال الشوط الأول من الرحلة، لم أكن أفعل شيئًا سوى الترنُّح بين تصرُّفات عفوية فجائية. صحيح أنَّ هذه التصرُّفات العفوية حالَفَها حُسن حظٍّ استثنائي، ولكن لم يكن من الممكن أن أظل هكذا إلى الأبد. وكما كان البويريُّ القديم يقول حين يقع في مأزق: «سأضع خطة»، صار عليَّ الآن أن أضع خطة.
حالما بدأتُ أفكر، أدركتُ موقفي الميئوس منه. فها أنا ذا وحدي في منتصف الشتاء وسط جنوب ألمانيا بلا أي شيءٍ معي سوى الثياب التي كانت على جسدي، والتي كان من بينها معطف وقُبعة ليسا مِلكي أصلًا. وكان ورائي رجل يتعطَّش إلى قتلي، وسرعان ما سيندلع استنفارٌ عام للبحث عنِّي في كل مكان. كنت قد سمعتُ أنَّ الشرطة الألمانية في غاية الكفاءة، ولم أرَ أي فرصةٍ للنجاة منهم. وإذا أمسكوا بي، فسيُردونني قتيلًا بالرصاص لا محالة. سألت نفسي عن تُهمتي، وأجبتُ قائلًا: «لأنني لكمتُ ضابطًا ألمانيًّا.» لم يكن باستطاعتهم أن يتهموني بالتجسُّس؛ لأنهم، على حدِّ علمي، كانوا لا يملكون أي دليل على ذلك. كنت مجرد رجلٍ هولندي استشاط غضبًا واندفع لينفِّس عن غضبه. ولكن إذا كانوا قد عاقبوا إسكافيًّا بتمزيقه إرْبًا إرْبًا لأنه ضحك على مُلازم ثانٍ — كما حدث في زابيرن — قدَّرتُ أنَّ الشنق لن يكون كافيًا لعقاب رجلٍ كسر فكَّ كولونيل.
وما زاد الطين بِلة أنَّ غايتي لم تكن الهرب — مع أنَّ هذا في حد ذاته كان صعبًا جدًّا — بل كانت الوصول إلى القسطنطينية، على بُعد أكثر من ألف ميل، وارتأيتُ أنني لا يُمكن أن أدخلها متشردًا هكذا. كان يجب أن أدخلها بصفتي مُرسَلًا إلى هناك، لكني أهدرتُ فرصتي. لو كنت كاثوليكيًّا، لصليتُ للقديسة تيريزا؛ لأنها كانت ستتفهم متاعبي.
اعتادت أُمي أن تقول إنَّ المرء حين يشعر بالإحباط واليأس، سيجد شفاء في إحصاء النِّعَم التي يَحظى بها. لذا بدأتُ أحصي نِعَمي. كان أولاها أنني قد أحرزتُ تقدمًا جيدًا في رحلتي؛ لأنَّني كنتُ واثقًا من أنَّ نهر الدانوب لا يبعُد عني بأكثر من أربعين ميلًا. والثانية أنني كنتُ أحمل تصريح المرور الذي أعطاني إياه شتوم. صحيح أنني لم أكن أعرف كيف يمكنني استخدامه، لكنه كان بحوزتي على أي حال. والأخيرة أنني كنتُ أحمل مالًا وفيرًا — ثلاثة وخمسون جنيهًا ذهبيًّا إنجليزيًّا، وما يُعادل ثلاثة جنيهات بأوراق نقدية ألمانية كنتُ قد غيَّرتُها في الفندق. وأيضًا سويتُ حسابي مع السيد العزيز شتوم. وتلك كانت أكبر نعمةٍ بينها كلها.
ارتأيتُ أنني يُستحسَن أن أنام قليلًا؛ لذا بحثت عن حفرةٍ جافة بعض الشيء أسفل جِذر شجرة بلوط، وحشرتُ نفسي فيها. كان الثلج سميكًا في تلك الغابة، وكنتُ مُبتلًّا تمامًا حتى رُكبتي. لكني تمكنتُ من النوم بضع ساعات، ثم نهضتُ ونفضتُ جسدي تزامنًا مع بزوغ ضوء الفجر الشتوي عبر قِمم الأشجار. كانت خطوتي التالية هي الحصول على فطور، وكان يجب أن أعثر على مَسكنٍ ما.
وجدتُ طريقًا في الحال تقريبًا، كان طريقًا سريعًا كبيرًا يمتد شمالًا وجنوبًا. هرولتُ عليه في الصباح القارس لأنشِّط دورتي الدموية، وسرعان ما بدأتُ أشعر بتحسُّن بسيط. بعد ذلك بقليل رأيتُ قمة برج كنيسة، ما كان يعني وجود قرية. قدَّرتُ أنَّ شتوم من المستبعد أن يكون قد اقتفى أثري بعد، ولكن كان من المحتمل طول الوقت أن يكون قد حذَّر كل القرى المُحيطة بنا بالهاتف، وأن يكونوا عاكفِين على البحث عني. ولكن لم يكن هناك مفرٌّ من المخاطرة؛ لأنني كنتُ أحتاج إلى طعام.
تذكرتُ أننا كنَّا آنذاك في اليوم الذي يسبق عيد الميلاد، وأنَّ الناس سيكونون في عطلة. كانت القرية كبيرة بعض الشيء، ولكن في تلك الساعة — التي كانت قد تجاوزت الثامنة مباشرة — لم يكن في الشارع أحد سوى كلبٍ متجول. اخترتُ أبسط متجر استطعتُ العثور عليه، كان واحدًا من تلك المتاجر العامة التي يبيعون فيها كل شيء، ووجدت هناك صبيًّا يزيل الأستار لفتح المحل. ذهب الصبيُّ ليحضر امرأة عجوزًا جدًّا، فجاءت تعرج من الخلف، مُرتدية نظارتها.
قالت بنبرة ودودة: «طاب صباحك»، وخلعتُ قبعتي تحيةً لها. رأيتُ من انعكاس صورتي في قِدرٍ صغيرة أنني أبدو مُحترمًا إلى حدٍّ ما بالرغم من ليلتي التي قضيتُها في الغابة.
حكيتُ لها قصةً مُختلَقة عن أنني جئتُ مشيًا من شفاندورف لأرى أُمي في مكانٍ من وحي خيالي يُدعى جودنفيلد، مُعوِّلًا على جهل القرويين بأي مكانٍ على بُعد أكثر من خمسة أميال من منازلهم. قلت إنَّ أمتعتي قد ضاعت ولم يكن عندي وقتٌ للانتظار حتى العثور عليها؛ لأنَّ إجازتي قصيرة. كانت السيدة العجوز مُتعاطفة وغير مرتابة. باعت لي رطلًا من الشوكولاتة، وعلبةً من البسكويت، وأكثر من نصفِ الجزء الخلفي من فخذ خنزير، وعلبتَين قصديريَّتَين من السردين، وحقيبة ظَهر لأحمل فيها تلك الأشياء. واشتريتُ أيضًا بعض الصابون ومشطًا وشفرة حلاقة رخيصة، ودليلًا سياحيًّا صغيرًا نشرته شركةٌ في لايبزج. وبينما كنتُ مغادرًا رأيتُ ما بدا كأنه ثياب معلقة في الجزء الخلفي من المحل، فاستدرتُ لإلقاء نظرة عليها. كانت من نوعية الثياب التي يرتديها الألمان في جولات المشي الصيفية التي كانوا يخوضونها، أي: عباءات صيدٍ طويلة مصنوعة من مادة صوفية سميكة خضراء يُسمونها «لودن». فاشتريتُ واحدة، وقبعة خضراء من اللباد، وعصا تسلُّق ليكون الطقم كاملًا. ثم تمنيتُ للسيدة العجوز وبضائعها عيد ميلاد سعيدًا، وغادرتُ متخذًا أقصر طريقٍ مباشر إلى خارج القرية. كان في الشارع بضعة أشخاص قليلين آنذاك، ولكن بدا أنهم لم يُلقوا لي بالًا.
دخلت الغابة مجددًا ومشيتُ ميلَين، ثم توقفتُ لأفطر. لم أكن أشعر بأنَّ حالتي البدنية جيدة إطلاقًا، وكنت زاهدًا في مُؤَني، باستثناء قطعة بسكويت وبعض الشوكولاتة. كنت ظمآن جدًّا، ومشتاقًا لشُرب شاي ساخن. اغتسلتُ في بِركةٍ جليدية، وحلقتُ لحيتي بعذابٍ لا يُحتمَل. فتلك الشفرة كانت الأسوأ من نوعها، وظلَّت عيناي تدمعان طول مدة الحلاقة من شدة الألم. ثم خلعت معطف ساعي البريد وقُبعته، ودفنتُهما أسفل بعض الشجيرات. صرتُ آنذاك مترجلًا ألمانيًّا حليق اللحية بعباءةٍ وقبعة خضراوين، وعصا مشيٍ سخيفة بطرفٍ مكسو بالحديد، على غرار المترجِّلين الذين يجوبون أرجاء ألمانيا الوطن بالآلاف في الصيف، لكنهم يكونون نادرين بعض الشيء في منتصف الشتاء.
كان من حُسن حظي أنني اشتريتُ الدليل السياحي؛ إذ كان يحتوي على خريطةٍ كبيرة لبافاريا استرشدتُ بها. كان من المؤكد أنني لا أبعُد عن نهر الدانوب أكثر من أربعين ميلًا، نحو ثلاثين ميلًا تقريبًا. اتضح لي أنَّ الطريق المار عبر القرية التي قد تركتها كان سيأخذني إليه. كان عليَّ فقط أن أمشي جنوبًا، وكنت سأصل إلى النهر قبل حلول الليل. وبقدرِ ما استطعتُ أن أكتشف، كانت توجد تفرعات طولية بارزة من الغابة تمتد حتى النهر، وعقدتُ العزم على أن ألزم الغابة. ففي أسوأ الأحوال، كنتُ سأقابل واحدًا أو اثنين من سكان الغابة، وكانت عندي قصة محبوكة بما يكفي لإقناعهم. أمَّا لو سلكت الطريق السريع، فقد أتعرض لأسئلةٍ مُحرجة.
عندما انطلقتُ مجددًا شعرت بتصلُّبٍ شديد، وبدا أنَّ البرد يشتد. ووضعني ذلك في حيرة؛ لأنني لم أكن أكترث بالبرد كثيرًا من قبل، ولم يكن يشغل بالي أبدًا؛ لأنَّ جسدي كان دافئًا بالفطرة. فليلةٌ شتوية قارسة في سهوب هضبة جنوب أفريقيا كانت أبرد بكثيرٍ من أي مكان طرقتُه حتى الآن في أوروبا. ولكن في تلك اللحظة، كانت أسناني تصطكُّ، وبدا أنَّ النخاع يتجمَّد في عظامي.
كان النهار قد بدأ مشرقًا صافيًا، ولكن سرعان ما خيَّمت مجموعةٌ من الغيوم الرمادية المُتحركة على السماء، وبدأت ريح آتية من الشرق تُصفر. وبينما كنتُ أمشي متعثرًا وسط الشجيرات المكسوة بالجليد، ظللتُ أتوق إلى أماكن دافئة مشرقة. تذكرتُ الأيام الطويلة في سهوب جنوب أفريقيا عندما كانت الأرض كصحنٍ أصفر كبير تتخلَّله طرق بيضاء مُمتدة حتى الأفق، ومزرعة بيضاء صغيرة تنعم بدفء الشمس في وسطه، بمياهها الزرقاء المُتجمِّعة عند سدِّها، ورُقَعها الخضراء الزاهية من البرسيم الحجازي. تذكرتُ تلك الأيام اللافحة على الساحل الشرقي، عندما كان البحر كصدَفَةِ اللؤلؤ، وكانت السماء متوهجة باللون الفيروزي. لكنَّ الأهم من ذلك كله أنني تذكرت فترات الظهيرة الدافئة العبقة التي كان المرء يقضيها في الرحلات الطويلة الشاقة، حين كان يغفو في ظلِّ العربة ويشم رائحة دخان الحطب المنبعث من النار التي يطهو الأولاد العشاء عليها.
عدتُ من هذه التخيلات المُبهجة إلى الحاضر البغيض؛ إلى الغابة الكثيفة الثلجية، والسماء المُنخفضة، والثياب المبللة، والعيش طريدًا، والمُستقبل القاتم. شعرتُ باكتئابٍ شديد، ولم أستطع التفكير في أي نِعَم أُحصيها. وخطر لي فجأة أنني قد أُصاب بالإعياء.
عند نحو منتصف النهار، استفقتُ مفزوعًا على شعورٍ بأنني مُطارَد عن كثب. لا أستطيع أن أشرح كيف انتابني هذا الشعور ولماذا، باستثناء أنه أقرب إلى غريزة تتكوَّن لدى الرجال الذين عاشوا كثيرًا في مناطق ريفية برية. حينئذٍ أصبحت حواسي، التي كانت مخدرة، مفعمة باليقظة والحيوية فجأة، وبدأ دماغي يعمل بسرعةٍ مُضاعَفة.
سألتُ نفسي ماذا كنتُ سأفعل لو كنتُ مكان شتوم، بغلٍّ في قلبي، وفكٍّ مكسور أتلهَّفُ للثأر ممَّن كسره، وصلاحيات ونفوذ بلا حدود. من المؤكد أنه وجد السيارة في حفرة الرمل، ورأى آثار أقدامي في الغابة المُقابلة. لم أكن أعرف مدى براعتِه هو ورجاله في اقتفاء أثرٍ ما، لكني كنتُ أعرف أنَّ أي زنجي عادي يستطيع تتبُّعها بسهولة. لكن شتوم على أي حال لم يكن بحاجةٍ إلى ذلك. فقد كان هذا بلدًا متحضرًا مليئًا بالطرق والسكك الحديدية. وكان من المؤكَّد أنني سأخرج من الغابة في وقتٍ ما وفي مكانٍ ما. كان يستطيع وضع كل الطرق تحت المراقبة، ويُمكنه بمكالمةٍ هاتفية واحدة أن يجعل كلَّ مَن في نطاق دائرة نصف قطرها خمسون ميلًا من حولي يبحثون عنِّي. وفوق ذلك، كان سرعان ما سيعثُر على أثري في القرية التي زرتُها صباح ذلك اليوم. عرفت من الخريطة أنها تُسمَّى «جريف» بالألمانية، على غرار الكلمة الإنجليزية المشابهة التي تعني «الحزن العميق»، وكان من المُرجَّح أن ينطبق هذا الاسم حرفيًّا على ما سيحدُث لي.
سرعان ما وصلتُ إلى ربوة صخرية بارزة إلى خارج الغابة. فصعدت إلى قمَّتها وأنا ما زلتُ مختبئًا تمامًا، ونظرتُ حولي بحذَر. رأيتُ بعيدًا ناحية الشرق واديَ نَهرٍ يضمُّ حقولًا واسعة وقمم أبراج كنائس. أمَّا نحو الغرب والجنوب، فكانت الغابة مُمتدة في تموُّج متصل من قِممِ أشجار جليدية برية دون انقطاع. لم تكن هناك علامة على وجود حياة في أي مكان، ولا حتى طائر، لكني كنتُ متيقنًا تمامًا من أنَّ الغابة كان فيها رجال يسيرون سريعًا في أثري، وأنَّ هروبي منهم مُستحيل.
لم يكن لديَّ خيار سوى أن أواصل إلى أن تخور قواي تمامًا من التعب أو أقع في قبضتهم. قررتُ أن أمضي في طريقي جنوبًا مع الانحراف قليلًا نحو الغرب؛ لأنَّ الخريطة أظهرت لي أنَّ هذا أسرع طريق إلى نهر الدانوب. لم أشغل بالي بالتفكير فيما سأفعله عند الوصول إلى هناك. كان كلُّ هدفي الآن هو بلوغ النهر، وليكُن ما يكون بعدئذٍ.
كنتُ مُتيقنًا في تلك اللحظة من أنني مُصاب بالحمَّى. كانت إرثًا باقيًا من أفريقيا في عظامي، وقد ظهرت أعراضها عليَّ بضع مراتٍ عندما كنتُ مع الكتيبة في هامبشاير. كانت تلك النوبات السابقة قصيرة؛ لأنني كنتُ أعرف بقدومها، وكنت أتناول جرعةً من مادة الكينين المضادة لها سلفًا. لكني في تلك اللحظة كنتُ بلا كينين، وبدا أنني على وشك نوبة ثقيلة. أشْعرَني هذا ببؤسٍ شديد وغباء فظيع، وكدتُ أرتكب خطأ فادحًا يُوقعني في قبضتهم.
فجأة وجدتُ نفسي على طريق، وكنتُ سأعبره بلا تبصُّر في اللحظة التي مرَّ فيها أمامي رجلٌ على دراجةٍ ببطء. ولحُسن حظي كنتُ متواريًا في ظلِّ أجمة مُتشابكة من أشجار البهشية، وأنه لم يكن ناظرًا في اتجاهي، مع أنه كان على بُعد أقل من ثلاث ياردات. زحفتُ إلى الأمام لأستطلع الأمر. فرأيتُ نحو نصف ميل من طريقٍ مُمتد مباشرة عبر الغابة، ووجدتُ عليه راكبَ درَّاجة عند كل مائتي ياردة. كانوا يرتدون زيًّا عسكريًّا، وبدا من سلوكهم أنهم حرَّاس.
كان هذا يعني شيئًا واحدًا فقط. أنَّ شتوم قد وضع كل الطرق تحت الحراسة، وحصرني في ركنٍ ضيق من الغابة. لم تكن هناك أي فرصة لأعبر الطريق دون أن يُلاحظني أحد. وبينما كنتُ منبطحًا هناك بقلبٍ مُحبَط يائس، انتابني شعور فظيع بأنني ربما أكون مُلاحَقًا من ورائي، وبأنني في أي لحظة سأُصبح محاصَرًا بين نارَين.
بقيتُ هناك أكثر من ساعة دافنًا ذقني في الثلج. لم أرَ أي مخرج، وكنتُ أشعر بإعياء شديد لدرجة أنني كنتُ أبدو غير مُبالٍ. ثم جاءت فرصتي من السماء فجأة.
اشتدَّتِ الريح وهبَّت عاصفة ثلجية شديدة من الشرق. وفي غضون خمس دقائق صارت كثيفة جدًّا لدرجة أنني لم أستطع رؤية الجانب الآخر من الطريق. في البداية ظننتُها محنة جديدة تُفاقِم متاعبي، ثم أدركت المنحة الكامنة فيها ببطء شديد. فنزلتُ الحد الجانبي المائل للطريق مُتسللًا، وتأهبتُ للعبور إلى الجانب الآخر.
كدتُ أصطدم بأحد راكبي الدراجات بالخطأ. صرخ وسقط عن دراجته، لكني لم أنتظر لأتحرى ما حدث. دبَّت في أوصالي قوة مفاجئة وانطلقتُ كالسهم إلى داخل الغابة الواقعة على الجانب الآخر. كنت أعرف أنَّ الركام الثلجي الذي يترسَّب من الرياح سرعان ما سيبتلعني ويُواريني عن أنظارهم، وكنت أعرف أنَّ الثلج المتساقط سيخفي آثار أقدامي. لذا مضيت قُدمًا بأقصى سرعة مُمكنة.
لا بد أنني قد ركضتُ أميالًا قبل أن تنطفئ شعلة النشاط المفاجئ، وتوقفتُ من شدة الضعف البدَني. لم أكن أسمع صوتًا سوى صوت ارتطام الثلوج المتساقطة بالأرض، وبدا أنَّ الرياح قد تلاشت، وكان المكان مهيبًا وهادئًا جدًّا. لكن يا إلهي! كم كان الثلج يتساقط بغزارة! صحيح أنَّ أغصان الأشجار كانت تحجزُ جزءًا منه، لكنه مع ذلك كان يتراكم بشدة في كلِّ مكان. شعرت بأنَّ ساقيَّ مصنوعتان من الرصاص، وكان رأسي يحترق، وكان كل جزء في جسدي يكتوي بآلامٍ نارية حارقة. ظللت أمشي مُتعثرًا كالأعمى، دون أي فكرة عن أي اتجاه، عازمًا فقط على مواصلة المشي حتى النهاية. فقد كنتُ أعلم أنني إذا استلقيتُ على الأرض مرة فلن أقوم مجددًا أبدًا.
كنتُ مولعًا بالقصص الخيالية في أيام صباي، ومعظم القصص التي كنتُ أتذكرها كانت عن الغابات الألمانية الضخمة والثلج ومواقد الفحم وأكواخ الحطَّابين. كنت أتوق في الماضي إلى رؤية هذه الأشياء، وفي تلك اللحظة كنتُ عالقًا تمامًا وسط أعماقها. كانت تلك القصص تتضمن ذئابًا أيضًا، وتساءلتُ بلامبالاة عمَّا إذا كنتُ سأصادف قطيعًا منها. شعرتُ بأنني أُصاب بدوار. سقطتُ مرارًا، وكنت أضحك ببلاهةٍ كلما سقطت. وفي إحدى المرات وقعتُ في حفرة، ورقدتُ بعض الوقت في قعرها أُقهقه. لو كان أي شخصٍ وجدني آنذاك، لحسبني مختلًّا.
كان شفق الغابة يزداد خفوتًا، لكني لم ألحظ ذلك. بدأ الليل يُخيِّم، وسرعان ما سيُطبق عليَّ، ليل لا يحمِل لي صباحًا. كان جسدي يمشي دون توجيهٍ من دماغي؛ لأنَّ عقلي كان مليئًا بالجنون. كنت كرجلٍ ثَملٍ يواصل الركض لأنه يعلم أنه سيسقط إذا توقف، وكنتُ في تحدٍّ مع نفسي على ألَّا أستلقي، خصوصًا في هذا التوقيت. فلو كنتُ استلقيتُ، لشعرتُ بالألم في رأسي أشد. كنتُ ذات مرة أرتحلُ راكبًا طوال خمسة أيامٍ في منطقةٍ ريفية وأنا مُصاب بالحمَّى، وبدا لي حينئذٍ أنَّ الشجيرات المسطحة انصهرت معًا مُكوِّنةً سرابًا واحدًا كبيرًا، وكانت ترقص الرقصة الرباعية أمام عينيَّ. لكني حافظتُ على بعضٍ من قواي العقلية آنذاك. أمَّا في تلك اللحظة، فكنت أبله تمامًا، وكنتُ أزداد بلاهةً مع كل لحظة تمر.
ثم بدا أنَّ الأشجار قد انتهت وأصبحتُ أمشي على أرض مستوية. كانت رقعة خالية من الأشجار، ولمحتُ أمامي بصيصًا من الضوء. أعادني هذا التغيير إلى وعيي، وشعرت فجأة بنيران متقدة في رأسي وعظامي بشدة رهيبة، وأحسستُ بوهن في أطرافي. كنت أتوق إلى النوم، وراودني شعور بأنَّ أمامي مكانًا مناسبًا للنوم. تحركتُ نحو الضوء، وسرعان ما رأيت ملامح عامةً لكوخٍ من خلال ستار من الثلج المتساقط.
لم يكن لديَّ أي خوف؛ فكل ما كنت أشعر به هو اشتياق لا يُحتمَل إلى الاستلقاء. شققتُ طريقي ببطء شديد نحو الباب وطرقتُه. كنت واهنًا جدًّا لدرجة أنني بالكاد استطعتُ رفع يدي.
سمعتُ أصواتًا في الداخل، ورأيتُ طرف الستارة يُرفَع من وراء النافذة. ثم فُتِح الباب ورأيت أمامي امرأةً ذات وجهٍ نحيف لطيف.
قالت: «مرحبًا»، في حين كان أطفالٌ يختلسون النظر إليَّ من وراء تنورتها.
رددتُ قائلًا: «مرحبًا». ثم اتكأتُ على عِضادة الباب، وفقدتُ قُدرتي على الكلام.
رأت حالتي هكذا. فقالت: «تفضل بالدخول أيها السيد. أنت مريض، وهذا الجو ليس مناسبًا لرجل مريض.»
دخلتُ وراءها بخطًى متعثرة ووقفتُ أقطُر ماءً وسط المطبخ الصغير، في حين كان ثلاثة أطفال يُحدقون بي مُتعجِّبين. كان مكانًا فقيرًا، قليل الأثاث، لكنه كان يحوي نيرانًا متوهِّجة مشتعلة في حطب الكانون. منحتني صدمة الدفء دقيقةً من رباطة الجأش اللحظية التي تأتي أحيانًا في منتصف نوبة الحمَّى.
قلت: «أنا مريض يا أُماه، وقد مشيتُ طويلًا في العاصفة وضللتُ طريقي. أنا من أفريقيا، حيث المناخ حار، وطقسكم البارد أصابني بالحُمَّى. سأتعافى منها في يومٍ أو اثنَين إذا أمكنك أن تُعطيني فراشًا.»
قالت: «على الرحب والسعة، لكني سأُعدُّ لك قهوة أولًا.»
خلعتُ عباءتي التي كانت تقطر ماءً، وجثمتُ بالقرب من الموقد. أعطتني قهوة، صحيح أنها كانت قهوة رديئة كثيرة الماء، ولكن من حُسن حظي أنها كانت ساخنة. كان الفقر باديًا بوضوح في كل شيء رأيته هناك. شعرت بأنَّ أمواج الحُمى بدأت تجتاح دماغي مجددًا، وبذلتُ جهدًا كبيرًا لأُرتِّب أوضاعي قبل أن يطغى عليَّ تأثيرها. أخرجتُ تصريح شتوم من محفظة جيبي بمشقَّة.
قلت: «هذا تصريحي الرسمي. أنا عضو في الاستخبارات الإمبراطورية، وعملي يُحتِّم عليَّ أن أتحرك في الخفاء. إذا سمحتِ لي يا أماه، سأنام حتى أتحسن، ولكن يجب ألَّا يعرف أحد أنني هنا. إذا أتى أي شخص، يجب أن تنكري وجودي.»
نظرَت إلى الختم الكبير على التصريح كما لو كان تعويذة.
وقالت: «أجل، بالطبع، ستأخذ الفراش الموجود في العلية، وستُترك في سلام إلى أن تتحسن. ليس لدينا جيران قريبون، والعاصفة ستغلق الطرق. سألتزم الصمت، أنا والصغار.»
كان رأسي قد بدأ يدور، لكني بذلت جهدًا أخيرًا.
قلت: «يوجد طعام في حقيبة ظهري؛ بسكويت ولحم خنزير وشوكولاتة. أرجو أن تأخُذيه لكِ. وها هو بعض المال لتشتري طعام عيد الميلاد للصغار.» وأعطيتُها بعض الأوراق النقدية الألمانية.
لا أتذكر ما حدث بعد ذلك جيدًا. أظن أنها ساعدتني لأصعد سلمًا إلى العلية، وخلَعَت عنِّي ثيابي، وأعطتني رداء نوم خشنًا سميكًا. ويبدو على ما أتذكر أنها قبَّلت يدي، وكانت تبكي. قالت: «لقد أرسلك الرب الكريم. الآن سيجد الصغار تلبيةً لصلواتهم، ولن يتجاهل المسيح الصغير بابنا.»